موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٥

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 520

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 520
المشاهدات: 101866
تحميل: 4147


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 520 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101866 / تحميل: 4147
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 5

مؤلف:
العربية

____________________

وانها مع عبيد الله بن عباس لكنه وهم فيما أراه ، لأنّه قد رواها بسنده عن مقسم مولى عبد الله بن عباس وعن غيره وفي هذا ما يصحح نقل المقيلي كما في المتن ، خصوصاً وفي الخبر حضور مقسم الحادثة ، وهو إنّما يكون عادة مع مولاه عبد الله ، وروايته : قالوا ـ مقسم وغيره ـ وفد عبيد الله بن العباس على معاوية ، فلمّا كان بعض الطريق أصابته السماء فأمّ أبياتاً من الشعر ، وإذا أعرابي قد قام إليه ـ فلمّا رأى هيئته وبهاءه ـ وكان من أحسن الناس شارة وأحسنهم هيئة ـ قال الاعرابي لامرأته : ان كان هذا من قريش فهو من بني هاشم ، وان كان من اليمن فهو من بني آكل المرار ـ فأنزله ، وذلك في الليل ، فقام الاعرابي إلى عنيزة له يذبحها ـ فجاذبته امرأته وقالت : أكل الدهر مالك وشرب ، ولم يبق لك ولبناتك إلاّ هذه العنيزة ، تضع درتها كمخة عرقوب ، ثمّ تريد أن تفجعهنّ بها. قال : والله لأذبحنّها ، فقالت : والله إذن لا يتركك بناتك ، قال : والله له الموت خير من اللؤم ثمّ قال : ـ وعبيد الله يسمع ـ

قـريـنـة لا تـوقـظـي بُـنيّة

إن توقظيها تنتحب عـليـه

وتنزع الشفرة من يديّـه

أبـغـض بـهـذا وبـهـا إلـيـه

ثمّ ذبح الشاة وجعل يقطع من أطايبها ويلقيه على النار ، ثمّ قرّبه إلى عبيد الله بن العباس ومن معه ، فجعل عبد الله ـ كذا ـ يأكل ويحدّثه في خلال ذلك بما يلهيه ويضحكه ، حتى إذا أصبح وأنجلت السحابة وهمّ بالرحيل ، قال لمقسم : كم معك من نفقتك؟ قال : خمسمائة دينار ، قال : ألقها إلى الشيخ ، قال : ما تريد إلاّ أن تسأل الناس في طريقك إن هذا يرضيه عُشر ما سميتَ ، وتأتي معاوية ولا تدري علام توافقه. قال : ويحك انا نزلنا على هذا وما يملك إلاّ هذه الشاة ، فخرج لنا من دنياه كلّها ، ونحن نعطيه بعض ما نملكه ، فهو أجود منّا قال : فألقاها إليه وارتحل ، فأتى معاوية فقضى حوائجه ، فلمّا انصرف ، قال لمقسم : انظر ما حال صاحبنا فعدل إليه ، فإذا إبل وشاء وحال حسنة ، فلمّا بصر الأعرابي بعبيد الله أكبّ على أطرافه يقبّلها ، ثمّ قال : بأبي أنت وأمي قد مدحتك ، ولا أدري والله من أي خلق أنت وأنشده :

تـوسّـمـته لما رأيت مهابـة

عليه وقلت المرء من آل هـاشم

وإلا فمن آل المرار فإنـهم

مـلـوكوأبـنـاء المـلـوك الأكـارم

فقال عبيد الله أصبت أنا من ولد هاشم ، وقد ولدني آكل المرار. فبلغ معاوية ذلك ، فقال : لله در عبيد الله من أيّ بيضة خرج وفي أي عشّ درج ، هذه والله من فعال عبيد الله معلّم الجود وهو والله كما قال الحطيئة :

أولئكقوم إنبنوا أحـسـنـوا الـبـنـا

وإن عاهدوا وفـوا وإن عقدوا شدّوا

وإن كانت النـعمـاء فيهم جزوا بها

وإنأـعـمـوالاكـدّروهـا ولا كـدّوا

٤٢١

10 ـ وبعث له معاوية بأربعة آلاف دينار ، ففرّقها في بني عبد المطلب ، فقالوا : انا لا نقبل الصدقة ، فقال : إنّها ليست صدقة وإنّما هي هدية(1) .

11 ـ روى أبو بكر الخرائطي في مكارم الأخلاق بسنده : « أنّ سائلاً أتى ابن عباس فسأله ، فقال ابن عباس : يا سائل أتشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )؟

قال : نعم ، قال : وتصلي الخمسَ وتصوم رمضان؟ قال : نعم.

قال : حقّ علينا أن نصلك ، فنزع ابن عباس ثوباً عليه فطرحه عليه ، ثمّ قال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : من كسا مسلماً ثوباً كان في حفظ من الله ما دام عليه منه رقعة »(2) .

12 ـ قال السمهودي في وفاء الوفاء : « قال ابن شبة : وتصدّق عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما بماله بالصهوة ـ وهو موضع بين يين وبين حورة على ليلة من المدينة ـ وتلك الصدقة بيد الخليفة ـ توكل بها »(3) .

إلى غير ذلك من أخبار جوده وقد قرأنا بعضها في السلوك الشخصي أيام ولايته على البصرة. وحسبنا منها اكرامه وفادة أبي أيوب الأنصاري ، وضيافته لركب من بني هلال وهم في منازلهم فكانت الجفان تغدو عليهم وتروح بألوان الطعام.

حتى قال ابن المنتخب الهلالي :

إنّ ابن عباس وجود يمينه

كفى كلّ معتلّ قرانا وباخل

وأرحلنا عنه ولم ينأ خيره

ولا غاله عن برّنا أمّ غائل

____________________

(1) ذخائر العقبى / 234.

(2) مكارم الأخلاق / 0 ط السلفية بمصر سنة 1350 هـ.

(3) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 2 / 337 ط مصر سنة 1327.

٤٢٢

تروح وتـغـدو كلّ يوم جفانُه

بكلّ سديف النيّ للجوع قاتل

وقرأنا أيضاً أنّه كان يعشّي الناس بالبصرة في شهر رمضان ويحدثهم ويفقههم.

وإذا كان ذلك في أيام ولايته وبيده بيوت المال ، فإنّ في أيام وفاداته على معاوية وأيام إقامته بمكة والمدينة ما يزيد إيمان المستزيد ، ألم يقل مجاهد : كان ابن عباس أمدّهم قامة ، وأعظمهم جفنة ، وأوسعهم علماً؟ وقد مرّ ذلك.

ألم يقل عطاء : ما رأيت مجلساً قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر علماً وأعظم جفنة؟ وقد مرّ ذلك.

ألم يقل الضحاك : ما رأيت بيتاً أكثر خبزاً ولحماً من بيت ابن عباس؟ وقد مرّ ذلك.

ألم يقل معن بن أوس في ذم ابن الزبير وفي مدح ابن عباس وابن جعفر في أبياته وقد مرّ حديثه في الشاهد الثاني من شواهد بواعث الحسد عند ابن الزبير ومنها :

فقلنا له لا تقرباً فأمامنا

جفان ابن عباس العلا وابن جعفر

وذكر السيّد نعمة الله الجزائري في زهر الربيع : « انّ رجلاً أتاه يوماً فقال : إنّ لي عندك يداً وقد احتجت إليها ، فقال : وما هي؟ قال : رأيتك واقفاً بزمزم وغلامك يملأ لك من مائها فظلّلت عليك من الشمس حتى شربت. فقال : أجل إنّي أذكر ذلك ، ثمّ قال لغلامه ما عندك؟ قال : مائتي دينار وعشرة آلاف درهم ، قال : ادفعها إليه ، وما أراها تفي بحقه عندنا. فقال الرجل : لو لم يكن لإسماعيل

٤٢٣

ولد غيرك لكان فيك كفاية ، فكيف وقد ولد سيّد الأولين والآخرين ثمّ شفع بك وبأبيك »(1) .

وختام القول فهو كان يرى الإنفاق في اعالة بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله أحبَ إليه من حجة بعد حجة ، ويرى هدية طبق بدانق يهديه إلى أخ له في الله أحب من دينار ينفقه في سبيل الله ( عزّ وجلّ )(2) ألم يرو لنا مؤرج السدوسي المتوفى سنة 195 في كتابه حذف من نسب قريش قوله : « وكان منادٍ ينادي بمكة : من يريد العلم واللحم فليأت منزل عبد الله بن عباس »(3) .

وقد مرت بنا في تاريخه بالبصرة أيام ولايته ، وفي أيام ابن الزبير في حكومته شواهد أخرى دالة على جوده وسخائه.

الأدب الرفيع والخُلق العالي :

لقد وردت شواهد منثورة دالة على تعامله مع الناس على أختلاف مشاربهم ومواهبهم ، وإنّا إذ نسوقها ذكراً دون تعقيب منا عليها ، لوضوح دلالتها على خلقه العالي الرفيع في سعة الصدر لاحتمال الأذى ، ومنتهى الأدب في تكريم من يستحق التكريم وإن كان من شرائح المجتمع الدون حسب أعراف المجتمع يومئذ ، وبذلك السلوك الشخصي فرض احترامه واكتسب الثناء عليه ، وفيما ورد شعراً ونثراً من مديح أثنى الناس به عليه ما يعبّر عن مبلغ إعجابهم وعظيم تقديرهم.

ولعل أهم شرائح المجتمع الّتي يخشى الناس حصائد ألسنتهم ، وبوادر نزواتهم ، هم زمرة الشعراء ومنهم الهجاؤن خاصة ، ممّن لم تسلم أعراض الناس

____________________

(1) زهر الربيع / 326 ط بمبئ سنة 1342.

(2) البيان والتبيين 1 / 284.

(3) حذف من نسب قريش / 8.

٤٢٤

من شتمهم ، وهؤلاء لم يكن ابن عباس بمنأى عنهم ، ولا كان مجهولاً عندهم ، فقد كانوا يأتونه مسترفدين فلا يفسح لهم رحابه ، بل ويعاقبهم بالمنع والتأنيب ، ولا ننسى خبر الشاعر الهجّاء ابن فسوة حين وفد عليه بالبصرة أيام ولايته ، فحرمه وحبسه ثمّ سيّره منها ، فتناوله بهجائه المقذع ، ممّا جعل الإمام الحسن ( عليه السلام ) وعبد الله بن جعفر يعطيانه ليسكت عن ابن عمهما ، إلاّ أنّ الهجّاء الخبيث لم يزل فيما يبدو على سجيته ـ كالطينة السوداء في خبث سجاياها ـ فدعا عليه ابن عباس فأخرس لسانه ، وقد مرّ حديثه فلا حاجة بنا إلى إعادته.

إذن فابن عباس بالرغم ممّا كان عليه من جود بالمال وسخاء طبع ، وقد مرت الشواهد قبل هذا ـ لم يكن يعطي ويمنع لغرض التمجيد والتكريم ليستمطر المديح والثناء ، بل كان يرى في المنع والعطاء ما يسمح له به الشرع ، فهو لا يأبه بشاعر إلاّ بقدر ما يسمح له به دينه ، لئلا يكون في إعطائه معونة على طاعة الشيطان ومعصية الرحمن.

والآن إلى نماذج من سلوكه الشخصي مع الشعراء ، ثمّ مع العلماء ، ثمّ مع سائر الناس.

فمع الشعراء :

إنّما قدمت ذكرهم على العلماء لأنّهم كما قلت شريحة من شرائح المجتمع تخشى بوادرهم ، وهم بعدُ( فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ) (1) كما وصفهم القرآن الكريم ، وكانوا مع ابن عباس في مكة والمدينة يعيشون في مجتمع واحد ويجدون عنده ضالّتهم في تمييز أشعارهم ، فقد كانت مدرسته تضم في مناهجها

____________________

(1) الشعراء / 225.

٤٢٥

ـ ان صح التعبير ـ منهج النقد الأدبي ، وسيأتي في الحلقتين الثانية والثالثة ، ما يعزّز ذلك ، لذلك فهم حضور عنده إن لم يكونوا بأشخاصهم فبأشعارهم. وهم إن حضروا عنده يستظلون بظلاله الوارف أدباً وخُلقاً. وربما تأثر بعضهم في اتجاهاته. والآن إلى نموذجين فريدين منهم ، أولهما عمر بن أبي ربيعة المعروف بشاعر الغزل وثانيهما الحطيئة الشاعر الهجّاء الّذي لم يسلم من هجائه حتى أبويه بل وحتى نفسه(1) .

1 ـ مع ابن أبي ربيعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة :

روى أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني بسنده عن عمر الزكاء وهشام ابن الكلبي قالا : « بينا ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه ، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين ممصّرين ، حتى دخل وجلس ، فأقبل عليه ابن عباس ، فقال له عمر متّعني الله بك إنّ نفسي قد تاقت إلى قول الشعر ، ونازعتني إليه ، وقد قلت منه شيئاً أحببت أن تسمعه وتستره عليّ. فقال : أنشدني فأنشده :

أمن آل نُعم أنت غاد فمبكر

غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّرُ

حتى أتى على آخرها. فقال ابن عباس : أنت شاعر فقل ما شئت. فأقبل عليه نافع بن الأزرق فقال : الله يا بن عباس إنّا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي

____________________

(1) قال الدكتور شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي في العصر الإسلامي / 99 ط دار المعارف : وتروى له أهاج في زوج أمه وفي أمه وفي ضيفانه وكلّها مزاح حتى لنراه يمزح مع نفسه فيقول :

أرى لي وجهاً شوّه الله خلقه

فقُبّح من وجه وقُبّح حامله

٤٢٦

البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا ، ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك :

رأت رجلاً مّا إذا الشمس عارضت

فيخزي وإمّا بالعشي فيخسرُ

فقال : ليس هكذا قال ، قال : فكيف قال؟ فقال قال :

رأت رجلاً مّا إذا الشمس عارضت

فيضحى وإمّا بالعشي فيخصرُ

فقال : ما أراك إلاّ قد حفظت البيت!؟

فقال : نعم وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتكها؟ قال : فإني أشاء. فأنشده إياها حتى أتى على آخرها »(1) .

ـ وفي رواية عمر بن شبة : أنّ ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها ، ثمّ أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة ، وما سمعها قط إلاّ تلك المرّة صفحاً ـ قال الراوي وهذا غاية الذكاء ـ فقال له نافع : يا بن عباس أسمعت هذا الشعر قبل اليوم؟ قال : لا وربّ هذه البنية.

قال : ما رأيت أحفظ منك! قال : لو رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ.

وفي رواية في الأغاني : « انّه قال بعضهم : ما رأيت أذكى منك قط ، فقال : ولكنني ما رأيت قط أذكى من عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه ، رأيت احفظ مني ، كان ليصلي ، فيدع الآية ثمّ يركع ثمّ يقوم ، فإذا قال :( وَلا الضَّالِّينَ ) رجع إلى الموضع الّذي ركع فيقرأها وينظم انتظاماً ، لا يعلم أحد ممّن رآه ما صنع إلاّ حافظ كتاب الله تعالى ».

____________________

(1) الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني 1 / 32 و 36 ط بولاق.

٤٢٧

قال عمر بن شبة وأبو هفان والزبير بن بكار وغيرهم : ثمّ التفت ابن عباس إلى ابن أبي ربيعة فقال : أنشدنا ، فأنشده : تشط غداً دار جيراننا. وسكت ، فقال ابن عباس : وللدار بعد غدٍ أبعد ، فقال له عمر : والله كذلك قلت أصلحك الله أفسمعته؟ قال : لا ، ولكن كذلك ينبغي أن يكون كذلك.

وفي آخر حديث الزبير : إنّ ابن عباس كان كثيراً ما يقول بعد ذلك : هل أحدث هذا المغيري شيئاً بعدنا؟ ولامه بعض أصحابه في حفظ هذه القصيدة فقال : إنّها ( أمن آل نعم ) يستجيدها(1) .

2 ـ مع الحطيئة في المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة :

روى أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني بسنده قال : « بينا ابن عباس جالس في مجلس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعد ما كفّ بصره ، وحوله ناس من قريش ، إذ أقبل أعرابي يخطر وعليه مطرفة خزّ وجبّة وعمامة خزّ ، حتى سلّم على القوم ، فردّوا عليه السلام فقال : يا بن عم رسول الله أفتني ، قال : فيماذا؟ قال : أتخاف عليّ جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته وشتمني فشتمته ، وقصّر بي فقصّرت به؟

فقال ابن عباس : العفو خير ، ومن انتصر فلا جناح عليه.

فقال : يا بن عم رسول الله ، أرأيت أمرؤاً أتاني فوعدني وغرّني ومنّاني ، ثمّ أخلفني واستخف بحرمتي أيسعني أن أهجوه؟

____________________

(1) قارن نهاية الارب للنويري 7 / 138 ط دار الكتب ، والعمدة لابن رشيق 2 / 31 ، وبدائع البدائه لابن ظفر المكي / 34 ، وإنّما استنكر نافع سماع ابن عباس للقصيدة لأنّه فيما أرى انطلاقاً من مبدء الخوارج في التقشف الجاف لما في القصيدة من تصوير لمتعة ليلية يمسيها عمر بن أبي ربيعة مع فتيات غامر معهن حتى الصباح على غير إثم حرام؟ ثمّ ينشدها في المسجد الحرام لابن عباس وهو في شرفه وعلمه وسنه ، ثمّ ابن عباس يحفظها ويرويها ، فذلك ما حدا بنافع بن الأزرق إلى تحوير في مطلعها مستنكراً بما يلائم مبدأه ، لكن ابن عباس رفض ذلك وصحّح المعلومة ، ولعله أراد أن يشعره بأنه من اللهو المباح والخيال الّذي لا يتعدى عفة النفس وفسق الألسن.

٤٢٨

قال : لا يصلح الهجاء ، لأنّه لابدّ لك من أن تهجو غيره من عشيرته ، فتظلم من لم يظلمك ، وتشتم من لم يشتمك ، وتبغي على من لم يبغ عليك ، والبغي مرتع وخيم ، وفي الصفح ما قد علمت من الفضل.

قال : صدقت وبررت ، فلم ينشب أن أقبل عبد الرحمن بن سيحان المحاربي حليف قريش ، فلمّا رأى الأعرابي أجلّه وأعظمه وألطف في مسألته ، وقال : قرّب الله دارك يا أبا مليكة.

فقال ابن عباس : أجرول؟ ـ وهو اسم الحطيئة ـ قال : جرول ، فإذا هو الحطيئة.

فقال ابن عباس : لله أنت أي مردي قذائف وذائد عن عشيرته ومن بعارفة تؤتاها أنت يا أبا مليكة! والله لو كنت عركت بجنبك بعض ما كرهت من امر الزبرقان كان خيراً لك ، ولقد ظلمت من قومه من لم يظلمك وشتمت من لم يشتمك.

قال : اني والله بهم يا أبا العباس لعالم. قال : ما أنت بأعلم بهم من غيرك.

قال : بلى والله يرحمك الله ، ثمّ أنشأ يقول :

أنا ابن بجدتهم علماً وتجربة

فسل بسعد تجدني أعلم الناس

سعد بن زيد كثير إن عددتهم

ورأس سعد بن زيد آل شمّاس

والزبرقان ذناباهم وشرّهم

ليس الذنابى أبا العباس كالرأس

فقال ابن عباس : أقسمت عليك أن تقول خيراً. قال : أفعل.

ثمّ قال ابن عباس يا أبا مليكة من أشعر الناس؟ قال : أمن الماضين أم من الباقين؟

قال : من الماضين. قال الّذي يقول :

ومن يجعل المعروف من دون عرضه

يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

٤٢٩

وما بدونه الّذي يقول :

ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تلمّه

على شَعثٍ أي الرجال المهذّبِ

ولكن الضراعة أفسدتهما كما أفسدت جرولاً ـ يعني نفسه ـ والله يا بن عم رسول الله لولا الطمع والجشع لكنت أشعر الناس الماضين ، فأمّا الباقون فلا تشكك أنّي أشعرهم وأصردهم سهماً إذا رميت »(1) .

3 ـ مع زهير :

لقد مرّ بنا في الجزء الثاني في عهد عمر صورة من رجوعه إلى ابن عباس في معرفة أشعر الناس فأجابه وكان ذلك هو زهير بن أبي سلمى ، كما مرّ بنا أيضاً في الجزء الرابع صورة لنفس السؤال سأله اياه رجل في شهر رمضان بالبصرة ، فلم يجبه وأحال في الجواب على أبي الأسود الدؤلي ، وقد رواه أبو الفرج في الأغاني فقال : « قام رجل إلى ابن عباس فقال : أي الناس أشعر؟ فقال ابن عباس : أخبره يا أبا الأسود ، فقال : الّذي يقول :

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

فإنّك كالليل الّذي هو مدركي

وهذا من شعر النابغة الذبياني. ولم يرو أنّ ابن عباس ردّ عليه رأيه أو ناقشه ، وقد يتخيل تبدّل رأيه فيمن هو أشعر الناس ، ولكن فيما أرى ليس كذلك ، بل إنّما سكت تحرّجاً وكراهية الخوض في الشعر في شهر رمضان ، لذلك فلم يجب السائل أوّلاً ، ولم يعقّب على رأي أبي الأسود ثانياً. إعظاماً لحرمة( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان ) (2) »(3) .

____________________

(1) الأغاني 2 / 55 ط بولاق.

(2) البقرة / 185.

(3) الأغاني 2 / 55 ط بولاق.

٤٣٠

4 ـ مع حسان :

روى أبو الفرج في الأغاني بسنده عن سعيد بن جبير قال : « كنا عند ابن عباس فجاء حسان فقالوا قد جاء اللعين ، فقال ابن عباس : ما هو بلعين لقد نصر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بلسانه ويده.

وفي رواية ثانية : انّه جاء رجل إلى ابن عباس فقال : قد جاء اللعين حسان من الشام.

فقال ابن عباس : ما هو بلعين لقد جاهد مع رسول الله بلسانه ونفسه »(1) .

أقول : وفي النفس من هاتين الروايتين شيء يمنع من قبولهما ، وذلك هو دفاع ابن عباس عن حسان بأنه نصر أو جاهد بلسانه ويده أو نفسه ، إذ لا شك في جهاده ونصرته بلسانه ، ولكن جهاده بيده أو نفسه فليس كذلك ، إذ لم يذكر في تاريخه مرة واحدة انّه باشر حرباً مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ولا أدلّ على جبنه من قصته يوم الخندق حيث جعله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مع النساء في الأطم ، ولمّا أتى يهودي محاولاً الصعود إلى من فيه ، ندبته صفية بنت عبد المطلب لينزل إليه فيقتله ، امتنع ، فنزلت إليه بنفسها وقتلته ، ثمّ صعدت فقالت لحسان في سلبه ، فأبى خوفاً وفرّقا كما صرّح هو بذلك عن نفسه ، والقصة مشهورة إذن ، فلا يعقل أن يكون ابن عباس لم يعلم بها فكيف يصفه بأنه جاهد بيده ونفسه؟

5 ـ من كلام النبوة :

روى ابن قتيبة في عيون الأخبار بسنده عن طاووس عن ابن عباس قال : « إنّها كلمة نبيّ :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً

ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّد »(2)

____________________

(1) نفس المصدر 9 / 155 ط الساسي.

(2) عيون الأخبار 2 / 191.

٤٣١

أقول : وكلام ابن عباس مأخوذ من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقد ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد فقال : « وأنشد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هذا البيت فقال : هذا من كلام النبوة ولايعني من جنس كلام النبوة ولا في حكمته ، بل هو هو من كلام النبوّة ، وقد رد ابن عباس على زعم من قال أنّه من قول طرفة بن العبد البكري ـ ( والبيت برقم ( 102 ) من معلقته ، كما في ديوانه 44 ط برطرند في مدينة شالون سنة 1900 م بشرح الأعلم الشنتمري )

فقد روى أبو نعيم في ذكر أخبار اصبهان بسنده عن ابن عباس قال : « إنّ الناس يزعمون أنّ هذا قول طرفة ما قالها إلاّ نبيّ :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً

ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّد(1) »(2)

ثمّ مع سائر الناس :

كان ابن عباس يعدّ في سلوكه مع الآخرين نموذجاً فريداً بين الناس ، فهو في صبره واحتماله وجوامع سيرته يتعايش مع الآخرين على حسب مراتبهم في نظره. وهو يعيش الغيرية النبيلة الّتي لا تعرف الأنانية ولا النفعية.

قال ميمون بن مهران سمعت ابن عباس يقول : ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلاّ أنزلته احدى ثلاث منازل ، إن كان فوقي عرفت له قدره ، وإن كان نظيري تفضلت عليه ، وإن كان دوني لم أحفل به. هذه سيرتي في نفسي فمن رغب عنها فأرض الله واسعة(3) وهذه سيرة مُثلى.

وشتمه رجل فقال : إنّك لتشتمني وفيّ ثلاث ، إنّي لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأحبّه ولعلّي لا أقاضي إليه أبداً ، وإنّي لأسمع

____________________

(1) ذكر أخبار أصبهان 2 / 191 ط أفست ليدن.

(2) العقد الفريد لابن عبد ربه 5 / 271.

(3) صفوة الصفوة 1 / 317 ط حيدر اباد.

٤٣٢

بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به وما لي بها من سائمة ولا راعية ، وإنّي لآتي على آية من كتاب الله فوددت أنّ المسلمين كلّهم يعلمون منها مثل ما أعلم(1) وهذه غيرية فاضلة عزّ نظيرها.

والشواهد على ذلك في أقواله وأفعاله كثيرة ، وفي أخباره المنثورة وحكمه المأثورة شواهد صدق ، نسوق بعضاً من أخباره مع الناس نتعرّف فيها خلقه الرفيع في مداراة الناس ومجاراتهم حسب مداركهم العقلية ، فلم يمنعه علمه وشرفه عن إجابة السائل عن مسألته وإن تكن في نظر الكثير ليست بذي بال أو تافهة ، وفي بعض تلك الشواهد نتعرف على جوانب من جامعيته العلمية فضلاً عن قدراته العقلية الّتي سيأتي الكلام عنها في الحلقتين الثانية والثالثة بعون الله.

وله مع ذلك الخلق الرفيع شجاعة على إنكار المنكر عز نظيرها عند غيره ممّن هو في سنّه ، بل فاق آخرين ممّن كانوا أكبر سناً منه ، ومرت بنا في تاريخه بعض الآثار والأخبار ، عالج فيها اصلاح مواضيع اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية عجز عنها غيره ، وقد مرت شواهد كثيرة ، أهمها ما كانت مع الحاكمين ، فلم ترهبه سطوة الحكم ولم يخش بطش الظالمين وكان هو أشد جرأة مع من كانوا في نظره من المتطفلين الّذين اتخذوا الحديث وسيلة لاقتناص المغفّلين من المسلمين ، وحسبنا في المقام قوله : « كلما لعق أحدهم من الإسلام لعقة ، ذهب يقول : حدّثني رسول الله ، ووالله ما حدّثه رسول الله بشيء ، ولا هو ممّن يفقهون حديثاً »(2) .

وستأتي بعض الشواهد الأخرى من هذا النمط في الحلقات الآتية ان شاء الله.

____________________

(1) الاصابة 2 / 330 ، وصفوة الصفوة 1 / 317.

(2) من أين نبدأ / 52 خالد محمّد خالد ط الثامنة سنة 1954 وقد مرّ بلفظ آخر عن مجمع الزوائد ومعجم الطبراني.

٤٣٣

أمّا الآن فإلى منثور الأخبار :

1 ـ خرّج ـ ابن وهب ـ عن الثوري : « أنّ رجلاً أتى إلى ابن عباس ( رضي الله عنهما ) فقال : أنا على هواك فقال له ابن عباس : الهوى كلّه ضلالة أي شيء أنا على هواك؟ »(1)

2 ـ روى أبو الفرج في الأغاني ، وثعلب في مجالسه(2) ، والنويري في نهاية الارب(3) ، والقيرواني في زهر الآداب(4) ، وأبو الطيب الوشاء الدؤلي في كتابه الموشّى(5) وغيرهم ، والخبر بلفظ الأوّل : بسنده عن أبي صالح قال : « كنت مع ابن عباس بعرفة فأتاه فتيان يحملون بينهم فتى لم يبق منه إلاّ خياله ، فقالوا له يا بن عم رسول الله ادع له ، فقال : وما به؟ فقال الفتى :

بنا من جوى الأحزان في الصدر لوعة

تكاد لها نفس الشفيق تذوب

ولكنما أبقى حشاشة مقولٍ

على ما به عودٌ هناك صليب

قال : ثمّ خفت في أيديهم ، فإذا هو قد مات.

فقال ابن عباس : هذا قتيل الحب لا عقل ولا قود.

قال أبو صالح : ثمّ ما رأيت ابن عباس سأل الله ( عزّ وجلّ ) في عشيته تلك إلاّ العافية ممّا به ذلك الفتى.

قال : وسألنا عنه فقيل : هذا عروة بن حزام »(6) .

____________________

(1) الاعتصام 3 / 25 ط المنار سنة 1332 هـ بمصر.

(2) مجالس ثعلب / 114.

(3) نهاية الأرب 2 / 182.

(4) زهر الآداب 4 / 131.

(5) الموشّى في الظرف والظرفاء 1 / 58.

(6) الأغاني 20 / 158.

٤٣٤

3 ـ روى ابن حجر في الإصابة في ترجمة جندب بن عمرو بن حممة عن ابن دريد بسنده عن الشعبي قال : « كنا عند ابن عباس وهو في صُفة زمزم يفتي الناس إذ قام إليه أعرابي فقال : أفتيتهم فأفتنا.

قال : هات؟ قال : ما معنى قول الشاعر؟

لذي الحكم قبل اليوم ما تقرع العصا

وما عُلّم الإنسان إلاّ ليُعلما

فقال ابن عباس : ذاك عمرو بن حمممة الدوسي قضى بين العرب ثلثمائة سنة فكبر ، فألزموه السابع أو التاسع من ولده ، فكان إذا غفل قرع له العصا ، فلمّا حضره الموت اجتمع إليه قومه ، فأوصاهم بوصية حسنة فيها حَكَم »(1) .

4 ـ ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار والفائق : « أنّه أتى ابن عباس إنسانين من ولد أبي لهب ليصلح بينهما ، فوجأ أحدهما الآخر بخنجر ، فقال ابن عباس : أمّا أنا فأشهد أنّكما ممّا كسب »(2) .

وقد روى هذه القضية الحاكم النيسابوري والذهبي في تلخيصه بصورة أخرى عن أبي الطفيل قال : « كنت عند ابن عباس يوماً فجاء بنو أبي لهب يختصمون في شيء بينهم ، فقام يصلح بينهم ، فدفعه بعضهم فوقع على الفراش فغضب ابن عباس وقال : أخرجوا عني الكسب الخبيث ، يعني ولد أبي لهب »(3) .

أقول : وهو يشير بذلك إلى ما جاء في القرآن الكريم في ذم أبي لهب في سورة تبت من قوله تعالى :( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) (4) .

____________________

(1) الإصابة 1 / 249 ط الأولى بنفقة عبد الحفيظ.

(2) ربيع الأبرار باب القرابات والأنساب / 3 نسخة الأوقاف المخطوطة ببغداد رقم 388 ، الفائق 2 / 129 ط حيدر آباد.

(3) مستدرك الحاكم 2 / 539.

(4) المسد / 1 ـ 2.

٤٣٥

5 ـ ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار : « قال رجل من همدان لابن عباس ( رضي الله عنه ) : أبا عباس ممّن أنا؟ قال : انت رجل من العرب. قال : فمن أنت؟ قال : من سأل عنّا أهل البيت فإنّا من أهل كوثى(1) . الأصل آدم ، والكرم والتقوى ، والحسب الخُلق ، إلى هذا انتهت نسبة الناس »(2) .

6 ـ ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار والسمعاني في أنسابه قال : « متّ رجل إلى ابن عباس برحم بعيدة ، فألان له وقال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم ، فإنّه لا قرب بالرحم إذا قُطعت وإن كانت قريبة ، ولا بُعد بها إذا وُصلت وإن كانت بعيدة »(3) .

7 ـ « سمع أعرابي ابنَ عباس يقرأ قوله تعالى :( وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ) (4) قال الأعرابي : والله ما أنقذنا منها وهو يريد أن يلقينا فيها ، فقال ابن عباس : خذوها من غير فقيه »(5) .

8 ـ ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار : « أنّ رجلاً تكلم في مجلس ابن عباس فأكثر الخطأ ، فالتفت إلى عبدٍ له فأعتقه ، فقال الرجل : ما سبب هذا الشكر؟ قال : إذ لم يجعلني الله مثلك »(6) .

____________________

(1) كوثى : قرية قرب الكفل من نواحي الكوفة كان فيها مسكن إبراهيم الخليل ( عليه السلام ).

(2) ربيع الأبرار ( باب القرابات والأنساب ) / 3 نسخة الأوقاف المخطوطة ببغداد رقم 388 و 2 / 174 نسخة الرضوية.

(3) ربيع الأبرار ( باب القرابات والأنساب ) / 3 نسخة الأوقاف المخطوطة ببغداد رقم 388 و 2 / 181 نسخة الشيخ السماوي.

(4) آل عمران / 103.

(5) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 / 134 ، العقد الفريد 2 / 295 ، محاضرات الراغب 2 / 176 ، كشكول البحراني 1 / 394.

(6) ربيع الأبرار ( باب الجهل والنقص ) نسخة الرضوية ، وقارن نوادر الحمقى والمغفلين / 9.

٤٣٦

9 ـ روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن عوف عن يزيد الفارسي قال : « رأيت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم في النوم زمن ابن عباس على البصرة ، قال : فقلت لابن عباس إنّي قد رأيت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم فقال ابن عباس : فإنّ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم كان يقول : إنّ الشيطان لا يستطيع أن يتشبّه بي فمن رآني في النوم فقد رآني ، فهل تستطيع أن تنعت هذا الرجل الّذي قد رأيت؟ قال : نعم ، أنعت لك رجلاً بين الرجلين ، جسمه ولحمه أسمر إلى البياض ، حسن المضحك ، أكحل العينين ، جميل دوائر الوجه ، قد ملأت لحيته ما لدُن هذه إلى هذه ـ وأشار بيده إلى صُدغيه ـ حتى كادت تملأ نحره.

قال عوف : ولا أدري ما كان مع هذا من النعت.

قال : فقال ابن عباس : لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا »(1) .

10 ـ ذكر الصفوري في نزهة المجالس : « أنّه كان في زمن ابن عباس رجل كثير المال ، فلمّا مات حفروا قبره فوجدوا فيه ثعباناً عظيماً ، فأخبروا ابن عباس بذلك ، فقال : احفروا غيره ، فحفروا فوجدوا الثعبان فيه حتى حفروا سبعة قبور ، فسأل ابن عباس أهله عن حاله ، فقالوا : إنّه كان يمنع الزكاة ، فأمرهم بدفنه معه »(2) .

11 ـ ذكر الصفوري أيضاً في نزهة المجالس : « أنّ رجلاً قال لابن عباس : إنّي كثير النسيان ، فقال له : عليك بالكُندر ، انقعه ليلاً ثمّ اشربه على الريق فإنّه يمنع النسيان »(3) .

____________________

(1) الطبقات الكبرى 1ق 2 / 125 ط ليدن.

(2) نزهة المجالس 1 / 115.

(3) نفس المصدر 1 / 36.

٤٣٧

12 ـ ذكر الراغب الاصبهاني في محاضراته : « أنّ ابن عباس رأى رجلاً يتظلف عن ذكر السوأتين فقال : ( ان تصدق الطير ننك لميسا ) ودخل في الصلاة. يريد أنّ ذكر ذلك ممّا لا يحرج »(1) .

أمّا ابن قتيبة في عيون الأخبار(2) ، وابن منظور في لسان العرب ، والزبيدي في تاج العروس ، وغيرهم ذكروا : أنّه كان محرماً فأخذ بذنب ناقة من الركاب وهو يقول :

إن يصدق الطير ننك لميسا

وهنّ يمشين بنا هميسا

فقيل له يا أبا العباس أترفث وأنت محرم؟ فقال : إنما الرفث ما روجع به النساء.

فرأى ابن عباس في الرفث الّذي نهى الله تعالى عنه بقوله :( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) (3) هو ما خوطبت به المرأة وقيل عندها عند الملاعبة ، وأمّا غير ذلك فغير داخل في النهي عنه في الحج.

13 ـ ذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار : « خطب رجل إلى ابن عباس يتيمةً له فقال ابن عباس : لا أرضاها لك ، قال : ولم؟ وفي حجرك نشأت؟ قال : لأنّها تتشرف(4) وتنظر ، قال : وما هذا فقال ابن عباس : الآن لا أرضاك لها »(5) .

14 ـ أخرج الصدوق في أماليه بسنده عن عبابة بن ربعي قال : « إنّ شاباً من الأنصار كان يأتي عبد الله بن عباس ، وكان عبد الله يكرمه ويدنيه ، فقيل

____________________

(1) المحاضرات للراغب الأصبهاني 2 / 116.

(2) عيون الأخبار 1 / 321 ط دار الكتب.

(3) البقرة / 197.

(4) أي تتطلع.

(5) عيون الأخبار 4 / 16.

٤٣٨

له : إنّك تكرم هذا الشاب وتدنيه ، وهو شاب سوء يأتي القبور فينبشها بالليالي فقال عبد الله بن عباس إذا كان ذلك فأعلموني ، قال : فخرج الشاب في بعض الليالي يتخلل القبور فأعلم عبد الله بن عباس بذلك ، فخرج لينظر ما يكون من أمره ، ووقف ناحية ينظر إليه من حيث لا يراه الشاب ، قال : فدخل قبراً قد حفر ، ثمّ اضطجع في اللحود ونادى بأعلا صوته : يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي ، ونطقت الأرض من تحتي ، فقالت : لا مرحباً بك ولا أهلاً ، قد كنت أبغضك وأنت على ظهري ، فكيف وقد صرت في بطني ، بل ويحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفاً والملائكة صفوفاً ، فمن عدلك غداً من يخلصني؟ ومن المظلومين من يستنقذني؟ ومن عذاب النار من يجيرني؟ عصيت من ليس بأهل أن يُعصى ، عاهدت ربّي مرة بعد أخرى ، فلم يجد عندي صدقاً ولا وفاءاً ، وجعل يردد هذا الكلام ويبكي ، فلمّا خرج من القبر ، التزمه ابن عباس وعانقه ثمّ قال له : نعم النباش نعم النباش ، ما أنبشك للذنوب والخطايا ، ثمّ تفرقا »(1) .

15 ـ ذكر التوحيدي في البصائر والذخائر : « إنّ عبد الله بن عباس أرعى رجلاً من العرب أبلاً له فأسمنها وردّها كأنها قصور أو عذارى حور ، فقال : كيف تراها ، فقال الراعي تسر الناظر ، وتخصب الزائر. قال : فإنّها لك ولك أجرك ، فبكى الأعرابي ، فقال له : ما يبكيك؟ فقال : أبكي ضنّاً بهذا الوجه أن يعفّر في التراب ، فقال ابن عباس : لهذا القول أحسن من قصيدة »(2) .

____________________

(1) أمالي الصدوق / 294 ط الحيدرية.

(2) البصائر والذخائر للتوحيدي / 200.

٤٣٩

16 ـ روى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد : « أنّ ابن عباس كان يسمي عبيده بأسماء العرب ، عكرمة وسميع وكريب ، وانه قال لهم تزوجوا ، فان العبد إذا زنى نزع منه نور الإيمان ، ردّ الله عليه بعد أو أمسكه »(1) .

شخصية ابن عباس :

لقد كانت في تاريخه عدة جوانب رئيسية لشخصيته ، وقد مرّ بنا منها ما قرأناه عبر تاريخ حياته الطويل ، فعرفناه شخصية فذة توحي بملامح رئيسية ، ربانية في السلوك والتربية ، سياسية في الحزم والحكم ، ثقافية في العلم والمعرفة ، لكل من تلك الملامح أبعاد وأبعاض ، تكشف عن عظيم شخصيته. والآن فلنذكر بعض الشواهد على آثار تلك الملامح في تأثير شخصيته عند الآخرين.

ربانيته في السلوك والتربية :

لقد مرّت بنا في الجزء الأوّل شواهد عند الحديث عن نشأته وأخلاقه ، وقرأنا فيها بعض ما يشير إلى ملامح ربانية في سلوكياته في نفسه ومع غيره ، وثمة الآن بعض الشواهد الأخرى ممّا لم يتقدم لها ذكر ، وهي تمتاز بنقاوة مفاهيمها عنده وان غايرت المغروس في أذهان بعض الناس عن بعض تلك المفاهيم ، فمثلاً عندما نتحدث عن زهده وورعه وعن تقواه وإيمانه وعن عبادته وخشوعه لا نريد سوى الحديث عمّا كان عليه من الأخذ بمبادئ الإسلام النقيّة في توجيه ذاته ، في تهذيب الأنانية حتى نمت عنده الغيرية القائمة على أساس متين من الوظائف العبادية ، فعمل على تنمية روح الجماعة في النفس ، وأشاع فيضها في التعاطف والتماسك مع الغير ، مع الخشية من الله تعالى والتقرّب إليه والإيمان به

____________________

(1) شعب الإيمان 2 / ورقة 115 أ نسخة مصورة ميكروفلم بمكتبتي.

٤٤٠