موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٥

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 520

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 520
المشاهدات: 101794
تحميل: 4147


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 520 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101794 / تحميل: 4147
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 5

مؤلف:
العربية

ومن الرواة من تردّد في مكانها كما في رواية السيوطي(1) نقلاً عن العسكري في كتاب الأوائل عن سليمان بن عبد الله بن معمر قال : « قدم معاوية مكة أو المدينة فأتى المسجد فقعد في حلقة فيها ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر فأقبلوا عليه وأعرض عنه ابن عباس فقال : وأنا أحق بهذا الأمر من هذا المعرض وابن عمه.

فقال ابن عباس : ولم؟ ألتقدم في الإسلام؟ أم مع سابقة رسول الله؟ أو قرابة منه؟ قال : لا ولكني ابن عم المقتول. فقال : فهذا أحق به ـ يريد ابن أبي بكر ـ قال : إنّ أباه مات موتاً ، قال : فهذا أحق به ـ يريد ابن عمر ـ قال : إنّ أباه قتله كافر ، قال : فذاك أدحض لحجتك إن كان المسلمون عتبوا على ابن عمك فقتلوه ». وتردد الراوي في ذكر المكان يكشف عن عدم حضوره وقت المحاورة ، وإنّما رواها سماعاً ، وهذا يدل على شيوعها بين الناس ، وذلك شيء طبيعي ، فحاكمٌ مستحوذ على خلافة المسلمين بحجة واهية ، يتلقّى صفعة مؤلمة من موتور مغلوب على أمره ، كيف لا يُذاع ما جرى بينهما وينتشر خبره. واللافت للنظر في رواية السيوطي هذه ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر مع الحاضرين وذكر ابن عباس له.

محاورة ثانية :

وتبعاً لاختلاف الرواة فقد وقفت على محاورة جرت بين ابن عباس وبين معاوية تزيد في جوّها المحموم والمواقف المتشنجة على ما مرّ في المحاورة الأولى ، وفيها من قوة الحجة والحجاج وشدة اللجاج ، ما يحملنا على اعتقاد

____________________

(1) تاريخ الخلفاء / 134.

٤١

التغاير بينهما ، وإن جاء فيها بعض ما مرّ في الأولى ، وذلك لا يعني أنّها هي وقد تزيّد فيها الرواة ، خصوصاً إذا لاحظنا المصدر وما فيه ممّا يحمل على سوء الظن والإتهام ، فإنّ البيان المحبوك بصنعة الإنشاء يشبه نتاج صنّاعي الأدب في العصر العباسي الأوّل ، حيث كان حمّاد الراوية وحمّاد عجرد ، أو العصر الثاني حيث كان الجاحظ وحتى نسج أبي حيّان فلا يغيب عن الأذهان ، ولربّما تزيّد الرواة إسماً أو رسماً فازدادوا إثماً ، لكن لا يعقل أن تكون المحاورة جميعها من نسج الخيال.

ومهما يكن الحال ، فإلى القارئ صورة ما وجدته في كتاب أخبار الدولة العباسية قال فيه : « دخل ابن عباس على معاوية وعنده جماعة من قريش فيهم عبد الله بن عمر ، فلمّا جلس قال له معاوية : إنّك يا بن عباس لترمقني شزراً ، كأني خالفت الحقّ أو أتيت منكراً.

قال ابن عباس : لا منكر أعظم من ذبحك الإسلام بشفرة الشرك ، واغتصابك ما ليس لك بحق اعتداءً وظلماً.

فقال معاوية : إنّما ذبح الإسلام من قتل إمام الأمة ونقض العهد ، وخفر الذمة ، وقطع الرحم ولم يرع الحرمة وترك الناس حيارى في الظلمة.

قال ابن عباس : كان الإمام من سبق الناس إلى الإسلام طراً ، وضرب خيشوم الشرك بسيف الله جهراً ، حتى انقاد له جماهير الشرك قهراً ، وأدخلك وأباك فيه قسراً ، فكان ذلك الإمام حقاً ، لا من خالف الحقّ حمقاً ، ومزّق الدين فصار محقاً.

فقال معاوية : رفقاً يا بن عباس رفقا ، فقد أتيت جهلاً وخُرقاً ، فوالله ما قلتَ حقاً ، ولا تحريت في ( كلامك / ظ ) صدقاً ، فمهلاً مهلاً ، لقد كان من ذكرته إماماً

٤٢

عادلاً ، وراعياً فاضلاً ، يسلك سبيلاً ، مليء حلماً وفهماً ، فوثبتم عليه حسداً ، وقتلتموه عدواناً وظلماً.

قال ابن عباس : انّه اكتسب بجهده الآثام ، وكايد بشكّه الإسلام ، وخالف السنّة والأحكام ، وجار على الأنام وسلّط عليهم أولاد الطغام ، فأخذه الله أخذ عزيز ذي انتقام.

قال معاوية : يا بن عباس يحملك شدة الغضب على سوء الأدب ، حتى لتخلّ في الجواب ، وتحيد عن الصواب ، تقعد في مجلسنا ، تشتم فيه أسلافنا ، وتعيب فيه كبراءنا وخيار أهلنا ، ما ذنب معاوية إن كان عليّ خانه زمانه ، وخذله أعوانه ، وأخذوا سلطانه ، وقعدوا مكانه ، أمّا معاوية فأعطي الدنيا فأمكنكم من خيرها ، وباعدكم من شرّها ، وكان لكم صفوها وحلوها ، ولي كدرُها ومرّها.

قال ابن عباس : ذنب معاوية ركوبه الآثام ، واستحلاله الحرام ، وقصده لظلم آل خير الأنام ، ما رعى معاوية للنبوّة حقّها ، ولا عرف لهاشم فضلها وقوتها ، وبنا اكرم الله معاوية فأهاننا ، وبنا أعزه الله فأهاننا ، ثمّ ها هو ذا يصول بعزّنا ، ويسطو بسلطاننا ، ويأكل فيئنا ، ويرتع في ثروتنا ، ثمّ يمتنّ علينا في إعلامنا إيانا بأنه لا يعتذر إلى الله من ظلمنا.

قال معاوية : يا بن عباس إن افتخارك علينا بما لا نقر لك إفكٌ وزور ، وتبجّحك بما لا نشهد لك به هباء منثور ، واتكال أبناء السوء على سيادة الآباء ضعف وغرور ، ونحن للورى أنجم وبحور ، نفي بالنذور ، ونصل بالبدور ، وبساحتنا رحى السماحة تدور.

قال ابن عباس : لئن قلت ذلك يا معاوية لطالما أنكرتم ضوء البدور ، وشعاع النور ، وسميتم كتاب الله بيننا أسطوراً ، ومحمداً صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم

٤٣

ساحراً وصنبوراً(1) ولقول القائل تلقفوها يا بني أمية تلقّف الكرة لا بعث ولا نشور ، وتغنموا نسيم هذا الروح فما بعده أوبة ولا كرور ، وكان لعمر الله القطب الّذي عليه رحى الضلالة تدور.

فغضب معاوية وقال : يا بن عباس اربع على نفسك ، ولا تقس يومك بأمسك ، هيهات صرّح الحقّ عن محضه ، وزلق الباطل عن دحضه ، أمّا إذا أبيت فأنا كنت أحق بالأمر من ابن عمك.

قال ابن عباس : ولم ذاك ، وعليّ كان مؤمناً وكنت كافراً ، وكان مهاجراً وكنت طليقاً.

قال : لا ولكني ابن عم عثمان.

قال : فإنّ ابن عم رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم خير من ابن عم عثمان.

قال معاوية : إنّ عثمان كان خيراً من عليّ وأطيب.

قال ابن عباس : كلا ، عليّ أزكى منه وأطهر ، وأعرف في ملكوت السموات وأشهر ، أتقرن يا معاوية رجلاً غاب عن بدر ولم يشهد بيعة الرضوان ، وفرّ يوم التقى الجمعان ، ابن مخنّث قريش ، الّذي لم يسلّ سيفاً ، ولم يدفع عن نفسه ضيماً ، إلى قريع العرب وفارسها ، وسيف النبوّة وحارسها ، أكثرها علماً ، وأقدمها سلماً ، إذن قسمة ضيزى أبا عبد الرحمن.

قال معاوية : إنّ عثمان قتل مظلوماً.

قال ابن عباس : فكان ماذا؟ فهذا إذن أحقّ بها منك ، قتل أبوه قبل عثمان ـ يعني ابن عمر ـ

____________________

(1) الصنبور : الرجل الضعيف الذليل بلا أهل ولا عقب ولا ناصر ، وكان كفار قريش يقولون محمّد صنبور. انظر لسان العرب وتاج العروس مادة ( صنبر ).

٤٤

قال معاوية : ان هذا قتله مشرك ، وعثمان قتله المؤمنون.

قال ابن عباس : فذلك أضعف لقولك ، وأدحض لحجتك ، ليس من قتله المشركون كمن نحره المؤمنون.

فقال معاوية : ترى يا بن عباس أن تصرف غَربَ لسانك وحدة نبالك ، إلى من دفعكم عن سلطان النبوة ، وألبسكم ثوب المذلة ، وابتزكم سربال الكرامة ، وصيّركم تبعاً للأذناب بعد ما كنتم عز هاماتٍ لسادات ، وتدع أمية ، فإنّ خيرها لك حاضر ، وشرها عنك غائب.

قال ابن عباس : أمّا تيم وعدي فقد سلبونا سلطان نبيّنا صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ، عدواً علينا فظلمونا ، وشفوا صدور أعداء النبوّة منا ، وأمّا بنو أمية فإنهم شتموا أحياءنا ولعنوا موتانا ، وجاوزوا حقوقنا ، واجتمعوا على إخماد ذكرنا وإطفاء نورنا ، فيأبى الله لذكرنا إلاّ علوّا ، ولنورنا إلاّ ضياء ، والله للفريقين بالمرصاد.

قال معاوية : ما نرى لكم علينا من فضل ، ألسنا فروع دوحة يجمعنا عبد مناف؟

قال ابن عباس : هيهات يا معاوية ، حدت عن الصواب ، وتركت الجواب ، بيننا وبينكم برزخ وحجاب ، أنتم الحثالة ونحن اللباب ، ولشتان ما بين العبد والأرباب ، أتجعل أمية كهاشم؟ إن هاشماً كان صميماً كريماً ولم يكن لئيماً ولا زنيماً ، أوّل من هشم الثريد وسنّ الرحلتين وله يقول القائل :

عمروا الّذي هشم الثـريد لقومه

ورجـال مـكـة مسنتون عجافِ

٤٥

سفرَين سنّهما له ولقومِه

سفر الشتاء ورحلة الأصياف »(1)

وفي هذه المحاورة ـ إن صحت ـ قرأنا خصومة أشبه بالمناظرة والمفاخرة ، فكلٌّ من ابن عباس ومعاوية يردّ على الآخر بعنف وشدة ويذكر مفاخر قومه وآبائه ، ومن الطبيعي أن تكون الغلبة لابن عباس في ذكرها. لكن معاوية الحاقد يحاول انكار ذلك الفضل بحجة أنّ الجميع يجمعهم عبد مناف. فذكر ابن عباس له من الفروق بينهما ما أسكته ودحض حجته. ولم يكن معاوية في قرارة نفسه لا يعرف ذلك ، لكنه الحسد ودفائن الأضغان ، ولم يكن أحد يقوى على رده وهو في عنفوان سلطانه إلاّ أهل البيت ، وفي مقدمتهم الإمام الحسن والإمام الحسين ثمّ عبد الله بن عباس ، وهو أكثر بني هاشم إصابة في عدوه ، وأقوى حجة في دفع خصومه ، وسيأتي في صفحات احتجاجاته في الحلقة الثالثة ما يغني ويقني إن شاء الله تعالى.

ومع هذا كلّه نجد البلاذري في أنسابه روى انّ ابن عباس قال : « لله درّ ابن هند ولَينا عشرين سنة فما آذانا على ظهر منبر ولا بساط ، صيانة منه لعرضه وأعراضنا ، ولقد كان يحسن صلتنا ويقضي حوائجنا »(2) !.

وما أدري كيف استساغ الراوي أن يذكر ذلك منسوباً إلى ابن عباس ومحاوراته مع معاوية تنبئ بخلاف ذلك.

ونتحف القارئ بذكر محاورة أخرى ورد ذكرها في تاريخ اليعقوبي(3) وأخبار الدولة العباسية(4) نعرف منها مدى الحقد المتأصل في نفس معاوية على

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 47 تح ـ الدكتور الدوري والمطلبي ط دار صادر بيروت سنة 1971.

(2) أنساب الأشراف 1ق4 / 83 تح ـ احسان عباس.

(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 199 ـ 200.

(4) أخبار الدولة العباسية / 50.

٤٦

بني هاشم وعلى الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ). كما نعرف مدى شجاعة ابن عباس وقوّة جنانه فلا يخشى بطش معاوية وهو في عنفوان سلطانه :

« قال معاوية لابن عباس : كيف رأيت صنع الله بي وبأبي الحسن؟

فقال ابن عباس : صنعاً والله غير مختلّ ، عجّله إلى جنة لن تنالها ، وأخّرك إلى دنيا كان أزالها.

فقال : وإنك لتحكم على الله؟

فقال : الله حكم على نفسه( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ) (1) .

قال : أما والله لو عاش أبو عمرو عثمان حتى يراني لرأى نعم ابن العم.

فقال : والله لو عاش لعلم أنّك خذلته حين كانت النصرة له ، ونصرته حين كانت النصرة لك.

قال : وما دخولك بين العصا ولحاها؟

قال : والله ما دخولي بينهما إلاّ عليهما لا لهما ، فدعني ممّا أكره أدعك من مثله ، لأن تحسن فأجازي أحبّ الي من أن تسيء فأكافئ ، ثمّ نهض ، فاتبعه معاوية بصره وهو يقول :

حصيد اللسان ذليق الكـ

لام غير عيّ ولا مسهب

يبذّ الجياد بتقريبه

ويأوي إلى حُضَرِ ملهَب »

جرأة وشجاعة :

قال اللغويون : اجترأ ـ الرجل ـ على القول ـ بالهمز ـ أسرع بالهجوم عليه من غير توقف ، والاسم الجراة وزان غرفة.

____________________

(1) المائدة / 45.

٤٧

وقالوا : شجُع الرجل ـ بالضم ـ قوي قلبُه واستهان بالحروب جرأة وإقداماً(1) .

وهاتان الصفتان ممّا تميز بهما ابن عباس. فلقد تميز بجرأة نادرة وشجاعة فائقة في مواجهة خصومه ، سواء من بيدهم الحكم أم من كان خارج الحكم ، فما خاصم أحداً إلاّ خصمه ، ولا جادل أحداً إلاّ أفحمه ، ولا فاخر أحداً إلاّ ألزمه ، وما هادن أحداً منهم على حساب دين أو دنيا ، يقول كلمة الحقّ حتى يصفع وجه خصمه فيجعله كسيراً حسيرا ، وأظهر الشواهد دلالة ما كان يجري بينه وبين معاوية ، وقد مرّت بنا بعض محاوراته ، وستأتي شواهد أخرى كثيرة في الحلقة الثالثة في صفحة احتجاجاته. وكلّها على نمط واحد في اختياره الطريق الوحيد لنصرة أئمة الحقّ ، وإن كان ذلك الطريق هو الصعب والمحفوف بالمخاطر ، وقد سبّب له معاناة كبيرة وكثيرة ، إلاّ انّه ممّن يستسهل الصعب ليبلغ المنى ، ولم نقرأ عن أحد من أهل البيت في زمانه سوى الحسنين ( عليهما السلام ) أشد جرأة من ابن عباس ولا أقوى حجة وبرهاناً في إفحام معاوية حتى اضطره كثيراً ـ لا حيناً ـ إلى المراوغة فيبدي الأنكسار مع عتوه وجبروته ، ومع تلك القوة الشخصية فلم يكن بمعزل عن الدعاء والاستعانة بالله سبحانه في أن يدفع عنه شرور أعدائه ، فقد علّم سعيد بن جبير فقال له : « إذا دخلت على السلطان وهو مهيب تخاف أن يسطو عليك فقل : الله أكبر وأعزّ ممّا أخاف وأحذر ، اللّهمّ ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم ، كن لي جاراً من عبدك فلان وجنودَه وأشياعَه وأتباعَه ، تبارك اسمك جلّ ثناؤك وعزّ جارك ولا إله غيرك »(2) .

____________________

(1) المصباح المنير : جرى ، شجع.

(2) العقد الفريد 3 / 224 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

٤٨

فهو إذن كان متسلّحاً بسلاح الدعاء الّذي يدفع البلاء ، مضافاً إلى ما عنده من سلاح الحجة والبيان ، ومن كان كذلك فهو حليف الغلبة في حضره وسفره وفي صحته ومرضه.

فهلم لنقرأ معاً ما رواه صاحب كتاب نزهة السامع ، فقد روى : « إنّه دخل على معاوية يوماً ، وكان مريضاً ، فرآه معاوية على تلك الحال فطمع فيه. فقال : يا بن عباس الله أعلم حيث يجعل رسالته.

فقال له ابن عباس : الحمد لله الّذي أنطقك حقّنا ، وعرّفك فضلنا ، والحمد لله الّذي جعل الخير منّا ، والنبوّة فينا ، وجعلنا أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا.

قال : وكان معاوية متكئاً فجلس وقال : كيف رأيتم الله حرمكم هذا الأمر الّذي عرّضتم له مناكبكم؟

فقال له ابن عباس : يا معاوية إن الله لم يزل يذود أولياءه عن الدنيا ذياد الراعي إبله عن موارد الهلكة ، وقد قال سبحانه :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1) وأيم الله لولا حقّ النبوة وحرمة الإسلام ، ووصية النبيّ بهما عند ( عدم ) الناصر وغلبة العدو ، لعلمت أنّه يقصر باعك ويضيق منكبك أن تقذف دلواً في طوىً(2) شدّ عليها هاشمي رشاءً.

فقال له معاوية : يا بن عباس لا أزال أمازحك ولم تحلم.

فقال ابن عباس : إنّ الحلم عمّن يرى له الفضل عليك صعب ، فاتق الله يا معاوية واعرف الحقّ لأهله ، ولعمري إنّك لتعرفه ولكنك تنكره »(3) .

____________________

(1) إبراهيم / 30.

(2) الطوى : البئر المبنية بالحجارة.

(3) نقلاً عن كتاب غرر الأخبار ودرر الآثار للديلمي ـ نسخة مخطوطة ـ ناقصة عند شيخنا العلاّمة الحجة الشيخ شير محمّد الهمداني الجورقاني ( رحمه الله ).

٤٩

إنّها كلمة الحقّ الّتي أزهقت الباطل زهوقاً. أيّ جرأة هذه وأيّ شجاعة؟ تذل معاوية حتى يستكين ، فيحاول خداع نفسه قبل غيره بأنّ الأمر كان مزاحاً ، إنّما بن هند سرعان ما يقلب الحقّ باطلاً ، والجد هزلاً ومزاحاً.

في الشام :

وإذا كان معاوية في المرة السابقة مازحاً كما يزعم فلننظر إلى موقف له آخر أشدّ صرامة وصراحة ، وقد جمع له معاوية زبانيته ، ويبدو من صدر المحاورة ربما كانت أوّل لقاء له مع معاوية وزمرته بالشام.

فقد روى المدائني قال : « وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة ، فقال معاوية : لابنه يزيد ولزياد بن سمية وعتبة بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن أم الحكم : انّه قد طال العهد بعبد الله بن عباس ، وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه ، ولقد كان نصبه للتحكيم فدُفع عنه. فحرّكوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته ، ونقف على كنه معرفته ، ونعرف ما صُرف عنا من شبا حدّه ، ووري عنا من دهاء رأيه ، فربّما وصف المرء بغير ما هو فيه ، وأعطي من النعت والاسم ما لا يستحقه.

ثمّ أرسل إلى عبد الله بن عباس ، فلمّا دخل عليه واستقرّ به المجلس ، ابتدأه عتبة بن أبي سفيان فقال : يا بن عباس ما منع عليّاً أن يوجّه بك حكماً؟

فقال : أما والله لو فعل لقرن عمراً بصعبة من الإبل يوجع كتفيه مراسُها ، ولأذهلتُ عقله ، وأجرضته بريقه ، وقدحت في سويداء قلبه ، فلم يبرم أمراً ولم ينفض تراباً إلاّ كنت منه بمرأىً ومسمع ، فإن نكثه أرمت قواه ، وإن أرمه فصمت عراه ، بغرب مقولٍ لا يفلّ حدّه ، وأصالة رأي كمتاح الأجل ، لا وزر فيه ، أصَدّعُ به أديمه ، وأفلّ به شبا حدّه ، واشحذ به عزائم المتقين ، وأزيح به شُبَه الشاكين.

٥٠

فقال عمرو بن العاص : هذا والله يا أمير المؤمنين نجوم أوّل الشر ، وأفول آخر الخير ، وفي حسمه قطع مادته ، فبادره بالحملة ، وانتهز منه الفرصة ، واردع بالتنكيل غيره ، وشرّد به مَن خلفه.

فقال ابن عباس : يا بن النابغة ضلّ والله عقلك ، وسفه حُلمك ، ونطق الشيطان على لسانك ، هلاّ تولّيت ذلك بنفسك يوم صفين ، حين دعيت نزال ، وتكافحَ الأبطال ، وكثرت الجراح ، وتقصّفت الرماح ، وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولاً ، فانكفأ نحوك بالسيف حاملاً ، فلمّا رأيت الكواثر من الموت ، أعددتَ حيلة السلامة قبل لقائه ، والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه ، فمنحته رجاء النجاة عورتك ، وكشفت له خوف بأسه سوأتك ، حذراً أن يصطلمك بسطوته ، أو يلتهمك بحملته ، ثمّ أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته ، وحسّنت له التعرّض لمكافحته ، رجاء أن تكتفي مؤنته ، وتعدم صورته ، فعلم غلّ صدرك وما انحنت عليه من النفاق أضلعك ، وعرف مقرّ سهمك في غرضك ، فاكفف غرب لسانك ، واقمع عوراء لفظك ، فإنك لمن أسدٍ خادر ، وبحر زاخر ، ان تبرّزت للأسد افترسك ، وإن عُمت في البحر قمسَك.

فقال مروان بن الحكم : يا بن عباس إنّك لتصرّف بنابك ، وتوري نارك ، كأنّك ترجو الغلبة ، وتؤمل العافية ، ولولا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله ، فأوردكم منهلاً بعيداً صَدرُه ، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذنّ بعض حقه منكم ، ولئن عفا عنكم جرائركم فقديماً ما نسب إلى ذلك.

فقال ابن عباس : وإنّك لتقول يا عدو الله وطريد رسول الله ، والمباح دمه ، والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه ، وركوب أثباجه ، أما والله لو طلب معاوية ثاره لأخذك به ، ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوله

٥١

وآخره ، وأمّا قولك لي : إنّك لتصرّف بنانك وتوري نارك ، فسل معاوية وعمرواً يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلات ، واستخفافنا بالمعضلات ، وصدق جلادنا عند المصاولة ، وصبرنا على اللأواء والمطاولة ، ومصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة ، ومباشرتنا بنحورنا حدّ الأسنة. هل خمنا عن كرائم تلك المواقف؟ أم لم نبذل مهجنا للمتالف؟ وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود ، ولا يوم مشهود ، ولا أثر معدود ، وإنّهما شهدا ما لو شهدت لأقلقك ، فاربع على ظلعك ، ولا تتعرض لما ليس لك ، فإنّك كالمغروز في صفد ، لا يهبط برجل ولا يرقى بيد.

فقال زياد : يا بن عباس إنّي لأعلم ما منع حسناً وحسيناً من الوفود معك على أمير المؤمنين ، إلاّ ما سوّلت لهما أنفسهما وغرّهما به مَن هو عند البأساء يسلمهما ، وأيم الله لو وليتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ، ولقلّ بمكانهما لبثهما.

فقال ابن عباس : إذن والله يقصر دونهما باعك ، ويضيق بهما ذراعك ، ولو رمت ذلك لوجدت من دونهما فئة صُدُقا صُبُرا على البلاء ، لا يخيمون عن اللقاء ، فلعركوك بكلاكلهم ، ووطئوك بمناسمهم ، وأوجروك مشق رماحهم ، وشفار سيوفهم ، ووخز أسنتهم ، حتى تشهد بسوء ما أتيت ، وتتبيّن ضياع الحزم فيما جنيت ، فحذار من سوء النية ، فإنها ترد الأمنية ، وتكون سبباً لفساد هذين الحيّين بعد صلاحهما ، وسعياً في اختلافهما بعد إئتلافهما ، حيث لا يضرّهما إبساسك ، ولا يغني عنهما إيناسك.

فقال عبد الرحمن بن اُم الحكم : لله در ابن ملجم ، فقد بلغ الأمل ، وأمن الوَجل ، وأحدّ الشفرة ، وألان المهرة ، وأدرك الثار ، ونفى العار ، وفاز بالمنزلة العليا ، ورقى الدرجة القصوى.

٥٢

فقال ابن عباس : أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده ، وعجّل الله إلى النار بروحه ، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته ، لخالطه الفحل القطم والسيف الخذم ، ولألعقه صابا وسقاه سماما ، وألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة ، فكلّهم كان أشدّ منه شكيمة ، وأمضى عزيمة ، ففرى السيف هامهم ، ورملهم بدمائهم ، وقرى الذئاب أشلاءهم ، وفرّق بينهم وبين أحبائهم أولئك حصب جهنم هم لها واردون فـ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) (1) ولا غرو أن ختل ، ولا وصمة أن قتل ، فإنّا لكما قال دريد بن الصمة :

فإنّا للحم السيف غـير مكـرّه

ونلحمه طوراً وليس بذي نكر

يـغار عـلينـا واتـريـن فيُشتفى

بنا إن أصبنا أو نـغير على وتـر

فقال المغيرة بن شعبة : أما والله لقد أشرت على عليّ بالنصيحة ، فآثر رأيه ، ومضى على غلوائه ، فكانت العاقبة عليه لا له ، وإنّي لأحسب أنّ خلفه يقتدون بمنهجه.

فقال ابن عباس : كان والله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أعلم بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور ، من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه ، وعنّف عليه ، قال سبحانه :( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ

____________________

(1) مريم / 98.

٥٣

الْمُفْلِحُونَ ) (1) ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوّة( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) (2) وهل كان يسوغ له أن يحكّم في دماء المسلمين وفيء المؤمنين مَن ليس بمأمون عنده ، ولا بموثوق به في نفسه ، هيهات هيهات ، هو أعلم بفرض الله وسنّة رسوله ، أن يبطن خلاف ما يظهر إلاّ للتقية ، ولات حين تقية ، مع وضوح الحقّ ، وثبوت الجنان ، وكثرة الأنصار ، يمضي كالسيف المصلت في أمر الله ، مؤثراً لطاعة ربّه والتقوى على آراء أهل الدنيا.

فقال يزيد : يا بن عباس إنك لتنطق بلسان طَلِق ، تنبئ عن مكنون قلب حَرِق ، فاطو ما أنت عليه كشحا ، فقد محا ضوءُ حقنا ظلمةَ باطلكم.

فقال ابن عباس : مهلاً يزيد ، فوالله ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم ، ولا دنت بالمحبة لكم مذ نأت بالبغضاء عنكم ، ولا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمس من أفعالكم ، وإن تدل الأيام نستقضي ما شُذّ عنا ، ونسترجع ما ابتُزّ منّا ، كيلاً بكيل ووزناً بوزن ، وإن تكن الأخرى فكفى بالله ولياً لنا ووكيلاً على المعتدين علينا.

فقال معاوية : إنّ في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم ، وإنّي لخليق أن أدرك فيكم الثأر ، وأنفي العار ، فإن دماءنا قِبلكم ، وظلامتنا فيكم.

فقال ابن عباس : إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أسُداً مخدّره ، وأفاعي مطرّقة ، لا يفثؤها كثرة السلاح ، ولا تعضّها نكاية الجراح ، يضعون أسيافهم على عواتقهم ، يضربون قُدماً قُدماً من ناوأهم ، يهون عليهم نباح الكلاب ، وعواء

____________________

(1) المجادلة / 22.

(2) الكهف / 51.

٥٤

الذئاب ، لا يُفاتون بوتر ، ولا يُسبقون إلى كريم ذكر ، قد وطّنوا على الموت أنفسهم ، وسمت بهم إلى العلياء هممهم ، كما قالت الأزدية :

قوم إذا شهدوا الهياج فلا

ضربٌ ينهنههم ولا زجر

وكأنّهم أساد غينةَ قد

غرثت وبلّ متونها القطر

فلتكوننّ منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك ، وكان أكبر همّك سلامة حشاشتك ، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم ، وبذلوا دونك مهجهم ، حتى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلوله الدمار ، رفعوا المصاحف مستجيرين بها ، وعائذين بعصمتها ، لكنت شلواً مطروحاً بالعراء ، تسفي عليك رياحها ، ويعتورك ذبابها ، وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك ، ولا إزالتك عن معقود نيّتك ، لكن الرحم الّتي تعطف عليك ، والأواصر الّتي توجب صرف النصيحة إليك.

فقال معاوية : لله درّك يا بن عباس ، ما تكشف الأيام منك إلاّ عن سيف صقيل ورأي أصيل ، وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم ، ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثّرهم. ثمّ نهض ، فقام ابن عباس وانصرف »(1) .

فهذه المحاورة زماناً كانت في سنة 42 أو 43 حيث ورد ذكر زياد فيها وهذا أتى معاوية في سنة 42 ، كما ورد ذكر عمرو بن العاص فيها وهذا مات ليلة الفطر 43 ، فالمحاورة وقعت في تلك الفترة ما بين 42 و 43 ، ومكانها في الشام ، ولم يكن ابن عباس قد أتى معاوية بالشام قبل ذلك فيما أحسب ، لأنّ تاريخ الصلح كان في سنة 41 كما مرّ ، وابن عباس لم يحضر الصلح ولم يجر معه صلح

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 6 / 298 ـ 303 ط دار إحياء الكتب العربية.

٥٥

ولا معه أمان من معاوية كما مر في كتاب معاوية إليه وهو بالبصرة ، ولم يذكر أنّه بعد مغادرته لها في سنة 41 أتى الشام ، فلا أستبعد أن تكون المحاورة المذكورة هي الأولى في لقاءاته مع معاوية ، وفي صدرها ما يشير إلى ذلك حيث قال معاوية لجلسائه : « انّه قد طال العهد بعبد الله بن عباس وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه ».

وفي رواية عند ابن عساكر في ترجمة ابن عباس ورواها عنه ابن كثيرعن ابن عباس قال : « دخلت على معاوية حين كان الصلح وهو أوّل ما التقيت أنا وهو ، فإذا عنده أناس فقال : مرحباً بابن عباس ما تحاكت الفتنة بيني وبين أحد كان أعزّ عليّ بُعداً ولا أحب إليَّ قرباً ( منك ) الحمد لله الّذي أمات عليّاً ، فقلت له : ان الله لا يغلب ( يذمّ ) في قضائه ، وغير هذا الحديث أحسن منه. قال ما هو؟ قلت له : أحب أن تعفيني من ذكر ابن عمي وأعفيك من ذكر ابن عمك. قال : ذلك لك »(1) .

وفي لفظ البلاذري قال معاوية : « ما حالت الفتنة بيني وبين أحد كان أعز عليّ فقداً وأحبّ إليّ قرباً منك ، فالحمد لله الّذي قتل عليّاً.

فقال ابن عباس : أو غير هذا ، تدع لي ابن عمي وأدع لك ابن عمك. قال : ذاك لك.

ثمّ قال : أخبرني عن أبي سفيان؟ قال اللّهمّ انّه تجر فأربح ، وأسلم فأفلح ، وكان رأس الشرك حتى انقضى.

فقال : يا بن عباس في علمك ما تسرّ به جليسك ، ولولا أن اقارضك الثناء لأخبرتك عن نفسك »(2) .

____________________

(1) البداية والنهاية 8 / 301 ط السعادة.

(2) أنساب الأشراف 1ق 4 / 130 تح ـ احسان عباس.

٥٦

فظهر ممّا مرّ في رواية ابن عساكر أنّه أوّل لقاء كان بين ابن عباس ومعاوية هو الّذي جرى فيه ذكر معاوية للإمام وحمده الله على قتله ، وهذا ما أثار في ابن عباس الحمية فقال له ما مرّ ، وفي الخبر انّه دخل عليه وعنده أناس ، فمن هم أولئك الأناس غير جلسائه وخلطائه ، وهم الّذين مرّ ذكرهم في المحاورة السابقة.

يبقى الكلام حول فصول المحاورة مع شخوصها إلى الحلقة الثالثة إن شاء الله ، إلاّ أنّا ننبّه القارئ إلى أنّ ابن عباس كان حقّاراً لمعاوية وجريئاً عليه كما يقول بعض الرواة عنه في صدر محاورة رواها ابن عبد ربه في العقد الفريد والحلواني في نزهة السامع وهي طويلة نتركها إلى الحلقة الثالثة ، ونذكر ما هو أخصر منها وفيه من الجرأة على معاوية ما بلغ حتى التهديد.

فقد روى ابن عبد ربه في العقد الفريد(1) والجاحظ في أمل الآمل(2) والابشيهي في المستظرف(3) والحموي في ثمرات الأوراق(4) وأنساب الأشراف للبلاذري(5) .

قال أبو عثمان الحرامي : « اجتمعت بنو هاشم عند معاوية فأقبل عليهم فقال : يا بني هاشم والله إنّ خيري لكم لممنوح ، وإنّ بابي لكم لمفتوح ، فلا يقطع خيري عنكم علة ، ولا يوصد بابي دونكم مسألة ، ولمّا نظرت في أمري وأمركم ، رأيت أمراً مختلفاً ، إنّكم لترون أنّكم أحق بما في يدي مني ، وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقكم ، قلتم أعطانا دون حقنا ، وقصّر بنا عن قدرنا ،

____________________

(1) العقد الفريد 2 / 317 ط الأولى و 4 / 9 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

(2) أمل الآمل / 28 ـ 29 تح ـ رمضان ششن ط دار الكتاب الجديد بيروت سنة 1387.

(3) المستظرف 1 / 58.

(4) ثمرات الأوراق بهامش المستظرف 1 / 135.

(5) أنساب الأشراف 1ق 4 / 111 ـ 113.

٥٧

فصرت كالمسلوب ، والمسلوب لا حمد له ، وهذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم.

قال : فأقبل عليه ابن عباس فقال : والله ما منحتنا شيئاً حتى سألناه ، ولا فتحتَ لنا باباً حتى قرعناه ، ولئن قطعتَ عنا خيرك ، الله أوسع منك ، ولئن أغلقتَ دوننا بابك ، لنكفنّ أنفسنا عنك.

وأمّا هذا المال فليس لك منه إلاّ ما لرجل من المسلمين ، ولنا في كتاب الله حقّان : حقّ في الغنيمة ، وحقّ في الفيء ، فالغنيمة ما غُلبنا عليه ، والفيء ما احتبيناه ، ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر ، يحمله خفّ ولا حافر. أكفاك أم أزيدك؟

قال : كفاني فإنّك لا تفرّ ولا تشج. ( وفي لفظ البلاذري : فإنّك تكوي ولا تغوي ).

فقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :

ألا أبلغ معاوية بن صخر

فإنّ المرء يعلم ما يقول

لنا حقان حقّ الخمس وافٍ

وحقّ الفيء جاء به الرسول

فكلّ عطية وصلت الينا

وإن سحبت لخدعتها الذيول

ففي حكم القران لنا مزيد

على ما كان لا قال وقيل

أنأخذ حقنا وتريد حمدا

له هذاك تأباه العقول

فقال له ابن عباس مجيبا

فلم يدر ابن هند ما يقول

فلا تَهجِ ابنَ عباس مجيبا

فإنّ جوابه جدع أصيل »

٥٨

وفي أخبار الدولة العباسية تفاوت يسير في المحاورة والشعر(1) .

ومن هذه المحاورة يعرف القارئ رأي ابن عباس وسائر بني هاشم بما فيهم الإمام الحسن والإمام الحسين ( عليهما السلام ) في مسألة الأموال الّتي كان يبعث بها معاوية إليهم أو يفدون عليه لأخذها ، إنّما هي من حقوقهم المفروضة كما بيّنه ابن عباس ، بل هي دون ما يستحقونه لكن معاوية يريد التطوّل والمنّة إلاّ أنّ ابن عباس أسكت نامته ، وأبطل حجته ، حتى استكفاه معاوية واعترف له بأنّه يكوي ولا يغوي.

وكان معاوية يوصي أصحابه باجتناب محاورة رجلين الحسن بن عليّ وعبد الله بن عباس لقوة بداهتهما(2) .

إلاّ أنّ ابن العاص فيما يبدو لم يلتزم بوصية صاحبه. فقد روى البلاذري : « انّ عمرو بن العاص قال لعبد الله بن عباس : يا بني هاشم أما والله لقد تقلدتم من دم عثمان كفرم الإماء العوارك ، وأطعتم فسّاق أهل العراق في عيبه ، وأجزرتموه مرّاق أهل مصر ، وآويتم قتلته ، وإنّما نظر الناس إلى قريش ونظرت قريش إلى بني عبد مناف ، ونظر بنو عبد مناف إلى بني هاشم.

فقال ابن عباس لمعاوية : ما تكلم عمرو الا عن رأيك ، وإن أحق الناس أن لا يتكلم في قتل عثمان لأنتما. أمّا أنت يا معاوية فزيّنت له ما صنع ، حتى إذا حُصر طلب نصرك ، فأبطأت عنه وتثاقلت ، وأحببت قتله ، وتربّصت لتنال ما نلت.

وأمّا أنت يا عمرو فأضرمتَ المدينة عليه ناراً ، ثمّ هربت إلى فلسطين ، فأقبلت تحرّض عليه الوارد والصادر ، فلمّا بلغك قتله دعتك عداوة عليّ إلى أن لحقت بمعاوية ، فبعت دينك منه بمصر.

____________________

(1) راجع أخبار الدولة العباسية / 54 ـ 56.

(2) أنظر الأعلام للزركلي سنة 230.

٥٩

فقال معاوية : حسبك يرحمك الله ، عرّضني لك ونفسه فلا جزي خيراً »(1) .

وسيأتي في الحلقة الثالثة مزيدٌ ممّا جرى بين ابن عباس وابن العاص في الحجاز وفي الشام ، غير أنّا نذكر الآن ما رواه عبد الملك بن مروان :

« قال : كنا عند معاوية ذات يوم وقد اجتمع عنده جماعة من قريش ، وفيهم عدة من بني هاشم.

فقال معاوية : يا بني هاشم بم تفخرون علينا؟ أليس الأب والأم واحداً؟ والدار والمولد واحداً؟

فقال ابن عباس : نفخر عليكم بما اصبحت تفخر به على سائر قريش ، وتفخر به قريش على الأنصار ، وتفخر به الأنصار على سائر العرب ، وتفخر به العرب على العجم ، برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وبما لا تستطيع له إنكاراً ولا منه فراراً.

فقال معاوية : يا بن عباس لقد أعطيت لساناً ذلقاًً تكاد تغلب بباطلك حقّ سواك.

فقال ابن عباس : فان الباطل لا يغلب الحقّ ، ودع عنك الحسد ، فلبئس الشعار.

فقال معاوية : صدقت ، أما والله إنّي لأحبّك لخصال أربع مع مغفرتي لك خصالاً أربعاً ، فأمّا ما أحبّك : فلقرابتك من رسول الله. وأمّا الثانية : فانك رجل من أسرتي وأهل بيتي ومن مصاص عبد مناف. وأمّا الثالثة : فإنّ أبي كان خلاً لأبيك ، وأمّا الرابعة : فإنك لسان قريش وزعيمها وفقيهها.

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 94 تح ـ احسان عباس ، تاريخ الإسلام للذهبي 2 / 238 سير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 49.

٦٠