موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٦

موسوعة عبد الله بن عبّاس7%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 509

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 509 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80095 / تحميل: 5135
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فلا أطيل مناقشته في أبي هريرة ومرتبته في تلمذته عند كعب ، إذ هو ليس من غُنمي ولا غَنَمي ـ كما يقال ـ ولكن من حقي تصحيح رأيه في غفلته بل وغلطته حين جعل ابن عباس تلميذ كعب ومنحه المرتبة الثانية ، وما قدّمت من شواهد تنفي تلك المزعمة ، إذ هي ـ الشواهد ـ تثبت أن ابن عباس كان سئ الظن بكعب ، وقد كذّبه ، فكيف يعقل أنّه كان يأخذ عنه حتّى صار تلميذاً له كما في أضواء أبي ريّة الخافتة في هذا المقام؟

ثمّ إنّ الخبر الذي أشار إليه في تفسير الطبري قد رواه الطبري في تفسيره مرتين وبسندين ينتهيان إلى شمر بن عطية ، ثمّ هو يرويه أوّلاً مرسلاً إذ قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار الخ ، ورواه ثانياً عن هلال ابن يساف قال : سأل ابن عباس كعباً(١) .

وشمر هذا الذي روى الخبر تارة مرسلاً وأخرى مسنداً ـ بالرغم من توثيق جماعة له ـ لا يقبل خبره لأنّه كان عثمانياً ـ قال الآجري : قلت لأبي داود كان ـ شمر ـ عثمانياً؟ قال : جداً(٢) . وكعب كان من الضالعين مع عثمان ، فهو يرفع بضبعه وإن كان ذلك على حساب توهين ابن عباس.

على أنّ القرطبي ذكر في تفسيره تسعة أقوال في تفسير الآية الكريمة ، جاء فيها قول ابن عباس مغايراً لقول كعب ، وإليك الأقوال كما ذكرها القرطبي :

____________________

(١) تفسير الطبري ٢٧ / ٥٢ ط٢ بمصر.

(٢) تهذيب التهذيب ٤ / ٣٦٥ ط حيدر آباد.

١٤١

قال : ( واختلف لم سمّيت سدرة المنتهى على أقوال تسعة :

( الأوّل ) ما تقدم عن ابن مسعود أنّه ينتهي إليها كلّما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها.

( الثاني ) أنّه ينتهي علم الأنبياء إليها ، ويعزب علمهم عمّا وراءها ، قاله ابن عباس.

( الثالث ) أنّ الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها ، قاله الضحاك.

( الرابع ) لانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها ، قاله كعب.

( الخامس ) سمّيت سدرة المنتهى لأنّها ينتهي إليها أرواح الشهداء ، قاله الربيع بن أنس.

( السادس ) لأنّه تنتهي ـ تأوي ـ إليها أرواح المؤمنين ، قاله قتادة.

( السابع ) لأنّه ينتهي إليها كلّ من كان على سنة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهاجه ، قاله عليّ رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضاً.

( الثامن ) هي شجرة على رءوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق ، قاله كعب أيضاً

( التاسع ) سُمّيت بذلك لأنّ من رُفع إليها فقد انتهى في الكرامة )(١) .

أقول : لقد تبيّن من ذكر هذه الأقوال أنّ ابن عباس كان مستقلاً في رأيه في تفسير( سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) ، كما بيّن أنّ كعب الأحبار كان مذبذباً بين القولين.

____________________

(١) تفسير القرطبي ١٧ / ٩٥.

١٤٢

هل أخذ ابن عباس من عبد الله بن سلام؟

ـ ذكر الذهبي في ( تذكرة الحفاظ ) : ( عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه أنّه جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنّي قرأت القرآن والتوراة فقال : ( إقرأ هذا ليلة وهذا ليلة ) )(١) . ذكره أبو عروبة في البدريين (؟) ، قال ابن حجر : انفرد بذلك(٢) . وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة ممّن شهد الخندق وما بعدها(٣) .

والغريب في النص الأوّل قوله : ( أنّي قرأت القرآن والتوراة فقال صلى الله عليه وآله وسلم له : إقرأ هذا ليلة وهذا ليلة )! وأحسب نحو تلطيف جرى في عبارة الذهبي وإلاّ فنص ابن سعد في الطبقات : ( قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إقرأ القرآن ليلة والتوراة ليلة )(٤) ، والفرق بين النصين واضح ، والتلطيف لائح ، فإنّ لفظة ( إقرأ ) صارت تحكي صيغة ( أمرني ) إلاّ أنّها بصورة مخففة عن معنى الأمر الصريح.

ومهما تكن تلك الصيغة فإنّها تستبطن الكذب على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٢٧. وفي طبقات ابن سعد ٥ / ٣٨٣ ط الخانجي بمصر : ( قال : أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرأ القرآن ليلة والتوراة ليلة ). وهذا من أقبح الكذب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما بينت في المتن.

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ٢٤٩ ط حيدر آباد.

(٣) طبقات ابن سعد ٥ / ٣٧٧ ط الخانجي بمصر.

(٤) طبقات ابن سعد ٥ / ٣٨٣ ط الخانجي بمصر.

١٤٣

لمعارضة ما صحّ من طرق كثيرة : أنّ عمر بن الخطاب أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بصحيفة فسأله عنها فقال :

والحديث برواية الدارمي وابن سعد في الطبقات عن جابر قال : ( إنّ عمر بن الخطاب أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنسخة من التوراة فقال : يا رسول الله : هذه نسخة من التوراة فسكت ، فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغيّر ، فقال أبو بكر : ثكلتك الثواكل ما ترى بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله ، رضينا بالله ربّاً ، وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيّاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( والذي نفس محمّد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ، ولو كان حيّاً وأدرك نبوّتي لاتبعني ) )(١) . وهذا الخبر أخرجه أحمد في مسنده ، وعبد الرزاق في المصنف ، وابن أبي شيبة في مصنفه ، والبزار في مسنده ، والروداني في جمع الفوائد ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، وغيرهم(٢) .

فالحديث ثابت ، وهو صريح في غضب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمجرد مجيء عمر بصحيفة من التوراة! فكيف يعقل ويقبل أن يأمر عبد الله بن سلام أن يقرأ القرآن ليلة والتوراة ليلة؟ وما رواية ابن سلام إلاّ كرواية أبي الجلد الآتي ذكره في نحو هذا ، وهو من الدسّ الإسرائيلي الخبيث لتسميم عقول المسلمين.

وأغرب من هذا كلّه أن يذكر ذلك في دواوين الحديث عند شريحة

____________________

(١) سنن الدارمي ١ / ١١٦.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٣٨٧ ، المصنف ١٠ / ٣١٣ و ٦ / ١١٣ و ١١ / ١١١.

١٤٤

كبيرة من المسلمين دون أن ينبّهوا على ما فيه من مردود سيّء على عقول السذّج من الناس!

هل أخذ ابن عباس من وهب بن منبه؟

لقد كتب الدكتور جواد عليّ في محاضرته عن موارد تاريخ الطبري(١) عن وهب بن منبه ، ما أغنى وأقنى ، وعاد فذكره مرّة أخرى في ( ص٢١٢ ) في حديثه عن طلاب ابن عباس والراوين عنه وهو واحد منهم فقال : ( ولوهب روايات زعم أنّه أخذها من ابن عباس أشك في صحتها! إذ كيف يعقل أخذ وهب بن منبه هذه الإسرائيليات من ابن عباس ، وهو أعلم بها منه؟ ولا سيما بعد أن زعم الصنعانيون وآل منبه أنّه قرأ عشرات الكتب. وأنّه كان عالماً بأحكام الكتب السماوية وبالتوراة والتلمود والمدراش ، ولذلك نرى الجائز العكس ، يؤيد هذا ما جاء في الروايات أنّ ابن عباس كان يسأل أهل الكتاب عمّا كان يشكل عليه ، والظاهر أنّ رواة وهب بن منبه أو وهب بن منبه نفسه هم الذين وضعوا هذه الأقوال على لسان ابن عباس لتجد لها سبيلاً بين المسلمين أهـ )(٢) .

أقول : إنّ الذي لا نقبله من رأي الدكتور هو ما أرتئاه من أخذ ابن عباس من وهب ، وزعم تأييده بأنّ ابن عباس كان يسأل أهل الكتاب عمّا كان يشكل عليه ، بينما الصحيح هو كان ينهى عن مساءلة أهل الكتاب ،

____________________

(١) مجلة المجمع العلمي العراقي ١ / س١ / ١٨٤ ـ ١٩٣.

(٢) مجلة المجمع العلمي العراقي ١ / س١ / ٢١٢.

١٤٥

وقد مرّ نهيه فيما تقدّم ، وما شك فيه الدكتور من روايات وهب عن ابن عباس ليس كلّها ممّا يشك في صحتها.

فمثلاً ما أخرجه الطبراني في ( المعجم الكبير ) بسنده عن وهب بن منبه يقول : ( صحبت ابن عباس قبل أن يصاب بصره وبعد ما أصيب ، فسئل عن القدر ، فقال : وجدت أصوب الناس فيه حديثاً أجهلهم به ، وأضعفهم فيه حديثاً أعلمهم به ، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس ، كلّما ازداد فيه نظراً ازداد بصره فيها تحيّراً )(١) ، فليس في هذا شيء من الإسرائيليات ، فأيّ مانع من قبوله؟

إذن كان على الدكتور أن يحتاط بتقييد روايات وهب التي رواها عن ابن عباس فيما هي من الإسرائيليات فلا نقبلها ، أمّا فيما عدا ذلك فلا مانع من قبولها إذا لم تعارض الكتاب أو السنة الثابتة.

ومثل ذلك ما أخرجه أبو بكر الآجري في كتابه ( أخلاق العلماء ) ، والبسوي في ( المعرفة والتاريخ ) بسنده عن وهب بن منبه ، قال : ( بلغ ابن عباس عن مجلس كان في ناحية بني سهم يجلس فيه ناس من قريش يختصمون فترتفع أصواتهم ، فقال ابن عباس : انطلق بنا إليهم ، فانطلقنا حتّى وقفنا عليهم ، فقال ابن عباس : أخبرهم عن كلام الفتى الذي كلّم به أيوب في حاله ( وما ) قال أيوب.

____________________

(١) المعجم الكبير ١٠ / ٢٦٢ ، ورواه الهيثمي في المجمع ٧ / ٢٠١.

١٤٦

فقلت : قال الفتى : يا أيوب أمّا كان في عظمة الله وذكر الموت ما يكلّ لسانك ، ويقطع قلبك ، ويكسر حجّتك؟ يا أيوب أما علمت أنّ لله عباداً أسكنتهم خشية الله من غير عيّ ولا بكم ، وإنّهم هم النبلاء الفصحاء الطلقاء الألبّاء ، العالمون بالله وآياته ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت قلوبهم وكلّت ألسنتهم ، وطاشت عقولهم وأخلاقهم فرَقَا من الله وهيبة له ، وإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله عزوجل بالأعمال الزاكية ، لا يستكثرون لله الكثير ، ولا يرضون له بالقليل ، يعدّون أنفسهم مع الظالمين الخاطئين ، وإنّهم لأنزاه أبرار ، ومع المضيّعين المفرّطين وإنّهم لأكياس أقوياء ناحلون دائبون ، يراهم الجاهل فيقول مرضى وليسوا بمرضى ، قد خولطوا وقد خالط القوم أمر عظيم )(١) . وزاد في ( المعرفة ) : ( ثمّ قال ابن عباس على أثر كلام وهب : وكفى بك ظالماً أن لا تزال مخاصماً ، وكفى بك آثماً أن لا تزال ممارياً ، وكفى بك كاذباً أن لا تزال محدّثاً في غير ذات الله عزوجل )(٢) .

وهذا الذي مرّ ذكره من الخطيب في المتفق والمفترق عن وهب بن منبه قال : أقبلت مع عكرمة أقود ابن عباس رضي الله عنه بعد ما ذهب بصره ، حتّى دخل المسجد الحرام ، فإذا قوم يمترون في حلقة لهم عند باب بني شيبة ، فقال : أَمِل بي إلى حلقة المراء ، فانطلقت به حتّى أتاهم فسلّم عليهم ، فأرادوه على

____________________

(١) أخلاق العلماء لأبي بكر الآجري ص٨٤ ـ ٨٦ ط دمشق سنة ١٣٩٢ هـ ١٩٧٢م.

(٢) البسوي في المعرفة والتاريخ ١ / ٥٢٤ ـ ٥٢٦.

١٤٧

الجلوس فأبى عليهم ، وقال : انتسبوا إلي أعرفكم ، فانتسبوا إليه.

فقال : ( أما علمتم أن لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عيّ ولا بكم ، إنّهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء العلماء بأيام الله ، غير أنّهم إذا ذكروا عظمة الله طاشت عقولهم من ذلك وانقطعت ألسنتهم ، حتّى إذا استقاموا من ذلك سارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية فأين أنتم منهم ) ، ثمّ تولى عنهم فلم ير بعد ذلك رجلان ، فأين هذا ممّا مرّ ، ولا مانع من تعدد الواقعة ، فما رواه الآجري والبسوي كان مجلس المختصمين عند باب بني سهم ، وما رواه الخطيب كان عند باب بني شيبة ، وبينهما فرق ، لكن الذي يبعث الشك في رواية الآجري والبسوي هو إحالة ابن عباس التوبيخ لأولئك المتخاصمين على تحديث وهب عن كلام الفتى الذي كلّم به أيوب ، وهذا يكشف عن معرفة ابن عباس بذلك الكلام ، فلماذا لم يقله هو وقال لوهب أخبرهم عن كلام الفتى ورواية وهب عن ابن عباس لها شواهد كثيرة :

فمن ذلك ماذكره السيد ابن طاووس في كتابه ( الإقبال ) في عمل ليلة عاشوراء نقلاً عن كتاب ( دستور المذكرين ) للحافظ محمّد بن أبي بكر المديني ، بإسناده المتصل عن وهب بن منبه عن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من صلى ليلة عاشوراء أربع ركعات من آخر الليل يقرأ في كلّ ركعة بفاتحة الكتاب وآية الكرسي عشر مرّات ، وقل هو الله أحد عشر مرّات ، وقل أعوذ بربّ

١٤٨

الفلق عشر مرّات ، وقل أعوذ بربّ الناس عشر مرات ، فإذا سلّم قرأ قل هو الله مائة مرّة ، ثمّ ذكر ثواب تلك الصلاة ). إلى أن قال وهب بن منبه : صُمّت إذناي إن لم أكن سمعت هذا من ابن عباس )(١) .

ومهما يكن أمر ذلك فإنّ وهب بن منبه هو الصهيوني الأوّل كما يراه الإستاذ سعيد الأفغاني وحكاه عنه الشيخ أبو رية(٢) ، فكيف نصدّق بمرويات تذكر أخذ ابن عباس عنه وهو الذي كان ينهى عن الأخذ من أهل الكتاب.

هل أخذ ابن عباس من أبي الجلد؟

ينبغي لنا أوّلاً أن نعرّف القارئ بأبي الجلد ومن ذا يكون؟ ثمّ نسأل هل أخذ ابن عباس منه؟

وللتعريف به لابدّ من الرجوع إلى المصادر الإسلامية التي ذكرته ، ثمّ العرجة على المصادر الأخرى التي أشارت إليه.

وأوّل ما يصادفنا الإختلاف في ضبط اسمه وكنيته : فهو أبو الجلد جيلان ـ بالجيم المعجمة ـ كما ذكره العسكري في كتابه ( شرح ما يقع فيه التصحيف ) قال : ( فأمّا أبو الجلد ـ بلا هاء ، والجيم مفتوحة ـ واسمه جيلان ابن فروة ، فهو صاحب كتب ، وكان جمّاعة لأخبار الملاحم )(٣) .

____________________

(١) الإقبال / ٥٥٥ ط الثانية دار الكتب الإسلامية سنة ١٣٩٠ هـ.

(٢) شيخ المضيرة / ٩٣.

(٣) شرح ما يقع فيه التصحيف / ٤٠٩ ط١ محققة سنة ١٣٨٤ هـ.

١٤٩

وجاء في ( حلية الأولياء ) لأبي نعيم : ( حيلان ـ بالحاء المهملة ـ )(١) ، وقد ورد ذلك مكرراً ، ولعلّه من غلط النسخة. بينما ذكره جولد زيهر في كتابه ، وسماه : ( غيلان بن فروة )(٢) ، ولعلّ ذلك من وهم المترجم أو غلط المؤلف.

ومهما يكن الصحيح في اسمه ، فقد سرى الإختلاف في نسبته إلى قومه هل هم الأزد ، أو بني أسد ، فقال ابن سعد : ( أبو الجلد الجوني ـ حيّ من الأزد )(٣) ، بينما نسبه البخاري وابن حبّان إلى بني أسد فذكراه : ( الأسدي البصري )(٤) ، وهذا أيضاً من الغلط ، فالرجل جوني ـ والجون بطن من الأزد ، وذكره الطبري في تفسيره فقال : ( رجل من أهل هجر )(٥) .

أمّا عن ثقافته فهو كما قال ابن حبّان : ( وكان ممّن يقرأ كتب الأوائل وكان من العبّاد )(٦) . وقد كشف لنا عن هوية تلك الكتب ، ابن أبي حاتم فقال : ( صاحب كتب التوراة ونحوها )(٧) ، ولا غضاضة في تنوّع الثقافة مع

____________________

(١) حلية الأولياء ٦ / ٥٤.

(٢) مذاهب التفسير الإسلامي / ٨٥ ترجمة عبد الحليم النجار.

(٣) طبقات ابن سعد ٩ / ٢٢١ ط الخانجي بمصر.

(٤) التاريخ الكبير للبخاري ١ / ق ٢ / ٢٥١ ط المكتبة الإسلامية في ديار بكر تركيا ، وفيه ( جيلان ابن أبي فروة ويقال فروة الأسدي البصري ) والجرح والتعديل لابن أبي حاتم ح١ / ق ١ / ٥٤٧ ط افست عن الطبعة الأولى بحيدر آباد سنة ١٣٧١ هـ.

(٥) تفسير الطبري ١ / ٣٤٤ ط محققة.

(٦) مشاهير علماء الأمصار / ٩٣.

(٧) الجرح والتعديل ١ / ١ / ٥٤٧.

١٥٠

الحفاظ على الهويّة الإسلامية ، لكن هلمّ الخطب حين نقرأ ما قاله عنه ابن سعد في طبقاته ، ورواه بسنده عن ابنته : أنّ أباها كان يقرأ القرآن في كلّ سبعة أيام ، ويختم التوراة في ستة يقرأها نظراً ، فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناس ـ كذا ـ وكان يقول : كان يقال : تنزّل عند ختمها الرحمة(١) .

ومن اللافت للنظر توثيقه من ابن سعد وأحمد وابن حبّان؟! وأغرب من ذلك ذكر أبي نعيم له في ( حلية الأولياء ، وطبقات الأصفياء ) ، وقد ترجمه ترجمة هي أوسع ما رأيت عنه ـ فوصفه بـ ( الواعظ الجعد ، المعروف بالحفظ والسرد ، حيلان بن فروة أبو الجلد ، كان للكتب المنزلة حافظاً ، وبمواعظ الأنبياء وأحوالهم واعظاً ، وبالأذكار لهجاً لافظاً ). ثمّ ذكر بأسانيده عن أبي عمران الجوني عنه ثمانية عشر أثراً ، ليس بينهما أثر واحد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو عن قرآنه ، بينما ذكر من الأنبياء موسى وعيسى وداوود ويونس ، مع ذكره قراءته الحكمة وكتب الله ، ومسألة داوود(٢) !

وإذا عرفنا أنّ أبا عمران الجوني ـ المحظيّ بالرواية عن أبي الجلد جاء حديثه في الأصول الستة بما فيها صحيحي البخاري ومسلم ، ومن روى عنه البخاري فقد جاز القنطرة ـ فلا غرابة بعد لو وثّقه يحيى بن معين ، وابن سعد والذهبي وغيرهم. وهذا مات عن سنّ عالية سنة ١٢٣ ـ

____________________

(١) طبقات بن سعد ٧ / ١ / ١٦١.

(٢) حلية الأولياء ٦ / ٥٤ ـ ٥٩.

١٥١

١٢٨ ـ ١٢٩ هـ.

أمّا بقية الرواة عن أبي الجلد الذين ذكرهم أبو نعيم في حليته فهم : ( مطر الوراق ، وأبو روح ، ومحمد ـ ابن سيرين ـ وعن كلّ واحد منهم روى أثراً واحداً. ثمّ قال : أسند أبو الجلد عن معقل بن يسار وغيره من الصحابة ، فذكر حديثه ذلك بإسناده إلى أبان بن أبي عيّاش عن أبي الجلد عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( لا تذهب الأيام والليالي حتّى يخلق القرآن في صدور أقوام من هذه الأمّة كما تخلق الثياب ، ويكون ما سواه أعجب إليهم ، ويكون أمرهم طمعاً كلّه لا يخالطه خوف ، إن قصّر عن حقّ الله منّته نفسه الأماني ، وإن تجاوز إلى ما نهى الله عنه قال : أرجو أن يتجاوز الله عني ، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب ، أفاضلهم في أنفسهم المداهن ) ، قيل : وما المداهن؟ قال : ( الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ) )(١) .

هذه حصيلة ما عثرت عليه في المصادر المشار إليها متناً وغيرها ممّا سيأتي ذكرها آخر البحث ، وهي في جانب ممّا فيها لا يعنينا كثيراً مثل كونه من أهل هجر ، وهل هو أزدي أو أسدي؟ إنّما الذي ينبغي الوقوف عنده بتأمل هي النقاط التالية :

____________________

(١) حلية الأولياء ٦ / ٥٦.

١٥٢

١ ـ كونه صاحب كتب التوراة ونحوها.

٢ ـ ختمه القرآن في كلّ سبعة أيام ، وختمه التوراة في ستة يقرؤها نظراً. فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناساً ويقول : كان يقال : تنزّل عند ختمها الرحمة.

٣ ـ توثيقه من ابن سعد وأحمد وابن حبّان.

٤ ـ وأخيراً عدّه من الأولياء الأصفياء عند أبي نعيم في حليته.

مع العلم بسياق حاله وماله ، فهو كان يهودي الأصل ، وربّما كان من أحبارهم لأنّه صاحب كتب التوراة ، وهي عادة إنّما يعتني بحفظها الأحبار منهم. وعرفناه لم يتخل عن رواسبه اليهودية ، حين كان يختم التوراة إلى جانب ختمه القرآن ، ولو كان مسلماً صحيح الإسلام لنبذها وأعرض عنها بعد أن هداه الله للإيمان ، وقد أبدله بخير منها وهو القرآن.

ولكن الرجل لم يزل في نفسه تنازعه رواسب يهوديته ، فهو يختم التوراة نظراً ، ولا يكفيه ذلك حتّى يحشد ناساً عند ختمه لها ويحكي لهم قول من قال : تنزّل عند ختمها الرحمة. مع أنّه لم ينقل عنه أنّه كان يصنع مثل ذلك عند ختمه القرآن ولو لمرّة واحدة!

فماذا يعنى ذلك؟ هل هي دعوة إلى العناية بالتوراة والترغيب في تلاوتها والنظر فيها ، لأنّ عند ختمها تنزل الرحمة؟ وبالتالي أليس هذه الحال هي بلبلة أفكار السذّج من المسلمين وحرفهم عن قرآنهم المجيد؟

ثمّ لا ينقضي العجب من أولئك الذين شهدوا بوثاقته ، والرجل بعدُ

١٥٣

على رواسبه اليهودية في دخيلة نفسه؟!

وحسبنا ما ذكرناه في تعريفه ، ولنقرأ الإجابة على السؤال المذكور في العنوان ، هل أخذ ابن عباس من أبي الجلد في العلم بالقرآن شيئاً؟ فكان ذلك مادة للتشهير به؟

ولابدّ من عرض ما ذكره بعض المفسرين من روايات تمسّك بها من أراد التنديد بابن عباس وأنّه كاتب أبا الجلد يستوضح منه معاني ألفاظ في القرآن الكريم كان يجهل معانيها ، لأنّها ممّا تتعلق بالآيات الكونية. ولزيادة الإيضاح في المقام ، أذكر ما وقفتُ عليه من تلك الروايات ، آخذاً لها من أوثق التفاسير وأشهرها ، إلاّ وهو تفسير الطبري ، ويعتبر المرجع الأوّل عند المفسرين الذين عُنوا بالتفسير النقلي ، ومؤلفه إمام في فنّه يحكم بقوله ، ويرجع إلى رأيه ، ويؤخذ برواياته ، فهو بحق كان أباً في التاريخ ، وأباً في التفسير بالمأثور ، وأباً في الفقه ، وله مذهب معروف ، وأصحاب ينتحلون مذهبه يقال لهم الجريرية ، لم يكتب لهم البقاء طويلاً بين أصحاب المذاهب الأخرى.

فماذا في تفسير الطبري؟

لقد ساق الطبري عدّة روايات مسندة ، وهو صنع مشكور ، إذ عرض أمام الباحث ما رواه ، وقد يعقب على بعض ذلك بما يراه ، ويترك باب القبول والردّ مفتوحاً لمن رآه ، فلنقرأ ماذا في كتابه؟

١٥٤

١ ـ قال الطبري : ( حدّثنا المثنى ، قال : حدّثنا حجاج ، قال : حدّثنا حماد ، قال : أخبرنا موسى ابن سالم أبو جهضم ـ مولى ابن عباس ـ قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد(١) يسأله عن الرعد؟ فقال : الرعد مَلَك )(٢) .

وأوّل ما يجب التنبيه عليه في المقام انّ الرواية ينتهي إسنادها إلى موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن عباس ـ كما مرّ ـ ولمّا كان الرجل ليس من موالي ابن عباس حقيقة ، وإنما هو مولى لبني العباس ، وقد احتملت بادئ الأمر أن تصحيفاً في النسخة من ( بني ) إلى ( ابن ) ، ولكن لدى مراجعة الطبعات الثلاث للتفسير ، تيقنت ليس ذلك من التصحيف ، بل كلها متفقة على الموجود ، ولا يبعد أن يكون ذلك من سهو قلم الطبري ، أو ناسخ النسخة الأولى التي جرى عليها الطبع وتتابعت بقية الطبعات على ذلك الخطأ. وإنما نبهت على ذلك ، وقلت : إنه يجب ، لأن رواية أبي جهضم حينئذ تكون مرسلة ، لعدم إدراكه ابن عباس ، فلا يمكن الإعتماد عليها لإثبات صحة المكاتبة.

وقد روى الطبراني في كتاب ( الدعاء ) هذه الرواية بسنده إلى

____________________

(١) في الطبعة الاولى بمصر بالميمنية ١ / ١١٦ ( أبو الخلد ) بالخاء المعجمة ، وكذا في الطبعة الثانية بمصر ١ / ١٥١ طبع مصطفى البابي سنة ١٣٧٣ هـ ، وكذلك في الطبعة الثالثة دار المعارف ١ / ٣٤٠ بتحقيق الأخوين محمود وأحمد شاكر ، غير أن المحققين الفاضلين نبها في الهامش على الصحيح في ذلك.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٣٤١.

١٥٥

الشعبي(١) ، وستأتي عنه رواية أخرى تكشف عن كذبه.

٢ ـ قال الطبري : ( حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بشر بن إسماعيل عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الجلد إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب اليه ، فكتب إليه : كتبت تسألني عن الرعد ، فالرعد ريح )(٢) .

وبهذا الإسناد روى الطبري رواية أخرى فيها ذكر المكاتبة يسأله عن البرق : ( فكتب إليه : فالبرق الماء )(٣) .

ولمّا كانت الروايتان في الحقيقة هي رواية واحدة والمكاتبة واحدة كما في كتاب ( العظمة ) لأبي الشيخ الاصبهاني(٤) ، وقد كفانا مؤنة البحث عن حال رجال الإسناد ما ذكره المحقق في الهامش فقال : ( إسناد مشكل ، ما وجدت ترجمة ( بشر بن إسماعيل ) وما عرفت من هو؟ ثمّ لم أعرف من ( أبو كثير ) الراوي عن أبي الجلد )(٥) .

وأضيف أنا إلى ذلك ، تبدّل جواب أبي الجلد عن الرعد في المقام ، فقد فسّره بالريح بينما كان في الرواية الأولى الملَك؟!

٣ ـ قال الطبري : ( حدّثني إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدّثنا عمر بن

____________________

(١) الدعاء / ٣٠٧ تحقيق مصطفى عبد القادر عطا ، ط دار الكتب العلمية بيروت سنة ١٤١٣ هـ.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٣٤١.

(٣) نفس المصدر ١ / ٣٤٣.

(٤) العظمة ٤ / ١٢٨٧ ط دار العاصمة الرياض سنة ١٤٠٨ هـ وفيه عن أبي كثير

(٥) تفسير الطبري ١ / ٣٤١.

١٥٦

ميسرة ، قال : حدّثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد ، فقال : الرعد ريح )(١) ، وأورد الطبري بنفس السند المكاتبة مرّة أخرى وفيها السؤال عن البرق(٢) .

وقد مرّ أن قلت أن الروايتين هما رواية واحدة لمكاتبة واحدة يُسأل فيها عن الرعد وعن البرق ، فرّق بينهما الطبري تبعاً لذكرهما في الآية المباركة.

ومهما يكن فإنّ محقق التفسير قال بعد توثيق رجال السند : ( ولكن روايته ـ الفرات ـ عن ابن عباس منقطعة ، إنّما هو يروي عن التابعين )(٣) . هذا من ناحية السند.

ولننظر ماذا في المتن من وهن؟

إنّ متون الروايات الثلاث التي تضمنت المكاتبة في السؤال عن الرعد ، نجد الجواب متفاوتاً ، ففي الأولى كان الرعد مَلَكاً ، وفي الثانية والثالثة صار ريحاً ، فكيف نطمئنّ إلى صحة المروي فيهما؟

ثمّ ما بال ابن عباس ـ إن كان يجهل حقاً ما هو الرعد وما هو البرق ـ يكتب إلى أبي الجلد البعيد عنه ليسأله عن الرعد ما هو؟ وهو قد كان يكفيه مَن كان هو أقرب إليه وهو بمرأى منه ومسمع ، ومنتدى

____________________

(١) نفس المصدر ١ / ٣٤١.

(٢) نفس المصدر ١ / ٣٤٣.

(٣) نفس المصدر ١ / ٣٤١.

١٥٧

ومجمع من سائر الصحابة الذين يلمّ بهم في المدينة المنوّرة أو في غيرها ، وفي مقدمتهم إمامه وإستاذه الأوّل بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام؟

ثمّ هو نفسه كان يعرف ذلك فقد روى : ( أنّ اليهود سألت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال : ( ملك من الملائكة موكّل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب ) )(١) ، وهذا هو الذي بنى عليه تفسيره الرعد بأنّه ملك من الملائكة يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير ، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه ، وصوته تسبيحه ، فإذا اشتد زجره السحاب ، اضطرب السحاب واحتّك فتخرج الصواعق من بينه(٢) . وهذا رواه عنه مجاهد والضحاك وأبو مالك وشهر بن حوشب وعكرمة ، وهذا هو الذي روى عنه : أنّه كان إذا سمع الرعد قال : سبحان الذي سبحتَ له ، وكان يقول : إنّ الرعد مَلَك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي غنمه(٣) .

فهل بعد هذا التفصيل نحتاج إلى التدليل على كذب مكاتبة أبي الجلد بدون أخذ وردّ إذ ليس في جوابه ـ لو صحّ السؤال ـ في الرواية الأولى من روايات الطبري سوى أنّ الرعد ملك ، فمن أين أتى ابن عباس

____________________

(١) الكشاف للزمخشري٢ / ١٦١ ط البابي الحلبي بمصر ١٣٦٧ هـ ، وتفسير الطبري ١ / ٣٤٣.

(٢) أنظر تفسير الطبري ١ / ٣٤٠.

(٣) أنظر تفسير الطبري ١ / ٣٤١.

١٥٨

بكلّ ما رواه عنه تلامذته ، خصوصاً عكرمة؟ ولابدّ أن يكون قد أخذ ذلك عن غير أبي الجلد.

٤ ـ قال الطبري : ( وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدّثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدّثنا القاسم ، قال : حدّثني رجل من بني تميم : أنّ ابن عباس كتب إلى أبي الجلد بمسألة عن الشجرة التي أكل منها آدم ، والشجرة التي تاب عندها ، فكتب إليه أبو الجلد : سألتني عن الشجرة التي نُهي عنها آدم وهي السنبلة ، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة ). قال المحقق في الهامش : ( الخبر في ابن كثير ج١ / ١٢٤ وهذا الإسناد ضعيف لجهالة الرجل من بني تميم )(١) .

أقول : ولا يفوتني تنبيه القارئ إلى ما في المتن من كشف جديد لم نكن نعرفه من قبل ، ولم يذكره غير أبي الجلد ـ فيما أعلم ـ وهو جعل الشجرة التي نَهى آدم عنها هي السنبلة ، وجعل الشجرة التي تاب عندها آدم هي الزيتونة!! فلديه شجرتان احداهما نهي عن أن يقرب إليها :( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (٢) ، والثانية هي الشجرة التي تاب الله عليه عندها وهي الزيتونة ، وهذا ما رواه القرطبي ، مضافاً إلى ابن كثير كما مرّ روياه في تفسيريهما ، ولم يعقبا عليه بشيء مع أنّ القرآن يذكر شجرة واحدة.

ومن مخاريق أبي الجلد ، وهي أيضاً من مرويّات الطبري :

____________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٥١٧.

(٢) طه / ١٢١.

١٥٩

ـ ما رواه الطبري في تاريخه : ( عن قتادة بن دعامة السدوسي ، عن أبي الجلد قال : نزل الفرقان لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان )(١) .

وقوله هذا مخالف لنص التنزيل حيث يقول :( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (٢) ، وإتفاق المسلمين على أنّ ليلة القدر هي أحدى الليالي الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان ، وليلة ( ٢٤ ) من الليالي الشفع لا الوتر.

والآن إلى نماذج أخرى من تلك المخاريق التي زعم الرواة انّ ابن عباس كاتب أبا الجلد يسأله عنها :

١ ـ ما رواه أحمد بن حنبل في كتابه ( العلل ومعرفة الرجال ) قال : ( حدثنا عن أبي عمر الجوني ، عن أبي الجلد ، قال : حدّثني ابن عباس في داره سنتين يسألني ، وسألني عن السماء ما هي؟ فقلت موج مكفوف )(٣) .

وفي المتن ما يستبطن كذبه ، وذلك قوله : حدّثني ابن عباس في داره سنتين ، فإن صحّ قوله ذلك فبماذا كان حديثه؟ وما باله لم يذكر لنا حديثاً واحداً ممّا حدثه به ابن عباس ما دام كان هو يحدثه طيلة السنتين؟ فهل كان ابن عباس هو الذي يستنفد الوقت كلّه بمسائله العصيّة فيستفهمها من ذلك الحبر اليهودي؟ وما هي تلك المسائل؟ لماذا لم

____________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٥٢٨.

(٢) القدر / ١.

(٣) العلل ومعرفة الرجال : ١ / ٣٦.

١٦٠

يكشف عنها أبو الجلد؟ وهل كان السؤال عن السماء فيه من الغموض ما لم يكن يعرفه ابن عباس طيلة عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده حتّى نزل البصرة سنة 36 هـ بعد واقعة الجمل ، فتفطّن إلى أن يسأل أبا الجلد ـ الذي كان يأتيه طيلة سنتين ـ عن السماء ، فأجابه : موج مكفوف. أيّ كشف جديد هداه إليه أبو الجلد!!

ولا تقف مهزلة أبي الجلد عند هذا الحد ، بل اتسع الخرق فروى لنا أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب ( العظمة ) بسنده عن عامر ـ وهذا هو الشعبي ـ قال : ( أرسل ابن عباس ( رضي الله عنهما ) إلى أبي الجلد يسأله عن السماء من أيّ شيء هو (؟) وعن البرق والصواعق ، فقال : أمّا السماء فإنّها من ماء مكفوف ، وأمّا البرق فهو تلألؤ الماء ، وأمّا الصواعق فمخاريق يزجر بها السحاب اهـ )(1) .

ولقد مرّ بنا قريباً جواب أبي الجلد عن السماء وأنّه كان مشافهة يحدّثه بها ابن عباس في داره في السنتين اللتين زعم أنّه كان ابن عباس يحدثه بها. فما باله صار يرسل إليه ـ كما يقول الشعبي ـ فهل كان ابن عباس نسيّاً فأعاد السؤال؟ أو أنّها قضية مكذوبة ، ولقد كان الشعبي كذّاباً(2) ، على أنّ تفسيره البرق في روايته يختلف عما مرّ عنه ، فرواية عطاء عنه عند الطبري حيث فسّر البرق بالماء.

____________________

(1) العظمة 4 / 1287 ، قال عبد الرحمن بن يحيى العلمي اليماني في كتابه ( الانوار الكاشفة / 116 ط السلفية ) : كتاب العظمة تكثر فيه الرواية عن الكذابين والساقطين والمجاهيل ).

(2) راجع عليّ إمام البررة 2 / 323.

١٦١

وهكذا تبقى أساطير أبي الجلد مبثوثة في التراث الإسلامي بدون حدّ ، يتلقفها الزوامل ممّن لا يحسنون صنعاً في روايتها ، وصارت مدعاة لسخرية المستشرقين ، فدسّوا آنافهم في تقييم التراث الإسلامي الأصيل ، من خلال ما فيه من الدخيل ، من دون إنصاف ، وبصلف وإعتساف.

2 ـ رواية أبي نعيم في ترجمته بسنده عنه حديثاً رواه عن الصحابي معقل بن يسار ، مع أنّ ذلك الحديث النبوي الشريف كان يرويه عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : ( إذا زالت الشمس ، وفاءت الأفياء ، وراحت الأرواح ، فاطلبوا إلى الله حوائجكم فإنّها ساعة الأوابين ثمّ تلا :( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ) (1) )(2) .

وأخيراً نستعرض للقارئ آراء آخرين في أبي الجلد ، وهم من فقهاء الحاكمين ، الذين خبطوا في تعيين الأئمة الاثني عشر الذين كلّهم من قريش منهم :

1 ـ قال ابن كثير في تاريخه ( البداية والنهاية ) : ( وقد روى البيهقي من حديث حاتم بن صفرة عن أبي بحر قال : كان أبو الجلد جاراً لي فسمعته يقول يحلف عليه : إنّ هذه الأمة لن تهلك حتّى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلّهم يعمل بالهدي ودين الحق ، منهم رجلان من أهل البيت أحدهما

____________________

(1) الإسراء / 25.

(2) التمهيد لابن عبد البر 19 / 22.

١٦٢

يعيش أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة(1) .

قال ابن كثير : ثمّ شرع البيهقي في ردّ ما قاله أبو الجلد بما لا يحصل به الردّ ، وهذا عجيب منهم ، وقد وافق أبا الجلد طائفة من العلماء ، ولعلّ قوله أرجح لما ذكرنا ، وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة ، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه : إنّ الله تعالى بشّر إبراهيم بإسماعيل وأنّه ينجيه ويكثّره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً )(2) .

أقول : وما ذكره ابن كثير عن البيهقي من قول أبي الجلد ، ومناقشته له بترجيح قوله لأنّه كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة ، من غريب القول! فإنّه يعلم وقد ذكر في كتابه الاثنين من أئمة أهل البيت وهما الإمام عليّ عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام ، وكلّ منهما عاش أكثر من المدّة التي ذكرها أبو الجلد ، فعليه يلزمه إخراجهما من الاثني عشر خليفة.

____________________

(1) أخرج البوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة رقم ( 8580 ) : ( عن أبي يونس ثنا بحر أن أبا الجلد حدثه وحلفه عليه : أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة يكون خلفاء بعدهم ليسوا منهم ) رواه مسدد عن يحيى عنه به. وجاء في الهامش لا يعرف بهذه الكنية إلا جيلان بن فروة وثّقه أحمد ذكره ابن أبي حاتم. وأبو بحر هو عبد الرحمن بن عثمان البكراوي ضعيف جداً ( هامش المطالب العالية ).

(2) البداية والنهاية 6 / 250.

١٦٣

ثمّ إنّا لسنا بحاجة في تعيين الأئمة الاثني عشر خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقاً إلى الرجوع إلى التوراة والأنجيل المحرّفين! حتّى أنّ النص الذي ذكره هو أيضاً محرّف عما ورد في نسخة الكتاب المقدس ـ أيّ كتب العهد القديم والعهد الجديد ـ(1) .

فقد ورد في سفر التكوين : ( وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً ، أثنى عشر رئيساً يلد ، وأجعله أمّة كثيرة اهـ )(2) .

وبعد هذه الجولة في بطون الكتب لم نجد رواية ثابتة لابن عباس عن أبي الجلد ، حتّى أن نعيم بن حمّاد أخرج في كتابه ( الفتن ) بعض أخبار الملاحم بسنده عن أبي الجلد ، وليس في شيء منها رواية لابن عباس عنه(3) ، فراجع.

كما أنّ ابن أبي عاصم أخرج لأبي الجلد ستة أحاديث في كتابه ( الزهد ) ليس بينها حديث واحد ، رواه عنه ابن عباس(4) .

____________________

(1) الكتاب المقدس مترجم من اللغات الأصلية نشر جمعيات الكتاب المقدس المتحدة ساحة النجمة ط بيروت سنة 1951م.

(2) الكتاب المقدس الأصحاح السابع عشر العدد 20.

(3) راجع الصفحات التالية 31 / 213 / 419 من المطبوع بتحقيق الدكتور سهيل زكار نشر المكتبة التجارية بمكة ، وكذلك الصفحات التالية 39 / 54 / 176 طبعة المكتبة الحيدرية بقم بتحقيق أبو عبد الله أيمن محمّد محمّد عرفة.

(4) راجع الصفحات التالية 2 / 56 / 67 / 72 مكرر 86 / 105 ط مصر نشر دار الريان بالقاهرة سنة 1408 هـ بتحقيق عبد العلي عبد الحميد حامد.

١٦٤

وجميع تلك الأخبار يذكر فيها أنبياء بني إسرائيل موسى ، وعيسى ، وداوود ( عليهم السلام ) وليس بينها خبر واحد عن نبيّ الإسلام محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وختاماً قال المبرد في كامله : ( ويروى أنّ أبا الجلد اليشكري قال لنافع يوماً : يا نافع إنّ لجهنّم سبعة أبواب وانّ أشدّها حرّاً للباب الذي أعدّ للخوارج ، فإن قدرت أن لا تكون منهم فافعل )(1) .

ولمّا كان هذا الأثر تفوح منه رائحة فيح جهنّم الذي يشوي وجوه الخوارج على الحاكمين الذين يعيش أبو الجلد في كنفهم ويدافع عن حكمهم ، فقد حذّر نافعاً أن يكون من الخوارج كما صار عكرمة مولى ابن عباس من الأباضية.

ونهاية القول لقد أعطى ابن عباس رضي الله عنه ميزاناً بيد الناس لقبول حديثه فيما رواه عنه عاصم بن كليب أنّه قال : ( إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم تجدوا تصديقه في القرآن أو لم يكن حسناً في أخلاق الناس ، فأنا به كاذب )(2) ، وهذا كلام حسن في تصديق الحديث الشريف بالقرآن الكريم ، وأمّا حَسَنا في أخلاق الناس فهذا مع سلامة الفطرة فيما يراه هو في نفسه ، أمّا مع تبدّل الأخلاق والعادات في كلّ زمان فكيف يكون

____________________

(1) الكامل 3 / 222 ـ 283.

(2) قبول الأخبار ومعرفة الرجال لأبي القاسم الكعبي 1 / 78 ط دار الكتب العلمية بيروت ، ذم الكلام وأهله للهروي 2 / 77.

١٦٥

كذلك؟

وختاماً لهذه الفصل نذكر ما قاله أحمد محمد شاكر ردّاً على ابن كثير حيث اتهم ابن عباس رضي الله عنه بأنّه تلقى عن الاسرائيليات.

روى أحمد بن حنبل في مسنده : ( قال حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ـ يزيد أحدهما على الآخر ـ عن سعيد بن جبير ، قال ابن عباس : أوّل ما اتخذت النساء المنطَقَ من قِبَل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ـ فذكر الحديث ـ

قال ابن عباس : رحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم ، أو قال : لو لم تغرف من الماء ، لكانت زمزم عينا معينا.

قال ابن عباس : قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحبّ الإنس ، فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم.

وقال في حديثه : فهبطت من الصفا ، حتّى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ثمّ سعت سعي الإنسان المجهود ، حتّى جاوزت الوادي ، ثمّ أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً ، فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرّات.

قال ابن عباس : قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( فلذلك سعى الناس بينهما ) )(1) .

____________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 5 / 86 رقم 3250.

١٦٦

قال أحمد شاكر في تعليقه على هذا الحديث : ( إسناده صحيح ، كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، ثقة قليل الحديث ، وكان شاعراً ، وترجمه البخاري في الكبير ( 4 / 1 / 211 ) ، وقد اختصر الإمام أحمد الحديث جداً ، فذكر منه مواضع متفرقة ، وقد رواه البخاري مطولا في ( 6 / 283 ـ 289 ) عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق ، وروى بعضه في ( 5 / 33 ) بالإسناد نفسه ، ونقله ابن كثير في التاريخ ( 1 / 154 ـ 156 ) عن البخاري ).

ثمّ قال : ( وهذا الحديث من كلام ابن عباس ، وموشح برفع بعضه ، وفي بعضه غرابة ، وكأنّه ممّا تلقاه ابن عباس عن الإسرائليات ). وهذا عجيب منه!! فما كان ابن عباس ممّن يتلقي الإسرائيليات ، ثمّ سياق الحديث يفهم منه ضمناً أنّه مرفوع كلّه ، ثمّ لو سلمنا أنّ أكثره موقوف ، ما كان هناك دليل أو شبه دليل على أنّه من الإسرائيليات ، بل يكون الأقرب ممّا عرفته قريش وتداولته على مرّ السنين ، من تاريخ جدهم إبراهيم وإسماعيل ، فقد يكون بعضه خطأ وبعضه صواباً ، ولكن الظاهر عندي أنّه مرفوع كلّه في المعنى. والله أعلم.

وختاماً نذكر للقارئ ما قاله ابن عباس رضي الله عنه في تحذيره من الأخذ عن أهل الكتاب ، وقد رواه ابن كثير في تفسيره قال : ( وقال الزهري : أخبرني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، أنّه قال : ( يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله

١٦٧

على نبيّه أحدث الأخبار ، تقرؤنه غضّاً لم يشَب ، وقد حدّثكم الله تعالى أنّ أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب الله وغيرّوه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ، ولا والله ما رأينا فيهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم؟

قال ابن كثير رواه البخاري من طرق عن الزهري )(1) .

____________________

(1) تفسير ابن كثير 1 / 117 ط2 مطبعة الإستقامة بمصر 1373 هـ.

١٦٨

الباب الثاني

في مدارسه ومجالسه وعطائهما وفيه فصلان

١٦٩

١٧٠

الفصل الاول

في مدارسه

١٧١

١٧٢

قال سيد مير عليّ ( الهندي ) في كتابه ( روح الإسلام ) في حديثه عن ابن عباس : ( أمّا شهرته كفقيه ضليع ، ومفسّر للقرآن ، وعالم بالأحكام التي أصدرها الخلفاء الأربعة فمعروفة للقاصي والداني ، حتّى أن جماهير الناس من مختلف أجزاء البلاد الإسلامية كانوا يهرعون إلى المدينة لسماع دروسه.

وكان ابن عباس يلقي دروساً عامّة ، يوماً واحداً في الاسبوع حول تفسير القرآن ، ويوماً آخر عن تاريخ العرب ، وثالثاً في قواعد اللغة ، ورابعاً في أصول الشرع ، أمّا اليوم الخامس فيبحث فيه الشعر والأدب.

وقد ساهم مساهمة طيبة في هذا المجال بأن دفع قومه إلى تدارس الأدب الجاهلي وتاريخ العرب قبل الإسلام عن طريق تكرار اقتباسه لأشعار فحول الجاهليين. وكان يستعملها في شرح الآيات الغامضة وتوضيح الإشارات العسيرة الفهم من القرآن الكريم.

١٧٣

وكان من عادته أن يقول : ( إذا صادفت نصّاً مبهماً في القرآن فأنظر تفسيره في شعر العرب ، لأنّ الشعراء هم رواة التاريخ وحفظة الأدب )(1) )(2) .

وقال أيضاً في كتابه الآخر ( مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي ) : ( وفيما كان الإسلام ينتشر وتخفق رايته على ربوع تلك الأمصار كان عليّ بن أبي طالب يصرف جهوده في المدينة لتوجيه نشاط العنصر العربي الناشئ إلى الناحية العلمية ، فشرع مع ابن عمه عبد الله بن العباس في إلقاء محاضرات اسبوعية في المسجد الجامع في الفلسفة والمنطق والحديث والبلاغة والفقه ، بينما تفرّغ غيرهما إلى إلقاء محاضرات في شؤون أخرى.

وهكذا تألفت نواة الحركة العلمية التي ترعّرعت وزهت بعد حين في ( بغداد ) عاصمة العباسيين )(3) .

____________________

(1) هكذا وردت الكلمة في تعريبها وأصل الكلمة قوله : الشعر ديوان العرب إذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزل بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه ( البرهان في علوم القرآن للزركشي 1 / 293 ، الإتقان 1 / 121 ) ط مصطفى محمّد كما أنه ذكر المؤلف في الهامش رقم (2) ما تعريبه وقد سئل مرّة أنّى اكتسبت هذا العلم الواسع فأجاب ( بلسان يسأل وقلب ذكي مع ان أصل الكلمة قال : ( بلسان سؤول وقلب عقول ) وما ندري كم مثل هذا من تثريب وتخريب في التعريب.

(2) روح الإسلام / 304 تعريب عمر الديراوي ط دار العلم للملايين بيروت.

(3) مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي / 43 ، نقله إلى العربية رياض رأفت ط لجنة التاليف والترجمة والنشر سنة 1938.

١٧٤

وقال أيضاً وهو يتحدث عن العنصر النسوي : ( كما كنّ يحضرن خطب الخلفاء والمحاضرات التي كان يلقيها عليّ بن أبي طالب وابن العباس )(1) .

ولم نجد حرجاً في موافقة هذا الباحث الضليع على ما قاله ، بل ربّما أمكننا أن نستدل أيضاً بما قاله ( فؤاد سزكين ) على حقيقة تفوّق ابن عباس في مجالاته العلمية ، حيث يقول : ( وترتبط قضية مدى إتقانه للمجالات التي ينسب إليه علمه بها ( وهي الفقه الإسلامي وتاريخ الجاهلية وآثارها واللغة والشعر ) وأنّه عني بها تدريساً وبحثاً ، إرتباطاً وثيقاً بقضايا أخرى تتصل بالتراث العربي ( والإسلامي ) ، منها قضية وجود تراث عربي مدوّن في الجاهلية ، ومنها قضية إشتغال بعض شباب الصحابة وكبار التابعين بمسائل علمية ، ومنها قضية ما إذا كان التطور العام لحركة التأليف بالعربية يسير مع هذا النشاط العلمي المبكر على قدم واحد فإنّ الشك في اشتغال عبد الله بن العباس بمجالات العلم المختلفة ليس له ما يبرّره )(2) .

ونزيد نحن على ذلك ، إثبات ذلك التفوق بثمار عطائه المبارك ، إذ لا يمكن أن يكون ذلك كلّه من فراغ ، أو ممّا تزيّده الرواة في أيام العباسيين تزلفاً لأبنائه. فلقد كان لحبر الأمة وترجمان القرآن ـ طيلة سنيّ عمره التي جاوزت السبعين ـ آثاراً تشهد له بما فاض عنه من العطاء النافع المكثار ،

____________________

(1) المصدر نفسه / 60.

(2) تأريخ التراث العربي 1 / 64 في علوم القرآن والحديث.

١٧٥

فأينع حتّى زكت منه الثمار ، كما سيأتي الحديث عما بقي له من التراث.

وعلينا كباحثين أن نشير إلى أبرز أدواره الحافلة بالعطاء في العلم والعمل ، في الشكل والمضمون ، واستجلاء تلك الأدوار إنّما يتم من خلال معرفة مدارسه التي كان له فيها حوزات ينهل تلاميذه فيها من نمير علومه ، كلّ حسب قابليته ، فكانوا من بعده إمتداداً لمدرسته ، ومؤشراً معروفاً ، بل معلَما ماثلاً على قدراته على الصعيد التربوي.

والآن إلى لمحات عن مدارسه ومن ثمّ عن تلامذته :

١٧٦

مجالسه مدارسه

لم تكن مدارسه على ما يتخيله القارئ ذات بناء مخصوص للدراسة ، بل كان هو بقدراته العلمية مدرسة سيارة ، فما مدارسه إلاّ مجالسه.

قال يزيد بن الأصم : ( خرج معاوية حاجّاً معه ابن عباس ، فكان لمعاوية موكب ولابن عباس موكب ممّن يطلب العلم )(1) .

فحيثما كان فله نشاط علمي ملحوظ في كلّ البلاد التي حلّ بها ، فكان له في كلّ من مكة والمدينة والطائف والبصرة ، وحتّى في الشام ومصر معهد علم فيه حديث يروى وأخبار تذكر ، فكان له في مساجدها كما له في بيته ومحل إقامته حيث أقام ما يصح أن نسمّيه مدرسة ، لما له فيها من عطاء مبارك في التعليم ، لكثرة من باركه ذلك العطاء من أهلها والوافدين عليها فاستفادوا منها ، وقد حدّث كثير من أصحابه الذين أخذوا عنه عن شواهد على ذلك العطاء ، ولمّا كانت المدينة المنوّرة هي دار هجرته وموطنه الذي أقام فيه نحواً من أربعين سنة متواصلة تقريباً ، فهي بحق تعدّ أولى مدارسه التي بثّ فيها معارفه قرابة ربع قرن ، بدءاً من أيام عمر ومروراً بأيام عثمان وانتهاءاً بأوائل خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

____________________

(1) سير أعلام النبلاء 4 / 451.

١٧٧

لقد كان في المدينة يعلّم ويفتي ويزدحم عليه روّاد المعرفة ، حتّى إذا خرج مع الإمام عليه السلام إلى العراق فقد تحوّل نشاطه العلمي إلى البصرة حيث ولاّه الإمام عليه السلام عليها فأقام فيها طيلة خمس سنوات ، حتّى خرج منها بعد مهادنة الإمام الحسن عليه السلام ـ كما مرّ في الحلقة الأولى ـ فكانت البصرة مدّة مكثه فيها المدرسة الثانية من مدارسه ، ولمّا رجع إلى المدينة عادت مدرسته الأولى في المدينة إلى سابق عهدها به.

ولمّا تطوّرت الأحداث أيام معاوية ومن بعده من الحاكمين فقد أقام بمكة ، وله ما يبرّر إقامته فيها لتولّيه أمر السقاية للحجاج أيام الحج في كلّ عام. مضافاً إلى أنّها مثابة للناس وحرماً آمناً ، وقد مرّ بنا في الحلقة الأولى أنّه قضى بمكة جلّ أيام حكومة يزيد ، ومن هناك كان وجوده ثقيلاً على ابن الزبير الذي كان يدعو الناس إلى بيعته ، ويريد منه أن يبايعه فلم يفعل ، فأخرجه إلى الطائف وبقي هناك حتّى توفي.

ومدرسة الطائف كانت آخر مدارسه التي ما برح طلاب العلم من التابعين ينهلون منها نمير علومه.

أمّا مدرسته في الشام فقد كانت أيام وفوده على معاوية ، وسيأتي الحديث عنها وكذلك عن مدرسته بمصر.

والآن إلى معرفة شيء عن ثمار تلك المدارس

١٧٨

نماذج ومناهج

مدرسته في المدينة المنورة

لقد كان له الحضور العلمي الواضح من خلال بعض تلامذته الذين كانوا يسكنون المدينة المنورة ، ولعلّ أشهرهم وأظهرهم هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي ، فهذا ـ كما ستأتي ترجمته في حرف العين ـ من تلامذته ، كان مبرّزاً ومميّزاً عند ابن عباس حتّى كان يرفعه معه على السرير وقريش أسفل من السرير فيتغامزون به ، فيقول ابن عباس : ( هكذا العلم يزيد الشريف شرفاً ويجلس المملوك على الأسرة )(1) .

ودونه شهرة محمّد بن كعب القرظي الذي روى عن عليّ وابن مسعود وابن عباس. وهو من حلفاء الأوس.

وسوى هذين فثمة جماعة من مواليه المعدودين في المدنيين كما في طبقات ابن سعد(2) ، بدءاً من عكرمة ومروراً بكريب بن أبي مسلم ، وأبي معبد ، ودفيف ، وأبي عبيد الله ، وأبي عبيد ، ومقسم ـ وهذا لم يكن من مواليه حقيقة وإنّما قيل له مولى ابن عباس للزومه إيّاه وانقطاعه إليه

____________________

(1) أنظر سير أعلام النبلاء 4 / 208.

(2) طبقات ابن سعد 5 / 212 فما بعدها.

١٧٩

وروايته عنه ـ ، ومن جملة مواليه أيضاً شعبة.

وله حضور وإمتداد من خلال بقية الرواة عنه من المدنيين ، ولعلّ جلّهم من الموالي أيضاً ، فمنهم محمّد بن عبد الرحمن بن ثوبان مولى لآل الأخنس ابن شريق الثقفي ، وكان ثقة كثير الحديث(1) ، وعبيد بن حنين مولى آل زيد بن الخطاب ، وكان ثقة وليس بكثير الحديث(2) ، وعمير مولى أم الفضل بنت الحارث الهلالية ـ وهي زوجة العباس ـ وقد يقال له مولى ابن عباس وإنّما هو مولى أمه ، روى عنه في صلاة الخوف.

وأمّا غير هؤلاء من غير الموالي فكثير ، أذكرهم في بحث تلاميذه إن شاء الله تعالى.

مدرسته في البصرة

كان أوّل من جمع الناس بالبصرة في المسجد يوم عرفة هو عبد الله ابن عباس ، كما قاله الحسن البصري لمن سأله عن ذلك على ما ذكره ابن سعد في طبقاته ، قال : ( أخبرنا عفان بن مسلم ، قال : حدّثنا سليم بن أخضر ، عن سليمان التيمي سمعه ، قال : أنبأني من أرسله الحكم بن أيوب إلى

____________________

(1) المصدر نفسه 5 / 208.

(2) المصدر نفسه 5 / 211.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509