موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٦

موسوعة عبد الله بن عبّاس7%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 509

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 509 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80109 / تحميل: 5136
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

هل أخذ عن الصحابة؟

لقد مرّ بنا في الجزء الأوّل من الحلقة الأولى ما قام به ابن عباس في عهد أبي بكر من دور مناهض له ، وذلك حين جمع أبو بكر المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( إنّكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها. والناس بعدكم أشد إختلافاً ، فلا تحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله )(١) ، فقام ابن عباس أزاء ذلك بعمل لا يثير حوله الشكوك لسنّه الفتية يومئذ ـ فهو ابن ثلاث عشرة سنة ـ وألمعيته النادرة ، فصار يتتبع أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند الصحابة لئلا تنسى ويدرس أثرها ، وقد كان هو في غنى عما عندهم ، لأنّ عنده المعين الذي لا ينضب باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّ بنا قريباً شواهد غنائه به وإستغنائه عن غيره ، لكن الحكمة والتعقل يحدوان به إلى فكّ بعض ذلك الحصار الذي فرضته السلطة الحاكمة على الحديث النبوي الشريف ، فسلك سبيلاً لحفظ ذلك التراث الإسلامي الذي وعته صدور الصحابة ، فكان ـ وهو يخشى عليه الضياع ـ يدور عليهم ويأتي أبواب بيوتهم ويتحمل العناء في سبيل ذلك ويكتب ما يملونه عليه ، فهو للحديث النبوي الشريف حفظ وتأليف ، وهو للمحدِّث الصحابي زيارة وتشريف ، وهو للسلطة المانعة تحدٍّ وتزييف.

____________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٢.

٦١

الوجه في أخذه عن الصحابة

لا شك في أنّ حبر الأمة قد أخذ الحديث عن بعض الصحابة ـ وخاصة الأنصار ـ وكان أخذه على نحو الإنتقاء في الشيوخ ، وستأتي النصوص التي تكشف لنا عن إهتمامه البالغ ، وحرصه الشديد على سماع الحديث عنهم ، ولابد من تفسير معقول ومقبول لذلك الإهتمام الشديد ، بعد أن كان عنده المعين الصافي الذي لا تكدّره الدلاء ، ولا تعجزه كثرة الواردين عن إرواء الجميع من نمير تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ، ولو أمعنا النظر في التراث المنقول عن تاريخ تلك الحقبة ، نجدها فترة ذات حساسية عالية مرّت بها جماعة المسلمين ، فقد حدث التنازع بين المهاجرين والأنصار فغلب المهاجرة وحدثت بيعة الفلتة ، ولم يرض بنو هاشم ـ ومنهم ابن عباس طبعاً ـ بتلك البيعة وامتنعوا ستة أشهر عن مبايعة الخليفة ، وقد مرّ حديث السقيفة بما جرّ من بعده لأحداث أسيفة وكسيفة ، فكانت جفوة ، وكانت نبوة ، وحدثت إجراءات صارمة من الفئة الحاكمة ضد الساخطين ، وفي الرجوع إلى الحلقة الأولى وقراءة ( فترة بين عهدين ) ما يغني عن الإعادة.

٦٢

موقف غريب ومريب!

كان من بعض تلك الإجراءات التعسفية منع تدوين الحديث ، وأوّل من منع منه أبو بكر نفسه ، وكان قد جمع خمسمائة حديث فبات قلقاً ـ فيما تصفه بنته عائشة ـ فأصبح فأحرقها ، وإليك خبرها في ذلك :

أخرج الذهبي في ( تذكرة الحفاظ ) فقال : ( وقد نقل الحاكم فقال : حدثني بكر بن محمّد الصدفي بمرو قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلب كثيراً ، قالت : فغمنّي ، فقلت : أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلمّا أصبح قال : أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد أئتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد نقلت ذاك. قال الذهبي : فهذا لا يصح ، والله أعلم )(١) .

وروى الذهبي أيضاً : ( عن ابن أبي مليكة قال : ومن مراسيل ابن أبي مليكة أنّ الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال : إنّكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد إختلافاً ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه )(٢) .

____________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥.

(٢) نفس المصدر ١ / ٢.

٦٣

وهذا البيان الخليفي القاضي بسدّ باب الحديث ، والتأكيد على مقولة ( حسبنا كتاب الله ) التي سبق أن قالها عمر يوم حديث الكتف والدواة ، وقد مرّ ذكره مفصلاً في الحلقة الأولى ، فراجع.

فهذا البيان يرتبط سياسياً بإلغاء دور الحديث وأهله ، ولعلّه من باب سدّ الذرائع لئلا يحدّث الصحابة بما سمعوه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حق أهل بيته ، وهذا ما لا تريده سياسة الوقت ، ما دام عرش الخلافة بعدُ في مهبّ الريح ، فالمدينة تغلي مراجلها من المعارضة ، وخارج المدينة انتفاضة عارمة ، أعلنت في حينها باسم الردة ، وقد كانت ثمّة ردّة.

لذلك بادر ابن عباس وهو الألمعي إلى الذهاب نحو الأنصار في دورهم ليسألهم عما سمعوه ووعوه من الحديث النبوي الشريف قبل أن يُنسى أو يتناساه من يماليء السلطة.

فلنقرأ بعض النصوص في هذا الخصوص ، نستفيد منها الأسباب والدوافع التي حدت بابن عباس لأن يتتبع الحديث النبوي الشريف عند الصحابة والأنصار منهم خاصة ، وماذا كانت النتائج لذلك الجهد وتلك المخاطرة في مخالفة السلطة.

روى ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن عكرمة عن ابن عباس قال : لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلّم فلنسأل أصحاب رسول الله فإنّهم اليوم كثير.

قال : فقال واعجباً لك يابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي

٦٤

الناس من أصحاب رسول الله من فيهم.

قال : فتركت ذلك ، وأقبلتُ أسأل أصحاب رسول الله عن الحديث ، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل ( أي نائم وقت القيلولة ) فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح عليّ بالتراب ، فيخرج فيراني فيقول لي : يابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول : لا أنا أحق أن آتيك فأسأله عن الحديث ، فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتّى رآني وقد أجتمع الناس حولي ليسألوني.

فيقول : هذا الفتى كان أعقل مني )(١) .

وهذا الأثر أخرجه الطبراني في معجمه الكبير(٢) ، والحاكم في ( المستدرك ) في معرفة الصحابة وصححه على شرط البخاري ، وأقره الذهبي في ( التلخيص ) ، وذكره الهيثمي في ( مجمع الزوائد )(٣) ، والذهبي في ( سير أعلام النبلاء )(٤) والدارمي في مقدمة سننه(٥) .

وأخرج ابن سعد في ( الطبقات ) عن ابن عباس يقول : ( كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار ، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما نزل من القرآن في ذلك ، وكنت لا آتي أحداً

____________________

(١) الطبقات ٢ / ق ٢ / ١٢١.

(٢) المعجم الكبير ١٠ / ٢٤٤ / ١٠٥٩٢.

(٣) مجمع الزوائد ٨ / ٢٧٧ ( ١٥٥٢١ ). وقال : رجاله رجال الصحيح.

(٤) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٤٦.

(٥) سنن الدارمي ١ / ١٤١.

٦٥

منهم إلاّ سرّ بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم )(١) .

ومن أظهر الشواهد على تلقّيه عن الأكابر من الصحابة ، وتأكيده على صحة سماعه منهم بقوله : ( سمعته مِن فِيه إلى أذني ) هو سماعه من أكبر الصحابة سنّاً ، وأعلاهم شأناً بعد أهل البيت حيث جعله النبيّ صلى الله عليه وسلم واحداً من أهل البيت ، وذلك هو الصحابي الجليل سلمان المحمّدي رضي الله عنه ، فقد سمع منه حديث بدء إسلامه من فيه إلى أذنه ، وهو حديث لا يخلو من عظة للقارئ مع ما فيه من فائدة تاريخية مجهولة لدى الكثير من المسلمين ، سنقرؤه وحديثين آخرين رواهما ابن عباس عن سلمان رضي الله عنه لهما دلالتهما في الأدب النبوي الرفيع الذي تعلّمه سلمان رضي الله عنه فحدّث به ليتعلّمه المسلمون ، ولكن مع الأسف أنّى لهم ذلك وقد خدعتهم الدنيا بزخرفها وازيّنت لهم فأنستهم تلك التعاليم التربوية ، فكيف بمن أتى من بعد تطاول القرون.

وإلى القارئ ما أسنده ابن عباس عن سلمان رضي الله عنه :

حدّثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ، ثنا عبد الملك بن هشام السدوسي ، ثنا زياد بن عبد الله البكائي ( ح ).

وحدثنا محمّد بن عبد الله الحضرمي ، ثنا محمّد بن عبد الله بن نمير ، ثنا يونس بن بكير ( ح ).

____________________

(١) الطبقات ٢ / ق ٢ / ١٢٤.

٦٦

وحدثنا الحسن بن العباس الرازي ، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، كلّهم عن محمّد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن عبد الله بن عباس ، حدثني سلمان حديثه من فيه ، قال : كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جَيّ وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحبّ خلق الله إليه ، فلم يزل بي حبّه إياي حتّى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتّى كنت قاطن النار أوقدها لا أتركها تخبو ساعة واحدة ، وكانت لأبي ضيعة عظيمة ، فشُغل يوماً فقال لي : يا بني إنّي قد شغلت هذا اليوم من ضيعتي ، فاذهب إليها فطالعها فأمره فيها ببعض ما يريد ، ثمّ قال لي : لا تحتبس عليّ ، فإنّك إن احتبست عليّ كنت أهم عليّ من ضيعتي وشغلتني عن كلّ شيء من أمري ، فخرجت أريد ضيعته أسير إليها ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها ، وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلمّا سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، فلمّا رأيتهم أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في دينهم ، وقلت : هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ، فما برحت من عندهم حتّى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي ، ثمّ قلت لهم : من أبصركم بهذا الدين؟ قالوا : رجل بالشام ، ثمّ رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وقد شغلته عن عمله ، أبي قال : بني أين كنت؟ ألم أعهد إليك ما عهدت؟ قلت : إنّي مررت بناس يصلون في كنيسة

٦٧

لهم ، فدخلت إليهم ، فما زلت عندهم وهم يصلون حتّى غربت الشمس ، قال : أي بني ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه ، ثمّ حبسني في بيته وبعثت إلى النصراني فقلت : إذا قدم إليكم ركب من الشام فأخبروني بهم ، فقدم عليهم ركب من الشام ، تجار من النصارى فأخبروني بهم ، فقلت لهم : إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلي ، ثمّ خرجت معهم حتّى قدمت الشام ، فلمّا قدمتها ، قلت : من أفضل أهل هذا الدين علماً ، قالوا : الأسقف في الكنيسة ، فجئته فقلت : إنّي قد رغبت في هذا الدين ، فأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك ، قال : فادخل ، فدخلت معه ، وكان رجل سوء يأمر بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا به إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ، فلم يعط إنساناً منها شيئاً ، حتّى جمع قلالاً من ذهب وورق ، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع ، ثمّ مات ، واجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إنّ هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ، ويرغبكم فيها ، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئاً ، قالوا : وما علمك بذلك؟ قلت لهم : فأنا أدلكم على كنزه ، قالوا : فدلنا عليه ، فدللتهم عليه ، فاستخرجوا ذهباً وورقاً ، فلمّا رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبداً ، فصلبوه ثمّ رجموه بالحجارة ، وكان ثمّ رجل آخر فجعلوه مكانه ، قال : يقول سلمان : فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أفضل منه أزهد في الدنيا ولا

٦٨

أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه ، فأحببته حبّاً لم أحبّه شيئاً قط ، فما زلت معه زماناً ، ثمّ حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان إنّي قد كنت معك ، فأحببتك حبًّا لم أحبّه شيئاً قط ، وقد حضرتك ما ترى من أمر الله عزوجل ، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال : يا بني ما أعلم بقي أحد آمرك أن تأتيه إلاّ رجلاً بعمورية بأرض الروم على مثل ما نحن عليه ، فلمّا مات وغيّب لحقت بصاحب عمورية ، فأخبرته خبري ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم ، واكتسبت حتّى كانت عندي بقيرات وغنيمة ، ثمّ نزل به أمر الله عزوجل فلمّا حضر قلت له : يا فلان إنّي كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ، ثمّ أوصى فلان إلى فلان ، ثمّ أوصاني فلان إليك ، فإلى مَن توصي بي وإلى من تأمرني؟ قال : والله ما أعلم أصبح على مثل ما نحن فيه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكن أظلّك زمان نبيّ هو مبعوث بدين إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، يخرج بأرض العرب إلى أرض. أظنه قال : ذات نخل ، به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بذلك البلد فافعل ، ثمّ مات وغيّب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، مرّ بي نفر من كلب تجار ، فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا : نعم ، فأعطيتهم وحملوني معهم حتّى إذا قدموا وادي القرى ظلموني ، فباعوني من رجل يهودي ، فكنت عنده ، فرأيت النخل فرجوت البلد

٦٩

الذي وصف لي صاحبي ، ولم يحق في نفسي ، فبينا أنا عنده قدم عليه ابن عم له من بني قريظة ، وابتاعني منه ، فحملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلاّ أن رأيتها عرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، فبعث الله عزوجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأقام بمكة ما أقام ما أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثمّ هاجر إلى المدينة ، فو الله إنّي لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل ، وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتّى وقف عليه ، فقال : قاتل الله بني قيلة ، والله إنّهم ليجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنّه نبيّ ، فلمّا سمعتها أخذني الفرح حتّى ظننت أني سأسقط على سيدي ، ونزلت عن النخلة وجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا يقول؟ فغضب سيدي ، فلطمني لطمة شديدة ، ثمّ قال : مالك ولهذا؟ أقبل على عملك ، قلت لا شيء إنّما أردت أن أستفتيه عما قال ، وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلمّا أمسيت أخذته ، ثمّ ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بقباء ، فدخلت عليه ، فقلت له : إنّه قد بلغني أنّك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء كان عندي صدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، وقربته إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : ( كلوا ) وأمسك هو فلم يأكل منه ، فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثمّ انصرفت عنه فجمعت شيئاً ، فتحول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ثمّ جئته به ، فقلت له : رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا ، وقلت في

٧٠

نفسي : هاتان ثنتان ، ثمّ جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببقيع الغرقد قد اتبع جنازة رجل من الأنصار وهو جالس ، فسلمت عليه ، ثمّ استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلمّا رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استدرت عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( تحوّل ) فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسمع ذلك أصحابه ، ثمّ شغل سلمان الرق حتّى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدراً وأحداً(١) ، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( كاتب يا سلمان ) فكاتبت صاحبي على ثلاث مئة نخلة أحييها له وبأربعين أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : ( أعينوا أخاكم ) فأعانوني في النخل ، الرجل بثلاثين ، والرجل بعشرين ، والرجل بخمس عشرة ، والرجل بعشر ، والرجل بقدر ما عنده حتّى أجتمعت لي ثلاث مئة نخلة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اذهب يا سلمان فآذنّي حتّى أكون أنا أضعها بيدي ) ففقّرت لها وأعانني أصحابي حتّى إذا فرغت جئته ، فأخبرته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معي إليها ، فجعلت أقرب له الوديّ ويضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده حتّى فرغنا ، والذي نفس سلمان بيده ما مات منه ودية واحدة ، فأديت النخل وبقي عليّ المال ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي ،

____________________

(١) كذا في المخطوطتين والصواب بدر وأحد.

٧١

فقال : ( ما فعل الفارسي المكاتب؟ ) فدعيت له ، فقال : ( خذ هذه فأدّ بها ما عليك ) فقلت : وأين تقع هذه يا رسول الله ممّا عليّ؟ فقال : ( خذها فإنّ الله عزوجل سيؤدّيها عنك ) فوزنت له منها ، فو الذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية وأوفيتهم حقهم ، وعتق سلمان ، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق ثمّ لم يفته مشهد.

حدثنا محمّد بن السري بن مهران الناقد ، ثنا بشار بن موسى الخفاف ، ثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمّد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس : حدثني سلمان أنّه أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهدية فأكل هو وأصحابه ، وأتاه بصدقة فلم يأكل منها.

حدثنا محمّد بن عليّ الصائغ المكي ، ثنا محمّد بن بكار العيشي ، ثنا الحجاج بن فروخ الواسطي ، ثنا ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : قدم سلمان من غيبة له ، فتلقاه عمر رضي الله عنه فقال : أرضاك لله عبداً ، قال : فتزوج في كندة ، فلمّا كان الليلة التي يدخل على أهله إذ البيت منجّد وإذا فيه نسوة ، فقال : أتحولت الكعبة في كندة أم هي جمرة؟ أمرنا خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نتخذ من المتاع إلاّ أثاثا كأثاث المسافر ، ولا نتخذ من النساء إلاّ ما ننكح ، فخرج النسوة ودخل على أهله ، فقال : يا هذه أتعصيني أم تطيعيني؟ قالت : بل أطيعك فيما شئت ، قال : إنّ خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا إذا دخل أحدنا بأهله أن يقوم فيصلي ، ويأمرها أن تصلي خلفه ويدعو وتؤمن ففعل وفعلت ، فلمّا جلس في مجلس كندة قال له رجل من القوم : كيف

٧٢

أصبحت يا أبا عبد الله؟ كيف رأيت أهلك الليلة؟ فسكت فعاد الثانية ، فقال له : وما بال أحدكم يسأل عما وارته الحيطان والأبواب ، إنّما يكفي أحدكم أن يسأل عن الشيء أجيب أم سكت عنه.

وبأزاء هذا الحديث الذي رواه ابن عباس عن سلمان : فقال : ( حدثني من فيه ) ، وجدت حديثاً آخر قال فيه أيضاً : ( حدثني أبو سفيان ابن حرب من فيه إلى أذني ) ، ولم أقف على ذكر مثل ذلك منه عن غير هذين الرجلين ، وهنا تثب علامة إستفهام واضحة : هل كان ابن عباس ـ وهو اللوذعي الألمعي ـ هادفاً في ذكر كيفية السماع من هذين الرجلين؟ وهل كان هادفاً في اختياره لهما فمن أعلى الصحابة سنّاً وشأنا حتّى عدّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت ، إلى أخسّهم ضعة في إسلامه حتّى روت المصادر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعنه وابنيه معه فقال : ( لعن الراكب والقائد والسائق )(١) ؟

ربّما كان الجواب الصحيح هو نعم ، يرينا كيف الإسلام الصحيح

____________________

(١) تاريخ الطبري١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ في كتاب المعتضد العباسي ، وفي شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٨٩ ، وجمهور خطب العرب ٢ / ٢٢ في محاورة الإمام الحسنعليه‌السلام ، وقد لعنه الرسول في سبعة مواطن.

وقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير ١٧ / ١٦٢ ط الموصل بسنده عن عاصم الليثي أبو نصر قال : دخلت مسجد المدينة فإذا الناس يقولون : نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، قال قلت : ماذا؟ قالوا : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب على منبره فقام رجل فأخذ بيد ابنه فأخرجه من المسجد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لعن الله القائد والمقود ، ويل لهذه الأمة من فلان ذي الاسناه ) وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رجاله ثقات.

٧٣

يرفع الإنسان مكانته حتّى جعله من أهل البيت ، وكيف يضع المنافق فينحط إلى أسفل السافلين فتلحقه اللعنة إلى يوم الدين.

ولست متجنياً على أحد ، ولا مفتاتاً على ابن عباس حين أراه يختار من حديثي الرجلين ما يتعلق ببداية إسلام الأوّل ، وكيف هداه الله تعالى ، ومن حديث الثاني ما يتعلق بإصراره على البقاء كافراً مع روايته لحديث هرقل معه وهو ما يستدعي مبادرته إلى قبول الدين الحق ، ولكنه أخلد إلى كفره وأصرّ على عناده ، مع أنّ الدواعي إلى قبوله الإسلام أكثر ممّا كانت لدى الأوّل ، للروابط النسبية والسببية.

والآن لنقرأ ما رواه ابن عباس عن أبي سفيان وقد حدثه من فيه إلى أذنه :

حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس : حدثني أبو سفيان بن حرب ـ من فيه إلى أذني ـ قال : انطلقت في المدّة التي كانت بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل ، قال : وكان دحية الكلبي جاء به ، فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل ، فقال هرقل : ههنا رجل من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ؟ قالوا : نعم ، قال : فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه ، فقال : أيّكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ؟ قال أبو سفيان : قلت : أنا ، فأجلسوني بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي ، ثمّ دعا بترجمانه ، فقال : قل لهم إنّي

٧٤

سائل عن هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ ، فإن كذبني فكذّبوه ، فقال أبو سفيان : وأيم الله لولا أن يؤثر عليّ الكذب لكذبت ، ثمّ قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم؟ قال : هو فينا ذو حسب ، قال : فهل كان من آبائه ملك؟ قلت : لا ، قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت : لا ، قال : من يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال : قلت : بل ضعفاؤهم فقال : أيزيدون أم ينقصون؟ فقلت : لا بل يزيدون ، قال : فهل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطاً له؟ قلت : لا ، قال : فهل قاتلتموه؟ قلت : نعم ، قال : فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالاً ، يصيب منا ونصيب منه ، قال : فهل يغدر؟ قلت : لا ونحن منه في هدنة لا ندري ما هو صانع فيها ، قال : فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه ، قال : فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت : لا ، قال لترجمانه : قل له إنّي سألتك : عن حسبه ، فزعمت أنّه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرُسل تبعث في أحساب قومها ، وسألتك : هل كان من آبائه ملك فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك قلت : رجل يطلب ملك آبائه ، سألتك : عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ، فقلت : بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل ، وسألتك : هل أنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثمّ يذهب فيكذب على الله ، وسألتك : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطاً له؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا

٧٥

خالط حشاشة القلوب ، وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنّهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتّى يتم ، وسألتك : هل قاتلتموه؟ فزعمت أنّكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثمّ تكون لها العاقبة ، وسألتك : هل يغدر؟ فزعمت أنّه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك : هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان قال هذا القول أحد قبله؟ قلت : رجل أئتم بقول قيل قبله ، ثمّ قال : فما يأمركم؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف ، قال : فإن يك ما تقول فيه حقاً أنّه نبيّ ، وقد كنت أعلم أنّه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، ولو كنت أعلم أنّي أخلص لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ، ثمّ دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه فإذا فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن تركت فإنّ عليك إثم الأريسيين و( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) إلى قوله( بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (١) فلمّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط ، وأمر بنا فأخرجنا ، فقلت لأصحابي حين خرجنا : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنّه ليخافه ملك بني الأصفر ، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(١) آل عمران / ٦٤.

٧٦

أنّه سيظهر حتّى أدخل الله عليّ الإسلام.

قال الزهري فدعا هرقل عظماء الروم فجمعهم في دار لهم فقال : يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد؟ وأن يثبت لكم ملككم؟ قال : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فدعا بهم : إنّي إنّما اختبرت شدتكم على دينكم ، فقد رأيت منكم الذي أحببت ، فسجدوا له ورضوا عنه(١) .

____________________

(١) تعليق فيه تدقيق :

أبو سفيان وهرقل

١ ـ هذا النص لم يروه أحد إلا ابن عباس ، ذلك أن أبا سفيان لم يقصه لأي أحد غير ابن عباس كما يزعم ابن عباس في النص رقم ( ٤٢٧٨ ) حيث يقول : ( حدثني أبو سفيان من فيه إلى في ) وأتساءل مرتاباً : لم سكت أبو سفيان عن رواية هذه الحادثة قبل أن يسلم؟! ولم يروها إلا بعد إسلامه بزمن غير قصير! بل وبعد وفاة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! وأيضاً أتساءل مرتاباً : لم يقص على ابن عباس هذه الحادثة سراً وليس أمام الناس؟! وأيضاً أتساءل منقباً : أين بقية الركب الذي دخلوا مع أبي سفيان على هرقل ، والذين وقفوا خلف أبي سفيان ليراقبوا ما يقوله ، ويكذبوه إن كذب بناء على طلب هرقل ( فقال ـ أي هرقل ـ : أدنوه مني ـ أي أبو سفيان ـ وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، فإن كذبني فكذبوه ). ـ ويبدو أن أبا سفيان لا يستصعب الكذب عموماً ـ هؤلاء الذين تراوح عددهم بين العشرين والثلاثين نفراً ، كما تختلف الروايات في ذلك ، فلم لم يرو أحد من هؤلاء هذه الحادثة بعد عودتهم غانمين من تجارتهم! لا قبل إسلامهم ولا بعد إسلامهم! فهذه ليست بالحادثة التي تخفى! ذلك أنه من المفترض أن من بقي منهم على قيد الحياة قد أسلموا بعد الفتح كأبي سفيان ، وإن كنا لا نعرف أحداً بيقين من ذلك الركب وهذه مهزلة أخرى!

إن أباسفيان في خلوته مع ابن عباس يستطيع أن يسامره بمثل هذه الحكايات ، يرويها كما تهوى نفسه وتشتهي إذ ليس عليه الآن رقيب يحاسبه أو يكذبه إن كذب ، لا كما كان الحال في مجلس هرقل ، ومن الراجح أن هذه الخلوة قد تمت في زمن لاحق ، وربما في

٧٧

____________________

شيخوخة أبي سفيان ، وربما أن جميع من كانوا معه في مجلس هرقل قد ماتوا ، فأمن التكذيب!

٢ ـ أبو سفيان يقرر سلفاً أنه كان يريد أن يكذب في حديثه عن محمد كما قال :

( فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه ). كما أنه تحيّن فرصة خلال حديثه مع هرقل ليغمز في محمد ، وأعترف أنه فعل ذلك حيث قال : ( ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة ).

إذاً مع كل حرص وإصرار أبي سفيان على الطعن والغمز والانتقاص ـ كذباً ـ لمحمد للتقليل من شأنه وشأن دينه ودعوته ، إلا أنه حينما سئل : ( بماذا يأمركم ) راح يعدد كل ما يعد عند الناس فضيلة ومحمدة ومكرمة ، قال أبو سفيان : ( فقلت : يقول : أعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً ، واتركوا ما يقول آباءكم ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ) ، ويضيف في النص ٢٧٨٢ : ( والصدقة والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ) ، فهل خان أبا سفيان ذكاؤه هنا ، وكان يستطيع أن يجيب بأكثر من طريقة ـ إلا هذه الطريقة ـ تنسجم مع شخصه ورؤيته ونواياه!

أمّا ما عدده ، فهو كلام رجل مسلم مؤمن يعتقد برسالة محمد ، ويؤمن بنبوته ودعوته ، ويريد بقولته تلك أن يعلي شأن من يتحدث عنه. فأبو سفيان لم يقل ذلك الكلام في حضرة هرقل ، إنّما قاله في خلوته مع ابن عباس لغاية في نفسه يعلمها الذي يعرف شخصية أبا سفيان وتاريخه.

٣ ـ يسأله هرقل عن الذين اتبعوا محمداً وأمنوا به ، هل هم من الأشراف أم من الضعفاء؟ فيجيبه أبو سفيان أنهم من الضعفاء. فإذا كان الأشراف هم علية القوم وسادتهم وكبراؤهم ، فإن الضعفاء تعني المقابل لهؤلاء ، وهم الفقراء والعامة من القوم الذين لا حول لهم ولا طول ولا جاه يعتد به. فإذا كانت هذه الحادثة قد حدثت بعد صلح الحدييبية ، أي حتماً بعد السنة السادسة للهجرة ، وحتى ذلك الزمن كان قد دخل في الإسلام الكثير من الأشراف والأغنياء والأقوياء والسادة من المكيين واليثربيين ، فهل كان أبو بكر وعمر وعثمان وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ وغيرهم كثير من الأراذل والضعفاء أم من علية القوم والسادة ، وهل كان عمر وحمزة وغيرهما من الضعفاء أم أنهما تهددا من مكة في عقر دارها قبل الهجرة بزمن وحين كان محمد والمسلمون في المراحل الأولى بعد؟! فهذا الواقع يكذب أبا سفيان ، فيما يرد على هرقل كلامه في أتباع الأنبياء

٧٨

____________________

والرسل. كما أن المسلمين حين حدثت الحادثة كانوا قد حققوا عدداً من الانتصارات ، وصاروا أقوياء تحسب مكة ورجالاتها لهم الحسابات!!

٤ ـ ومع كل ما رأى وما سمع أبو سفيان من هرقل قيصر الروم وعظيمها ، وحامي دينها ، من مدح وإطراء وتعظيم للرسول ، ومن إقرار واضح منه بأنه رسول الله حقاً ، وكيف تمنى لو استطاع الوصول إليه وغسل قدميه ، وكل هذا على مسمع الركب ومسمع حاشية هرقل أيضاً ، مع كل ذلك لم يسلم أبا سفيان ولم ينثنِ إلا مكرهاً كارهاً كما أقر هو وأعترف في النص ( ٢٨٧٢ ) : ( حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره ) ، وبما أن أبا سفيان رجل سياسة وتجارة ، وربما أن السياسة والتجارة ـ عموماً ـ لا دين لها ولا موقف ، فصاحبهما ـ وفي كل ساعة إن لزم الأمر ـ يميل مع مصلحته حيث يجدها ، فقد رأى أبو سفيان أن يسلم ـ رغم كرهه وعدم قناعته ـ ليبحث من جديد عن مصالحه من خلال الإسلام. وقد استطاع الحصول عليها ومنذ اللحظة الأولى ، السيادة : ( من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ) قول للرسول عند فتح مكة ، ثم الخلافة الأموية في أسرته. والمال : فقد أعطاه الرسول هو وابنه معاوية الكثير من المال ـ سيبحث في نصوص لاحقة ـ إذاً ، إسلام أبي سفيان إسلام انتهازي ، فهو لم يخسر شيئاً في إسلامه ، بل بقي سيداً ورابحاً!

٥ ـ لا شك أن العلم اليوم يرفض وينكر التنجيم الكهاني ، وبالتالي يرفض كل ما يأتي به ويبتني عليه. وعلى ذلك فإذا كان هرقل ممن يبحثون في النجوم وينجمون ، فلا قيمة علمية لكل ما جاء به هرقل في استطلاعاته النجومية ، ونحن لسنا واثقين إن كان هرقل يمارس ذلك العمل فعلاً ، أو كان فقط يؤمن به ، وأيضاً لسنا متيقنين من حدوث تلك النبوءة الهرقلية. ومن ثم ألم ير هرقل في نجومه إلا مملكة الختان؟!! ألم ير مملكة التوحيد؟!! وهل الإسلام صار دين الختان! ورسوله رسول الاختتان؟!

وعلى الرغم من إبطال الإسلام للكهانة والتنجيم وتكذيبهم ولو صدقوا كما يقرر صاحب فتح الباري جزء (١) صفحة ( ٥٤ ) : ( فالكهانة تارة تستند إلى إلقاء الشياطين وتارة تستفاد من أحكام النجوم ، وكان كل من الأمرين في الجاهلية شائعا ذائعاً ، إلى أن أظهر الله الإسلام ، فانكسرت شوكتهم ، وأنكر الشرع الإعتماد عليهم ) ، وينقل عن القرطبي أيضاً في جزء (١) صفحة ( ١٥١ ) :

( وأمّا ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا ما كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم ). إلا أن صاحب الفتح العالم الجليل ابن حجر ، يعود ليتخذ من كهانة هرقل التنجيمية دليلاً على نبوة محمد وصدق دعوته فيقول بطريقة تلفيقية : ( وكان ما أطلع عليه هرقل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين أنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج

٧٩

وهكذا تبقى الشواهد تتلو الشواهد على أنّ ابن عباس لم يكن يخلط الزين بالشين ولا ممّن يجمع الغث مع السمين في حديثه ، فهو كما كان

____________________

العقرب ، وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرّة إلى أن تستوفي المثلثة بروجها في ستين سنة ، فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور ، وعند تمام العشرين الثانية ابتداء مجيء جبريل بالوحي ، وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التي جرّت فتح مكة وظهور الإسلام ، وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى ).

وعلى ذلك يصدق علماء الإسلام والتنجيم ـ رغم عدم صدقه وواجب تكذيبه ـ طالما أنه يخدم ـ في ظنهم ـ قضيتهم!

٦ ـ جاء في النص ( ٢٧٨٢ ) على لسان هرقل قوله : ( التمسوا لي ها هنا أحداً من قومه ـ أي محمد ـ لأسألهم عن رسول اللهعليه‌السلام ).

فهل كان هرقل سيد العالم المسيحي ، وقيصر بيزنطة يعتقد أن محمداً رسول الله ونبي من عنده؟! والصواب أن هذا الكلام جعله راوي النص أو رواته على لسان هرقل الذي لا يعقل أبداً أن يقوله. كما فعل سهيل بن عمرو موفد أهل مكة إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي عقد معه صلح الحديبية الشهير ، حيث رفض أن يكتب في وثيقة الصلح : محمد رسول الله ، وقال له : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك الخ فكيف بهرقل ينطق بتلك الكلمة! وفي ذات النص دليل على ذلك ، فمرة يقول هرقل : ( إني سائل هذا الرجل ). فهرقل إذا لا يعتقد أبداً أنه رسول الله ، بل هو رجل يزعم أنه نبي ، وتلك الألفاظ من زيادات الرواة المسلمين.

وقد يزعم البعض أن هرقل كان قد آمن سراً ، فإذا كان كذلك فلم ظل يقاتل ويجيش الجيوش ضد محمد ومن تلاه من الخلفاء في معارك كثيرة وكبيرة ، من تبوك إلى مؤتة إلى اليرموك فدمشق فأجنادين الخ حتى أجلوه عن بلاد الشام؟!!

والحقيقة أننا يجب أن نرتاب في هذا النص ، كما نشك في صدق إسلام أبي سفيان وهو الذي قال لعثمان حين بويع بالخلافة تلقفوها يابني أمية تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ما من جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة. الحلقة الأولى ج٢ / ١٥٠.

ملاحظة : ليعذرني القارئ لكوني لم أسجل النصوص المدروسة ، وذلك لطولها فليراجعها في مكانها.

٨٠

من أولئك النوادر في حفظه وذكائه فكذلك كان أيضاً في سماعه وانتقائه. فيتفحّص ويمحّص ، ويتأكد من صحة الحديث ، حتّى كان من شدّة احتياطه في ذلك ، كما أخرج عنه الخطيب الخ.

وأخرج ابن سعد أيضاً عن ابن عباس يقول : ( ما حدّثني أحد قط حديثاً فاستفهمته )(1) .

ولكنه للتوثيق قد يسأل الجماعة عن الأمر الواحد ، فقد أخرج الخطيب في كتاب ( الفقيه والمتفقه ) ، والذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) ، عن ابن عباس قال : ( إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم )(2) .

وروى ابن سعد في ( الطبقات ) ، والخطيب في ( الفقيه والمتفقه ) ، والبلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، وابن قتيبة في ( عيون الأخبار ) ، والذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) ، عن ابن عباس قال : ( وجدت عامّة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار ، إن كنت لآتي الرجل منهم فيقال هو نائم ، فلو شئت أن يوقظ لي فأدعه حتّى يخرج لأستطيب بذلك قلبه )(3) .

قال سفيان بن عيينة ، حدّثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن عجوز لهم قالت : رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس الأنصاري وكان يروي هذه الأبيات :

____________________

(1) الطبقات 2 / ق 2 / 123.

(2) الفقيه والمتفقه 2 / 203 نشر دار إحياء السنة ، سير أعلام النبلاء 4 / 447 ط دار الفكر.

(3) الطبقات 2 / ق 2 / 121 ، الفقيه والمتفقه 2 / 142 ، أنساب الأشراف 3 / 34 ، عيون الأخبار 2 / 122 ، سير أعلام النبلاء 4 / 447.

٨١

ثوى في قريش بضع عشرة حجة

يذكّر لو ألفى صديقاً مواتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه

فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا

فلمّا أتانا واطمأنت به النوى

وأصبح مسروراً بطيبة راضيا

وأصبح ما يخشى ظلامة ظالم

بعيد ولا يخشى من الناس باغيا

بذلنا له الأموال من جلّ مالنا

وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

نعادي الذي عادى من الناس كلّهم

جميعاً وإن كان الحبيب المصافيا

ونعلم أن الله لا شيء غيره

وان كتاب الله أصبح هاديا

وقد أورد هذا الذهبي في ( سير أعلام النبلاء )(1) ولم يزد على سبعة أبيات ، بينما نجد في تاريخ الطبري ، والسيرة النبوية لابن كثير ، وسيرة ابن هشام ، وغيرها أنّ الأبيات أربعة عشر بيتاً(2) ، فراجع.

وكان في إحتياطه في سماعه الحديث فرداً لم أقف على مثله عند غيره ، كما مرّ حيث كان يسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ليتأكد من صحة النقل ، وحديثه مع بشير بن كعب يكشف السبب في ذلك التوقي في التلقي ، لئلا يروي الكذب بعد أن تفشّى ذلك بين الصحابة ، فلنقرأ بعض الشواهد على ذلك.

____________________

(1) سير أعلام النبلاء 1 ـ 2 / 237 ـ 238.

(2) تاريخ الطبري 2 / 385 ـ 386 ، السيرة النبوية 2 / 283 ، سيرة ابن هشام 2 / 118.

٨٢

أخرج مسلم في مقدمة صحيحه بسنده : ( عن طاووس قال : جاء هذا إلى ابن عباس ـ يعني بشير بن كعب ـ فجعل يحدّثه فقال له ابن عباس : عد لحديث كذا وكذا ، فعاد له ، ثمّ حدّثه فقال له : عد لحديث كذا وكذا فعاد له ، فقال له : ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كلّه وعرفت هذا؟ فقال له ابن عباس : إنّا كنا نحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يُكذب عليه ، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه )(1) .

وأيضاً في صحيح مسلم بشرح النووي : ( عن مجاهد قال جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدّث ويقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ، ولا ينظر إليه ، فقال : يابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي ، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس : إنّا كنا مرّة إذا سمعنا رجلاً يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه بآذاننا ، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف )(2) .

وهكذا كان يحاقق الذي سمع منه فيستذكره بعد مدّة من سماعه ليتأكد من حفظه وضبطه ، كما في حديثه مع زيد بن أرقم ، فقد أخرج الطبراني في ( المعجم الكبير ) بسنده عن طاووس قال : قدم زيد بن أرقم وكان ابن عباس يستذكره : كيف أخبرتني عن لحم أهدي للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(1) صحيح مسلم في المقدمة باب النهي عن الضعفاء رقم 7.

(2) صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 81.

٨٣

حراماً؟ فقال : نعم ، أهدي له عضو من لحم صيد فردّه عليه وقال : ( إنّا لا ناكله ، إنّا حُرُم )(1) ، وهذه الحال في الإحتياط هي التي حدّث بها غير واحد عنه في أنّه كان يسأل عن الأمر الواحد الثلاثين من الصحابة كما مرّ في رواية الخطيب.

قال ابن أبي مليكة : ( كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتاباً ولا يخفي عني ، فقال : ( ولد ناصح ، أنا أختار له الأمور إختياراً وأخفي عنه ، قال : فدعا بقضاء عليّ فجعل يكتب منه أشياء ، ويمرّ به الشيء فيقول : والله ما قضى بهذا عليّ عليه السلام إلاّ أن يكون ضلّ )(2) .

مزاعم من غير برهان

لقد اعتاد أصحاب رجال الحديث حين يذكرون عَلَماً من الصحابة أو التابعين بل وحتّى من الطبقات التي من بعدهم ، يذكرونه عمن روى ومن روى عنه ، ولمّا كان ابن حجر فارس ميدانهم ، وكتابه ( تهذيب التهذيب ) حجة برهانهم ، فنحن نقف عنده في هذا المقام لنرى في ترجمة ابن عباس عمّن روى. وهل ثبتت صحة ذلك في بعض الأشخاص أم لا؟

قال : ( روى عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعن أبيه ، وعن أمّه أم الفضل ، وأخيه الفضل ،

____________________

(1) رواه عبد الرزاق في المصنف وأحمد في المسند مكررا والطبراني في معجمه الكبير 5 / 164 ط الموصل ، والخبر يشير إلى ما سيأتي من رواية ابن عباس عن الصعب بن جُثامة.

(2) صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 82.

٨٤

وخالته ميمونة ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وأبي ذر ، وأبيّ بن كعب ، وتميم الداري ، وخالد بن الوليد وهو ابن خالته ، وأسامة بن زيد ، وحمل بن مالك بن النابغة ، وذويب والد قبيصة ، والصعب بن جثامة ، وعمار بن ياسر ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي طلحة الأنصاري ، وأبي هريرة ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وأبي سفيان ، وعائشة ، وأسماء بنت أبي بكر ، وجويرية بنت الحارث ، وسودة بنت زمعة ، وأم هاني بنت أبي طالب ، وأم سلمة ، وجماعة وعنه )(1) .

هذه جملة الأسماء التي ذكرها ابن حجر في ترجمة ابن عباس ، ولمّا كانت أحاديثه عن هؤلاء الجماعة عادة قد ضمّتها كتب الصحاح والمسانيد ، فنحن نبحث في تلك المصادر لنرى روايات ابن عباس عن أولئك الأشخاص هل هي صحيحة؟ أم ثمّة تعويم وتعتيم؟

وإذ لا شك عندنا في أنّه روى عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك عن أهل بيته المذكورين رجالاً ونساءاً فلا نطيل الوقوف عندهم ، إنّما البحث سيكون عن صحة أخذه وسماعه من الباقين ، وأوّل أولئك هو أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ، وهم أوّل الخلفاء الراشدين في التاريخ ، الذين كان ابن عباس معهم على تفاوت في مدى صحبته ، ولاشك في أنّها كانت مع الأوّل محدودة جداً ، وقد تقدم في الحلقة الأولى ما يبين لنا موقفه في عهد أبي بكر ، فراجع.

ولم نقف على حديث واحد رواه عن أبي بكر ، كما أنّ صحبته مع

____________________

(1) تهذيب التهذيب 5 / 276 ط حيدر آباد.

٨٥

الباقين كانت أطول زماناً وأكثر تعاطياً ، وللتحقيق من صحة ما قاله ابن حجر في عدّ أبي بكر في جملة من روى عنهم ابن عباس ، راجعنا مسند أحمد بن حنبل وهو أكبر المسانيد حجماً وأوسعها جمعاً ، وقد ابتدأ أحمد كتابه بمسند أبي بكر ، ولدى ملاحظة ما ذكر ، وجدناه ذكر ( 81 ) رقما تحت العنوان المذكور لم يسلم منها له إلاّ ( 49 ) رقماً بما فيها من المكررات التي أسقطت أكثر من الربع في الحساب ، ومع هذا كلّه فلم نجد حديثاً واحداً لابن عباس رواه عن أبي بكر ، فكيف بقول ابن حجر في ذلك؟!

ولزيادة الإطمئنان راجعنا ( المعجم الكبير ) للطبراني(1) تحت عنوان ( وممّا أسند أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فساق خمسة أحاديث فقط ، ولم يسلم له منها إلاّ خامسها ، والباقي ليست بأحاديث مسندة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان ذلك مثار العجب!!

وعدت ثالثة أتحرّى بعض كتب الأطراف أستهدي بها إلى رواية ابن عباس عن أبي بكر فراجعت ( ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأحاديث ) للنابلسي ، فكان ما ذكره لأبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ( 57 ) حديثاً مبثوثة في الصحاح وليس بينها حديث واحد رواه ابن عباس عنه ، فدبّ اليأس من العثور على رواية لابن عباس عن أبي بكر ، فتركت البحث إذ لا كبير فائدة فيه ، وأحسب أن ابن حجر إنّما ذكر

____________________

(1) المعجم الكبير 1 / 62 ط الموصل.

٨٦

اسم أبي بكر مع الباقين جرياً على عادة قومه من ذكر الخلفاء الراشدين مرتبة أسماؤهم حسب أيام حكمهم إلتزاماً بسنة ابن عمر.

فماذا عن أفيكة ابن عمر في سنّة التفاضل؟

لقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب المناقب في باب فضل أبي بكر بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من طريق عبد الله بن عمر قال : ( كنّا نخيّر بين الناس في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنخيّر أبا بكر ثمّ عمر بن الخطاب ثمّ عثمان بن عفان ( رضي عنهم ) )(1) .

وأخرج أيضاً في صحيحه في باب مناقب عثمان عن ابن عمر أيضاً بلفظ : ( كنّا في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثمّ عمر ثمّ عثمان ، ثمّ نترك أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا نفاضل بينهم )(2) .

وهكذا بقي رأي ابن عمر هو الرأي السائد المروي قولاً عند أحمد في مسنده ( 2 / 14ط الأولى ) ، ونحو ذلك عند البخاري في تاريخه ( 1 / ق 1 / 14 ) ، والترمذي والبزار والطبراني وغيرهم ، وهو النهج السائر عليه عملاً في كتب أصحاب التراجم في فضائل الأصحاب.

لكن ثمّة من الأعلام من أنكر على ابن عمر زعمه وحتّى سخر منه في قوله : ( كنّا نفاضل )! فهلمّ إلى ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي غسان الدوري قال : ( كنت عند علي بن الجعد فذكروا عنده

____________________

(1) صحيح البخاري 5 / 243.

(2) صحيح البخاري 5 / 262.

٨٧

حديث ابن عمر كنا نفاضل فقال عليّ بن الجعد : أنظروا إلى هذا الصبيّ هو لم يحسن أن يطلق أمرأته يقول : كنا نفاضل )(1) .

ولم يكن علي بن الجعد وحيد قومه في استنكاره سنّة ابن عمر في المفاضلة ، فقد أنكره ابن معين أيضاً ، قالوا : ( وتكلم فيه بكلام غليظ ، لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما أجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر ، أنّ عليّاً أفضل الناس بعد عثمان رضي الله عنه وهذا ممّا لم يختلفوا فيه ، وإنّما اختلفوا في تفضيل عليّ وعثمان ، واختلف السلف أيضاً في تفضيل عليّ وأبي بكر ، ومن إجماع الجميع الذي وصفناه دليل على أنّ حديث ابن عمر وهمٌ وغلط ، وأنّه لا يصحّ معناه ، وإن كان إسناده صحيحاً )(2) .

وتبقى لنا ملاحظة عابرة على تسميتهم أفيكة ابن عمر بـ ( حديث ابن عمر ) وهذا خلاف المتبادر من تعريفهم معنى الحديث وأنّه المروي عن المعصوم ، وما سواه سمّوه بالخبر وبالأثر. ومهما يكن فقد بقي قول ابن عمر هو الذي عليه سار المؤرخون في ترتيب الخلفاء حسب توليهم الحكم ، وحتّى إذا ورد ذكرهم في غير ذلك فلم يخرجوا عن إصر ابن عمر ولم ينفكوا عن ربقة أسره ، ومهما كان عذرهم فلسنا معهم في حول ولا طول لمناقشة رأي من لم يحسن

____________________

(1) تاريخ الخطيب 11 / 263.

(2) أنظر الاستيعاب 3 / 1116 في ترجمة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

٨٨

طلاق امرأته ، فلندعهم وتركاضهم ، بل اللازم علينا إتباع الحق والتصديق برواية ابن عباس عن أبي بكر الصديق إذا جاءت بسند وثيق ، وحيث لم نقف على رواية واحدة عنه مرفوعة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فلنعرض عن ذكره ، ونتجه نحو زعم رواية ابن عباس عن عمر بن الخطاب.

البحث عن أخذه الرواية عن عمر

لقد ذكر كلّ من ترجم لعمر فقال : روى عنه وابن عباس ، كما ذكروا ذلك في ترجمة ابن عباس فقالوا : روى عن عمر.

وليس في هذا التعبير كبير مؤاخذة ما دمنا نعرف أنّ الرواية عن إنسان لا تعني بالضرورة أوّلاً تفوّقه بالعلم على الراوي ، فكثيراً ما يروي الصحابة بعضهم عن بعض ما شاهده الآخر أو سمعه سواء كان ممّا يتعلّق بحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو غير ذلك ، فإذا كان ابن عباس قد روى عن عمر فروايته عنه كروايته عن غيره من الصحابة ، ولا تعني بحال التعميم على أخذه نصيباً وافراً من العلم حتّى يصح لبعضهم أن يقول : ( عامّة علم ابن عباس من ثلاثة : من عمر وعليّ وأبيّ بن كعب )(1) .

وصارت هذه ـ المقولة المطروحة والمفضوحة ـ تتردد في جملة من المصادر التي تذكر ابن عباس وعلمه ـ. وهذا ما يسترعي انتباه الباحث

____________________

(1) البداية والنهاية 8 / 298 وغيرها.

٨٩

الذي قرأ تاريخ الرجلين ـ عمر وابن عباس ـ فيجد الأمر على خلاف تلك المقولة. خصوصاً حين يجد كثرة الشواهد على رجوع عمر إلى ابن عباس ، وقد مرّت بنا نماذج في الحلقة الأولى ( تاريخ وسيرة ) في عهد عمر. فلا حاجة إلى إعادتها ولا مانع من الاضافة إليها ما أخرجه أحمد بن حنبل في ( فضائل الصحابة ) : ( كان عمر يوماً جالساً وعنده العباس ، فسئل عمر عن مسألة فقال فيها ، فقام إليه ابن عباس فسارّه فقال : يا أمير المؤمنين ليس الأمر هكذا ، فأقبل عمر على العباس فقال : يا أبا الفضل بارك الله لك في عبد الله ، إنّي قد أمّرته على نفسي ، فإذا أخطأت فليأخذ عليّ )(1) .

كما أخرج أيضاً بسنده عن ابن هبيرة : ( أنّ عمر بن الخطاب كان يقول : مَن كان سائلاً عن شيء من القرآن فليسأل عبد الله بن عباس )(2) .

وأخرج أيضاً : ( عن عبيد الله بن عبد الله قال : كان عمر بن الخطاب إذا جاءته الأقضية المعضلة يقول لابن عباس ، يا أبا عباس قد طرأت علينا أقضية عضل وأنت لها ولأمثالها ، ثمّ أخذ برأيه وقوله ، وما كان يدعو لذلك أحداً سواه إذا كانت تلك العضل )(3) .

____________________

(1) فضائل الصحابة 2 / 982 برقم 1942 ط مؤسسة الرسالة سنة 1403 هـ تحقيق وصي الله محمّد بن عباس.

(2) نفس المصدر برقم 1893.

(3) نفس المصدر برقم 1913.

٩٠

ومعلوم لدى الباحثين مدى قبول مسند أحمد في الإحتجاج به.

ولقد كنت أحسب يوم أنهيت ما كتبته عن ابن عباس أني سوف لن أحتاج إلى إعادة النظر فيه فترة بعد أخرى ، فأزيد شيئاً أو أغيّر رأيّاً ، تبعاً لما تستجدّ من معلومات توفّرت سبلُها فعلاً ولم تكن من قبل. ولم يكن ذلك بالذي يزعجني كثيراً ، فالمعرفة ليست حكراً على أحد ، والعلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء ، وكلّ يوم تطالعنا دراسات حديثة منها ما يستحق الإكبار لأصحابها ، ومنها ما ليس كذلك. ولست بصدد التقييم ، إنّما الذي يعنيني في المقام تنبيه القارئ إلى ما يخص ابن عباس منها. فلقد اطلعت أخيراً على دراستين خضعتا لمناقشة أساتذة جامعيين لأصحابهما ليمنحوهما الدرجة التي يستحقونها ، وبالأصح يتوخّونها ـ إذ أنّ كثيراً من الشهادات في بعض الجامعات صارت كجواز المرور في مرحلة العبور تمنح بدفع الميسور ـ أمّا الدراستان المشار إليهما فهما :

1 ـ ( تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة ) للدكتور عبد العزيز بن عبد الله الحميدي / جامعة أم القرى بمكة المكرمة ، وقد طُبع الكتاب في الرياض. وهو الكتاب الثالث والخمسون من التراث الإسلامي / منشورات الجامعة.

2 ـ ( تفسير ابن عباس دراسة وتحليل ) أطروحة مقدمة إلى كلية الشريعة في جامعة بغداد لنيل الماجستير لعبد المجيد محمّد أحمد الدوري / مطبوع على الآلة الكاتبة.

٩١

وقد وجدت في هاتين الدراستين جهداً مذكوراً ومشكوراً بذله الكاتبان ، إلاّ أنّ موجة الرواسب الموروثة بدت طاغية فغطّت على الحقائق التاريخية ، حتّى ولو على حساب ابن عباس ( صاحب التفسير ) فكان منها عدّ عمر بن الخطاب من شيوخ ابن عباس في التفسير (؟).

فعجبتُ من ذلك! لأنّي قرأت تاريخ الرجلين بإمعان وانتهيت إلى أنّ الشواهد الكثيرة لا تدلّ على ذلك ، بل لقد دلّت على رجوع عمر إلى ابن عباس في كثير من الأحيان ، وذكرتُ جملة منها فيما مرّ في الحلقة الأولى ( في عهد عمر ). وعليها لا يبعد القائل عن الصواب لو قال : ( أقلب تصب ) ، حيث كان ابن عباس هو يُقرئ عمراً القرآن(1) .

ومهما يكن فليس من عتب على الناشئيَن صاحبي الدراستَين بقدَر ما هو على الأساتذة المشرفين والمناقشِين والمانحِين لهما شهادة الدكتوراه والماجستير!

وسيأتي في بحثي عن تفسير ابن عباس مناقشة هذين الدارسين في هذا الشأن ، وكيف حاولا إثبات بهرجة مزيّفة وكأنّها حقيقة ثابتة ، فإلى هناك.

نعم ، ربّما يخيّل لمن يجد ابن عباس يسأل من عمر عن أمر ذي بال ، فحسب ذلك حجة في تلقيه العلم منه ، بينما واقع الحال في

____________________

(1) الرياض النضرة 2 / 70.

٩٢

السؤال كان بهدف انتزاع شهادة إدانة من إنسان غير متهم على أمر ذي بال ، كنحو ما سأله عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عمر : ( هما عائشة وحفصة ) ، والخبر رواه البخاري في صحيحه مكرراً ، وقد مرّ ذكره في الحلقة الأولى ( في عهد عمر ) ، فراجع.

أو كالخبر الذي رواه الطبراني في ( معجمه الكبير ) ، عن ابن عباس : أنّ عمر أخبره أنّه قال لحفصة : أتغضب إحداكن على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اليوم حتّى الليل؟ قالت : نعم(1) .

فإذا كان مثل هذا السؤال وهذا الخبر هو الذي عناه القائل ( عامّة علم ابن عباس من ثلاثة : من عمر وعليّ وأُبي بن كعب ) فقد طاش سهمه ، وباء بسخط الخالق لكذبه ، وسيأتي التحقيق حول الموضوع في البحث عن تفسير ابن عباس ومصادره.

وأمّا ذكر اسم عثمان فيمن روى عنه ابن عباس فهذا ما لم يثبت بوجه من الوجوه ، ودون القارئ دواوين الحديث في التراثين السنّي والشيعي ، وليبحث.

ماذا عن روايته عن عثمان؟

لقد بحثت كثيراً في المصادر المعنية بذلك ، فلم أقف على حديث واحد رواه ابن عباس عن عثمان مرفوعاً ، وبين يدي فعلاً مسند أحمد

____________________

(1) المعجم الكبير 23 / 174 ط الموصل.

٩٣

ومعجم الطبراني وذخائر المواريث ، فأعدت الفحص فلم أجد فيها ما يصح أن يقال أنّه روى عن عثمان حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

اللّهم إلاّ أن يكون مراد من زعم رواية ابن عباس عن عثمان ما أخرجه أحمد فاستفتح به في أوّل مسند عثمان ، بإسناده عن يزيد الفارسي قال : قال لنا ابن عباس : قلت لعثمان بن عفان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة ، وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا ـ قال ابن جعفر : ـ بينهما سطرا : بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ممّا يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد ، وكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده يقول : ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وينزل عليه الآية فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة ، وبراءة من آخر القرآن فكانت قصتها شبيهاً بقصتها ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا أنّها منها ، وظننت أنّها منها ، فمن ثمّ قرنت بينهما ولم أكتب سطرا : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال ابن جعفر : ووضعتها في السبع الطوال.

وأخرج أحمد هذا مرّة ثانية في مسنده(1) .

ولم يكن أحمد هو الوحيد الذي روى لنا هذا الخبر ، فقد قال شاكر

____________________

(1) راجع مسند أحمد 2 / 244 برقم 499 بتحقيق شاكر.

٩٤

في هامش المسند : ( رواه أبو داود في سننه 1 / 287 ـ 288 والترمذي 4 / 113 وقال : وهذا حديث حسن لا نعرفه إلاّ من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس. وفي نسخة الترمذي طبعة بولاق 2 / 182 ـ 183 حسن صحيح ).

وقد ناقش شاكر ذكر التصحيح ثمّ قال : ( فلم ينقل المنذري والسيوطي عن الترمذي إلاّ تحسينه ، أُنظر شرح أبي داود والدر المنثور 3 / 207 ، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف 31 ـ 32 بثلاثة أسانيد ، والحاكم في المستدرك 2 / 221 ، 330 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2 / 42 ، كلّهم من طريق عوف عن يزيد الفارسي ، ونسبه السيوطي في الدر المنثور لابن أبي شيبة والنسائي ـ ولم أجده فيه ـ وابن المنذر وابن حبّان وغيرهم )(1) .

وأزاء رواية هذا الجمع من الحفاظ يقف الباحث حائراً كيف رووا ذلك ، ولم يكتف بعضهم حتّى صححه كالحاكم ووافقه الذهبي؟ إنّها لطامّة ما بعدها من طامّة تحيط بهؤلاء العامة! أليس فيهم رجل رشيد يجرأ فيقول : إنّ الخبر ليس بصحيح لأنّه أثبت منافاته للسيرة القطعية والتواتر القطعي في تلقي القرآن الكريم قراءة وسماعاً وكتابة في المصاحف على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فضلاً عن إستلزامه الطعن في عثمان ـ وهذا ما لا يرضاه له

____________________

(1) مسند أحمد 2 / 244 برقم 499 بتحقيق شاكر.

٩٥

أنصاره ، وهم جميع الذين أخرجوا الخبر بأسانيدهم وكلهم من أعلام المحدثين ـ فكيف بهم وأنّى لهم ، التخلّص من مغبة رواية هذا الخبر الذي أحاطوه بهالة من الإعتبار من تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له. ثمّ رواية ابن كثير له مرّتين ممّا يدلّ على إهتمامه به من دون مناقشة له(1) .

فكيف يمكننا تصديق الخبر وهو يستبطن البطلان ، لأنّه موجب لتصرف عثمان بترتيب الآي في القرآن!!

وهذا ما لا يقبله أيّ مسلم ، لمضادته لقوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (2) ، ولمّا صح من أنّ القرآن كان مجموعاً على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وعدد الشعبي ستة من الأنصار قد جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في ( منتخب كنز العمال ) نقلاً عن الطبراني وابن عساكر(3) .

لكن أنس سمى أربعة كلّهم من الأنصار قد جمعوا القرآن على عهده صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري(4) ، ولو لم يكن مجموعاً لما أشكل ابن عباس على عثمان في رفع البسملة من سورة براءة.

هذا ما وسعني ذكره في رواية ابن عباس عن عثمان ، وقد يفزع القارئ إذا ما أخبرته أنّ الطبراني قد ذكر عثمان في الجزء الأوّل من معجمه الكبير ولم يخرج له

____________________

(1) أنظر تفسير ابن كثير 4 / 106 ـ 107 وفضائل القرآن المطبوع في آخر التفسير ص17 ـ 18.

(2) الحجر / 9.

(3) منتخب كنز العمال 2 / 52 هامش مسند أحمد.

(4) صحيح البخاري 6 / 102 باب القراء من أصحاب النبيّ.

٩٦

إلاّ خمسة أحاديث(1) ، وما بقى ممّا ذكره الطبراني فهو بتاريخ عثمان أشبه.

والآن فلنستعرض أسماء من روى عنهم ابن عباس من بقية الصحابة ، وماذا روى ، كما ذكرهم ابن حجر في ( تهذيب التهذيب ) (2) حسب ترتيبه ، وقد نضيف إليهم من لم يذكرهم ، فمنهم :

1 ـ عبد الرحمن بن عوف

فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن ابن عباس : أنّه قال له عمر : يا غلام هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو من أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ قال : فبينا هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف ، فقال : فيم أنتما؟ فقال عمر : سألت هذا الغلام هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ فقال عبد الرحمن : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين فليجعلها واحدة ، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثاً فليجعلها ثنتين ، وإذا لم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً فليجعلها ثلاثاً ثمّ يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلّم سجدتين(3) .

وهذا أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه هو والذهبي. واللافت للنظر أن يسأل عمر من غلام حكم الشك! ولو لم يأته ابن عوف

____________________

(1) المعجم الكبير 1 / 74 ـ 92 ح 145 ـ 149.

(2) تهذيب التهذيب 5 / 276.

(3) مسند أحمد 3 / 123 ط شاكر.

٩٧

لبقي جاهلاً بالحكم ، وهذا ممّا يعاب به على خليفة مثله مع طول الصحبة ، ونزول السكينة على لسانه وكونه محدّثاً كما يزعمون( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) (1) .

وقد ذكر أحمد وغيره عن ابن عباس قال : انّ عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتّى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد ، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أنّ الوباء قد وقع بالشام ، قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف ، وكان متغيباً في بعض حاجته فقال : إنّ عندي من هذا علماً ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، قال : فحمد الله عمر ثمّ انصرف(2) .

وهذا الحديث الذي أخرجه أحمد مكرراً في مسنده هو الثاني ممّا ذكرت رواية ابن عباس له عن عبد الرحمن بن عوف ، ولم يزد الطبراني عليه بحديث آخر ، فهل يعدّ هذا من الرواية بسبيل؟!

2 ـ أُبيّ بن كعب

لقد مرّ بنا أنّ ابن عباس كان يتتبع أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي لم يسمعها

____________________

(1) يونس / 67.

(2) مسند أحمد 1 / 194.

٩٨

منه ، فيأخذها من الصحابة الذين سمعوها ، وقليل ما هم الذين وعوها ، وكان من الذين تميّزوا بالوعي هو أُبيّ ، حتّى كان ـ فيما نسب إلى حبر الأمة ـ معدوداً من الراسخين في العلم(1) ، فقد سمع منه في القراءة والتفسير وربما في غيرهما ممّا له فيه معرفة ، قال الذهبي : ( وقرأ ـ ابن عباس ـ كثيراً على أُبيّ وزيد )(2) ، ولولا ضمّ زيد إلى أُبيّ لصدقته في قراءة ابن عباس على أُبيّ كثيراً. ولكن سيأتي أن ضمّ زيد إلى أُبيّ كضمّ الحجر إلى الجوهر ، ولم يصحّ أخذ ابن عباس من زيد ، لكن سماعه وأخذه من أُبيّ ثابت ، وليس هو بثابت عن زيد بن ثابت ، كما سيأتي المزيد عن ذلك ، فقد قرأنا ما رواه ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده عن ابن عباس يقول : ( ما حدّثني أحد قط حديثاً فاستفهمته فلقد كنت آتي باب أُبيّ بن كعب وهو نائم فأقيل ـ نوم القيلولة ـ على بابه ، ولو علم بمكاني لأحبّ أن يوقظ لي لمكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أكره أن أملّه )(3) .

وقد روى أيضاً : ( قال ابن عباس : فجعلت أسأل أُبيّ بن كعب يوماً ـ وكان من الراسخين في العلم ـ عمّا نزل من القرآن بالمدينة؟ فقال : نزل بها سبع وعشرون سورة وسائرها بمكة )(4) .

وأخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس قال : ( جاء رجل إلى عمر يسأله فجعل ينظر إلى رأسه مرّة والى رجليه أخرى هل يرى عليه من

____________________

(1) أنظر البداية والنهاية 8 / 298.

(2) سير أعلام النبلاء 4 / 439.

(3) الطبقات 2 / ق 2 / 123.

(4) الطبقات 2 / ق 2 / 124.

٩٩

البؤس شيئاً؟ ثمّ قال له عمر : كم مالك؟ قال : أربعون من الإبل.

قال ابن عباس فقلت : صدق الله ورسوله : لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى الثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ويتوب الله على من تاب.

فقال عمر : ما هذا؟

فقلت : هكذا أقرأنيها أُبيّ ، قال : فمرّ بنا إليه قال : فجاء إلى أُبيّ فقال : ما يقول هذا؟ قال أُبيّ : هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال : أفأثبتها؟ فأثبتّها )(1) .

أقول : لقد مرّت صورة من هذا الحديث في الحلقة الأولى في عهد عمر ، كما مرّت قريباً صورة أخرى في بيان حقيقة مزيفة ، فراجع.

ولهذا الحديث صور أخرى رواها البخاري بينها تفاوت(2) ، فراجع.

وروى البخاري أيضاً قول عمر : ( أقرؤنا أُبيّ وأقضانا عليّ ، وإنّا لندع من قول أُبيّ )(3) .

وروى الحاكم في ( المستدرك ) عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ( بينما أنا أقرأ آية من كتاب الله عزوجل وأنا أمشي في طريق من طرق المدينة فإذا أنا

____________________

(1) مسند أحمد 5 / 117.

(2) صحيح البخاري 8 / 92 كتاب الرقاق باب ما يتقى من فتنة المال ط بولاق.

(3) صحيح البخاري 5 / 149.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509