موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٧

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 520

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 520
المشاهدات: 63781
تحميل: 3963


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 520 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63781 / تحميل: 3963
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 7

مؤلف:
العربية

فأنزل الله عزوجل :( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (1) ، قال : جمعَه في صدرك ، ثم نقرؤه :( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) (2) ، فاستمع له وأنصت :( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (3) ، فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه » (4).

____________

(1) القيامة / (16) ـ 17.

(2) القيامة / 18.

(3) القيامة / 19.

(4) مسند أحمد 5 / 69 / 3191 ، الجمع بين الصحيحن 2 / 55.

١٦١
١٦٢

المبحث الثاني

معرفته بالتأويل

ونقرأ في ذلك عدّة نقاط

١٦٣
١٦٤

ابن عباس رضي الله عنه وألمعيته في التأويل

بعد أن قرأنا مراراً قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « اللهم فقهه في الدين وعلمّه التأويل » ، ولقد ظهر أثر ذلك الدعاء مباركاً في ابن عباس حتى صار بثاقب نظره ، يقول : « لو ضاع لأحدكم عقال بعير لوجده في القرآن »(1) ، حتى نسب إليه محمد طاهر الكردي صاحب « تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه » فقال : إنّ ابن عباس كان يقول :

جميع العلم في القرآن لكن

تقاصر عنه أفهام الرجال (2)

وهذا البيت لم أقف على صحة نسبته إليه في غير المصدر المذكور ، وسواء صحت نسبته إليه أم لم تصح ، فإنّ معناه مقتبس من كلام الإمام

____________

(1) ينابيع المودة / 412 ط استنابول ، وفي لفظ السيوطي في الإتقان 2 / 129 قال ابن عباس : ( لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله ).

(2) تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه / 1 ط2 مصر 1372 هـ.

١٦٥

أمير المؤمنين عليه السلام : « ما من شيء إلاّ وعلمه في القرآن ، ولكن عقول الرجال تعجز عنه » (1). ولمّا كان ابن عباس هو تلميذ الإمام عليه السلام وعنه أخذ تفسير القرآن ، بعد أن كان قد تعلّمه على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تنزيلاً فحفظ المحكم منه وهو ابن عشر سنين ، وتعلمّ منه تأويلاً وهو بعد فتى يافع ، كما في حديثه الذي أخرجه ابن جرير في تفسيره ، وعنه السيوطي في « الدر المنثور » ، وعنه رواه صاحب « تفسير الميزان » ، وإليكم الحديث كما يلي :

« قال ابن جرير : حدثني محمد بن إبراهيم السلمي ، قال : ثني يحيى ابن محمد بن مجاهد ، قال : أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي ، قال : أخبرني عامر ابن واثلة ، قال : قال ابن عباس : كنت ردف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « يا ابن عباس : إرض عن الله بما قدّر ، وإن كان خلاف هواك ، فإنّه مثبت في كتاب الله » ، قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأين؟ وقد قرأت القرآن؟ قال : « في قوله :( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) »(3) .

فمن كان بهذه المثابة من الفهم والإدراك فيقول للرسول صلى الله عليه وآله وسلم : فأين وقد قرأت القرآن؟ فلا غرابة لو صححنا نسبة البيت الذي نسبه إليه صاحب تاريخ القرآن.

____________

(1) ينابيع المودة / 412 ط استنابول.

(2) البقرة / 216.

(3) تفسير ابن جرير 25 / 326 ، الدر المنثور 1 / 188 ط البابي الحلبي ، تفسير الميزان 2 / 188.

١٦٦

ولا غرابة لو قال كلمته السابقة : « لو ضاع لأحدكم عقال بعير لوجده في القرآن »(1) .

ولا غرابة لو قرأنا عنه بعض تلكم التأويلات التي كان يختص بها دون غيره ، بلحاظ تلك الجامعية التي تميّز بها في معرفته بالقرآن معنى ومبنى ، وفهما وحكما ، إذ كان يرى في تفسير قوله تعالى :( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (2) ، بأنّ الحكمة هي المعرفة بالقرآن.

وعلى هذا المعنى رووا عنه ، كما في تفسير الطبري : « والحكمة المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدّمه ومؤخّره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله »(3) .

كما لا غرابة أيضاً في قول من قال : « أنّه أوّل من أملى في تفسير القرآن »(4) .

فقد أخرج الطبري في تفسيره بسنده عن ابن أبي مليكة ، قال : « رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ، ومعه ألواحه ، فيقول له ابن عباس أكتب ، قال : حتى سأله عن التفسير كلّه »(5) .

وأيضاً أخرج عن مجاهد ، قال : « عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كلّ آية منه وأسأله عنها »(6) .

____________

(1) الإتقان 2 / 126 ط حجازي بمصر.

(2) البقرة / 269.

(3) تفسير الطبري 3 / 89.

(4) أعيان الشيعة 1 / 195.

(5) تفسير الطبري 1 / 62.

(6) نفس المصدر 1 / 40.

١٦٧

وعلى هذا كان سفيان الثوري يقول : « إذ جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به »(1) .

ومثل مجاهد كام عطية العوفي فيما قال : « عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات على وجه التفسير ، وأمّا على وجه القراءة فقرأت عليه سبعين مرّة »(2) ، ولعطية هذا تفسير في خمسة أجزاء.

وكيف لا يكون كذلك وهو أخذه من ابن عباس ترجمان القرآن؟ ولم ينقل مثل هذا عن غيره من الصحابة ، فبحق كان أوّل من أملى في تفسير القرآن ، كما في « أعيان الشيعة » ، ولعلّ ما في « الذريعة » : « إنّه أوّل من صنف في التفسير »(3) إشارة إلى ما سبق. وسواء قلنا بهذا أو بذاك ، فهو كما قال ابن جزي في « التسهيل لعلوم التنزيل » : « واعلم أنّ المفسرين على طبقات : الأوّل الصحابة ، وأكثرهم كلاماً في التفسير ابن عباس ، وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ، ويقول : « كأنّما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق » ، وقال ابن عباس : ما عندي من تفسير القرآن فهو عن عليّ بن أبي طالب »(4) .

فمن بلغ تلك الدرجة العالية لا يستكثر عليه لو استخرج المعاني الدقيقة من آي الذكر الحكيم ، واستعان بالقرآن على فهم القرآن ،

____________

(1) الإتقان 2 / 190.

(2) أنظر سفينة البحار 2 / 205 ( عطا ) ، الذريعة 4 / (282) ـ 283.

(3) أعيان الشيعة 1 / 195 ، الذريعة 4 / 233.

(4) التسهيل لعلوم التنزيل 1 / 9.

١٦٨

وإن أعوزته الحجة فإلى السنّة ، وهذا هو التفسير الأمثل والأفضل ، ومع ذلك فقد كان مشتملاً على مكنون علمٍ في التأويل ربما حجبه عن غير أهله ، كما جاء عنه في تفسير قوله تعالى :( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) (1) ، فقد أخرج الطبري بسنده عن مجاهد عن ابن عباس في قوله :( سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) ، قال : « لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم ، وكفركم تكذيبكم بها » (2).

وأخرج بسنده عن سعيد بن جبير ، قال : « قال رجل لابن عباس :( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) الآية؟ فقال ابن عباس : ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر »(3) .

وأظن أنّه أراد القسم الثالث من تقسيمه التفسير ، وقد مرّ ، حيث قال : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « أُنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به ، وتفسير تفسّره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلاّ الله ، ومن أدعى علمه سوى الله فهو كاذب »(4) .

____________

(1) الطلاق / 12.

(2) تفسير الطبري 28 / 153.

(3) نفس المصدر.

(4) نفس المصدر 1 / 34 ط الباري الحلبي.

١٦٩

ولا يبعد أن يكون المراد بقوله في تفسير الآية :( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) (1) : « لو ذكرت تفسيره لرجمتموني ، أو لقلتم أنّه كافر »(2) .

أقول : لا يبعد أن يكون مراده هو القسم الثالث من تقسيمه الذي يعلمه العلماء ، فلا مساغ لذكره لسائر الناس ممن لا تحتمل عقولهم ذلك التفسير.

وقد ناقش عبد الحليم النجار في هامش « مذاهب التفسير الإسلامي » نسبة قول ذلك إلى ابن عباس(3) ، ومناقشته لا تسلم من المناقشة(4) .

ولعلّ في تفسيره بعض الغريب ما يوجب وهماً لمن أساء فهماً ، لذلك قال السيوطي في « الإتقان حول غريب القرآن » : « وأولى ما يرجع إليه في ذلك ما أثبت عن ابن عباس وأصحابه الآخّرين عنه ، فإنّه ورد عنه ما يستوعب تفسير غريب القرآن بالأسانيد الثابتة الصحيحة ، وها أنا أسوق هنا ما ورد من ذلك عن

____________

(1) الطلاق / 12.

(2) أنظر الفتوحات المكية 1 / 32.

(3) مذاهب التفسير الإسلامي / 237.

(4) لقد قال : ( وإن كل ما يتعلق من علم يجب بثه ونشره ، ويحرم حجبه وكتمانه ) ، وأستدل بقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ) البقرة / 159 ) ، وبحديث : ( من كتم علماً عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) ، وهذا منه غريب! فابن عباس حبر الأمة لم يكتم علماً بيّناً في الكتاب عن أهله ، وإنما حجب ذلك عن غير أهله عمن لا تحتمل عقولهم تفسيره ، ولذا قال : ( لو ذكرت تفسيره لرجمتموني ، أو لقلتم أنه كافر ).

١٧٠

ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة خاصة ، فإنّها من أصح الطرق عنه ، عليها أعتمد البخاري في صحيحه مرتباً على السور » (1).

معنى التأويل

والتأويل مأخوذ من الأول ـ آل يؤول أولاً وتأويلاً ـ قال الجوهري : « التأويل : تفسير ما يؤول إليه الشيء ، وقد أوَّلته وتأوّلته تأولاً ، بمعنى »(2) .

وقال سيدنا الأستاذ السيد الخوئي قدس سره في « البيان » : « أوّل الحكم إلى أهله ، أي ردّه إليهم.

وقد يستعمل التأويل ويراد منه العاقبة وما يؤول إليه الأمر ، كما في قوله تعالى :( وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) (3) ، وقوله تعالى :( نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ) (4) .

وعلى ذلك فالمراد بتأويل القرآن ما يرجع إليه الكلام وما هو عاقبته ، سواء أكان ذلك ظاهراً يفهمه العارف باللغة أم كان خفيّاً لا يعرفه إلاّ الراسخون في العلم »(5) .

وقد ذكروا فروقاً كثيرة بين التفسير والتأويل ، حكى الشيخ محمد حسين الذهبي بعضها ، كان منها ما قاله الراغب الإصفهاني في « المفردات » :

____________

(1) الإتقان 1 / 115.

(2) الصحاح / مادة : ( أوّل ).

(3) يوسف / 6.

(4) يوسف / 36.

(5) البيان 1 / 243.

١٧١

« التفسير أعمّ من التأويل ، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ ، والتأويل في المعاني : كتأويل الرؤيا ، والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية ، والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها ، والتفسير أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ ، والتأويل أكثره يستعمل في الجمل.

فالتفسير : إمّا أن يستعمل في غريب الألفاظ كالبحيرة والسائبة والأصيلة ، أو في تبيين المراد وشرحه كقوله تعالى :( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) (1) .

وأمّا في كلام مضمن بقصة لا يمكن تصورّه إلاّ بمعرفتها ، نحو قوله تعالى :( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) (2) ، وقوله تعالى :( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ) (3) .

وأمّا التأويل : فإنّه يستعمل مرّة عامّاً ومرّة خاصاً ، نحو الكفر المستعمل في الجحود المطلق ، وتارة في جحود الباري خاصة ، والإيمان المستعمل بين معان مختلفة ، نحو لفظ « وجد » المستعمل في الجدة ، والوجد ، والوجود »(4) .

ولا ريب أنّ ابن عباس بلغ في معرفة التأويل ما رفع مستواه العلمي بين الصحابة ، فكان يفسّر القرآن بالقرآن ، وعند الحاجة فبالسنّة ، ويستعين

____________

(1) البقرة / 43.

(2) التوبة / 37.

(3) البقرة / 189.

(4) مقدمة التفسير المطبوعة في آخر مطاعن القرآن للقاضي عبد الجبار المعتزلي.

١٧٢

كثيراً بشواهد الشعر العربي ليسهل على السامع أن يدرك معاني القرآن في تدبّر آياته ، وهذا ما كانت عليه سيرته وعرف به نهجه حيث كان من الراسخين في العلم الذي شملتهم الآية الكريمة :( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (1) ، وهذا ما جعله مستهدفاً ، للسلطان الأموي حيث أغاضه أن يكون ابن عباس يرفع الحصار الثقافي العقائدي عن أهل البيت عليهم السلام عن طريق تفسير القرآن وتأويله بما لا يعجب معاوية وأشياعه.

وقد مرّ بنا في الحلقة الأولى رواية حوارٍ جرى بين ابن عباس وبين معاوية ـ وكان ذلك أوّل لقاء بينهما بعد مهادنة الإمام الحسن عليه السلام سنة 41 هـ ـ فقد جاء في ذلك الحوار بيان نهجه في التفسير والتأويل وفيه كشف عن حقائق مغيّبة عن الأمّة للتضليل الأموي ، فكان ابن عباس هو رجل الساعة والساحة يومئذ.

وإلى القارئ خلاصة ما دار بينهما :

حوار فيه اعتبار

قال معاوية : فإنّا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته ، فكفّ لسانك يا بن عباس وأربع على ضلعك.

فقال له ابن عباس : أفتنهانا عن قراءة القرآن؟

قال : لا.

____________

(1) آل عمران / 7.

١٧٣

قال : أفتنهانا عن تأويله؟

قال : نعم :

قال : فنقرأه ولا نسأل عمّا عنى الله به؟

قال : نعم.

قال : فأيّما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

قال معاوية : العمل به.

قال : فكيف نعمل به ، حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

قال : سل عن ذلك مَن يتأوله على غيرما تتأوله أنت وأهل بيتك.

قال : إنّما أنزل القرآن على أهل بيتي ، فأسال عنه آل أبي سفيان؟ أو أسأل عنه آل أبي معيط؟ أو اليهود؟ أو النصارى؟ أو المجوس؟

قال معاوية : فقد عدلتنا بهم وصيّرتنا منهم؟

فقال له ابن عباس : لعمري ما أعدلك بهم ، غير أنّك نهيتنا أن نعبد الله بالقرآن ، وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام ، أو ناسخ أو منسوخ ، أو عام أو خاص ، أو محكم أو متشابه ، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا وأختلفوا وتاهوا.

قال معاوية : فأقرؤا القرآن وتأوّلوه ، ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم من تفسيره ، وما قاله رسول الله فيكم وأرووا ما سوى ذلك.

قال ابن عباس : قال الله في القرآن :( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) .

____________

(1) التوبة / 32.

١٧٤

فهذه المحاورة كشفت لنا عن مبلغ علم ابن عباس رضي الله عنه بتأويل القرآن ، بما فيه من معاني دقيقة وإشارات جليلة يمكن توظيفها في محاربة الكافرين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، أمثال معاوية ، كما أنّها أيضاً كشفت عن مبلغ حقد ذلك الغاوي العاوي معاوية الطليق بن الطليق ، على أهل البيت عليهم السلام بمن فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولولا مواقف ابن عباس رضي الله عنه في كشف صفحات أولئك الأرجاس ، لقضوا على الدين برمته ، وعلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته من طريق الحجر على تأويل القرآن بل وحتى تلاوته. فقد كان ابن عباس يقول في قوله تعالى :( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (1) ، قال : « إنّا نقرئك فلا تنسى :( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ) (2) عليك( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) ، يقول : إذا تلي عليك فأتبع ما فيه »(3) .

وهذا النحو من التأويل هو الذي ارتضاه الطبري وغيرهُ. لم يكن يعجب الحاكمين الظالمين المعادين لأهل البيت عليهم السلام ، ألم يقل الطليق معاوية لابن عباس : « سل عن ذلك مَن يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك »!

والآن فلنقرأ بعض ما جاء عن ابن عباس في الجوانب التأويلية للنماذج التالية :

ـ كليات تفسيرية عنه في الوجوه والنظائر.

ـ نماذج تأويلية في أمثال القرآن.

____________

(1) القيامة / 17.

(2) القيامة / 18

(3) تفسير الطبري 1 / 44.

١٧٥

ـ أحاطة بمسائل الصحابة في القرآن.

ونرجيء الكثير إلى البحث في أسباب النزول وموقف ابن عباس منها.

كليات تفسيرية عنه في الوجوه والنظائر في القرآن

لقد جاء ابن عباس بسبق لم يجيء قبله عن أي واحد من الصحابة ، وذلك ذكره الوجوه والنظائر في اللفظ القرآني بنحو الكليات ، وهذا لون من ألوان التفسير للألفاظ القرآنية.

ولم يرد فيه حديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ما ذكره السيوطي في « الدر المنثور » ، قال : « أخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن حبان والطبراني في الأوسط وأبو نصر السجزي في الإبانة وأبو نعيم في الحلية والضياء في المختارة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « كلّ حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة »(1) .

وهذا لون من ألوان التفسير القرآني بذكر الوجوه والنظائر في الآيات ، ولم يعهد عن أحد من الصحابة إستيعابه بمثل ما قرأته بكثرة موارده عن ابن عباس ، ممّا يدلنا أنّه استقى معرفته من ينبوعه الأوّل ومعينه الصافي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد ورد عن ابن عباس روايات في هذا النوع ذكرها السيوطي مجملاً في « الإتقان » ، وأنا أذكرها مضيفاً إليها

____________

(1) الدر المنثور 1 / 269 ، مسند أحمد بن حنبل 3 / 75.

١٧٦

بعون الله تعالى ما تيسّر لي الإطلاع عليه ممّا لم يذكره ، وكذلك أذكر تمام الآية في مواضعها في القرآن فيما إذا اقتضى المقام إيضاحاً.

1 ـ قال السيوطي : « وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة ، عن ابن عباس قال : كلّ شيء في القرآن أليم فهو الموجع »(1) .

أقول : لقد وردت لفظة « أليم » في (58) موضعاً كلّها مقرونة بسبق كلمة العذاب ، ويبدو أنّ ابن عباس أخذ تفسير كلمة « الأليم » الموجع لكونها وقعت وصفاً لكلمة العذاب ، فقد قال تعالى :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) (2) ، وقال تعالى :( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (3) .

كما وقد وردت « أليماً » مسبوقة بكلمة « عذاب » فهي أيضاً بمعنى الموجع ، قال تعالى :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (4) ، وقال تعالى :( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (5) .

2 ـ قال السيوطي : « وأخرج من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : كلّ شيء في القرآن قتل فهو لعن »(6) .

____________

(1) الإتقان 1 / 145 مصطفى محمد 1268 هـ مصر مطبعة حجازي.

(2) البقرة / 10.

(3) الإنشقاق / 24.

(4) النساء / 18.

(5) الإنسان / 31.

(6) الإتقان 1 / 145.

١٧٧

أقول : لقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى : «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) (1) ، وفي قوله تعالى : «فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) (2) ، وفي قوله تعالى : «قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) (3) ، وفي قوله تعالى : «قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ) (4) ، ولم ترد صيغة « قُتِلَ » بالمعنى المذكور في موردين أحدهما : قوله تعالى :( فَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (5) ، وثانيهما : قوله تعالى :( وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ) (6) ، وعلى هذا فالكلمة ليست صحيحة النسبة.

3 ـ قال السيوطي : « وأخرج من طريق الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كلّ شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب »(7) .

أقول : لقد وردت لفظة « الرجز » في أربعة مواضع معرّفة ، وفي سبعة مواضع منكّرة مرفوعة ومنصوبة ، وكلّها معانيها ظاهرة كما قال ابن عباس إلاّ في مورد واحد قد لا يبيّن وجهه ، وذلك قوله تعالى :( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (8) .

ولكن إذا علمنا أنّ « الرجز » ظاهره في الآية هو القذر ، ولكن ثمّة من فسره بالأصنام ، فيكون المعنى حينئذ واضحاً كما قال ابن عباس ، فكلّ صنم مستقذر

____________

(1) الذاريات / 10.

(2) المدثر / 19.

(3) عبس / 17.

(4) البروج / 4.

(5) آل عمران / 144.

(6) الإسراء / 33.

(7) الإتقان 1 / 145.

(8) المدثر / (4) ـ 5.

١٧٨

يجرّ إلى العذاب والعقاب.

4 ـ قال السيوطي : « وقال الفريابي : حدثنا قيس ، عن عمارة الذهبي « والصواب عمار الدهني » ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كلّ تسبيح في القرآن صلاة ، وكلّ سلطان في القرآن حجة »(1) .

أقول : والكلام في الكلمتين يستدعي البحث في كلّ منهما لوحده.

فالكلمة الأولى « كل تسبيح في القرآن صلاة » ، المراد هو ما اشتق من مادة التسبيح ، مهما كانت لفظة التسبيح بصيغها المتعددة فهي صلاة ، بمعنى الصلاة اللغوي الذي هو الدعاء ، فقد وردت المادة بأكثر من عشرين صيغة وكلّها تدلّ على المعنى اللغوي للصلاة ، فمثلاً كلمة « سبحان » التي هي وردت أكثر من غيرها حيث وردت في (18) آية وافتتحت بها سورة الإسراء ، فقال تعالى :( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (2) ، قال ابن عباس في قوله سبحان الله : تنزيه الله نفسه عن السوء(3) .

إذن فكلمة « سبحان » تنزيه له تعالى من كلّ نقص ، ولا يجوز أن ينزّه به غيره من المخلوقين ، وهي كلمة تدل على نهاية التنزيه وغاية التقديس ، وهي وإن كانت مأخوذة من السبح : بمعنى الذهاب والإبعاد ، فهي بمعنى

____________

(1) الإتقان 1 / 145.

(2) الاسراء / 1.

(3) الإتقان 1 / 164.

١٧٩

أنزه الله تعالى عن النقائص وأبعده عن صفات المخلوقين ، وأجلّه عما وصفه به الكافرون ، وأفتراه عليه المكذبون الظالون ، فهي إذن دعاء بالتنزيه.

وكذلك كلمة « يسبّح » والتي وردت مكرراً وأفتتحت بها سورة الجمعة ، فقال تعالى :( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) (1) ، فمعنى التسبيح هو طلب الثناء والتقديس لذات الجلال والعظمة ، وهذا الطلب هو معنى الدعاء والذي يجري على اللسان بالمقال ، كذلك يجري بلسان الحال ،( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (2) .

أمّا الكلمة الثانية : « وكلّ سلطان في القرآن حجة » ، فإنّ كلمة « سلطان » وردت مرفوعة ومنصوبة ومخفوظة في (35) آية كريمة ، وفي جميعها تتضمن معنى الحجة والبرهان وهي القوة في الغلبة ، سواء كانت مادية أو معنوية.

5 ـ قال السيوطي : « وأخرج بن أبي حاتم من طريق عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كلّ شيء في القرآن الدين فهو الحساب »(3) .

أقول : لقد وردت كلمة « الدين » من الدينونة في (62) موضعاً ، منها ما هو صريح بيوم الحساب ، ومنها ما هو ظاهر في المراد منه أيضاًَ ، ومنهما ما يشير إليه بلوازمه ، وكشواهد على ذلك نقرأ الآيات التالية :

قال سبحانه وتعالى :( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ

____________

(1) الجمعة / 1.

(2) الإسراء / 44.

(3) الإتقان 1 / 145.

١٨٠