موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٧

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 520

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 520
المشاهدات: 63788
تحميل: 3963


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 520 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63788 / تحميل: 3963
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 7

مؤلف:
العربية

كُنْتُمْ صَارِمِينَ ) (1) ، قال :( فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ) (2).

قال : وما التخافت يا بن عباس؟ قال : يتشاورون بعضهم بعضاً ، لكي لا يسمع أحد غيرهم.

فقال :( أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ) (3) وفي أنفسهم أن يصرموها ، ولا يعلمون ما قد حلّ بهم :( قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) (4) ، فحرم الله ذلك بذنب كان منهم ، ولم يظلمهم شيئاً عليه.

( قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ( إلى قوله ( يَتَلاَوَمُونَ ) (5) ، يلومون أنفسهم بما عزموا عليه( قَالُوا يَا وَيْلَنَا ) (6) إلى آخر الآيات »(7) .

ومن النماذج التي فيها كشف أيضاً وقد مرّ مكرراً برواية من غيره

ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير « حم السجدة » ، بسنده قال : « وقال المنهال ، عن سعيد ، قال : قال : قال رجل لابن عباس : إنّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ ، قال :( فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ) (8) ،( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ) (9) ،( يَكْتُمُونَ اللّهَ

____________

(1) القلم / (21) ـ 22.

(2) القلم / 23.

(3) القلم / (24) ـ 25.

(4) القلم / (26) ـ 27.

(5) القلم / 30.

(6) القلم / (31) ـ 33.

(7) مستدرك الوسائل للنوري 7 / 97 ، تفسير القمي 2 / 381.

(8) المؤمنين / 101.

(9) الصافات / 27.

٤٤١

حَدِيثاً ) (1) ،( رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) ، فقد كتموا في هذه الآية.

وقال :( أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ـ إلى قوله ـدَحَاهَا ) (3) ، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال :( أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ـ إلى قوله ـطَائِعِينَ ) (4) ، فذكر في هذه خلق الأرض قبل السماء.

وقال :( وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ) (5) ،( عَزِيزاً حَكِيماً ) (6) ،( سَمِيعاً بَصِيراً ) (7) ، فكأّنّه كان ثم مضى.

فقال :( فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ ) (8) ، في النفخة الأولى ، ثم ينفخ في الصور( فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ) (9) ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة( أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ) (10) .

____________

(1) النساء / 42.

(2) الأنعام / 23.

(3) النازعات / (25) ـ 30.

(4) فصلت / (9) ـ 11.

(5) النساء / 96.

(6) النساء / 56.

(7) النساء / 58.

(8) الزمر / 68.

(9) الزمر / 68.

(10) الصافات / 27.

٤٤٢

وأمّا قوله :( مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (1) ،( وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) (2) فإنّ الله يغفر لأهل الأرض ذنوبهم ، وقال المشركون : تعالوا نقول لم نكن مشركين ، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرف أنّ الله لا يكتم حديثاً ، وعنده( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) (3) .

وخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء فسوّاهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله :( دَحَاهَا ) ، وقوله :( خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) ، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السموات في يومين ، وكان الله غفوراً سمّى نفسه ذلك ، وذلك قوله أي لم يزل كذلك ، فإنّ الله لم يرد شيئاً إلاّ أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن فإنّ كلاً من عند الله »(4) .

ومن تلك النماذج أيضاً :

ما أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه في ترجمة عرفة بن يزيد العبدي ، فقال : « أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن الحسن بن سليمان النخاس ، أخبرني أبو الحسن علي بن

____________

(1) الأنعام / 23.

(2) النساء / 42.

(3) النساء / 42.

(4) صحيح البخاري 6 / 127 ط بولاق.

٤٤٣

سليم بن إسحاق المقرئ ، حدثنا الحسن بن عرفة ، عن أبيه ، قال : حدثني عاصم بن سليمان الحذاء البصري ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال : والذي نفسي بيده لتفسرن لي آيات من كتاب الله عزوجل أو لأكفرن به.

فقال له ابن عباس : ويحك أنا لها اليوم ، أيّ آي؟

فقال : أخبرني عن قوله الله تعالى :( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا ) (1) ، وقال في آية أخرى :( وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ) (2) ، فكيف علموا وقد قالوا لا علم لنا؟

وأخبرني عن قول الله :( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) (3) ، وقال في آية أخرى :( لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (4) ، فكيف يختصمون وقد قال لا تختصموا لدي؟

وأخبرني عن قول الله تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) (5) ، فكيف شهدوا وقد ختم على الأفواه؟

فقال ابن عباس : ثكلتك أمّك يابن الأزرق ، إنّ للقيامة أحوالاً وأهوالاً وفظائع وزلازل ، فإذا شققت السماوات ، وتناثرت النجوم ، وذهب ضوء الشمس والقمر ، وذهلت الأمهات عن الأولاد ، وقذفت الحوامل ما في البطون ، وسجرت

____________

(1) المائدة / 109.

(2) القصص / 75.

(3) الزمر / 31.

(4) ق / 28.

(5) يس / 65.

٤٤٤

البحار ودكدكت الآكام ، ولم يلتفت والد إلى ولد ، ولا ولد إلى والد ، وجيء بالجنة تلوح فيها قباب الدر والياقوت حتى تنصب عن يمين العرش ، ثم جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام من حديد ، ممسك بكلّ زمان سبعون ألف ملك ، لها عينان زرقاوان ، تجر الشفة السفلى أربعين عاماً ، تخطر كما يخطر الفحل ، لو تركت لأتت على كلّ مؤمن وكافر ، ثم يؤتى بها تنصب عن يسار العرش ، فتستأذن ربها في السجود فيأذن لها ، فتحمده بمحامد لم يسمع الخلائق بمثلها ، تقول : لك الحمد إلهي إذ جعلتني أنتقم من أعدائك ، ولم تجعل شيئاً ممّا خلقت تنتقم به منّي إلاّ أهلي ، فلهي أعرف بأهلها من الطير بالحب على وجه الأرض ، حتى إذا كانت من الموقف على مسيرة مائة عام وهو قول الله تعالى :( إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ) (1) ، زفرت زفرة فلا يبقى ملك مقرب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا صدّيق منتجب ، ولا شهيد ما هنالك ، إلاّ خرّ جاثياً على ركبتيه.

قال : ثم تزفر الثانية زفرة فلا يبقى قطرة من الدموع إلاّ بدرت ، فلو كان لكلّ آدمي يومئذ عمل اثنين وسبعين نبيّاً لظنّ أن سيواقعها.

قال : ثم تزفر الثالثة زفرة فتتقلع القلوب من أماكنها فتصير بين اللهوات والحناجر ، ويعلو سواد العيون بياضها ، ينادي كلّ آدمي يومئذ ياربّ نفسي نفسي لا أسألك غيرها ، حتى إنّ إبراهيم ليتعلق بساق العرش ينادي ياربّ نفسي نفسي لا أسألك غيرها ، ونبيّكم صلى الله عليه « وآله » وسلم يقول : يا ربّ أمتي أمتي لا همة له غيركم.

قال : فعند ذلك يدعى بالأنبياء والرسل فيقال لهم : ماذا أجبتم؟ قالوا : لا

____________

(1) الفرقان / 12.

٤٤٥

علم لنا ، طاشت الأحلام ، وذهلت العقول ، فإذا رجعت القلوب إلى أماكنها نزعنا من كلّ أمة شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم ، فعلموا أنّ الحق لله.

قال : وأمّا قوله تعالى :( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) (1) ، فهذا وهم بالموقف يختصمون فيؤخذ للمظلوم من الظالم ، وللمملوك من المالك ، وللضعيف من الشديد ، وللجّماء من القرناء ، حتى يؤدي إلى كلّ ذي حق حقه ، فإذا أدى إلى كلّ ذي حق حقه أمر بأهل الجنّة إلى الجنّة ، وأهل النار إلى النار ، فلمّا أمر بأهل النار إلى النار اختصموا فقالوا :( رَبَّنَا هَ *ؤُلاء أَضَلُّونَا ) (2) ،( رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ) (3) ، قال : فيقول الله تعالى :( لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ) (4) ، إنّما الخصومة بالموقف وقد قضيت بينكم بالموقف فلا تختصموا لدي.

قال : وأمّا قوله عزوجل :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) (5) ، فهذا يوم القيامة حيث يرى الكفار ما يعطى الله أهل التوحيد من الفضائل والخير ، يقولون : تعالوا حتى نحلف بالله ما كنا مشركين ، قال : فتتكلم الأيدي بخلاف ما قالت الألسن وتشهد الأرجل تصديقاً للأيدي ، قال : ثم يأذن الله للأفواه فتنطق ، فقالوا :( لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ـ؟ ـقَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (6) ، يعني جوراحهم »(7) .

____________

(1) الزمر / 31.

(2) الأعراف / 38.

(3) ص / 61.

(4) ق / 28.

(5) يس / 65.

(6) فصلت / 21.

(7) تاريخ بغداد 12 / (303) ـ 304 ، الدر المنثور للسيوطي 2 / 345.

٤٤٦

آراؤه في بعض المعارف القرآنية

لقد وردت عنه روايات تتضمن بعض آرائه في مسائل تتعلق بالقرآن المجيد ، وقد كان مجلّياً فيها ، ولا غرابة بعد أن كان تلقّيه علوم القرآن من معلّمه الأوّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم من بعده من ابن عمه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان مصلّياً فيها ، إذ هو مع القرآن والقرآن معه ، وقد بقيت آثار ابن عباس حيّة من خلال كتب تلامذته الذين دوّنوا آراءه ، ووصلت جملة منها إلى بعض علماء القرن الخامس للهجرى ، فكانت مصادرهم في ذلك المضمار.

وأمّا المسائل المبحوث عنها فهي :

الأولى : مسألة العام والخاص.

الثانية : مسألة الناسخ والمنسوخ.

الثالثة : مسألة المحكم والمتشابه.

الرابعة : مسألة الكناية والمَثل.

الخامسة : مسألة علوم اللغة العربية.

ولمّا كان البحث فيها يستدعي بيانها الرجوع إلى المأثور عن ابن عباس في كلّ واحدة منها ، لنرى مدى إحاطته بها وإصابته فيها ، وهل كان مجلّياً كما نراه على غير غلّو فيه؟ فلنقرأ بعض ما تيّسر لنا عن كلّ واحدة

٤٤٧

منها ، دون الإستكثار من شواهدها.

المسألة الأولى : في العام والخاص

هذه مسألة صارت من مسائل علم الأصول الذي هو متأخر زمان وضعه عن عصر ابن عباس ، ولو أردنا البحث عن جذور بداياتها لوجدنا ثمة اختلافاً كثيراً وكبيراً.

فأحمد بن حنبل « ت 256 هـ » يقول : « لم يكن يعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي ».

وقال الجويني في شرح الرسالة للشافعي : « لم يسبق الشافعي أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها ، وقد حكي عن ابن عباس تخصيص عموم »(1) .

وقد أعتمد هذه الحكاية عن ابن عباس بعض الباحثين المتأخرين ، فقال : « وهو واضع فكرة الخاص والعام »(2) ، وهذا وهم منه وممن ذهب إلى هذا ، فإنّ ابن عباس لم يكن مخترعاً لتلك الفكرة كما سيأتي بيان ذلك.

وقد ذهب الجاحظ وهو يتحدّث عن واصل بن عطاء « ت131 هـ » وهو شيخ المعتزلة الأول وقديمها كما يصفه المسعودي(3) ، فقال : « وهو أوّل من قال أنّ الخبر خبران خاص وعام ، فلو جاز أن يكون العام خاصاً ، جاز أن يكون الخاص عاماً ، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون البعض كلاًّ والكلّ بعضاً ،

____________

(1) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية لمصطفى عبد الرازق / 234 ط القاهرة 1363 هـ.

(2) مناهج البحث عند مفكري الإسلام للدكتور علي سامي النشار 2 / 66 ط دار المعارف بمصر 1965 م.

(3) مروج الذهب 3 / 54.

٤٤٨

والأثر خبراً والخبر أثراً » (1).

أمّا الشيعة الإمامية فلديهم دعوى تدحر جميع ما تقدم ، بدلالة ما ذكروه عن الإمام الباقر وابنه الإمام الصادق عليهما السلام من روايات أنّهما أمليا قواعد أصولية على أصحابهما ، ومنهم هشام بن الحكم الذي صنّف كتاب الألفاظ ومباحثها وهو أهمّ مباحث علم الأصول(2) ، ومسألة العام والخاص من ذلك ، ولا شك بأنّ هشام بن الحكم متقدم على الشافعي زماناً ، فهو إذن له فضل السبق في ذلك.

ولا أريد الإفاضة في هذا البحث ، ولنعد إلى صلب الموضوع ، فنقول :

إنّ ابن عباس كان عالماً بالعام والخاص ، وقد تلقى ذلك عن أهل بيته الذين هم أوعية العلم النبوي ، ولعلّ أوّل ما طرق سمعه حول هذا الموضوع وهو في حداثة سنّه ، ما رواه من خطبة الصدّيقة فاطمة الزهرا عليها السلام التي خاطبت بها أبا بكر والمهاجرين والأنصار في مطالبتها بميراثها بعد أن منعها من ذلك أبو بكر ، فقالت له : « فزعمتم أن لاحظ لي ولا إرث من أبي؟ أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها ، أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثون! أو لست وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم بخصوص القرآن وعمومه أعلم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم »(3) .

____________

(1) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام للدكتور علي سامي النشار 1 / (452) ـ 453 ط الرابعة دار المعارف 1966 م.

(2) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام للسيد حسن الصدر / 310.

(3) نهاية التحقيق فيما جرى في أمر فدك للصديقة والصدّّيق بالنص والتوثيق / 174.

٤٤٩

وفي رواية ابن طيفور في « بلاغات النساء » : « هل أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم »(1) .

وقد روى ابن عباس هذه الخطبة عن العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام ، كما سمّاها هو بالعقيلة.

قال أبو الفرج الأصبهاني في « مقاتل الطالبيين » : « والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك. فقال : حدثتني عقيلتنا زينب بنت عليّ »(2) .

وروايته عن العقيلة زينب من باب رواية الأكابر عن الأصاغر ، لأنّه كان أكبر منها سنّاً ، وإن لم يكن كذلك شأناً ، فإنّ ولادته كانت قبل الهجرة بثلاث سنين فهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وهي يومئذ ابنت ست سنين ، ولا ضير في ذلك. على أنّ ابن عباس قد سمع بعد ذلك من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كلامه في العام والخاص ، لأنّ الإمام عليّ عليه السلام ذكر ذلك في بعض خطبه ، كما ورد في « نهج البلاغة » شذرات فيها ذكره العام والخاص.

ففي أوّل خطبة في النهج قال عليه السلام : « فقبضه ـ الله تعالى ـ إليه كريماً صلى الله عليه وآله وسلم ، وخلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها ، إذ لم يتركوهم هملا ، بغير طريق واضح ، ولا علم قائم ، كتاب ربكم فيكم ، مبيناً حلاله

____________

(1) بلاغات النساء / 211 ط مصر 1326 هـ 1908 م.

(2) مقاتل الطالبين / 95 تحقيق صقر ط مصر.

٤٥٠

وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدده ، ومحكمه ومتشابهه » (1).

وقوله عليه السلام وقد سئل عن أحاديث البدع ، فقال : « إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعامّاً وخاصاً ، ومحكماً ومتشابهاً » إلى أن قال : « وعرف الخاص والعام فوضع كلّ شيء موضعه وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهان : فكلام خاص وكلام عام ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه »(2) .

إلى غير ذلك ممّا لا شك في سماع ابن عباس كلاً أو بعضاً منه ، فهو إذن يعلم الخاص والعام بتعلمه من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، الذي كان يقول مفتخراً بذلك : « علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من علم الله ، وعلم عليّ عليه السلام من علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعلمي من علم عليّ ، وما علمي وعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في علم عليّ إلاّ كقطرة في سبعة أبحر »(3) .

وفي لفظ آخر : « علمي بالقرآن في علم عليّ كالقرارة في المثعنجر ، وفسر القرارة بالغدير الصغير والمثعنجر بالبحر »(4) .

____________

(1) شرح النهج محمد عبده 1 / (19) ـ 20 ط الاستقامة مصر.

(2) نهج البلاغة 2 / (214) ـ 216.

(3) ألف باء البلوي 1 / 222.

(4) النهاية لابن الأثير والفائق للزمخشري مادة ( قرر ).

٤٥١

ولا نطيل الكلام في المقام بعد أن عرفنا ابن عباس كان في قرباه من أهل البيت عليها السلام بحكم آية الخمس ، وعاش في كنفهم وتحت ظلهم ، فهو « من هذا الوجه يعرف العام والخاص ، وما هو من الأوامر حتم وما ليس بحتم ، وبه يفرق بين الناسخ والمنسوخ »(1) . ومصدر علمه هو الآثار التي سمعها من أهل بيت العصمة عليهم السلام من عليّ وفاطمة عليهما السلام كما مرّ ، إذن فهو متّبع وليس بمخترع على الصحيح في هذا المجال.

وإلى القارئ بعض ما يدل على معرفته بالعام والخاص معرفة تامة :

ففي ما ورد عنه في التفاسير عدّة شواهد ، مثلاً حين يذكرون قوله في تفسير الآية الكريمة :( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) (2) ، قال : « أي أهل طاعته لا الناس أجمعون ، وهذا من باب اطلاق اسم العام وإرادة به الخاص »(3) .

وفي تفسير قوله تعالى :( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ) (4) . أراد البعض من الكلّ ، قال ابن عباس : « لو كان إبراهيم قال : « فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم » ، لحجه اليهود والنصارى والناس كلّهم ، ولكنه قال :( أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (5) »(6) .

وفي قوله تعالى :( يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) (7) ، أي صالحة ، كما عن

____________

(1) مقدمتان في علوم القرآن / 56.

(2) البقرة / 116.

(3) البرهان للزركشي 2 / 271.

(4) إبراهيم / 37.

(5) إبراهيم / 37.

(6) تفسير الطبري 13 / 234.

(7) الكهف / 79.

٤٥٢

ابن عباس ، وهذا عام مخصوص (1) والشواهد كثيرة.

وأخيراً نذكر للقارئ ما يلحق بالمقام وإن سبق ذكره :

ما أخرجه البخاري في صحيحه في باب التفسير بسنده ، عن علقمة بن وقاص : « إنّ مروان قال لبوّابه : إذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كلّ أمرئ فرح بما أوتي وأحبّ أن يُحمد بما لم يفعل معذباً لنعذّبن أجمعون؟

فقال ابن عباس : وما لكم ولهذه ، إنّما دعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أن استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عباس :( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) (2) ،( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (3) .

وقيل : إنّ ذلك من باب عموم اللفظ أخص من السبب ، ونوقش في ذلك.

المسألة الثانية : مسألة الناسخ والمنسوخ

لقد وردت روايات كثيرة عن ابن عباس حول الناسخ والمنسوخ في الآيات الكريمة ، حتى كانت مادة غزيرة لعدّة كتب رواها تلامذته في

____________

(1) البرهان 3 / 156.

(2) آل عمران / 187.

(3) آل عمران / 188.

٤٥٣

كتبهم ، والتي وصلت نسخ منها إلى علماء القرن الخامس الهجري ، فاعتمدوها في تآليفهم.

ومهما تكن تلك الروايات ، فإنّها لا تخلو عن كونها أخبار آحاد ، وبعضها متناف مع بعض ، ويمكن تخريج صحتها على بعض الوجوه في معاني النسخ ، للتفاوت بين المعنى اللغوي والإصطلاحي الدلالي.

ومهما يكن فإنّ ابن عباس يعتبر من أوائل المتقدمين الذين استخدموا مصطلح الناسخ والمنسوخ ، ولا غرابة في هذا ، بعد أن كان مفسراً مجلّياً ، وهو يتلو في آيات القرآن( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (1) ، وقوله تعالى :( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ) (2) ، وقوله تعالى :( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (3) ، فمن كان على معرفة بهذه الآيات والمراد بها لا يستغرب منه لو قال فيها : « فأوّل ما نسخ من القرآن القبلة ، وقال :( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ) ، إلى قوله :( إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً ) (4) ، وذلك بأنّ الرجل كان إذا طلق أمرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك ، وقال :( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) (5) »(6) .

____________

(1) البقرة / 106.

(2) النحل / 101.

(3) الرعد / 39.

(4) البقرة / 228.

(5) البقرة / 229.

(6) سنن النسائي 6 / 212 كتاب الطلاق باب ما استثني من عدّة الطلاق ، وباب نسخ المراجعة.

٤٥٤

ولا غرابة لو ضحك فيما بكى منه ابن عمر ، فعن عبد الرزاق في تفسيره عن مجاهد ، قال : « كنت عند ابن عمر فقرأ :( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1) ، فبكى ، قال : فانطلقت حتى أتيت ابن عباس ، فقلت : يا أبا عباس كنت عند ابن عمر آنفاً فقرأ هذه الآية فبكى ، قال : أيّة آية؟ قال : قلت :( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2) ، قال : فضحك ابن عباس وقال : يرحم الله ابن عمر ، أو ما يدري فيما أنزلت وكيف أنزلت؟ إنّ هذه الآية حين أنزلت غمّت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غمّاً شديداً أوغاضتهم غيظاً شديداً ، وقالوا : يا رسول الله هلكنا ، إنّما كنا نؤخذ بما تكلّمنا ، فأمّا ما تعقل قلوبنا ليست بأيدينا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « قولوا سمعنا وأطعنا » ، فقالوا : سمعنا وأطعنا ، قال : فنسختها هذه الآية :( آمَنَ الرَّسُولُ ـ إلى قوله ـوَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) (3) ، قال : فتجوّز لهم من حديث النفس وأُخذوا بالأعمال »(4) .

____________

(1) البقرة / 284.

(2) البقرة / 284.

(3) البقرة / (285) ـ 286.

(4) تفسير عبد الرزاق 1 / 380.

٤٥٥

وللسيد الإستاذ المغفور له الخوئي في كتابه « البيان » إفاضة بيان عن معاني النسخ في اللغة فقال : « النسخ في اللغة : هو الإستكتاب ، كالإستنساخ والإنتساخ ، وبمعنى النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث والدهور ، وبمعنى الإزالة ، ومنه نسخت الشمس الظل ، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين ، فكانوا يطلقون على المخصص والمقيد لفظ الناسخ »(1) ، « وقد أطلق النسخ كثيرا على التخصيص في التفسير المنسوب إلى ابن عباس »(2) .

إلى أن قال قدس سره في بيان معنى النسخ في الإصطلاح : « هو رفع ثابت في الشريعة المقدسة بإرتفاع أمده وزمانه ، سواء كان ذلك المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية ، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع ، وهذا الأخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط »(3) .

وذكر إمكان النسخ في ثبوت الحكم في عالم التشريع والإنشاء ، وبيّن فساد الشبهة التي يتمسك بها أهل الكتاب في منع النسخ ، وذكر عدّة شواهد على وقوع النسخ في التوراة في كتب العهدين ، أمّا النسخ في الشريعة الإسلامية فقد ذكر منه أقسام النسخ الواقع في القرآن على ما جاء

____________

(1) البيان في تفسير القرآن / 295 ط الآداب.

(2) نفس المصدر في الهامش.

أقول : وستأتي شواهد على صحة ما ذهب إليه المغفور له سيدنا الإستاذ رحمة الله.

(3) البيان في تفسير القرآن / 295.

٤٥٦

في بعض الأخبار ، فذكرها على أنحاء ثلاثة ، وأنا أذكرها مع إفاضة مني :

1 ـ نسخ التلاوة دون الحكم ، ومثّلوا بما جاء عن عمر في حديث الفلتة المذكور في صحيح البخاري في باب رجم الحبلى ، حيث قرأ عمر « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة » ، وهذا هو التحريف بعينه الموجب لنقص القرآن الكريم ، وهذا لا يثبت ما دام مستنده أخبار آحاد.

2 ـ نسخ التلاوة والحكم ، ومثّلوا له برواية عائشة في الرضاع المذكورة في صحيح مسلم(1) ، وهذا كسابقه في مستنده وحكمه.

3 ـ نسخ الحكم دون التلاوة ، وهذا هو المشهور بين العلماء والمفسرين ، وفيه صنّفوا كتباً باسم الناسخ والمنسوخ.

أقول : وقفت على خمسة من المطبوع منها وهي :

1 ـ كتاب « الناسخ والمنسوخ » لأبي جعفر النحاس المتوفي 338 هـ ، طبع لأوّل مرّة بمصر 1323 هـ.

2 ـ كتاب « الناسخ والمنسوخ » لأبي القاسم هبة الله ابن سلامة المتوفي 410 هـ ، طبع بهامش « أسباب النزول » للواحدي لأوّل مرّة 1315 هـ مطبعة هندية في غيط النوبي.

3 ـ كتاب « الناسخ والمنسوخ » لابن حزم الاندلسي المتوفى 456 هـ ، طبع بهامش « تفسير الجلالين » جزء الثاني من ص 95 إلى 152 ، طبعة ثالثة

____________

(1) صحيح مسلم 4 / 167.

٤٥٧

بمصر 1374 هـ وفيه غلط مطبعي كثير.

4 ـ كتاب « الناسخ والمنسوخ » للمظفر بن الحسين الفارسي المتوفى بعد 490 هـ ، وقد طبع ملحقاً بكتاب النحاس الآنف الذكر.

5 ـ كتاب « الناسخ والمنسوخ » لكمال الدين عبد الرحمن بن محمد العتائقي الحلي من علماء المائة الثامنة طبع الآداب 1390 هـ وعلق عليه عبد الهادي الفضلي.

وخيرها أوّلها ، وهو أوفاها ، وفيها من المنقول عن ابن عباس كثيراً ، حتى أنّ بعض تلامذته كتب كتباً في ذلك ، اعتمدها المتأخرون وصرّح بأسماء أربعة ، منهم : هبة الله بن سلامة ، فقال في خاتمة كتابه « الناسخ والمنسوخ » : « استخرجت هذه الجملة من كتب الناسخ والمنسوخ التي سمعت من الشيوخ المفسرين والمحدثين ، من كتاب الكلبي أبي صالح ـ ثم ساق سنده إلى روايته ـ عن أبي صالح عن ابن عباس. ومن كتاب مقاتل بن سليمان ـ وساق سنده ـ عن الضحاك عن ابن عباس. ومن كتاب عكرمة بن عامر ـ وساق سنده ـ عن عكرمة عن ابن عباس. ومن كتاب محمد بن سعيد العوفي ـ وساق سنده ـ عن عطية عن ابن عباس »(1) .

فهؤلاء الأربعة ذكرهم ابن سلامة وأخذ من كتبهم ، لأنّها وصلت إليه ، أمّا من لم تصل كتبهم إليه فلا نعلم عنهم شيئاً ، إذ لا شك في أنّ ابن عباس لم يكن قد

____________

(1) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة ، بهامش أسباب النزول للواحدي / (340) ـ 345.

٤٥٨

أختص هؤلاء الأربعة فقط بتلك المعلومات. وفي هذا دلالة محسوسة وملموسة على وصول آثار مدونة عن ابن عباس رضي الله عنه إلى القرن الخامس من خلال كتب أصحابه.

وسيأتي منا مزيد إيضاح حول هذا الموضوع في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.

وما قد روي في كتب الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس ينبئ عن مدى اهتمامه بالموضوع ، تبعاً للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ولهما قضايا مذكورة.

فلقد ذكر النحاس وابن حزم في كتابيهما « الناسخ والمنسوخ » كما ذكر غيرهما شاهداً عن مزيد إهتمام ابن عباس تبعاً لأمير المؤمنين عليه السلام بمعرفة الناسخ والمنسوخ : « إنّ الإمام دخل المسجد فإذا رجل يخوّف الناس ، فقال : ما هذا؟ قالوا رجل يذكّر الناس ، فقال : ليس برجل يذكّر الناس ، ولكنه يقول : أنا فلان بن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه : أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ فقال : لا ، قال : فأخرج من مسجدنا ولا تذكرّ فيه »(1) .

____________

(1) ذكر ابن سلامة هذا الخبر في كتابه ( الناسخ والمنسوخ / 5 ) بهامش أسباب النزول ، والمظفر بن الحسين الفارسي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ / 260 ) ملحقاً بكتاب النحاس ، وسمى الرجل عبد الرحمن بن داب وقال : كان صاحباً لأبي موسى الأشعري وقد تحلق الناس عليه يسألونه ، وهو يخلط الأمر بالنهي ، والإباحة بالحظر ، فقال له : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت ، أبو من أنت؟ فقال لهم : أبو يحيى ، فقال : أنت أبو أعرفوني ، وأخذ إذنه ففتلها وقال : لا تقص في مسجدنا بعدُ. وذكر ابن حزم في كتابه ( الناسخ والمنسوخ / 96 ) بهامش تفسير الجلالين ما يدل على لزوم اسم ( أعرفوني ) له ، وذكر المظفر في كتابه بسنده عن قتادة عن علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) أنه مرّّ بكعب الأحبار وهو يقص ، فقال له يا أبا اسحاق : أما أنه لا يقعد هذا المقعد إلا أمير أو مأمور ، فمكث أياماً ثم رجع فوجد كعب يقض على جماعته فمنهم مغشياً عليه ومنهم باكياً ، قال علي : يا أبا أسحاق ألم أنهك عن هذا المقعد ، أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : الله أعلم ، قال : هلكت وأهلكت.

٤٥٩

وفي خبر الضحاك بن مزاحم قال : « مرَّ ابن عباس بقاصّ يعظ فركله برجليه وقال : أتدري ما الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت ، وكان ابن عباس يقول : من لم يعرف الناسخ والمنسوخ خلط الحلال بالحرام »(1) .

ويبقى ابن عباس هو الأكثر والأشهر في رواية الناسخ والمنسوخ ، وإن كان بعض المرويّات عنه تجعل الناسخ يطلق على التخصيص كما مرّت الإشارة إليه وتأتي الشواهد على هذا ، وقد تجعل المحكم من الناسخ والمتشابه من المنسوخ كما سيأتي بيانه أيضاً في المسألة الثالثة.

ومع ذلك فكثرة المروي عنه في ذلك أدت إلى اضطراب عند الباحث في صحة النسبة ، لأنّه رويت عنه آراء مختلفة في النسخ في بعض الآيات وعدمه وذلك لإختلاف الروايات عنه ، ولبيان ذلك أذكر بعضاً من الشواهد :

فمن ذلك ما رواه ابن سلامة في كتابه « الناسخ والمنسوخ » بهامش « أسباب النزول » ، قال : « الآية الثالثة والعشرون من الآيات المنسوخة من سورة النساء قوله تعالى :( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً ) (2) ، وذلك أنّ مقيس بن أبي صبابة التميمي قتل قاتل أخيه بعد أخذ الدية ثم أرتد كافراً فلحق بمكة ، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية ، وأجمع المفسرون من الصحابة والتابعين على نسخ هذه الآية ، إلاّ عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر. فإنهما قالا : إنّها محكمة »(3) .

____________

(1) بصائر ذوي التميز للفيروز آبادي 1 / 123.

(2) النساء / 93.

(3) أسباب النزول / 141 ، هامش.

٤٦٠