موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٨

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 432

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 432
المشاهدات: 22967
تحميل: 4515


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22967 / تحميل: 4515
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 8

مؤلف:
العربية

قام إليه عليّ فوطئه ، فلمّا رأى الناس أنّ عليّاً قد وطئه قاموا فوطئوه ، فقال عليّ : أمسكوا أمسكوا حتى قتلوه ثم أمر به عليّ بالحرق بالنار )(1) .

وهذا الخبر لو صح فقد ذكر الإحراق بعد القتل ، فلا دلالة فيه على جواز الحرق للأحياء.

فبعد هذا كلّه فلنقرأ خبر الجارية مع عمر ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال :

( جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب فقالت : إنّ سيدي اتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجي ، فقال لها عمر : هل رأى عليك ذلك؟ قالت : لا ، قال : فاعترفت له بشيء؟ قالت : لا ، فقال عمر : عليَّ به ، فلمّا رأى عمر الرجل قال : أتعذب بعذاب الله؟ قال : يا أمير المؤمنين اتهمتها في نفسها ، قال : رأيت ذلك عليها؟ قال الرجل : لا ، قال : فاعترفت لك به؟ قال : لا ، قال : والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( لا يقاد للمملوك من مالكه ولا ولد من والده ) لأقدتها منك ، قال : فأبرزه فضربه مائة سوط ، ثم قال : اذهبي فأنت حرّة لوجه الله ، وأنت مولى الله ورسوله ، أشهد أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من حرّق بالنار أو مُثّل به فهو حرّ وهو مولى الله ورسوله ) ) ، قال في ( مجمع الزوائد ) : ( قلت : روى الترمذي بعضه ، رواه الطبراني في ( الأوسط ) وفيه عمر ابن عيسى القرشي ، وقد ذكره الذهبي في ( الميزان ) وذكر له هذا الحديث ولم يذكر فيه جرحاً وبيّض له ، وبقية رجاله وثّقوا )(2) .

أقول : فعلى هذا فالحديث صحيح وإن ذكره العقيلي في المسند الضعيف(3) .

____________________

(1) المحلى 11 / 190.

(2) مجمع الزوائد 6 / 288.

(3) المسند الضعيف للعقيلي / 329 رقم 583.

٤٠١

ماذا في التراث الشيعي عن التحريق؟

ـ روى الكليني في ( الكافي ) :

( عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن صالح بن سهل ، عن كردين ، عن رجل ، عن أبي عبد الله ، وأبي جعفر عليهما السلام ، قال : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزطّ(1) فسلّموا عليه وكلمّوه بلسانهم فردّ عليهم بلسانهم ، ثم قال لهم : إنّي لست كما قلتم أنا عبد الله مخلوق ، فأبوا عليه وقالوا : أنت هو ، فقال لهم : لئن لم تنتهوا وترجعوا عمّا قلتم فيَّ وتتوبوا إلى الله عزوجل لأقتلنكم ، فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا ، فأمر أن تحفر لهم آبار فحفرت ، ثم خرق بعضها إلى بعض ، ثم قذفهم ثم خمّر رؤوسها ثم ألهبت النار في بئر منها ليس فيها أحد منهم فدخل الدخان عليهم فيها فماتوا ) إهـ(2) .

وهذا رواه الصدوق في ( من لا يحضره الفقيه ) مرسلاً بتفاوت يسير وعقب عليه بقوله : ( قال مصنف هذا الكتابرحمه الله : إنّ الغلاة ـ لعنهم الله ـ يقولون : لو لم يكن عليّ ربّاً لما عذّبهم بالنار.

فيقال لهم : لو كان ربّا لما احتاج إلى حفر الآبار وخرق بعضها إلى

____________________

(1) الزط : بالضم والتشديد قوم سود من الهند وقيل جيل من الهند ( لسان العرب ).

(2) الكافي 2 / 311 ط حجرية و 7 / 259 ط دار الكتب الإسلامية. وأخرج ذلك الطوسي في اختيار الرجال للكشي / 109 بسند فيه انقطاع لجهالة الرجل كما في سند الكافي.

٤٠٢

بعض وتغطية رؤوسها ، ولكان يحدث ناراً في أجسادهم فتلهب بهم فتحرقهم ، ولكنه لمّا كان عبداً مخلوقاً حفر الآبار وفعل ما فعل حتى أقام حكم الله فيهم وقتلهم ، ولو كان من يعذّب بالنار ويقيم الحدّ بها ربّا لكان من عذّب بغير النار ليس برب ، وقد وجدنا الله تعالى عذّب قوماً بالغرق ، وآخرين بالريح وآخرين بالطوفان ، وآخرين بالجراد والقمّل والضفادع والدم ، وآخرين بحجارة من سجيل.

وإنّما عذّبهم أمير المؤمنين ( عليه الصلاة والسلام ) على قولهم بربوبيته بالنار دون غيرها لعلّة فيها حكمة بالغة : وهي أنّ الله تعالى ذكره حرّم النار على أهل توحيده ، فقال عليّ عليه السلام : لو كنتُ ربّكم ما أحرقتكم بالنار ، وقد قلتم بربوبيتي ، ولكنكم استوجبتم مني بظلمكم ضدّ ما استوجبه الموحدون من ربهم عزوجل ، وأنا قسيم ناره بإذنه ، فإن شئت عجلتها لكم ، وإن شئت أخّرتها ، فمأواكم النار هي مولاكم ـ أي هي أولى بكم ـ وبئس المصير ، ولستُ لكم بمولى.

وإنّما أقامهم أمير المؤمنين عليه السلام في قولهم بربوبيته مقام مَن عبد من دون الله عزوجل صنماً )(1) .

أقول : فهذا الخبر لو أغمضنا النظر عن انقطاع سنده بالرجل المجهول في رواية الكليني ، وبإرساله في رواية الصدوق ، فليس فيه تحريق ، وإنّما فيه التدخين ، كما ليس فيه ذكر لنقد ابن عباس كما مرّ في خبر أنس الذي رواه النسائي وأحمد ، مع أنّ الحادث كان بالبصرة ، ولا بدّ ـ لو صح الخبر ـ كان بمرأى من ابن عباس لأنّه يومئذ كان مع

____________________

(1) من لا يحضره الفقيه 3 / 90 ط دار الكتب الإسلامية النجف.

٤٠٣

الإمام عليه السلام فلا يحتاج إلى مبلّغ يبلّغه الخبر كما في رواية النسائي وأحمد عن قتادة ، عن أنس.

على أنّ الراويين قتادة وأنس ليسا من النزاهة حتى لا يتهمان في مثل ذلك ، خصوصاً أنس الذي كتم شهادته حين استنشده الإمام عليه السلام عن حديث الغدير فلم يشهد فدعا عليه فبرص ، وحديثه مذكور في ( أمالي ) الصدوق(1) ، وموقفه من الإمام عليه السلام لم يكن سليماً ولا ودّياً ، ويكفي القارئ مراجعة حديث الطائر المشُوّي.

وأمّا قتادة فهو ابن دعامة السدوسي البصري كان يقول بالقدر وكان من المدلّسين(2) ، وقال الزاهدي في ترجمته في ( تحقيق الغاية بترتيب الرواة المترجم لهم في نصب الراية ) : قال الشيخ في الإمام : إمام في التدليس ، وقال الدارقطني : مدلّس(3) .

فالخبر برمته لم يصح سنداً ولم يسلم متنه من المناقشة.

ـ والآن إلى الخبر الآخر الذي رواه الكليني أيضاً في ( الكافي ) : ( عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله ، قال : أتى قوم أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا : السلام عليك يا ربنا ، فاستتابهم فلم يتوبوا فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها ناراً ، وحفر حفيرة أخرى إلى جانبها وأفضى بينهما ، فلمّا لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة ، وأوقد في الحفيرة الأخرى حتى ماتوا )(4) .

____________________

(1) الأمالي للصدوق ، الحديث الثالث من المجلس94.

(2) أنظر ميزان الاعتدال للذهبي 3 / 385 ، وتهذيب التهذيب 8 / 315.

(3) تحقيق الغاية بترتيب الرواة / 309.

(4) الكافي 7 / 257 ط دار الكتب الإسلامية.

٤٠٤

ـ وكرر الكليني رواية ذلك مرّة أخرى بسنده إلى ابن أبي عمير وإلى آخر السند والمتن(1) .

ورواه الطوسي في ( التهذيب والإستبصار ) بنفس السند المارُ ذكره عن علي بن إبراهيم عند الكليني(2) .

فهذا الخبر لم يرد فيه أيّ ذكر لابن عباس لا تصريحاً ولا تلويحاً ، فلا نقف عنده طويلاً.

ـ وثمة خبر آخر رواه موسى بن بكر ، عن الفضيل بن يسار ، عن أبي عبد الله عليه السلام : أنّ رجلين من المسلمين كانا في الكوفة ، فأتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام فشهد أنّه رآهما يصليان لصنم ، فقال له : ويحك لعلّه بعض من تشبّه عليك ، فأرسل رجلاً فنظر إليهما وهما يصليان لصنم ، فأتي بهما ، فقال لهما : ارجعا فأبيا ، فخدّ لهما في الأرض أخدوداً وأجج فيه ناراً فطرحهما فيه.

وهذا رواه الصدوق في ( من لا يحضره الفقيه )(3) ، والطوسي في ( التهذيب )(4) ، وهو كما ترى ليس فيه أيّ ذكر لابن عباس لا من قريب ولا من بعيد.

ـ وأخيراً خبر حرق عبد الله بن سبأ رواه الكشي كما في ( إختيار معرفة الرجال ) للطوسي : ( حدثني محمد بن قولويه القمي ، قال : حدثني سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمي ، قال : حدثني محمد بن عثمان العبدي ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن سنان ، قال : حدثني أبي ، عن أبي

____________________

(1) نفس المصدر 7 / 258.

(2) التهذيب 10 / 138 ، الاستبصار 4 / 254.

(3) من لا يحضره الفقيه 4 / 91.

(4) التهذيب 10 / 140.

٤٠٥

جعفر عليه السلام : أنّ عبد الله بن سبأ كان يدعى النبوّة ويزعم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الله ( تعالى عن ذلك ). فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فدعاه وسأله؟ فأقرّ بذلك وقال : نعم أنت هو ، وقد كان ألقي في روعي أنّك أنت الله وأنّي نبيّ. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب ، فأبى ، فحبسه واستتابه فلم يتب ، فأحرقه بالنار ، وقال : إنّ الشيطان استهواه ، فكان يأتيه ويلقى في روعه ذلك )(1) .

وهذا الخبر مع الإغماض عن سنده لضعف بعض رواته فليس فيه أيّ ذكر لابن عباس ، فلاحظ.

ثم روى الكشي بعده خبراً آخر فقال : ( حدثني محمد بن قولويه ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا يعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ وما ادعى من الربوبية في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، فقال : أنّه لمّا ادعى ذلك فيه ، استتابه أمير المؤمنين عليه السلام فأبي أن يتوب فأحرقه بالنار )(2) .

فهذا الخبر أيضاً كسابقه ليس فيه أيضاً أي ذكر لابن عباس. إذاً من أين أتي الرجل بتلك الطامة؟

يؤتى المرء من مأمنه

لقد مرّ ما في التراث السني عند البخاري وغيره ، فوجدنا روايتهم كلّها تنتهي إلى أيوب ، عن عكرمة! ولابد لنا من تعريف القارئ

____________________

(1) إختيار معرفة الرجال / 106 ـ 107 تح المصطفوي.

(2) نفس المصدر.

٤٠٦

بعكرمة ما دام هو أصل الأكذوبة.

فنقول : هو غلام لحصين بن أبي الحرّ العنبري ، فوهبه لابن عباس ، فجهد في تثقيفه حتى كان يضع الكبل في رجليه على تعليم القرآن ، لكنه لم يثقف من إعوجاج قناته ، فبقي على قبح ذاته ، فأساء جزاء مولاه بعد موته ، فصار يكذب عليه حتى ضرب المثل به في كذب الموالي على ساداتهم.

فقال ابن عمر لمولاه نافع : ( اتقي الله ويحك لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس ، كما أحل الصرف وأسلم ابنه صيرفياً )(1) .

وقال سعيد بن المسيب لمولاه برد : ( يا برد لا تكذب عليَّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس )(2) .

وقيل لسعيد : أنّ عكرمة يزعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ، فقال : ( كذب مخبثان )(3) .

ودعا عليه ابن سيرين فقال : ( أسأل الله أنّ يميته ويريحنا منه )(4) .

وكان مالك ـ إمام المالكية ـ لا يرى عكرمة ثقة ، ويأمر أن لا يؤخذ عنه ، وقال : ( لا أرى لأحد أن يقبل حديثه )(5) .

ولكذبه على مولاه ابن عباس قيّده علي بن عبد الله على باب الكنيف ( الحش )(6) ، فعيب عليه ، فقال : يكذب على أبي(7) .

____________________

(1) سير أعلام النبلاء 5 / 102 ط دار الفكر.

(2) طبقات ابن سعد 5 / 100ط ليدن أفست ، سير أعلام النبلاء 5 / 102 ط دار الفكر.

(3) سير أعلام النبلاء 5 / 102 ط دار الفكر ، ( مخبثان ) وهي صيغة مبالغة في الخبيث ( اللسان ).

(4) سير أعلام النبلاء 5 / 513 ط دار الفكر.

(5) نفس المصدر 5 / 514.

(6) نفس المصدر 5 / 512.

(7) ميزان الأعتدال في ترجمة عكرمة.

٤٠٧

وضاق به ذرعاً فباعه من خالد بن يزيد بن معاوية ، فعوتب على ذلك ، فاستقاله فأقاله ، فصار عكرمة مع الخوارج متردداً في ضلاله بين فرق النجدات والأباضية والصفرية والبيهسية ، وطاف البلاد شرقاً وغرباً يتسوّل الأمراء ، ويحدثهم بما يشاء كيف يشاء ، ( والخوارج الذين في المغرب عنه أخذوا )(1) .

وأخيراً رجع إلى المدينة فمات بها يوم مات الشاعر كثّير عزّة ، فشهد الناس جنازة كثير وتركوا جنازته(2) . فما حمله أحد وأكتروا أربعة حمّالين(3) .

فهذا هو عكرمة من مبدئه إلى منتهاه ، فهل يصحّ الأخذ برواياته فيما هو متهم فيه؟! إذ هو من الخوارج الذين يكفّرون عليّاً عليه السلام ومَن كان على ملّته ، مضافاً إلى كذبه الذي أشتهر به.

ونحن إنّما نأخذ أحياناً بروايات رواها عكرمة نحسبها عنه وذلك فيما لا يتهم به ، كما لو روى بعض فضائل الإمام عليه السلام فهو أبعد عن الكذب فيها وغير متهم بروايته ، ولكن لمّا تبيّن لنا أنّ ثمة عكرمة آخر من موالي ابن عباس لم يتهم بشيء ، فأحسن الظن أنّ الروايات المستقيمة مروية عن عكرمة هذا الآخر ، وقد بيّنت هذا في بحث ( تلاميذ ابن عباس ) ، فليراجع.

وفي هذه المسألة ـ تحريق الإمام لمن أحرق ونقد ابن عباس له في ذلك ـ رواها عكرمة الخارجي فهو متهم فيها ، إذ رمى عصفورين بحجر كما يقول المثل.

على أنّا نجد البيهقي يسوق خبراً في سننه الكبرى ( باب المنع من أحراق المشركين بالنار بعد الإءسار ) ، بسنده : ( عن سفيان ـ بن عيينة ـ

____________________

(1) سير أعلام النبلاء 5 / 510.

(2) نفس المصدر 5 / 519.

(3) نفس المصدر 5 / 520.

٤٠٨

قال : رأيت عمرو بن دينار وأيوب وعمار الدهني اجتمعوا فتذاكروا الذين حرقهم عليّ رضي الله عنه ، فحدث أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه أنّه بلغه قال : لو كنت أنا ما حرقتهم ، فقال عمار ـ الدهني ـ : لم يحرقهم ولكن حفر لهم حفائر وخرق بعضها إلى بعض ثم دخن عليهم حتى ماتوا ، فقال عمرو ـ بن دينار ـ قال الشاعر :

لترم بي المنايا حيث شاءت

إذا لم ترم بي في الحفرتين

إذا ما أجّجوا حطباً وناراً

هناك الموت نقداً غير دين

رواه البخاري في الصحيح عن علي بن عبد الله ، عن سفيان دون قول عمار وعمرو )(1) .

ومن حقنا أن نسأل : لماذا ترك البخاري قول عمار وعمرو؟ أليس في ذلك طمس الحقيقة وكشف عن سوء نية!

ومهما يكن فإنّ هذا الخبر يكشف لنا مجال إتهام عكرمة الخارجي البربري أو الراوي عنه أيوب حيث نفى التحريق عمار الدهني ، وأيّده عمرو بن دينار حين أنشد البيتين السابقين.

وأسوأ حالاً من الجميع هو ابن كثير في بدايته ونهايته ، حيث قال : ( وقد كان ابن عباس ينتقد على عليّ في بعض أحكامه فيرجع إليه عليّ في ذلك ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب ، عن عكرمة : أنّ عليّاً حرق ناساً ارتدوا عن الإسلام ، فبلغ ذلك ابن عباس ، فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم

____________________

(1) السنن الكبرى 9 / 71 باب المنع من أحراق المشركين بالنار.

٤٠٩

بالنار ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا تعذّبوا بعذاب الله ) ، بل كنت قاتلهم لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من بدّل دينه فاقتلوه ) ، فبلغ ذلك عليّاً ، فقال : ( ويح ابن عباس ـ وفي رواية ـ ويح ابن عباس أنّه لغواص على الهنات ).

وقد كافأه عليّ ، فإن ابن عباس كان يرى إباحة المتعة وأنّها باقية ، وتحليل الحمر الأنسية ، فقال عليّ : أنّك امرؤ تائه ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر ).

وهذا الحديث مخرّج في الصحيحين وغيرهما ، وله ألفاظ هذا من أحسنها والله سبحانه وتعالى أعلم ) ، انتهى الحديث(1) .

هكذا قال ابن كثير! وليته حين إحتاط في نقله أحسن ألفاظ الحديث ، كذلك إحتاط لنفسه في قوله : ( وقد كان ابن عباس ينتقد على عليّ في بعض أحكامه فيرجع إليه عليّ في ذلك ) (؟!).

وليته احتاط كذلك في قوله : ( وقد كافأه عليّ ) (؟!) فلا يرمي بقوارصه فيتجنى على كلّ من الإمام عليه السلام وابن عباس رضي الله عنه. حيث جعل الأوّل يرجع إلى الثاني في معرفة بعض أحكامه (؟!) حين جعل الثاني ينتقد على الأوّل حكمه في الزنادقة المرتدين والغلاة.

وليس بغريب ذلك من ابن كثير فهو من الناصبة!! والشيء من معدنه لا يستغرب ، وليس للنصب حدّ فهو شامي البلد وابن تيمية الثقافة.

وهو الذي لم يسلم منه حتى مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا بضعته الزهراء عليها السلام حيث نفى عصمتها!! وهي التي أناط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رضاها برضاه

____________________

(1) البداية والنهاية 8 / 300 ط السعادة بمصر.

٤١٠

وغضبه بغضبها(1) .

ونفي الأحاديث الصحيحة في فضائل الإمام عليه السلام كحديث المؤاخاة ، وأنّه أوّل من أسلم والتصدق بالخاتم ، وتبليغ براءة وحديث الطير ، وأنّه الساقي على الحوض إلى غير ذلك ممّا يكشف عن نصبه وعيبه.

وقد بلغ في كذبه مبلغاً أن جعل الإمام الحسن السبط الزكي عليه السلام هو الذي إبتدأ ( كتب إلى معاوية يسأله ويراسله في الصلح بينه وبينه )(2) .

فمن كان هكذا حسّه ودسه ، كيف يرجى منه أن يسلم مثل ابن عباس من قوارصه (؟!) حيث جعله ينتقد على الإمام عليه السلام حكمه ، ويحقد الإمام عليه فيكافأه ، وكأن المسألة مسألة نقد وتجريح ، وتحامل ونقد ، واضطغان وحقد!

إنّه لتصوير باهت خافت ، كيف يُصدّق ابن كثير في زعمه ، نقد ابن عباس للإمام عليه السلام في حكمه ، وهو الذي كان علمه من علمه كما مرّ آنفاً.

ألم يقل : ( إذا حدثنا الثقة بفتيا عن عليّ لم نتجاوزها )(3) .

ألم يقل : ( عليّ علّمني وكان علمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(4) .

ألم يكن هو الحريص على إتباع سنّة الإمام عليه السلام معلناً بذلك أيام معاوية ، فهو يجهر بولائه وإتبّاعه ، ولو كان ما رواه الخارجي البربري عكرمة في التحريق والتنقيد صحيحاً لردّ عليه معاوية أو أحد أتباعه بذلك ، ولم نقف على شيء من ذلك ولو لمرّة واحدة على كثرة مواقفه التي تحدث بها.

فقد روى النسائي في سننه ، والبيهقي في سننه الكبرى من طريق

____________________

(1) أنظر البداية والنهاية 5 / 249.

(2) نفس المصدر 8 / 17.

(3) طبقات ابن سعد 2 / ق2 / 100 ط ليدن والإستيعاب3 / 39.

(4) أمالي الشيخ الطوسي / 7 ط حجرية و 1 / 11 ط النعمان.

٤١١

سعيد بن جبير ، قال : ( كان ابن عباس بعرفة ، فقال : يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبّون؟ فقلت : يخافون معاوية.

فخرج ابن عباس من فسطاطه ، فقال : ( لبيكّ اللهم لبيكّ ) ، وإن رغم أنف معاوية ، اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض عليّ )(1) ـ وقد مرّت بعض آرائه الفقهية فكانت كلّها موافقه لفقه أهل البيت عليهم السلام ـ.

فعلق السندي في حاشيتة على سنن النسائي بقوله : ( من بغض عليّ ) ، أي لأجل بغضه ، أي لأجله ، وهو كان يتقيد بالسنن ، فهؤلاء تركوها بغضاً له.

ثم نقول : ما بال أصحاب الصحاح السنن وغيرهم من المحدثين والمؤرخين اعتمدوا رواية عكرمة الخارجي ـ مع انقطاعها ـ التي ذكرت التنقيد ، وأعرضوا عن رواية عمّار الدهني وعمرو بن دينار في تكذيبه ، وعنهم جميعاً روى ذلك سفيان (؟) أليس يعني ذلك هو نُصب مغلّف؟

وما بالهم تعاموا عن شرعية التحريق الذي وقع أيام أبي بكر منه ومن غيره بأمره ـ كما مرّت الإشارة إلى ذلك ـ فلم نسمع تنديداً من أحد إلاّ ما ذكروه عن عمر في حرق خالد لبني سليم ، وذلك إن صح فهو لما بين عمر وخالد من التباعد ، وإلاّ لماذا لم ينتقد عمر أبا بكر في حرقه الفجاءة؟ ولم ينتقد معاذ بن جبل في حرقه أناساً باليمن(2) ؟

ولماذا يذكر عن ابن عباس في كلّ تلك الحوادث المتعددة أيّ تنديد أو تنقيد؟ فأين غابت عنه روايته لحديثي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذين رواهما

____________________

(1) سنن النسائي 5 / 253 ، السنن الكبرى 5 / 113.

(2) فتح الباري 15 / 301.

٤١٢

بعد ذلك : ( لا تعذّبوا بعذاب الله )(1) ، و ( من بدّل دينه فأقتلوه )؟

فتبيّن لنا بعد هذا العرض والتحقيق ، ما صحّ عندنا في مسألة التحريق وما لفها ولحقها من التلفيق ، فلا تنديد ولا تنقيد.

قال السيد المدنى في ( الدرجات الرفيعة ) : ( ( ومن مناكير العامة ) ما رووه عن عكرمة أنّ عليّاً عليه السلام أحرق أناساً ارتدوا ، فبلغ ذلك ابن عباس ، فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار ، وانّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا تعذّبوا بعذاب الله ) ، ولقتلتهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) ، فبلغ ذلك عليّاً فقال : ( ويح ابن أم الفضل إنّه لغواص ) ، وندم على إحراقهم.

قال : شيخنا المفيد ( قدس الله روحه ) : وهذا من أظرف شيء سُمع وأعجبه! وذلك أنّ ابن عباس أحد تلامذته والآخذين العلم عنه ، وهو الذي كان يقول : ( كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلس بيننا كأحدنا ويداعبنا ويبسطنا ويقول والله ما ملأت طرفي منه قط هيبة له ) ، فكيف يجوز من مثل من وصفناه التقدم على أمير المؤمنين في الفتيا وإظهار الخلاف عليه في الدين ، لا سيما في الحال التي هو مظهر له فيه الإتباع والتعظيم والتبجيل ، وكيف ندم على إحراقهم وقد أحرق في آخر زمانه عليه السلام الأحد عشر الذين ادعوا فيه الربوبية ، أفتراه ندم على ندمه الأوّل؟ كلا ولكن الناصبة تتعلق بالهباء المنثور.

____________________

(1) بماذا يجيب علماء التبرير عن حريق عمر بيت رويشد الثقفي لأنه كان يبيع الخمر ، ( مواهب الجليل الحطاب الرعيني 7 / 267 ط دار الكتب العلمية بيروت ، وحاشية ابن عابدين رد المحتار 4 / 233 ط دار الفكر بيروت )؟

وبماذا يجيبون عن حرق خالد لرجل يوطأ كما توطأ المرأة وذلك بأمر أبي بكر وإشارة من الإمام عليه في ذلك ، ثم حرقهما ـ الفاعل والمفعول به ـ وحرق ابن الزبير في زمانه ، ثم حرقهما هشام بن عبد الملك ثم حرقهما القسري بالعراق. ( راجع المحلى 11 / 380 ـ 381 ).

٤١٣

وقال ابن أبي الحديد : وهل أخذ عبد الله بن عباس الفقه وتفسير القرآن إلاّ عنه عليه السلام )(1) .

وقال الشريف المرتضى في ( الفصول المختارة ) : ( ثم قال الجاحظ : وقال إبراهيم : وقد قضى يعني أمير المؤمنين عليه السلام في الحدّ بقضايا مختلفة ، وهذا تخرص منه لا خفاء به ، لأنّه لا يحفظ عنه في الحدّ إلاّ قول واحد ولم يختلف من أهل النقل عليه في ذلك اثنان ومن اعتمد على البهت هان أمره.

ثم قال إبراهيم : وندم ـ يعني أمير المؤمنين عليه السلام على إحراق المرتد بعد الذي كان من فتيا ابن عباس ، وهذا من أطرف شيء سمع وأعجبه ، وذلك أنّ ابن عباس أحد تلامذته ـ )(2) .

وأخيراً قرأت في كتاب ( داعية وليس نبياً ) للشيخ حسن بن فرحان المالكي ، قراءة نقدية لمذهب محمد بن عبد الوهاب في التكفير. فما يتعلق بالمقام أنقله بنصه لزيادة إطلاع القارئ على بُهت ابن عباس رضي الله عنه فيما نُسب إليه في نقده حكم الإمام عليه السلام في التحريق :

قراءة في كتاب عن ابن عبد الوهاب :

قال الشيخ حسن بن فرحان المالكي في كتابه ( داعية وليس نبيّاً قراءة نقدية لمذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التكفير )(3) :

( ولكن إنكاري لهذه البدع والخرافات وربما الشركيات في بعضها لا يجعلني

____________________

(1) الدرجات الرفيعة / 117 ط الحيدرية.

(2) الفصول المختارة / 214 ـ 215.

(3) داعية وليس نبياًً قراءة نقدية لمذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التكفير / 34 ـ 35. ط دار الرازي عمان الأردن سنة 1425 هـ.

٤١٤

أحكم على مرتكبها بالشرك والخروج من ملّة الإسلام سواءً كان جاهلاً أو عالماً لأّن الجاهل يمنعنا جهله من تكفيره ، والعالم يمنعنا تأويله من تكفيره أيضاً.

نعم ، قد يقال فلان ضال ، فلان مبتدع ، فلان منحرف فهذه التهمة على ما فيها من تعميم ظالم ، إلاّ أنّ خطره يسير ، إنّما أن نتجاوز ونقول : فلان كافر كفراً أكبر ، يخرجه عن ملّة الإسلام! فهذه عظيمة من العظائم التي تساهل فيها الشيخ وأتباعه ، ويترتب عليها أحكام ومظالم؛ فلا يجوز أن نتهم أحداً بالكفر إلاّ بدليل ظاهر لنا فيه من الله برهان؛ خاصة وأن الشيخ يريد بإطلاق الكفر ذلك ( الكفر الأكبر المخرج من الملّة )!! ـ كما سيأتي ـ.

فهذه نقطة من نقاط الإفتراق الكبرى ، وهي نقطة عظيمة بلا شك ، لكن لا يجوز لأحد أن يرتب على نقدي أو نقد غيري للتكفير تسويغاً لهؤلاء؛ الذين يعتقدون تلك الإعتقادات ، أو يمارسون تلك الخرافات ، عند قبور الأنبياء والصالحين والصحابة وغيرهم.

نعود ونقول : كان الشيخ يُواجَه من خصومه ، بأنّ من تقاتلهم وتكفرهم مسلمون يصلّون ويصومون ويحجون ، فكان الرد منه على هذه الشبهة ـ وهي شبهة قوية ـ حاضرة في ذهن الشيخ عند تأليفه الكتب أو كتابته الرسائل؛ فبالغ في تأكيده من باب ردة الفعل ، كما هو ظاهر في العبارة السابقة ، وتكرر عرضه لمحاسن كفار قريش وأصحاب مسيلمة(1)

____________________

(1) مسيلمة بن حبيب الحنفي المتنبئ الكذاب ، أدعى النبوة وانفصل بنجد عن جسد الدولة الإسلامية فقاتله الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وتم للمسلمين قتله وإعادة نجد لحظيرة الدولة الإسلامية ، وهناك فرق بين الردة الجماعية التي تستلزم انفصالاً عن الدولة المركزية فهذا يجب قتاله بالإجماع سواء كان كافراً مرتداً أو مسلماً باغياً ، وأما الردة الفردية ففيها

٤١٥

والمنافقين في عهد النبوة(1) والغلاة الذين قيل إنّ الإمام عليّاً حرقهم(2) ، فتكرر من الشيخ تفضيلهم على المسلمين في عصره من علماء وعامّة! حتى يبرهن أنّه لم يقاتل إلاّ أناساً أقلّ فضلاً من كفار قريش ومن المنافقين ومن أصحاب مسيلمة! وهذا خطأ بلا شك ، مع ما في مقارناته التي يكتبها بين هؤلاء وهؤلاء من أقيسة تهمل فوارق كبيرة ، فلذلك تجد إستهلاله السابق ينبئ عن قلقه من الشبهة القوية التي كان الخصوم يواجهونه بها.

____________________

تفصيل واختلاف ، هل يسجن أو يقتل أو يستتاب ثلاثة أيام أو يهمل كما أهمل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذين كفروا بعد إيمانهم في غزوة تبوك ، وأنزل الله فيهم :( لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) ( التوبة : 66 ) ، ومع ذلك لم يقتلهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما أميل إليه من أن الردة الفردية التي لا تستلزم إنفصالاً عن الأمة وتحيزاً بمكان أن جزاءهم اللوم والإهمال كما لام القرآن الكريم مرتدي تبوك وأهملهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم بنص القرآن استهزءوا بالله وآياته وكتبه ورسله ، وهذه من أبلغ الردة ، لكنها ردة فردية جزاؤها الإهمال لا القتل.

(1) المنافقون في عهد النبوة لم يقتلهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان لهم سائر حقوق الصحابة ، من فئ وغزو وتزاوج وتوارث ودفن في مقابر المسلمين الخ.

(2) ولم يصح تحريق علي لهم رغم شهرته على ألسنة أصحاب العقائد بناء على روايات ضعيفة أشهرها رواية عكرمة لحديث ابن عباس : ( من بدل دينه فاقتلوه ) ، وهو ضعيف رغم رواية البخاري له لأن أكثر أهل الحديث على تضعيف عكرمة ، هذا أولاً ، وأما ثانياً : فقصة التحريق التي جاءت في مناسبة الحديث بلغتهم بلاغاً فقد كانوا في البصرة والإمام علي في الكوفة ، فهي أضعف من الحديث ، لا سيما التيار السلفي من ذكر تحريق الإمام علي لغلاة الشيعة ـ على ضعفه ـ ورددوا الأبيات المنسوبة للإمام ( اشعلت ناري ودعوت قنبراً )! من باب ذم الشيعة بإمامهم! وحتى يؤكدوا لسلاطين المسلمين بأن جزاء الشيعة عند الإمام علي وأهل البيت هو الحرق بالنار لا غير! وهذه شنشنة المذاهب وتعصباتها ، فالإمام علي من أبعد الناس عن التحريق بالنار لا سيما وأنه من رواة حديث ( لا يعذب بالنار إلاّ ربّ النار ) ، نعم قد وردت روايات فيها نظر تدل على أنه قتل مرتدين كانوا يأخذون العطاء ويزعمون أنهم مسلمون ثم دخن عليهم في أخاديد فربما ظن الرائي أنه أحرقهم.

٤١٦

وكان الأولى أن تكون عبارته كالتالي : ( أوّلهم نوح عليه السلام الذي أرسله الله إلى قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام ، وعبادة الأصنام هذه كانت بدايتها غلو في الصالحين حتى وصل هذا الغلو ـ مع طول الأمد ـ للعبادة المحضة لغير الله ، فأنا أدعوكم بتجنب الغلو في الصالحين ، حتى لا تصلوا لما وصل إليه هؤلاء المغالون؛ فأنا أخشى أن يصل الأمر بكم أو بذريتكم إلى عبادة الصالحين كالبدوي وعبد القادر الجيلاني والشاذلي وغيرهم ).

أقول : لو كانت عبارة الشيخ هكذا أو نحوها لكان أصح وأفضل وأبعد عن الغلوّ المضاد أو إعساف الإستدلالات ، فتنبّه لهذا.

وقال أيضاً في كتابه المتقدم ص 70 ـ 71 : ( بل يمكن على هذا المنهج أن نكفر المغالين في الشيخ الذين لا يخطئونه ولا يقبلون نقده؛ الذين يحتجون بأنّه أعلم بالشرع وقد يردون حديثاً صحيحاً أو آية كريمة

وعلى هذا تأتي وتقول : هؤلاء رفعوا مقام الشيخ محمد إلى مقام النبوة أو الربوبية وعلى هذا فهم كفار مشركون ) الخ.

فهذا منهج خاطئ والمسائل العلمية لا تؤخذ بهذا التخاصم ، بل لها طرق معروفة عند المنصفين من عقلاء المسلمين والكفار.

وقال أيضاً : ( الملحوظة الخامسة والعشرون :

يقول ص 49 وكرر نحو هذا ص 58 : ( ويقال أيضاً الذين حرقهم عليّ بن أبي طالب بالنار كلّهم يدّعون الإسلام وهم من أصحاب عليّ وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في عليّ مثل الإعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما؟ فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم )؟!

٤١٧

أقول : الذين حرقهم عليّ ـ إن صح التحريق إبتداء(1) ـ هم مرتدون لا يدعون الإسلام كما ذكر الشيخ ، ولم يصح ما اشتهر في كتب العقائد من أنّهم كانوا يؤلهون عليّاً إنّما صح في البخاري أنّهم مرتدون أو

____________________

(1) قصة تحريقهم أحياء انفرد بها عكرمة مولى ابن عباس ولم يشهد القصة وإنما ذكر أن الخبر بلغ سيده ابن عباس بلاغاً فقال لو كنت أنا لقتلتهم لأن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من بدل دينه فاقتلوه ) والحديث في البخاري من طريقين عن عكرمة ولم يخرجه مسلم ، وقد رواه عكرمة بلاغاً ولم يكن بالكوفة وإنما كان بالبصرة مع مولاه ابن عباس ولعل الخبر وصلهم مشوهاً ، أما روايات شهود العيان فذكرت أن القوم مرتدون وأن عليّاًقتلهم ولم يحرقهم ثم بعد قتلهم خدّد لهم أخاديد وألقاهم فيها ودخن عليهم زيادة في التنكيل والترهيب من عملهم لأنهم لبثوا يأخذون عطاء المسلمين وهم مرتدون فترة من الزمن ، ولعل هذا التدخين عليهم هو الذي أوهم بعض المشاهدين أنه أحرقهم وإلا فالإمام علي نفسه من أحرص الناس ألا يعذب بالنار ، خاصة وأنه من رواة حديث ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) ولم يصح أن صحابياً حرق أحياء إلا ما كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه من تحريقه المرتد الفجاءة السلمي ـ علماً بأن الشيخ محمد يزعم أن الفجاءة هذا كان قائماً بأركان الإسلام!! ـ وكان الفجاءة قد قام بأعمال قبيحة في الردة ، وحرق خالد بن الوليد في الردة لكن خالداً رضي الله عنه ليس من أصحاب الصحبة الشرعية وهو صاحب مجازفات تبرأ من بعضها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته كما في قصة بني جذيمة ، ولا يعد خالد من المجتهدين ، إنما هو صاحب سيف وترس وليس صاحب علم وفقه رضي الله عنه وسامحه ، وقد توسعت في ذكر طرق أحاديث وروايات التحريق في الجزء الأول من ( النقض الكبير ) الذي هو رد على منهاج السنة لابن تيمية رحمه الله ، وأعد القارئ أنه سيكون نقضاً كبيراً كاسمه ، حافلاً ممتعاً ، مع اعدال وإنصاف إن شاء الله وأنا متفائل بأن المستقبل هو لهذا الوضوح والبحث عن المعرفة الذي فيه الإنصاف للمردود عليهم ، وفيه رفع الظلم عن المظلومين الذين ظلمتهم كتب العقائد المغالية المختلطة بالآراء الخارجية والناصبية.

أقول : ولم أعلم هل أُنجز ، الحسن فطبع كتابه ( ووعد الحر دين )؟ حقق الله الآمال بصدور كتابه ليتحفنا ببحوثه التي تستحق التقدير.

٤١٨

زنادقة ، ( اللفظان وردا في البخاري ) ، وإن صحت الروايات التي فيها أنّهم اعتقدوا في عليّ الألوهية ، فالحجة على الشيخ أعظم لأنّهم بهذا لا يدعون الإسلام ـ كما ذكر الشيخ ـ ، وإنّما جعلوا عليّاً إلهاً وهذا كفر بإجماع المسلمين وبالنصوص الشرعية.

ثم نرى الشيخ اختار أنّهم ( اعتقدوا في عليّ مثل إعتقاد الناس في شمسان )!! وهذا لم يرد مطلقاً ، بمعنى لم يرد في روايات الذين قيل أنّ الإمام عليّ حرقهم أنّهم ( يغلون فيه فقط ذلك الغلو المقترن بالإقرار بأركان الإسلام )!! وإنّما تركوا الإسلام كلّه ، فهل يريد الشيخ ، أن يوهمنا أنّ هؤلاء الذين قتلهم الإمام عليّ كهؤلاء الصوفية والعلماء ـ من الحنابلة ومن غيرهم ـ الذين يخلطون عباداتهم بنوع من الغلو والتوسل بالصالحين وما إلى ذلك؟!).

أقول : ويبقى ابن عباس مستهدفاً لأن يكذب عليه من لا حريجة له في الدين ، فيروي عنه فتاوى متنافية ، وقلّ أن يسلم له رأي فقهي من دون ما نجد له ما يخالفه مروياً عنه أيضاً ، وكأنّه أتخذه رواة السوء من الكذابين المدلسين ، ذريعة لتمرير أكاذيبهم ، وفي آرائه الفقهية بدءاً من أحكام الطهارة وإنتهاءاً بالحدود والديات ، حيث يجد الباحث كثرة المفتريات.

وليس هذا بضائر لابن عباس رضي الله عنه عند من عرف ألمعيته الفقهية التي تميز بها ، ورصانة إستدلاله في فتواه وفق ما جاء عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وله من نفاذ البصيرة نورٌ يستكشف به دخائلُ سائليه ، كما دلّت بعض النوادر المنقولة في هذا.

ولا ننسى ما مرّ بنا في الجزء الأوّل من هذه الحلقة في الفصل الأوّل من الباب الثاني من أقواله ، نحو قولهرضي الله عنه ( ما سألني رجلٌ عن مسألة إلاّ

٤١٩

عرفت أفقيهٌ هو أم غير فقيه )(1) ، ونحو قوله رضي الله عنه : ( ربما أنبأتكم بالشيء أنهاكم عنه أحتياطاً بكم وإشفاقاً على دينكم ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاه شاب يسأل عن القُبلة للصائم فنهاه عنها ، وسأله شيخاً عنها فأمره بها )(2) .

وممّا يعجب في المقام نقله ما رواه السيوطي في ( الدر المنثور ) في تفسير قوله تعالى :( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) (3) ، فقال :

( وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، عن يعقوب ، عن أبيه ، قال : أوصى لي رجل وأوصى ببدنة فأتيت ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقلت له : أنّ رجلاً أوصى إلي وأوصى إلي ببدنة فهل تجزي عني بقرة؟ قال : نعم ، ثم قال : ممن صاحبكم؟ فقلت : من بني رياح ، قال : ومتى تقتني ـ أقتنى ـ بنو رياح البقر إلى الإبل وهِمَ صاحبكم ، وإنّما البقر للأزد وعبد القيس )(4) .

ونحوه في تفسير ( روح المعاني ) للآلوسي ، في تفسير قوله تعالى :( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم ) (5) ، والشوكاني كذلك في تفسيره.

وهذا الخبر صار مدركاً لحكم شرعي اعتمده الأحناف في موسوعاتهم الفقهية.

ففي ( المبسوط ) للسرخسي في ( باب المساكنة ) فقال : ( وإن حلف لا يسكن بيتاً ولا نيّة له فسكن بيتاً من شعر أو فسطاطاً أو خيمةً لم يحنث إذا كان من أهل الأمصار ، وحنث إذا كان من أهل البادية ، لأنّ

____________________

(1) جامع بيان العلم لابن عبد البر1 / 139ط الثانية 1388 هـ.

(2) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 2 / 193.

(3) الأنفال / 2.

(4) الدر المنثور 6 / 50.

(5) الحج / 36.

٤٢٠