موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٨

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 432

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 432
المشاهدات: 22958
تحميل: 4515


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22958 / تحميل: 4515
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 8

مؤلف:
العربية

فالدليل ) ، ولمّا لم يأتوا بدليل ، فتبقى جميع مروّيات ابن عباس رضي الله عنه على كثرتها خاضعة لما ذكرته في الجزء الثاني من هذه الحلقة من موجز البيان في ( ميزان بلا عين ) ، فليراجع.

ولو أغمضنا النظر عن ذلك ، فإنّا نطالب الزاعمين بالرجوع إلى إعادة قراءة فاحصة في تاريخ حكم العباسيين الذي إستدام أكثر من خمسمائة سنة ، وهل كانت كلّ عصوره متماثلة في طبيعة الحكم ، ولئن ازدهرت في أيامها الأولى ، لم تكن في آخرياتها كذلك ، يوم خرج الحكم من أيديهم فصار الخلفاء أُسراء تحت رحمة البويهين والسلاجقة ، كما هو ثابت تاريخياً كذلك. فمن ذا يتقرب إليهم بوضع الأخبار في جدّهم؟

ـ ولنقرأ سراعاً بعض تاريخهم بدءاً من المنصور الدوانيقي ، وهو رجل الدولة العباسية الثاني بعد السفاح ومؤسس بنيانها ، وحتى أيام المأمون العباسي ، وإلى المتوكل ذلك الجبّار الناصبي العنيد ، فتلك هي الفترة التي نشطت فيها الحركات الفكرية المتصارعة ، فظهرت أئمة المذاهب الرسمية وغيرها ، وعاش فيها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن من العلماء ، فنجد فيهم من شايع السلطة ، ومنهم من أبى فنأى عن رحابها ، ( وكان من أثر ذلك أنّ جماعة من أعلام العلماء عذّبهم العباسيون لأنّهم أبوا أن يخضعوا لوجهة نظرهم ، والخضوع لسلطانهم كمالك وأبي حنيفة وسفيان الثوري )(1) .

____________________

(1) أنظر ضحى الإسلام 2 / 163.

٤١

وامتنع أبو حنيفة أن يتولى القضاء ، وقال للمنصور : ( لو هددتني أن تغرقني في الفرات أو أن أليَ الحكم لأخترت أن أغرق ، فلك حاشية يحتاجون على من يكرمهم لك ، فلا أصلح لذلك )(1) .

على أنّ أبا حنيفة لم يخل من مداجاة المنصور تقية ، فقد قال الربيع بن يونس : ( دخل أبو حنيفة رضي الله عنه على أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وعنده عيسى بن موسى ، فقال للمنصور : يا أمير المؤمنين هذا عالم الدنيا اليوم ، فقال له المنصور : يا نعمان ممّن أخذت العلم؟ فقال : عن أصحاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم ، وعن أصحاب عبد الله بن عباس رضي الله عنه وعنهم ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وما كان في وقت ابن عباس على وجه الأرض أعلم منه. فقال المنصور : لقد استوثقت لنفسك )(2) .

ولنأخذ بعض النماذج من كلام الفريقين لمعرفة ملامح المجتمع الفكري في ذلك الوقت ، من أيام المنصور ، ثم المهدي ، ثم الهادي ، ثم الرشيد ، ثم المأمون ، وهكذا ، معتمدين على أعلام المؤرخين كاليعقوبي في تاريخه ، والمسعودي في مروجه ، والقاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك ، ومراجعة سلسلة كتب أحمد أمين ، الذي استوقفنا بمزاعمه في الطريق بما قاله في ( فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام ) ، إنصافاً للجميع ، فإنّ من يذكر الخليفة الحاكم أو العالم يذكره بما له وما عليه ، وهذه سمة قلّ أن نجدها عند كثير من المؤرخين.

____________________

(1) تاريخ بغداد 13 / 308 بتوسط ضحى الإسلام 2 / 185.

(2) جامع المسانيد 1 / 31 ، الخيرات الحسان / 30.

٤٢

فلنبدأ من أيام المنصور الدوانيقي ، فهذا الرجل الذي أقلقه أمر بني الحسن عليهم السلام ، فجدّ في أمرهم حتى قضى عليهم قتلاً وحبساً وتشريداً ، لم يخف عليه حال علماء زمانه الذين أفتوا بتأييدهم علانية أو سراً.

فصار بعض أئمة المذاهب تناله طائلة العذاب ، فجُردّ مالك بن أنس ـ إمام المذهب المالكي ـ وضرب بالسياط ، لأنّه أتهم بتأييده ثورة محمد ذي النفس الزكية ، ولم يكن حقيقة الأمر كذلك ، بل لأنّه أفتى بعدم لزوم أيمان البيعة ، لأنّها على إكراه ، ولا يمين لمكره. ولكنه سرعان ما استهوته الدنيا فانصاع طائعاً وأذلّ نفسه ، واحتلّ مكان الصدارة في الفتيا ، حتى اشتهر الأمر الخليفي ( لا يفتين أحد بالمدينة ومالك حاضر ) ، وحظي بمباركة المنصور فكتب له كتاب ( الموطأ ) ، ويعتبر هذا أوّل تدوين رسمي للسنّة بمثابة قانون الدولة ، وأراد المنصور حمل الناس عليه بالإكراه.

فلنقرأ ما دار بين الحاكم والعالم نقلاً عن مصدر غير متهم عليهما ، وهو كتاب ( ترتيب المدارك في أصحاب مالك ) للقاضي عياض المالكي :

( قال المنصور لمالك : ضع لنا كتاباً أحملهم عليه ، أو قال : ضمّ هذا العلم ، أو أجعلوا العلم علماً واحداً ، وتجنّب شدائد ابن عمر ، ورُخَص ابن عباس ، وشواذ ابن مسعود ، وأقصد أواسط الأمور ، وما أجتمع عليه الصحابة.

فقال له مالك : إنّ أصحاب رسول الله تفرّقوا في البلاد ، وأفتى كلّ

٤٣

في مصره بما رأى ، وإنّ لأهل هذا البلد ـ يعني مكة حيث إجتمعا بها ـ قولاً ، ولأهل المدينة قولاً ، ولأهل العراق قولاً قد تعدّوا فيه طورهم ـ وهذا نحو تحريض عليهم حنقاً منه على أبي حنيفة وأصحابه.

فقال المنصور : أمّا أهل العراق فلست أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ، وإنّما العلم علم أهل المدينة ، فضع للناس العلم.

وقال مالك : إنّ أهل العراق لا يرضون علينا ، فقال المنصور : نضرب عامتهم بالسيف ، ونقطع ظهورهم بالسياط )(1) .

وبعد هذا المحاورة التي جرت بين الدوانيقي الحاكم بأمره وبين مالك المراوغ بعلمه ودينه ، وقد تم الإتفاق ، وكُتب الموطأ ، وهو أوّل تدوين رسمي أقرّته السلطة وباركت صاحبه ، ولست بصدد تقويمه إلاّ من ناحية فرض منهجيته فيما ينبغي أن يكتبه مالك كما أراده المنصور ( وتجنّب شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود ).

وبعملية حسابية إحصائية عاجلة لروايات ( الموطأ ) برواية ابن زياد عن مالك ( القطعة المطبوعة بتونس بتحقيق الشيخ محمد النيفر الشاذلي ) نجد روايات ابن عمر ( 23 ) ، وعن ابن عباس(7) ، وليس عن ابن مسعود شي!

أمّا ( الموطأ ) برواية يحيى بن يحيى الليثي التي اعتمدها ابن عبد البر في كتابيه ( التمهيد ، والإستذكار ) ، وقد اعتمدناها أيضاً ، وراجعنا

____________________

(1) ترتيب المدارك / 30 ـ 33.

٤٤

منها المطبوع مع ( تنوير الحوالك ) للسيوطي ط مصطفى محمد بمصر ، فكان بعد فحص ما فيه في كتاب الصلاة وما يتعلق بها فقط من الصفحة ( 11 ـ 173 ) من الجزء الأوّل في كتاب الجنائز ، فكانت حصيلة الإحصاء مذهلة ، فما ورد عن ابن عمر نيف على التسعين بثلاث ، وما عن ابن عباس لم يتجاوز ( 12 ) ، وعن ابن مسعود روايتان!

فما أدري كيف خالف مالك أمر المنصور في ابن عمر ( وتجنّب شدائد ابن عمر )؟ بينما أطاعه في ابن عباس وابن مسعود؟

والجواب نجده في ( ترتيب المدارك ) للقاضي عياض : ( قال أسامة ابن زيد : لمّا قدم أبو جعفر دخلنا مسلّمين عليه ، وأخذنا مجالسنا فبينما نحن كذلك إذ دخل مالك ، فقال له أبو جعفر : إلى ههنا يا أبا عبد الله ، ولو تركتم قول عليّ وابن عباس وأخذتم بقول ابن عمر )(1) .

وفي رواية ابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل ) عن مالك ـ ( قال : قدم علينا أبو جعفر أمير المؤمنين سنة خمسة ومائة فدخلت عليه ، فقال لي : يا مالك كثر شيبك؟ قلت : يا أمير المؤمنين من أتت عليه السنون كثر شيبه.

قال : يا مالك أراكَ تعتمد قول ابن عمر من بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت : يا أمير المؤمنين كان آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحتاج الناس فسألوه فتمسكوا بقوله.

فقال : يا مالك عليك بما علمت أنّه الحق عندك ، ولا تقولن عليّاً وابن عباس )(2) .

____________________

(1) نفس المصدر 2 / 212.

(2) الجرح والتعديل 1 / 30.

٤٥

وهذا العتاب الخفيف ربما أنبأ عن تأنيب مخيف. فإن لم يفصح به المنصور فقد أفصح عنه حفيده الرشيد بعد ذلك ، حين قال له : ( لم نر في كتابك ذكراً لعليّ وابن عباس؟ فقال : لم يكونا ببلدي ولم ألق رجالهما )!! وهذا من تافه الأعذار.

ولست أدري لماذا أحجم مالك عن جواب الرشيد بما أجاب به جدّه المنصور؟! ثم هو قد ذكر عليّاً عليه السلام وابن عباس ، وإن كان كلّ ما ذكره لو قسنا ما رواه عنهما معاً مع ما رواه عن ابن عمر ، لكان لافتاً للنظر ، فإنّه روى عن عليّ عليه السلام في الإحصائية السالفة خمس روايات بعضها بنحو البلاغ!

ومع ذلك فقد قدّم عليه ابن عمر ، كما في كتاب الحج ( الأضحية عمّا في بطن المرأة وذكر أيام الأضحى ) : عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنّه قال : الأضحى يومان بعد يوم الأضحى ، قال مالك : وبلغني عن عليّ بن أبي طالب مثل قول عبد الله هذا(1) .

وكان أشد نقد موّجه منه ـ من الشافعي لمالك ـ أنّه ترك قول ابن عباس في مسألة إلى قول عكرمة ، مع أنّ مالك كان يسيء القول في عكرمة ، ولا يرى لأحد أن يقبل حديثه!

قال الشافعي : ( والعجب أن يقول في عكرمة ما يقول ، ثم يحتاج

____________________

(1) الموطأ برواية ابن زياد / 120 ط تونس ، والموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي بشرح تنوير الحوالك للسيوطي2 / 487. وشرح الزرقاني على الموطأ 3 / 390 بتحقيق إبراهيم عطوه عوض.

٤٦

إلى شيء من علمه يوافق قوله فيسميه مرّة ويسكت عنه أخرى )(1) .

وهذا من مالك ليس بعجب ، بعد أن كان الرجل لا يحبّ عليّاً عليه السلام! بل ذكر مؤرخوه أنّه كان على غلّ في صدره! ولست متجنّياً عليه ، بل قال ذلك عنه حتى أصحاب الدراسات الحديثة كالشيخ محمد أبو زهرة في كتابه ( الإمام مالك )(2) ، والشيخ أمين الخولي في كتابه ( مالك بن أنس )(3) ، وغيرهما.

والآن بعد هذا العرض السريع لأوّل تدوين رسمي للسنة تمّ بمباركة خليفة عباسية ، وجدنا حضور ابن عمر مكثفاً أكثر من ذكر ابن عباس رغم الأمر الخليفي ( تجنب شدائد ابن عمر ) ، وهذا يعني ليس الأمر كما ظنّه غير واحد ، بأنّ ثمة مزايدات عباسية في تضخيم وتفخيم ابن عباس ، ليكون لآل العباس كما كان لآل البيت عليهم السلام من مكانة ، إنّها ظنون كاذبة ، وفروض طائشة ، تدفعها مرويات ابن عباس الكثيرة في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة عليهم السلام ، وقد تقدم ذكر بعضها في ( أسباب النزول في الجزء الثاني من هذه الحلقة ) ، ويأتي غيرها ، وهذه ليست في مصلحة الحاكمين من أبنائه ليتقرب إليهم بوضعها ، ولا يحتمل أنّهم أمروا بوضعها ، لأنّ ذلك بخلاف حجتهم في إستلاب الأمر من الأمويين ، وأنّهم هم أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد جرت عند شعراء العباسيين ذكر هذه الحجة ، ففي شعر مروان

____________________

(1) ضحى الإسلام 2 / 225 ، نقلاً عن مناقب الشافعي للفخر الرازي / 28.

(2) الإمام مالك لمحمد أبو زهرة / 53 ـ 54.

(3) مالك بن أنس لأمين الخولي / 337 ـ 338.

٤٧

ابن أبي حفصة ، وشعر ابن المعتز ما يغني عن الإطالة ، كما أنّ ردّ الشعراء من شيعة أهل البيت عليهم السلام على تلك الحجة وتبيان زيفها معلوم ومشهور ، وما قول الشريف الرضي إلاّ بعض ذلك :

ردّوا تـراث محمــد ردّوا

ليس القضيب لكم ولا البرد

هل عَرقّت فيكم كفاطمة

أمّ وهـل كمحمـدٌ جـدٌ(1)

ونعود إلى كثرة مرويات ابن عباس في الفضائل ، إن لم تكن مروية صحيحة عنه فمن وضعها على لسانه بعد أن عرفناها ليست مروية عن رجال العهد العباسي المتزلفين؟

واحتمال وضعها على لسانه ممن كان يكذب عليه في حياته مثل مولاه عكرمة البربري الخارجي بعيد غايته ، لأنّها على خلاف مذهبه ، وقد مرَّ ذكر مفارقته لمولاه ، ولمّا عاد قال عنه ابن عباس : ( قد جاء الخبيث ) ، وذكروا حبسه على باب الكنيف ، كلّ ذلك مرّ في ترجمته في تلاميذ ابن عباس ، وسيأتي في الحلقة الرابعة نماذج من أكاذيبه ، وليس فيها ما يحتمل أنّه واضع تلك الأخبار في فضائل الإمام وأهل بيته الكرام عليهم السلام ، وأنّه وضعها على لسان ابن عباس ، لأنّه من الخواج وعدواتهم للإمام عليه السلام معلومة.

أمّا احتمال وضع تلك الأخبار من بعض الشيعة وهم نسبوها إلى ابن عباس ، فهذا احتمال أوهى من بيت العنكبوت ، لعدّة جهات :

____________________

(1) ديوان الشريف الرضي / 167 ط مصر.

٤٨

فمنها أوّلاً : إنّ الشيعة في غنى عن سلوك مثل هذه السبُل المنحطة أخلاقياً ، فضلاً عن حرمتها ، وهم بما عندهم عن أئمتهم عليهم السلام في غنى عن الكذب ، وأتقى لله من أن يرتكبوا مثل هذا الفعل ، وإن رماهم من لا حريجة له في الدين بأنّهم كذلك يفعلون.

وحسبي في الردّ على هذا الإتهام الباطل ، قول محارب بن دثار ـ أحد قضاة وولاة خالد بن عبد الله القسري الناصبي في أيام ولايته على الكوفة ـ ( قال هانيء بن أيوب : سألت محارب بن دثار ، فقلت : ما تقول في غيبة الرافضة؟ قال : إنّهم إذاً لقومُ صدقٍ )(1) ، وهذا غير متهم عليهم ، لأنّه كان مرجئاً وله قصيدة في ذلك ، وكان يرفض شهادة من لا يتولى الشيخين.

وماداموا قومٌ صدّق ، فهم لا يكذبون إذن.

وأصرح من هذا قول الجوزجاني : ( كان قوم من أهل الكوفة لا تحمد مذاهبهم ـ يعني التشيع ـ هم رؤوس محدثي الكوفة ، مثل أبي إسحاق والأعمش ومنصور وزبيد وغيرهم من أقرانه ، احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث )(2) ، والجوزجاني هذا من النواصب غير متهم بممالاة أو محاباة للشيعة.

وممّا يوهي احتمال وضع الشيعة لأخبار الفضائل على لسان ابن عباس ، أنّها مروية في كتب العامة ، فكيف يتهم الشيعة بأنّهم وضعوها؟ ومَن قال بأنّها مدسوسة في المصادر السنية إذن فهو في حلّ حتى من

____________________

(1) أخبار القضاة لوكيع 3 / 292.

(2) تهذيب التهذيب لابن حجر 8 / 66 ـ 67 ط الهند حيدر آباد.

٤٩

الصحاح والمسانيد والسنن ، بل وكل التراث السني بأجمعه ، فليلقه في اليمّ ما دام احتمال اختراق الشيعة له بالدسّ فيه. وهذه مزاعم صبيانية لا يقولها إلاّ الأغبياء.

ونعود إلى حديثنا عن المنصور وما كان منه مع مالك في منهجية كتابه بأمره ، ولو أراد منه أن يذكر له جدّه ابن عباس بأكثر ممّا ذكر لأنعم طائعاً خاضعاً خانعاً ، وقد رأينا من المنصور ترخيصاً بعدم ذكر رُخَص ابن عباس فتمّسك به مالك.

فمالك بن أنس نموذج من الرعيل المسالم والراتع بالمغانم.

وثمة نموذج آخر من لون ، عزَّ نظيره فأعزه أميرُه ، مثل عمرو بن عبيد ، وقد جاء في ( مروج الذهب ) بعض أخبار المنصور معه ، نقطف منها هذا الخبر :

( وذكر إسحاق بن الفضل ، قال : بينما أنا على باب المنصور : إذا أتى عمرو بن عبيد فنزل عن حماره وجلس ، فخرج إليه الربيع ، فقال له : ( قم يا أبا عثمان بأبي أنت وأمي ) ، فلمّا دخل على المنصور أمر بأن تُفرش له لبود وقرّبه وأجلسه إليه بعد ما سلّم ، فقال : يا أبا عثمان عظني : فوعظه بمواعظ ، فلمّا أراد النهوض ، قال : قد أمرنا لك بعشرة الآف درهم ، قال : لا حاجة لي فيها ، قال أبو جعفر : والله لتأخذنها ، قال : لا والله لا أخذتها ، وكان المهدي حاضراً ، فقال : يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟

٥٠

فالتفت عمرو إلى المنصور ، فقال : مَن هذا الفتى؟ قال : هذا محمد ابني ، وهو المهدي وليّ عهدي.

قال : أما والله لقد ألبسته لباساً ما هو من لباس الأبرار ، ولقد سمّيته باسم ما أستحقه عملاً ، ولقد مهّدت له أمراً أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه.

ثم التفت عمرو إلى المهدي ، فقال : نعم يا بن أخي إذا حلف أبوك أحنثه عمك لأنّ أباك أقوى على الكفارات من عمك.

فقال له المنصور : ( هل لك من حاجة يا أبا عثمان ).

قال : لا تبعث إليَّ حتى آتيك.

قال : إذاً لا نلتقي.

قال : هي حاجتي ، ومضى فأتبعه المنصور بطرفه ، فقال :

كلّكم يمشي رويد

كلّكم يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد(1)

فكان عمرو بن عُبيد نموذجاً فاضلاً ورعاً ، فهل يعقل منه أو مَن هو مثله أن يتزلّف إلى المنصور بتفخيم وتضخيم مرويات ابن عباس لأنّه كان جدّ المنصور؟!

والآن إلى نموذج ثالث يختلف عن النموذجين الأولين مذهباً ومشرباً ، فهو شيعي وهما سنيّان ، وهذا هو الأعمش محدّث الكوفة.

____________________

(1) مروج الذهب 4 / 156 ـ 157 رقم 2418 تحقيق شارل بلا منشورات الشريف الرضي / بقم.

٥١

ذكره ابن حجر في تهذيبه فأطال في ترجمته ، فحكي أقوال المادحين له نحو قولهم : ( الأعمش يسمى المصحف لصدقه. وليس في المحدثين أثبت من الأعمش ، كان ثقة ثبتاً في الحديث ، وكان محدث الكوفة في زمانه ولم يكن له كتاب وكان رأساً في القرآن ، عالماً بالفرائض ، وكان لا يلحن حرفاً ، وكان فيه تشيّع ، قال عيسى بن يونس : لم نر مثل الأعمش ولا رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عند الأعمش مع فقره وحاجته ، وقال يحيى بن سعيد القطان : كان من النسّاك وهو علاّمة الإسلام مات 148 هـ وهو ابن 88 سنة ، وقال الخريبي : مات يوم مات وما خلّف أحداً من الناس أعبد منه )(1) .

هذا هو النموذج الثالث وقد أطلت ذكره لما سنقرأ من حديثه المعجب المغرب فيما جرى له مع المنصور الدوانيقي ، وقد أخرجه الحافظ ابن المغازلي المالكي ـ الشافعي ـ في مناقبه بعدّة أسانيد توثيقاً لما جاء في متنه ، وأنا أنقله عنه على طوله بلفظه ، وسأشير إلى مصادر أخرى ذكرت الحديث ، وأخيراً أختمه بنظم الصقر البصري للحديث نقلاً عن ( مناقب آل أبي طالب ) لابن شهر أشوب.

أمّا مصادر الحديث فهي :

1 ـ مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، تأليف الحافظ محمد بن سليمان الكوفي القاضي ، من أعلام القرن الرابع تح الشيخ محمد باقر المحمودي 2 / 491 ـ 498.

____________________

(1) تهذيب التهذيب 4 / 223.

٥٢

2 ـ بغية الطلب لابن العديم 8 / 3546 ، باقتضاب.

3 ـ شرح الأخبار ، للقاضي نعمان المصري 2 / 373 برقم 734.

4 ـ مناقب الخوارزمي ، لأخطب خوارزم / 200 ـ 208 ط الحيدرية.

5 ـ مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزمي أيضاً 1 / 111 ، باقتضاب.

6 ـ المقتبس ، للمرزباني.

7 ـ نور القبس ، المختصر من المقتبس ، للحافظ اليغموري / 251 ، باختصار.

8 ـ الحافظ الطبراني فيما كتبه إلى الشيخ الصدوق ابن بابويه ، كما في أماليه / المجلس67.

9 ـ تاريخ جرجان ، لحمزة السهمي ، رواه عن ابن عدي.

10 ـ بحار الأنوار ، للمجلسي 37 / 93.

11 ـ غاية المرام ، للسيد هاشم البحراني / 656.

فليستمتع القارئ بقراءة الحديث برواية الحافظ ابن المغازلي المالكي ـ الشافعي ـ نقلاً عن كتابه : ( مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السلام ) طبع المطبعة الإسلامية سنة 1394 هـ بتحقيق محمد باقر البهبودي ، قال :

حديث الأعمش والمنصور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ ـ الْحَمْدُ للّهِ ـ وسلام على عباده الذين اصطفى.

188 ـ أخبرنا أبو طالب محمّد بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن

٥٣

الأزهر الصيرفيّ البغداديُّ رحمه الله قدم علينا واسطاً ، حدَّثنا أبو بكر محمّد بن الحسن بن سليمان ، حدَّثنا عبد الله بن محمّد بن عبد الله العكبريُّ ، حدَّثنا أبو القاسم عبد الله بن عَتّاب العبديُّ ، حدَّثنا عُمَر بن شَبّة بن عَبيدة النُّمَيريُّ ، قال : حدَّثني المدائنيُّ ، قال : وجّه المنصور إلى الأعمش يدعوه.

قال : وحدَّثنا محمّد بن الحسن ، حدَّثنا عبد الله بن العُكبريُّ ، حدَّثنا عبد الله بن عتّاب بن محمّد ، حدثنا الحسن بن عرفة حدَّثنا أبو معاوية ، قال : حدَّثنا الأعمش قال : أرسل إليَّ المنصور

وحدَّثنا محمّد بن الحسن ، حدَّثنا عبد الله بن محمّد بن عبد الله [ العكبريُّ ، حدَّثنا عبد الله ] بن عتّاب بن محمّد العبديُّ ، حدَّثنا أحمد بن علي العَمَّي ، حدَّثنا إبراهيم بن الحكم ، قال : حدَّثنا سليمان بن سالم ، حدَّثني الأعمش ، قال : بعث إليَّ أبو جعفر المنصور ـ.

وقد دخل حديث بعضهم في بعض واللفظ لعمر بن شبَّة ، قال :

وجّه إليَّ المنصور ، فقلت للرسول : لما يريدني أمير المؤمنين؟ قال : لا أعلم ، فقلت : أبلغه أنّي آتيه ، ثم تفكّرت في نفسي ، فقلت : ما دعاني في هذا الوقت لخير ، ولكن عسى أن يسألني عن فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فإن أخبرته قتلني ، قال : فتطهّرت ولبست أكفاني وتحنَّطت ، ثمَّ كتبت وصيّتي ، ثمَّ صرت إليه ، فوجدت عنده عَمرو بن عُبيد فحمدت الله تعالى على ذلك ، وقلت : وجدت عنده عون صدق من أهل النصرة ، فقال لي أدن : يا سليمان! فدنوت.

٥٤

فلمّا قربت منه أقبلت على عمرو بن عبيد أسائله ، وفاح منّي ريح الحنوط ، فقال : يا سليمان ما هذه الرائحة؟ والله لتصدقنّي وإلاّ قتلتك ، فقلت : يا أمير المؤمنين أتاني رسولك في جوف الّليل ، فقلت في نفسي : ما بعث إليَّ أمير المؤمنين في هذه السّاعة إلاّ ليسألني عن فضائل عليّ ، فإن أخبرته قتلني ، فكتبت وصيّتي ولبست كفني وتحنَّطت ، فاستوى جالساً وهو يقول : لا حول ولا قوَّة إلاّ بالله العليِّ العظيم.

ثمَّ قال : أتدري يا سليمان ما اسمي؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : ما اسمي؟ قلت عبد الله الطويل(1) ابن محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطّلب ، قال : صدقت فأخبرني بالله وبقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كم رويتَ في عليّ من فضيلة من جميع الفقهاء وكم يكون؟ قلت : يسير يا أمير المؤمنين ، قال : على ذاك ، قلت : عشرة آلاف حديث وما زاد.

قال : فقال يا سليمان لأحدِّثنّك في فضائل عليِّ عليه السلام حديثين يأكلان كلَّ حديث رويته عن جميع الفقهاءِ ، فإن حلفت لي أن لا ترويهما لأحد من الشيعة حدَّثتك بهما ، فقلت : لا أحلِف ولا أخبر بهما أحداً منهم.

فقال : كنت هارباً من بني مروان وكنت أدور البلدان أتقرَّب إلى النّاس بحبِّ عليّ وفضائله ، وكانوا يؤونني ويطعمونني ويزوِّدونني ويكرِّموني ويحملوني ، حتّى وردت بلاد الشام ، وأهل الشام كلّما أصبحوا لعنوا عليّاً عليه السلام في مساجدهم ، لأنَّ كلّهم خوارج وأصحاب

____________________

(1) كان طويلاً مهيباً أسمر شذرات 1 / 244.

٥٥

معوية ، فدخلت مسجداً وفي نفسي منهم ما فيها ، فاقيمت الصلاة فصلّيت الظهر وعليَّ كساء خلق ، فلمّا سلّم الإمام ، أتّكأ على الحائط وأهل المسجد حضور فجلست ، فلم أر أحداً منهم يتكلّم توقيراً لإمامهم ، فإذا بصبيَّين قد دخلا المسجد ، فلمّا نظر إليهما الإمام ، قال : أدخلا مرحباً بكما ومرحباً بمن أسماكما بأسمائهما ، والله ما سمّيتكما بأسمائهما إلاّ بحبِّ محمّد وآل محمّد ، فإذا أحدهما يقال له الحسن والآخر الحسين.

فقلت فيما بيني وبين نفسي : قد أصبتُ اليوم حاجتي ، ولا قوة إلاّ بالله وكان شابٌّ إلى يميني فسألته : مَن هذا الشيخ؟ ومَن هذان الغلامان؟ فقال : الشيخ جدَّهما ، وليس في هذه المدينة أحد يحبُّ عليّاً عليه السلام غير هذا الشيخ ، ولذلك سمّاهما الحسن والحسين ، فقمت فرحاً وإنّي يومئذ لصارم لا أخاف الرجال ، فدنوت من الشيخ ، فقلت : هل لك في حديث أقرُّ به عينك؟ قال : ما أحوجني إلى ذلك ، وإن أقررت عيني أقررت عينك.

فقلت : حدَّثني أبي ، عن جدِّي ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال لي : مَن والدك؟ ومن جدُّك؟ فلمّا عرفت أنّه يريد أسماء الرجال ، فقلت : محمّد بن علي بن عبد الله بن العبّاس ، قال : كنّا مع النبِّي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فاطمة عليها السلام قد أقبلت تبكي ، فقال النبِّي صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما يبكيكِ يا فاطمة؟ ) قالت : يا أبتاه إنَّ الحسن والحسين قد عبرا أو قد ذهبا منذ اليوم ولا أدري أين هما؟ وإنَّ عليّاً يمشي على الدّالية منذ خمسة ايّام يسقي البستان وإنّي

٥٦

قد طلبتهما في منازلك فما حسست لهما أثراً ، وإذا أبو بكر عن يمينه ، فقال : يا أبا بكر! قم فأطلب قرَّتي عيني ، ثمَّ قال : يا عمر قم فاطلبهما ، يا سلمان يا أبا ذرّ يا فلان يا فلان ، قال : فأحصينا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين رجلاً بعثهم في طلبهما وحثَّهم فرجعوا ولم يصيبوهما.

فاغتمَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لذلك غمّاً شديداً ، ووقف على باب المسجد وهو يقول : ( بحقّ إبراهيم خليلك وبحقّ آدم صفيّك إن كانا ـ قرَّتي عيني وثمرتي فؤادي ـ أخذا براً أو بحراً فاحفظهما أو سلّمهما ) ، فإذا جبريل عليه السلام قد هبط فقال : يا رسول الله إنَّ الله يقرئك السّلام ويقول لك : لا تحزن ولا تغتمَّ! الصبيّان فاضلان في الدَّنيا فاضلان في الآخرة ، وهما في الجنّة وقد وكّلت بهما ملكاً يحفظهما إذا ناما وإذا قاما.

ففرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرحاً شديداً ومضى وجبريل عن يمينه والمسلمون حوله ، حتّى دخل حَظيرة بني النجّار فسلّم على ذلك الملك الموكّل بهما ، ثم جثا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على ركبتيه وإذا الحسن معانقاً للحسين وهما نائمان ، وذلك الملك قد جعل إحدى جناحيه تحتهما والآخر فوقهما ، وعلى كلِّ واحد منهما درّاعة من شعر أو صوف والمداد على شفتيهما ، فما زال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يلثمهما حتّى استيقظا ، فحمل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحسن ، وحمل جبريل الحسين ، وخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الحظيرة.

قال ابن عبّاس : وجدنا الحسن عن يمين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والحسين عن يساره وهو يقبّلهما ويقول : ( مَن أحبَّكما فقد أحبَّ رسول الله ومَن أبغضكما فقد أبغض رسول الله ).

٥٧

فقال أبو بكر : يا رسول الله اعطني أحدهما أحمله! فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( نعم المحمولة ونعم المطيّة تحتهما ) ، فلمّا أن صار إلى باب الحظيرة لقيه عمر فقال له مثل مقالة أبي بكر ، فردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ردَّ على أبي بكر ، فرأينا الحسن متشبثاً بثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متّكياً باليمين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووجدنا يد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على رأسه.

فدخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المسجد ، فقال : ( لأشرِّفنَّ ابنيَّ ـ اليوم ـ كما شرَّفهما الله ) ، فقال : يا بلال! عليَّ بالناس ، فنادى بهم ، فاجتمع النّاس ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( معشر أصحابي بلّغوا عن نبيّكم محمّد : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :

ألا أدلّكم اليوم على خير الناس جدّاً وجدّةً )؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( عليكم بالحسن والحسين فإنَّ جدَّهما محمّد رسول الله وجدَّتهما خديجة بنت خُويلد سيدة نساء أهل الجنّة ).

( هل أدلّكم على خير النّاس أباً وأُمّاً؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( عليكم بالحسن والحسين فإنَّ أباهما عليّ بن أبي طالب وهو خيرٌ منهما شابٌ يحبُّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، ذو المنفعة والمنقبة في الإسلام ، وأمهما فاطمة بنت رسول الله ـ صلّى الله عليه وعليها ـ سيّدة نساء أهل الجنّة ).

( معشر النَّاس ألا أدلّكم على خير النّاس عمّاً وعمّة؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( عليكم بالحسن والحسين ، فإنّ عمّهما جعفر ذو الجناحين يطير بهما في الجنان مع الملائكة ، وعمّتهما أم هانيءِ بنت

٥٨

أبي طالب ).

( معشر النَّاس ألا أدلّكم على خير النّاس خالاً وخالة؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( عليكم بالحسن والحسين فإنَّ خالهما القاسم بن رسول الله وخالتهما زينب بنت رسول الله ).

( ألا يا معشر النّاس أعلمكم أنّ جدَّهما في الجنّة وجدَّتهما في الجنَّة ، وأبوهما في الجنّة ، وأُمّهما في الجنّة ، وعمّهما في الجنّة ، وعمّتهما في الجنّة ، وخالهما في الجنّة ، وخالتهما في الجنّة ، وهما في الجنّة ، ومن أحبَّ ابني عليّ فهو معنا غداً في الجنَّة ، ومن أبغضهما فهو في النّار ، وإنَّ من كرامتهما على الله أنّه سماهما في التوراة شبَّراً وشبيِّراً )(1) .

فلمَّا سمع الشيخ الإمام هذا منّي ، قدَّمني وقال : هذه حالكَ وأنت تروي في عليّ هذا؟ فكساني خلعة وحملني على بغلة بعتها بمائة دينار ، ثمَّ قال لي : أدّلك على من يفعل بك خيراً ، هاهنا أخوان لي في هذه المدينة ، أحدهما كان إمام قوم وكان إذا أصبح لعن عليّاً ألف مرَّة كلَّ غداة وإنّه لعنه يوم الجمعة أربعة الآف مرّةً ، فغيّرَ الله ما به من نعمه فصار آية للسائلين ، فهو اليوم يحبّه ، وأخ لي يحبُّ عليّاً منذ خرج من بطن أمّه ، فقم إليه ولا تحتبس عنه.

والله يا سليمان لقد ركبت البغلة وإنّي يومئذ لجائع ، فقام معي الشيخ وأهل المسجد حتّى صرنا إلى الدار ، وقال الشيخ : أنظر لا تحتبس فدققت الباب وقد ذهب من كان معي ، فإذا شابَّ آدم قد خرج إليَّ فلمّا رآني

____________________

(1) ألا يكفي هذا الحديث في نسف مقولة العشرة المبشرة بالجنة؟.

٥٩

والبغلة ، قال : مرحباً بك ، والله ما كساك أبو فلان خلعته ولا حملك على بغلته إلاّ أنّك رجل تحبُّ الله ورسوله ، لئن أقررت عيني لأقرَّنَّ عينك.

والله يا سليمان إنّي لأنفس بهذا الحديث الذي يسمعه وتسمعه :

أخبرني أبي ، عن جدّي ، عن أبيه ، قال : كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلوساً بباب داره فإذا فاطمة قد أقبلت وهي حاملة الحسين وهي تبكي بكاء شديداً ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فتناول الحسين منها ، وقال لها : ( ما يبكيك يا فاطمة؟ ) قالت : يا أبه عيَّرتني نساء قريش وقلن : زوَّجكِ أبوكِ مُعدماً لا شيء له.

فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( مهلاً وإيّاكِ أن أسمع هذا منكِ ، فأنّي لم أزوِّجك حتّى زوَّجك الله من فوق عرشه ، وشهد على ذلك جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ، وإنَّ الله تعالى اطّلع إلى أهل الدُّنيا فاختار من الخلائق أباكِ فبعثه نبيّاً ، ثمَّ أطّلع الثانية فاختار من الخلائق عليّاً فأوحى إليَّ فزوَّجتكِ إيّاه ، وأتّخذته وصيّاً ووزيراً.

فعليّ أشجع النّاس قلباً ، وأعلم الناس علماً ، وأحلم النّاس حلماً ، وأقدم النّاس إسلاماً ، وأسمحهم كفّاً ، وأحسن النّاس خلقاً ، يا فاطمة إنّي آخذ لواء الحمد ومفاتيح الجنّة بيدي فأدفعها إلى عليّ ، فيكون آدم ومَن وَلَد تحت لوائه.

يا فاطمة إنّي غداً مقيم عليّاً على حوضي يسقي مَن عرف مِن أمّتي ـ يا فاطمةـ وابنيك الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة وكان قد سبق اسمهما في توراة موسى ، وكان اسمهما في الجنَّة شَبَّراً وشَبِّيراً فسمّاهما الحسن والحسين ، لكرامة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الله تعالى ، ولكرامتهما عليه.

٦٠