موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٨

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 432

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 432
المشاهدات: 22964
تحميل: 4515


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22964 / تحميل: 4515
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 8

مؤلف:
العربية

يا فاطمة يُكسى أبوكِ حلّتين من حلل الجنَّة ، ويكسى عليّ حُلّتين من حلل الجنّة ، ولواء الحمد في يدي ، وأمّتي تحت لواي ، فأناوله عليّاً لكرامته على الله تعالى ، وينادي مناد : يا محمّد نِعْم الجدُّ جدُّك إبراهيم. ونعم الأخ أخوك عليٌّ.

وإذا دعاني ربُّ العالمين دعا عليّاً معي ، وإذا جثوت جثا عليٌّ معي وإذا شفَّعني شفَّع عليّاً معي ، وإذا أجَبتُ أجيب عليّ معي ، وإنّه في المقام عوني على مفاتيح الجّنة ، قُومي يا فاطمة إنّ عليّاً وشيعته هم الفائزون غداً ).

وقال : بينما فاطمة جالسة إذ أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى جلس إليها ، فقال : ( يا فاطمة مالي أراك باكية حزينة؟ ) قالت : يا أبي وكيف لا أبكي وتريد أن تفارقني؟ فقال لها : ( يا فاطمة لا تبكينَ ولا تحزنينَ فلا بدَّ من مفارقتكِ ).

قال : فاشتدَّ بكاء فاطمة عليها السلام ثمَّ قالت : يا أبَه أين ألقاك؟ قال : ( تلقيني على تلِّ الحمد أشفع لأمّتي ) ، قالت : يا أبه فإن لم ألقاك ، فقال : ( تلقيني على الصراط وجبرئيل عن يميني وميكائيل عن يساري وإسرافيل آخذ بحجزتي والملائكة من خلفي وأنا أنادي : يا ربِّ أمّتي أمّتي هوِِّن عليهم الحساب! ثم أنظر يميناً وشمالاً إلى أمّتي وكلّ نبيّ يومئذ مشغول بنفسه يقول : يا ربِّ نفسي نفسي ، وأنا أقول : يا ربِّ أمّتي أمّتي.

فأوَّل مَن يلحق بي من أمّتي يوم القيامة أنتِ وعليّ والحسن والحسين فيقول الربُّ : يا محمّد! إنَّ أمتّك لو أتوني بذنوب كأمثال

٦١

الجبال لعفوت عنهم ، ما لم يشركوا بي شيئاً ولم يوالوا لي عدوّاً ).

قال : قال : فلمّا سمع الشابّ هذا منّي أمر لي بعشرة آلاف درهم وكساني ثلاثين ثوباً ، ثمَّ قال لي : من أين أنت؟ قلت : من أهل الكوفة ، قال : عربيٌّ أنت أم مولى؟ قلت : بل عربيَّ ، قال : فكما أقررت عيني أقررتُ عينك ، ثمَّ قال لي : أئتني غداً في مسجد بني فلان وإياك أن تخطيء الطريق فذهبت إلى الشيخ وهو جالس ينتظرني في المسجد ، فلمّا رآني استقبلني ، وقال : ما فعل معك أبو فلان؟ قلت : كذا وكذا ، قال : جزاه الله خيراً ، جمع الله بيننا وبينهم في الجنّة.

فلمّا أصبحت يا سليمان ركبت البغلة وأخذت في الطريق الذي وصف لي ، فلمّا صرت غير بعيد تشابه عليَّ الطريق ، وسمعت إقامة الصّلاة في مسجد فقلت : والله لأصلّين مع هؤلاء القوم ، فنزلت عن البغلة ودخلت المسجد فوجدت رجلاً قامته مثل قامة صاحبي ، فصرت عن يمينه.

فلمّا صرنا في ركوع وسجود إذا عمامته قد رمي بها من خلفه فتفرَّست في وجهه فإذا وجهه وجه خنزير ورأسه وخلقه ويداه ورجلاه ، فلم أعلم ما صلّيت وما قلت في صلاتي متفكّراً في أمره ، وسلّم الإمام وتفرَّس في وجهي ، وقال : أنت أتيت أخي بالأمس فأمر لك بكذا وكذا؟

قلت : نعم ، فأخذ بيدي وأقامني فلمّا رآنا أهل المسجد تبعونا ، فقال للغلام : أغلق الباب ولا تدع أحداً يدخل علينا ، ثمَّ ضرب بيده إلى قميصه فنزعه فإذا جسده جسد خنزير.

فقلت : يا أخي ما هذا الذي أرى بك؟ قال : كنت مؤذِّن القوم.

٦٢

فكنت كلَّ يوم إذا أصبحت ألعن عليّاً ألف مرَّة ، بين الأذان والإقامة ، قال : فخرجت من المسجد ودخلت داري هذه ، وهو يوم جمعة ، وقد لعنته أربعة آلاف مرَّة ، ولعنت أولاده ، فاتّكيت على الدُّكّان ، فذهب بي النوم فرأيت في منامي كأنّما أنا بالجنّة قد أقبلت ، فإذا عليّ متّكئ والحسن والحسين معه متّكئين بعضهم ببعض مسرورين ، تحتهم مُصلّيات من نور ، وإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس ، والحسن والحسين قدّامه وبيد الحسن كاس.

فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للحسن : أسقني ، فشرب ، ثمَّ قال : للحسين : أسق أباك عليّاً ، فشرب ، ثمَّ قال للحسن : أسق الجماعة ، فشربوا ، ثمَّ قال : أسق المتّكيء على الدُّكان ، فولّى الحسن بوجهه عنّي ، وقال : يا أبه كيف أسقيه وهو يلعن أبي في كلِّ يوم ألف مرَّة ، وقد لعنه اليوم أربعة آلاف مرَّة.

فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : مالك لعنك الله تلعن عليّاً وتشتم أخي؟ لعنك الله تشتم أولادي الحسن والحسين؟ ثمَّ بصق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فملأ وجهي وجسدي ، فانتبهت من منامي ووجدت موضع البصاق الذي أصابني من بصاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد مسخ كما ترى ، وصرت آية للسّائلين.

ثم قال : يا سليمان سمعتَ في فضائل عليّ عليه السلام أعجبَ من هذين الحديثين؟ يا سليمان حبُّ عليّ إيمان وبغضه نفاق ، لا يحبُّ عليّاً إلاّ مؤمن ، ولا يبغضه إلاّ كافر.

فقلت : يا أمير المؤمنين الأمان.

قال : لك الأمان ، قال : قلت : فما تقول يا أمير ألمؤمنين في مَن قتل هؤلاء؟ قال : في النّار لا أشك.

٦٣

فقلت : فما تقول فيمن قتل أولادهم وأولاد أولادهم؟

قال : فنكّس رأسه ، ثمَّ قال : يا سليمان الملك عقيم ، ولكن حدّث عن فضائل عليّ بما شئت ، قال : فقلت : فمن قتل ولده فهو في النار!

قال عمرو بين عبيد : صدقت يا سليمان الويل لمن قتل ولده ، فقال المنصور : يا عمرو أشهد عليه أنّه في النار.

فقال عمرو : وأخبرني الشيخ الصدوق ـ يعني الحسن ـ عن أنس أنَّ من قتل أولاد عليّ لا يشمُّ رائحة الجنّة ، قال : فوجدت أبا جعفر وقد حمّض وجهه ، قال : وخرجنا ، فقال أبو جعفر : لولا مكان عمرو ما خرج سليمان إلاّ مقتولاً(1) .

____________________

(1) أخرج الحديث بعين السند والمتن مؤلف المناقب الفاخرة في العترة الطاهرة ، قال : أخبرنا أبو الخير المبارك بن مسرور قراءة عليه قلت له : أخبركم القاضي أبو عبد الله ( يعني ابن مؤلفنا ابن المغازلي الشافعي ) حدثني أبي قال : أخبرني أبو طالب محمد بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر الصيرفي إلى آخر السند والمتن مقتصراً على الطريق الأول ، راجع غاية المرام 656 للعلامة السيد هاشم البحراني ، بحار الأنور للعلامة المجلسي 37 / 93 وأخرجه بغير هذا السند أخطب خوارزم موفق الدين في كتاب المناقب 191 ـ 203 وهكذا جمال الدين الموصلي في در بحر المناقب / 53 من مخطوطته على ما ذيل أحقاق الحق 5 / 22.

وقد أخرج هذا الحديث من أصحابنا الإمامية الشيخ الصدوق ابن بابويه القمي المتوفى 381 هـ في أماليه 260 ـ 264 في المجلس 67 قال : حدثنا أحمد بن الحسن القطان وعلى ابن أحمد بن موسى الدقاق ومحمد بن أحمد السناني وعبد الله بن محمد الصائغ رضى الله عنهم قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى بن زكريا القطان حدثنا أبو محمد بكر بن عبد الله بن حبيب حدثني علي بن محمد حدثنا الفضل بن عباس حدثنا عبد القدوس الوراق حدثنا محمد بن كثير عن الأعمش.

٦٤

وقد روي الخركوشي في ( شرف النبيّ ) عن هارون الرشيد عن آبائه عن ابن عباس هذا المعنى فنظمه الصقر البصري(1) :

هذا ابن خَلاّدٍ روى عن شيخه

أعني به ابن أبي سويد الدارعا

مما روى المأمون أن رشيدهـم

يروي عـن الهادي حديثا شائعا

مما روى المهدي عن منصورهم

عـن ابن عباس الأديب البارعا

____________________

قال وحدثنا الحسين بن إبراهيم المكتب حدثنا أحمد بن يحيى القطان حدثنا بكر أبن عبد الله بن حبيب حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن باطويه حدثنا محمد بن كثير عن الأعمش.

قال : وأخبرنا سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي فيما كتب إلينا من أصبهان حدثنا أحمد ابن القاسم بن مساور الجوهري سنة 286 هـ حدثنا الوليد بن الفضل العنزي حدثنا مندل بن علي العنزي عن الأعمش.

قال : وحدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني حدثني أبو سعيد الحسن بن علي العدوى حدثنا علي بن عيسى الكوفي حدثنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش.

ثم ساق الحديث بلفظ مندل بن علي العنزي ، راجع بحار الأنوار للعلامة المجلسي 37 / 88.

وهكذا أخرجه من أصحابنا القدماء الفقيه عماد الدين محمد بن أبي القاسم علي الطبري في بشارة المصطفى 138 ـ 242 قال؛ وجدت بخط والدي أبي القاسم؛ حدثنا عبد الله ابن عدي بجرجان عن ابي يعقوب الصوفي عن ابن عبد الرحمن الأنصاري عن الأعمش ، وذكر مثله بتفاوت.

وأخرجه ابن شهر آشوب في المناقب3 / 190 باختصار ط الحيدرية ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين / 121 باختصار ، والمحب الطبري الشافعي في ذخائر العقبى / 130ط القدسي بمصر.

(1) مناقب آل أبي طالب 3 / 191 ط الحيدرية ، وذكره سيد الأعيان في 1 / 378 في أعيان الشيعة ط الأولى1353 هـ ، فقال : محمد بن أحمد الصقر الموصلي ، أورد ابن شهر آشوب في المناقب من شعره في أهل البيت عليهم السلام ، وفي المعالم : الصقر البصري وفي نسخة بن صقر النصري فلعله غيره حدود ( 385 ).

٦٥

حتى اجتمعنا عند أكـرم مـرسل

يوما وكان الوقـت وقتا جامعا

فأتـته فاطمـة الـبتـول وعينها

من حرقة تنهلّ دمعـا هامعـا

فارتاع والدها لـفـرط بكائهـا

لمـا استبان الأمر منهـا رائعـا

فبكى وقال فداك أحمد مالك

يبكيك مـا ألفـاك ربك فاجعـا

قالت فقدت ابني يا أبتـا وقـد

صادفت فقدهـما لقلبي صادعـا

فشجاه ما ذكرت فأقبل ساعـة

متململا يدعـو المهيمن ضارعا

فإذا المطـوف جبرئيل مناديا

ببشارة مـن ذي الجلال مسارعا

ألله يقرؤك السـلام بجـوده

ويقـول لا تكُ يا حبيبي جازعا

أدركهمـا بحديقـة النجار قد

لعبا وقد نعسـا بها وتضاجعـا

أرسلت من خدم الكرام إليهمـا

ملـكا شفيقـا للمكـاره دافعـا

غطاهما منـه جناحـا وانثنى

بالـرفق فوقهما وآخر واضعـا

فأتاهما خير البريـة فـاغتدى

بهمـا على كتفيـه جهرا رافعا

فأتاه ذو ملق ليحمـل واحـدا

عنـه فقال لـه وراءك راجعا

نعـم المطيّ مطيّـةً حملتهمـا

مني ونعم الراكبان همـا معـا

وأبـوهما خيـر وأفضل منهما

شـرفا لعمرك في المزية شافعا

ولئن أطلنا الوقوف عند المنصور وعلمائه الذين اجتمع بهم كلّ على شاكلته ، وعامل كلاً على سجيته.

فكان مالك بن أنس المتفرّد بالحظوة السلطانية هو الساقط في

٦٦

الهوّة ، أمّا الآخران فكانا أعلا شأناً منه ، وأثبت إيماناً ، وأقوى جناناً.

ـ والآن لنقرأ ملامح عصر المهدي بن المنصور على النحو السابق في تعامله مع علماء عصره ، لنرى الأنماط الصحيحة والسقيمة.

لقد تولى المهدي الخلافة في سنة 158 هـ ، قال المسعودي في مروجه : ( وكان مُحبّباً إلى الخاص والعام لأنّه أفتتح أمره بردّ المظالم ، وكفّ عن القتل ، وآمّن الخائف وأنصف المظلوم ، وبسط يده في إعطاء الأموال )(1) ، إلى آخر ما هنالك من إطراء.

ولم يذكر لنا المسعودي ما كان عليه من لعب الحمام ، حتى أنّه لم يقلع عن ذلك إلاّ بعد قصة غياث بن إبراهيم واضع حديث المسابقة بالحمام كذباً وزوراً.

فقد روى الخطيب البغدادي في ( تاريخ بغداد ) ، قال : ( وكان المهدي يحبّ الحمام ويشتهيها ، فأدخل عليه غياث بن إبراهيم ، فقيل له : حدّث أمير المؤمنين ، فحدّثه بحديث أبي هريرة : ( لا سبق إلاّ في حافر أو نصل وزاد فيه ( أو جناح ) ، فأمر له المهدي بعشرة الآف ، فلمّا قام قال ـ المهدي ـ أشهد أنَّ قفاك قفا كذّاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّما استجلبت ذلك أنا ، فأمر بالحمام فذبحت )(2) . وذكر الخطيب هذا الخبر ثانية بسند آخر وبتفاوت يسير(3) .

____________________

(1) مروج الذهب 4 / 169.

(2) تاريخ بغداد 12 / 223 ط السعادة بمصر.

(3) نفس المصدر.

٦٧

قال الدكتور مصطفى السباعي في كتاب ( السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ) تعليقاً على موقف المهدي من غياث الكذّاب : ( مع الأسف أنّ خليفة كالمهدي رغماً عن اعترافه بكذب غياث بن إبراهيم وزيادته في الحديث تقرباً إلى هواه ، كافأه بعشرة الآف درهم. وما تقوله الرواية من أنّه أمر بذبح الحمام لأنّه كان سبباً في هذه الكذبة ، فهو مدعاة للعجب إذ كان خيراً للمهدي أن يؤدب هذا الكاذب الفاجر ويترك الحمام من غير ذبح بدل من أن يذبح ، ويترك من يستحق الموت حرّاً طليقاً ينعم بمال المسلمين )(1) .

أمّا نحن فنرى للمهدي تساهلاً آخر مع كذّاب آخر ، وهو مقاتل ابن سليمان البلخي ، فقد قال مقاتل : ( إن شئت وضعتُ لك أحاديث في العباس وبنيه ) ، فقال له المهدي لا حاجة لي فيها ثم لم يفعل معه شيئاً. بل تجد أنّهم ذكروا عن الرشيد وقد روى له أبو البختري الكذّاب حديثاً مكذوباً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يطير الحمام! لا يزيد في تأنيب أبي البختري ـ وقد أدرك كذبه على أن يقول له : أخرج عني ، لولا أنّك من قريش لعزلتك. وقد كان هذا الكذّاب قاضياً للرشيد إنّ هذه المواقف ممّا يحاسب الله عليها هؤلاء الخلفاء إن صحت عنهم تلك الروايات(2)

أقول : ومهما أسأنا الظنّ بالمهدي العباسي فإنّا لا يسعنا تجاهل معرفته بالحديث النبوي الشريف وتمييز ما هو صحيح وما هو موضوع ،

____________________

(1) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي / 104.

(2) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي / 104.

٦٨

فلم يرض بما تزلّف به إليه غياث ، ولا رضى بما قال له مقاتل ، ولكنه أحياناً يغضي طرفه عن المتزلفين إليه بالكذب حفظاً لمكانته السياسية في قلوب العامة!

فلقد روى ابن الجوزي في كتابه ( المصباح المضئ ) ، بسنده قال : ( قعد المهدي قعوداً عاماً للناس ، فدخل رجل وفي يده نعل في منديل ، فقال : يا أمير المؤمنين نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أهديتها لك ، فقال : هاتها ، فدفعها إليه فقبّل باطنها ووضعها على عينه ، وأمر للرجل بعشرة الآف درهم ، فلمّا أخذها وأنصرف ، قال لجلسائه : أترون أنّي لم أعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يرها فضلاً عن أن يكون لبسها!

ولو كذّبناه لقال للناس أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله فردّها عليّ ، وكان من يصدّقه أكثر ممن يدفع خبره ، حتى إذا كان من شأن العامة الميل إلى أشكالها والنصرة للضعيف على القوي ، فاشترينا لسانه ، ورأينا الذي فعلنا أنجح وأرجح )(1) .

أقول : لقد عدّ ابن الجوزي هذا الخبر من شواهد الذكاء عند المهدي فأدرجه في كتابه ( الأذكياء )(2) ، وهو إن دلّ على ذكائه السياسي فقد دلّ أيضاً على ضعف نفسه في رقة دينه ، ولا عتب على ابن الجوزي أن أورده في كتابيه فهو من المتزلفة للعباسيين ، ولكن هلمّ الخطب في الخطيب البغدادي حيث أورده في كتابه ( تاريخ بغداد )(3) ،

____________________

(1) المصباح المضئ1 / 418 ـ 420.

(2) الأذكياء / 40 ـ 41.

(3) تاريخ بغداد 5 / 394.

٦٩

ومثله ابن عربي في كتابه ( محاضرة الأبرار )(1) .

ومهما يكن فالخبر دلّ على معرفة المهدي بموضوعات الأحاديث التي يتزلف بها إليه ذوو الضمائر الخاوية من الإيمان ، فكيف يتزلف إليه بالموضوعات على جدّه ونسبتها إليه ولا يستنكرها؟! وهو مع تفسخ سلوكيته في سيرته وشدّة عناده لأهل البيت عليهم السلام لكن لا ينكر حزمه في ملاحقة الزنادقة الذين أكثروا من وضع الحديث في زمانه ، حتى قال هو : ( أقرّ عندي رجل من الزنادقة أنّه وضع أربعمائة حديث فهي تجول في أيدي الناس )(2) .

وكم لهذا أمثاله ، ولكن هل يحتمل أنّ تلك الموضوعات طالت مرويات ابن عباس؟ ولو كان لها منها نصيب ، لم يعاقبهم المهدي على الزندقة ، ولأظهرَ للناس انّه إنّما عاقبهم لأنّهم وضعوا الأحاديث أو نسبوها زوراً إلى جدّه عبد الله بن عباس ، وهذا لم يرد في شيء من المصادر المعنيّة بذلك ، ولو كان لشاع وذاع كما في خبر غياث بن إبراهيم المتقدم.

وغياث مثال للنموذج الخائب الخاسر ، وفي مقابل نموذج آخر ، حيّ في ضميره وحرّ في تفكيره ، يقول كلمة الحق وإن ثقلت على مسامع الحاكم ، وذلك هو شريك بن عبد الله النخعي القاضي ، وإلى القارئ خبره :

أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه محاورة جرت بين المهدي

____________________

(1) محاضرة الأبرار 1 / 451.

(2) الكامل لابن عدي 1 / 155.

٧٠

العباسي وبين شريك بن عبد الله القاضي ردّ فيها شريك على المهدي بأروع بيان وأقوى حجة وثبات جنان ، فلنقرأ منها ما له دخل في المقام : ( دخل شريك على المهدي ، فقال : ما ينبغي أن تقلّد الحكم بين المسلمين ، قال : ولم؟ قال : خلافك على الجماعة ، وقولك بالإمامة.

قال : أمّا قولك بخلافك على الجماعة ، فعن الجماعة أخذت ديني فكيف أخالفهم؟ وهم أصلي في ديني ، وأمّا قولك : وقولك بالإمامة ، فما أعرف إلاّ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمّا قولك : مثلك لا يقلّد الحكم بين المسلمين ، فهذا شيء أنتم فعلتموه ، فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه ، وإن كان صواباً فأمسكوا عليه.

قال : ما تقول في عليّ بن أبي طالب؟ قال : ما قال فيه جدّك العباس وعبد الله؟ قال : وما قالا فيه؟ قال : فأمّا العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عما ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق بالله. وأمّا عبد الله فإنّه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً متّبعاً ، وقائداً مطاعاً ، فلو كانت إمامته على جور ، كان أوّل من يقعد عنها أبوك لعلمه بدين الله ، وفقهه في أحكام الله.

فسكت المهدي وأطرق ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاّ قليل حتى عزل شريك )(1) .

وروي وكيع في ( أخبار القضاة ) : ( قال : حدثني محمد بن حمزة

____________________

(1) تاريخ بغداد 9 / 292.

٧١

العلوي ، قال : حدثني أبو عثمان المازني ، قال : حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي ، عن أبيه ، قال : حدثني شريك بن عبد الله ، قال : سعى بي الربيع إلى المهدي وزعم أنّي رافضي ، قال : فأرسل إليّ فأخذت أخذاً عنيفاً وعليّ كمة لأطئة وكساء أبيض وخفّان ، فدخلت عليه فسلّمت ، قال : لا سلّم الله عليك! قال : قلت يا أمير المؤمنين إنّ الله يقول :( وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) (1) ، فو الله ما حييّتني بأحسن من تحيتي ، ولا رددتها عليَّ ، قال : ألم أوطئ الرجال عقبيك وأنت رافضي ملعون : قال : قلت : يا أمير المؤمنين مثلك لا يمنّ بمعروفه. وأمّا قولك : إني رافضيّ ، فإن كان الرافضي من أحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة وعليّاً والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين ، فأنا أشهد الله وأشهدك أنّي رافضي أتّبعهم يا أمير المؤمنين. قال معاذ الله ، ثم قال : ما أحسبنا إلاّ وقد روّعناك ، هاتوا بدرة ، فأتوا ببدرة فدفعت إليّ ، فحملتها على عنقي ، فلمّا خرجت ، قال لي الربيع : كيف رأيت؟ قال : قلت : إذا شئت فعُد )(2) .

ولشريك هذا مواقف أخر مع المهدي تنبىء عن جزالة رأي وفصاحة لسان وقوة جنان ، ذكر وكيع بعضاً منها فلتراجع في كتابه ( أخبار القضاة )(3) . وسيأتي بعض ذلك في عهد الرشيد فانتظر ، ومع هذا كلّه فقد كان شريك لا يقبل شهادة من لا يتولى الشيخين ، ومع هذا فهو يشعر في قرارة نفسه أنّه باع دينه لتوليه القضاء لبني العباس ، كما في

____________________

(1) النساء / 86.

(2) أخبار القضاة 3 / 155.

(3) نفس المصدر 3 / 149 ـ 157.

٧٢

جوابه للصيرفي الذي وليَّ أخذ أرزاقه منه(1) .

وعهد المهدي كان زاخراً بالفقهاء ، ذكر اليعقوبي في تاريخه أسماء أكثر من ثلاثين إنساناً ، وفيهم كثير من أتباع السلطان ولم نجد ما تزلّف به أحدهم إليه بما يرفع به من شأن جدّه ابن العباس.

ـ أمّا عن موسى الهادي فقد كان رجل سوء شديداً على الطالبيين ( ألح في طلب الطالبيين وأخافهم خوفاً شديداً وقطع ما كان المهدي يجريه لهم من الأرزاق والأعطية وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم ، فلمّا أشتدّ خوفهم وكثر مَن طلبهم ويحثّ عليهم ، عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن عليّ ـ وكان له مذهب جميل وكمال مجد ـ وقالوا له أنت رجل أهل بيتك ، وقد ترى ما أنت وأهلك وشيعتك فيه من الخوف والمكروه ، فقال : إنّي وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر ، فبايعه خلق كثير ممن حضر الموسم )(2) .

وذكر المسعودي في ( المروج ) خبر شهادة الحسين صاحب فخ ، وما جرى عليه وعلى من كان معه ، ثم ذكر أنّ الهادي سخط على موسى بن عيسى لقتل الحسين ، وكان هذا منه بعد أن شاع التذمر من شناعة فعله وفظاعة واقعة فخ وهيَ أشبه بواقعة كربلاء فضاعة وكثرة عدد القتلى والأسارى(3) .

هذا وليس لي الغرض في استقصاء التاريخ وما جرى في عهد

____________________

(1) مروج الذهب 4 / 166 ـ 167.

(2) أنظر تاريخ اليعقوبي 3 / 136 ـ 312 ط الغري 1358 هـ.

(3) مروج الذهب 4 / 185.

٧٣

موسى الهادي ، إنّما الغرض الإلماح إلى ما كان عليه من خلاف سيرة أبيه حتى في تعامله مع القضاة ، فإنّه عندما تولى عزل شريك بن عبد الله ـ المتقدم ذكره أيام المهدي ـ عن القضاء ، ولم تطل مدّته فتولى الخلافة هارون الرشيد.

ـ وهذا ـ يعني هارون الرشيد ـ كان أطول زماناً في الحكم ، وأوعى في الإدارة ، وكان حال العلماء في عصره كحالهم في عهد آبائه ، فمنهم المهزوز الداني الوضيع الذي قد يتزلّف إليه برواية الأحاديث الموضوعة ، حسب ما يهواه ، ولم نجد شيئاً منها في جدّه ابن عباس ، ومنهم من يترفع عن التقرب إليه ويأبى الإنصياع لشهواته ، وإذا ابتلي بأمر عنده قال كلمة الحق لا تأخذه في الله لومة لائم.

ومن النمط الأوّل كان أبو البختري وهب بن وهب أكذب البرية ، كما يصفه علماء الجرح والتعديل ، ومن أكاذيبه ما ذكره وكيع في ( أخبار القضاة ) بسنده عن عبد الله بن مالك ، قال : ( كنت عند هارون ودخل أبو البختري ، فقال : يا أمير المؤمنين حدثني جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه رفعه ، قال : إذا كان يوم القيامة يؤخذ للناس القصاص إلاّ من بني هاشم ، فلمّا خرج ، قال هرون : لولا أنّ هذا قد كفانا بعض ما يُهمنا من أمر المدينة لم أكن أقبله ، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجلسي )(1) .

أقول : ما أشبه الليلة بالبارحة! فأبو البختري يكذب للرشيد ولا يعاقبه على كذبه ، كما كان غياث بن إبراهيم يكذب للمهدي في

____________________

(1) أخبار القضاة 3 / 252 ـ 253.

٧٤

حديث السبق بالحمام فأكرمه وهو يعلم كذبه ، ولم يتخذ إجراءاً ضدّه ، وكم لهما من نظير.

ولا يعني هذا أن لا نجد في هذا النمط من الكذّابين المتزلفين من لا يمرون بساعة من صحوة الضمير ، فيقولوا كلمة حق عند سلطان جائر ، فيسمعها في ساعة رضا فيغضي عنه حين سماعها ولا يحقدها عليهم كما مرّ في خبر شريك مع المهدي.

فقد روى ابن أبي الحديد : ( قال أبو البختري وهب بن وهب القاضي : كنت عند الرشيد يوماً ، وأستدعى ماءاً مبرّداً بالثلج ، فلم يوجد في الخزانة ثلج ، فأعتذر إليه ، وأحضر إليه ماءاً غير مثلوج ، فضرب وجه الغلام بالكوز ، وإستشاط غضباً ، فقلت له : أقول يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ فقال : قل ، قلت يا أمير المؤمنين قد رأيتَ ما كان من الغِيَر بالأمس ـ يعني زوال دولة بني أمية ـ والدنيا غير دائمة ولا موثوق بها ، والحزم أن لا تعوّد نفسك الترفّه والنعمة ، بل تأكل اللين والجشب ، وتلبس الناعم والخشن ، وتشرب الحار والقار ، فنفحني بيده ، وقال : لا والله لا أذهب إلى ما تذهب إليه ، بل ألبس النعمة ما لبستني ، فإذا نابت نوبة الدهر عدت إلى نصاب غير حوار )(1) .

وقد ذكر الغزالي في كتابه ( مقامات العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء ) نماذج صالحة للإستشهاد على وجود من يأبى عليه دينه ممالاة الحاكمين على باطلهم ، كما أنّه يوجد في الصف المقابل ممن

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 121 ـ 122 ط الأولى بمصر.

٧٥

باع دينه ودنياه وآخرته لقاء مرعى خسيس في ظلال الحاكمين.

فمن ذلك مثلاً مقام الأوزاعي وأبي يوسف بين يدي هارون الرشيد :

( سأل هرون الرشيد الأوزاعي عن لبس السواد؟ فقال : لا أحرّمه ولكن أكرهه. قال : ولم تكرهه؟ قال : لأنّه لا تجلا فيه عروس ، ولا يلبي فيه محرم ، ولا يكفن فيه ميّت.

فالتفت إلى أبي يوسف ، فقال : ما تقول في السواد؟ فقال : النور في السواد يا أمير المؤمنين ، يعني أنّ الإنسان ينظر بسواد عينه. فاستحسن الرشيد قوله ، فقال : وفضيلة أخرى يا أمير المؤمنين ، قال : وما هي؟ قال : لم يكتب كتاب الله عزوجل إلاّ به. فاهتز الرشيد لقوله ذلك وأجازه )(1) .

فهذا النموذج جمع بين المنكِر للمنكَر ، وبين الآمر به ، وهكذا هم دائماً وعاظ السلاطين ، وإذا عرت أحَدهم صحوة ضمير في يوم ما فقال كلمة حق عند سلطان جائر ، تذكر له ويشكر عليها ، كما في حديث أبي يوسف المار ذكره.

وقد قال الغزالي في كتابه الآنف الذكر ( مقامات العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء ) في خبر عن أبي يوسف مع هارون رواه المبرّد ، عن أبي يوسف : ( أنّه حضر عند الرشيد يوماً ، فقدّم من الطعام ما يحتاج إلى ملعقة ، وصاحب المائدة غفل عنها ، فغضب الرشيد على الرجل ، فقال أبو يوسف : يا أمير المؤمنين روي عن جدّك أبي العباس عبد الله بن

____________________

(1) مقامات العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء / 91.

٧٦

عباس في قول الله تعالى :( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (1) ، إنّ هذا التكريم ، أنّ كلّ شيء يأكل بفمه إلاّ ابن آدم فإنّه يأكل بيده ، فأوتي بالملعقة ، فأخذها وكسرها ، وجعل يأكل بيده ، ويقول : صدق جدّي )(2) .

فهؤلاء أنماط من الرجال الذين عايشوا بني العباس في أوج سلطانهم ، فرأينا فيهم المخادع المرائي لهم بالولاء ، ومنهم من لم يحابهم ويداجيهم فأنكر المنكر ، وكلّ هؤلاء على إختلاف مذاهبهم العقائدية ، وولا آتهم السياسية ، كانوا يحظون بمكانة لدى السلطان الحاكم ، ولم يُخبر عن واحد منهم تزلّف إليهم بوضع أحاديث لابن عباس أو فيه ، ولو كان فيهم مَن هو كذلك لأفتضح أمره وشاع خبره ، كما أفتضح أبو عصمة نوح بن أبي مريم المرزي الذي وضع في فضائل القرآن سورة سورة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ( فقيل له : من أين لك عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة ، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال : إنّي رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفتيا أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبةٌ )(3) .

فهذا مع اعترافه بالكذب والسبب ، لم يقل أنّه وضع ذلك حبّاً لابن عباس أو تقرباً إلى بنيه.

____________________

(1) الإسراء / 70.

(2) مقامات العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء / 91.

(3) الموضوعات لابن الجوزي1 / 41 ، 45 ، 46.

٧٧

ـ ثم إنّ العصر الذهبي لبني العباس بدءاً من المنصور وحتى المأمون ، بل وإلى أيام المتوكل كان زاخراً برجال الحديث وجهابذة الفن ، كأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين وأضرابهما ممن كانوا بالمرصاد لمن يدلّس في الإسناد ، فضلاً عن الوضاعين الكذابين.

ألم يذكر الذهبي في ( تذكرة الحفاظ ) : ( إنّ الرشيد أخذ زنديقاً ليقتله ، فقال : أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال الرشيد : أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك يتخللانها فيخرجانها حرفاً بحرف )(1) .

ألم يقل الدارقطني : ( يا أهل بغداد ، لا تظنون أنّ أحداً يقدر يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا حيّ )(2) .

ألم يقل ابن المبارك في هذه الأحاديث المصنوعة ، فقال : ( تعيش لها الجهابذة )(3) .

وقد بذل الجهابذة جهداً بالغاً مشكوراً في تمييز الحديث الثابت من الموضوع ، وقد وصلنا من آثارهم ما أفادنا كثيراً في معرفة الموضوعات ، وكذبة الرواة.

والآن لنيمّم وجوهنا شطر هذا الجانب ، لغرض البحث عن الموضوعات عن ابن عباس له أو عليه ، فإلى :

____________________

(1) تذكرة الحفاظ 1 / 273 ط حيدر آباد.

(2) الموضوعات لابن الجوزي 1 / 45.

(3) نفس المصدر1 / 46 ، والكفاية للخطيب البغدادي 1 / 37 ، وتدريب الراوي 1 / 282.

٧٨

قراءة في كتب الموضوعات وعلم الحديث

قال أبو عمر ابن عبد البر في مقدمة كتابه ( التمهيد ) في باب معرفة المرسل والمسند والمنقطع والمتصل والموقوف ومعنى التدليس : ( فجمهور أهل العلم على أنّ ( عن ) ، و ( أنّ ) سواء ، وأن الإعتبار ليس بالحروف ، وإنّما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة ، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحاً ، كان حديث بعضهم عن بعض أبداً بأي لفظ ورد محمولاً على الإتصال ، حتى تبيّن فيه علّة الإنقطاع.

وقال البرديجي : ( أنّ ) محمولة على الإنقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من طريق آخر ، أو يأتي ما يدلّ على أنّه قد شهده وسمعه.

قال أبو عمر : هذا عندي لا معنى له ، لإجماعهم على أنّ الإسناد المتصل بالصحابي سواء قال فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ، أو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال ، أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كلّ ذلك سواء عند العلماء والله العالم )(1) .

وقال أيضاً : ( قالوا ـ أصحاب أبي حنيفة ـ : وكان أبو هريرة كثير

____________________

(1) التمهيد 1 / 53.

٧٩

الإرسال ، وجائز للصاحب إذا أخبره الصحابة بشيء ، أن يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يقل سمعت ، ألا ترى ابن عباس حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يكاد يحصى كثرة من الحديث ، ومعلوم أنّه لم يسمع منه إلاّ أحاديث يسيرة )(1) .

قال ابن الصلاح في مقدمته : ( إنّا لم نعدّ في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه بمرسل الصحابي ، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسمعوه منه ، لأنّ ذلكم في حكم الموصول المسند ، لأنّ روايتهم عن الصحابة ، والجهالة بالصحابي غير قادحة ، لأنّ الصحابة كلّهم عدول )(2) !

أقول : وهذا التعليل الذي ذكره ابن الصلاح عليل ، ولا يصلح للردّ على من قال بفسق بعض الصحابة ، إستناداً على ما ورد في آية النبأ ، وما جاء في آيات سورة براءة والحجرات والتحريم والجمعة وغيرها ، ممّا أسقط كثيراً من غربال العدالة إلى هوة السفالة ، أمثال الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي سمّاه الله تعالى في كتابه فاسقاً ، وحاطب بن أبي بلتعة الذي خان الله ورسوله في كتابته إلى مكة يخبرهم بتجهيز النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليهم ، وفيه نزلت آية :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ) (3) ، وما دونه كانت إشارة

____________________

(1) التمهيد 1 / 250.

(2) مقدمة ابن الصلاح / 26. ودعوى عدالة كلّ الصحابة ، تأبى صحتها على مدعيها وسورة براءة وسورة الحجرات وسورة المنافقين ، سوى ما في القرآن الكريم من الآيات وأحاديث الحوض تكفي في إطالة الخوض.

(3) الممتحنة / 1.

٨٠