موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93295 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

لا تعدمك أن تجدها في ولدك.

قلت : فلا حاجة لي إذن فيها.

قال : فلم لا تخطب إلى ابن عمك؟ ـ يعني عليّاً ـ.

قلت : ألم تسبقني إليه؟

قال : فالأخرى.

قلت : هي لابن أخيه.

قال : يابن عباس إنّ صاحبكم إذا ولي هذا الأمر زهد ، ولكن أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به فليتني أراكم بعدي.

قلت : يا أمير المؤمنين إنّ صاحبنا مَن قد علمت والله ، ما تقول ، إنّه ما غيّر ولا بدّل ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام صحبته له.

قال : فقطع عليَّ الكلام ، فقال : ولا في ابنة أبي جهل لمّا أراد أن يخطبها على فاطمة؟

قلت : قال الله تعالى في معصية آدم عليه السلام :( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (١) ، وصاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه ، وربما كانت من الفقيه في دين الله ، العالم العامل بأمر الله.

فقال : يا بن عباس مَن ظنّ أنّه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى

____________________

(١) طه / ١١٥.

١٠١

يبلغ قعرها فقد ظنّ عجزاً ، استغفر الله لي ولك ، خذ في غيرها.

ثم أنشأ يسألني عن شيء من أمور الفتيا وأجيبه ، فيقول : أصبت أصاب الله بك ، أنت والله أحق أن تتبّع )(١) .

٣ ـ ( أمسك عليَّ وأكتم ).

عن نبيط بن شريط(٢) ، قال : ( خرجت مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومعنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، فلما صرنا إلى بعض حيطان الأنصار فوجدنا عمر بن الخطاب جالساً ينكت في الأرض ، فقال له عليّ بن أبي طالب : يا أمير المؤمنين ما الذي أجلسك وحدك ههنا؟

قال : لأمر همني.

فقال عليّ : أفتريد أحدنا ـ يعني نفسه وابن عباس ـ؟

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ١٠٦ ط مصر الأولى ، تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٤ حوادث سن / ٢٣ ، كنز العمال ٧ / ٥٣ منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ٥ / ٢٢٩ ، المراجعات لشرف الدين / ٢٧٧.

(٢) نبيط بن شريط الأشجعي من قيس عيلان قاله ابن سعد في الطبقات الكبير ٨ / ١٥٢ تح الدكتور علي أحمد عمر نشر الخانجي بمصر ١٤٢١ هـ وقال : وهو أبو سلمة بن نبيط روى عن لبيد فذكر عنه قال : حججت مع أبي وعمتي فقال لي أبي : أترى ذلك صاحب الجمل الأحمر الذي يخطب ، ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب عند الجمرة ـ وذكر بعض الخطبة ـ ثم ذكرا بن سعد عن سلمة بن نبيط قال : قلت لأبي وكان قد شهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورواه وسمع منه ، يا أبة لو غشيت هذا السلطان فأصبت منهم وأصاب قومك في جناحك. قال : أي بني إني أخاف ان اجلس منهم مجلساً يدخلني النار.

١٠٢

قال عمر : إن كان عبد الله. فتخلف معه عبد الله بن عباس ، ومضيت مع عليّ عليه السلام ، وأبطأ علينا ابن عباس ثم لحق بنا ، فقال له عليّ : ما وراءك؟

قال : يا أبا الحسن أعجوبة من عجائب أمير المؤمنين ، أخبرك بها وأكتم عليَّ.

قال : فهلم.

قال : لمّا أن وليت عنه وهو ينظر إليك وإلى أثرك ، قال : آه آه آه.

فقلت : مم تتأوه يا أمير المؤمنين؟

فقال : من أجل صاحبك يا ابن عباس وقد أعطي ما لم يعط أحدٌ من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولولا ثلاث هنَّ فيه ما كان لهذا الأمر ـ يعني الخلافة ـ من أحد سواه.

قلت : ماهنّ يا أمير المؤمنين؟

قال : كثرة دعابته ، وبغض قريش له ، وصغر سنّه.

قال عليّ صلى الله عليه وآله وسلم : فما رددت عليه؟

قال ابن عباس رضي الله عنه : تداخلني ما يداخل ابن العم لابن عمه ، فقلت له : يا أمير المؤمنين أمّا كثرة دعابته فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يداعب ولا يقول إلاّ حقاً ، وأين أنت حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ونحن صبيان وكهول وشيوخ وشبان يقول للصبي : ( سنافاً سنافاً )(١) ولكلّ ما يعلمه الله يشتمل على قلبه. وأمّا بغض قريش له ،

____________________

(١) ما سنا سنا : في نظم درر السمطين / ١٣٣ : ويقول الصبي ما يعلم أنه يستميل به قلبه ( أو يسول على قلبه ).

١٠٣

فو الله ما يبالي ببغضهم له بعد أن جاهدهم في الله حتى أظهر الله دينه ، فقصم أقرانها ، وكسر آلهتها ، وأثكل نساءها في الله لامه من لامه. وأمّا صغر سنّه ، فقد علمت أنّ الله تعالى حيث أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) (١) ، فوجّه النبيّ صاحبك ليبلّغ عنه ، فأمره الله أن لا يبلغ عنه إلاّ رجل من أهله ، فوجهه في أثره وأمره أن يؤذن ببراءة ، فهل لا استصغر الله سنّه!؟

قال : فقال عمر لابن عباس : أمسك علّي وأكتم فإن سمعتها من غيرك لم أنم بين لابتيها )(٢) .

٤ ـ ( إنّ عليّاً لأحق الناس ).

روي أحمد بن أبي واضح اليعقوبي الكاتب في تاريخه ، قال : روى ابن عباس رضي الله عنه : ( قال طرقني عمر بن الخطاب بعد هداة من الليل ، فقال : أخرج بنا نحرس نواحي المدينة ، فخرج وعلى عنقه درّته(٣) حافياً حتى أتى بقيع الغرقد(٤) فاستلقى على ظهره ، وجعل يضرب أخمص قدميه بدرّته

____________________

(١) التوبة / ١.

(٢) نظم درر السمطين للزرندي الحنفي / ١٣٣ ، فرائد السمطين ١ / ٣٣٤ ط بيروت للحافظ الحمويني تح المحمودي حديث ٢٦٧ / ١٧٣ ونسخة منه مخطوطة بمكتبة آية الله السيد اليزدي في مدرسته الكبيرة في النجف الأشرف.

(٣) الدرة : بالكسر السوط أو العصا التي يُضرب بها.

(٤) بقيع الغرقد : مقبرة أهل المدينة.

١٠٤

وتأوّه صعداء(١) .

فقلت له : يا أمير المؤمنين ما أخرجك إلى هذا إلا أمر؟

فقال : أمر الله يا بن عباس.

قال : قلت : إن شئت أخبرتك بما في نفسك؟

فقال : غص يا غواص ، إن كنت لتقول فتحسن.

قال : قلت : ذكرت هذا الأمر بعينه وإلى من تصيّره؟

قال : صدقت.

قال : فقلت له : أين أنت عن عبد الرحمن بن عوف؟

فقال : ذلك رجل ممسك ، وهذا الأمر لا يصلح إلا لمعطٍ في غير سرف ، ومانع في غير إقتار.

قال : قلت : فسعد بن أبي وقاص؟

قال : مؤمن ضعيف.

قال : فقلت : طلحة بن عبيد الله؟

قال : ذاك رجل يناول للشرف والمديح ، يعطي ماله حتى يصل إلى مال غيره ، وفيه بأو(٢) وكبر.

قال : فقلت : فالزبير بن العوام ، فهو فارس الإسلام؟

____________________

(١) الصعداء : المشقة وتنفس طويل.

(٢) الباؤ : الفخر والكبر ، من بأى عليهم بأواص فخر وتكبّر.

١٠٥

قال : ذاك يوماً إنسان ويوماً شيطان ، وعقة لقس(١) إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر حتى تفوته الصلاة.

قال : فقلت : عثمان بن عفان؟قال : إن ولي حمل بني أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس ، وأعطاهم مال الله ، ولئن ولي ليفعلن ، والله لئن فعل لتسيرّن العرب إليه حتى تقتله في بيته.

ثم سكت. قال : فقال : أمضها يا بن عباس أترى صاحبكم لها موضعا؟

قال : فقلت : وأين يبتعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه.

قال : هو والله كما ذكرت ، ولو وليهم لحملهم على منهج الطريق ، فأخذ المحجة الواضحة ، إلاّ أنّ فيه خصالاً : الدعابة في المجلس ، وإستبداد الرأي ، والتبكيت للناس مع حداثة السن.

قال قلت : يا أمير المؤمنين هلاّ استحدثتم سنّه يوم الخندق ، إذ خرج عمرو بن عبد ود وقد كعم(٢) عنه الأبطال ، وتأخرت عنه الأشياخ ، ويوم بدر إذ كان يقط الأقران قطاً(٣) ، وهلا سبقتموه بالإسلام ( إذ كان جعلته السعب وقريش يستوفيكم )(٤) .

فقال : إليك يابن عباس ، أتريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعلىّ بأبي

____________________

(١) الوعقة : الشراسة ، وشدة الخلق يقال به وعقة ، فهو وعقةٌ واللقيس : الشره النفس الحريض على كل شرح.

(٢) كعم عنه : من كعم الخوف فلاناً فلا يرجع.

(٣) قطه قطاً : القطع عامة أو عرضاً.

(٤) كذا في النسخة.

١٠٦

بكر يوم دخلا عليه(١) .

قال : فكرهت أن أغضبه فسكتّ.

فقال : والله يابن عباس إنّ عليّاً ابن عمك لأحق الناس بها ، ولكن قريشاً لا تحتمله ، ولئن وليهم ليأخذهم بمرّ الحق ، لا يجدون عنده رخصة ، ولئن فعل لتنكثن بيعته ، ثم ليحاربن )(٢) .

٥ ـ ( فأردد إليه ظلامته ).

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) وغيره ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ( إنّي لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة ،

____________________

(١) يشير إلى يوم دخلا على أبي بكر يطالبانه بما لهما من حق ، كسهم ذوي القربى وميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحديثهما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما وغيرهما ، حيث كان الإمام عليه السلام يطالب بميراث زوجته فاطمة عليها السلام والعباس كذلك بما له من حق في سهم ذوي القربى ، وبالإرث على القول بالتعصيب إلزاماً لأبي بكر بما ألزم به نفسه ، وإلا فأهل البيت لا يقولون به ، وفتيا ابن عباس في ذلك معروفة ، وقد مرت الإشارة إليها مكرراً. وكانا ـ علي والعباس ـ يريان أبا بكر كان آثماً غادراً خائناً كما في صحيح مسلم ، ورأيا ذلك في عمر أيضاً ، وإلى القارئ الرواية بعين لفظه : فقد أخرج في ٥ / ١٥١ ـ ١٥٢ كتاب الجهاد والسير باب الفيء بسنده إلى مالك بن أوس ، وساق الحديث إلى قول عمر لعلي والعباس : فرأيتهماه كاذباً آثماً غادراً خائناً وفيه قال عمر : فرأيتهماني كاذبا آثماً غادراً خائنا ، وقد ذكر البخاري هذا الخبر وحذف منه هذه الكلمات ، ولشراح الصحيحين حول هذا الخبر تشريق وتغريب فمن أراد الاطلاع على بعض ما عندهم فليراجع كتابي ( المحسن السبط مولود أم سقط / ٢٦٧ ـ ٢٦٩ ).

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٣٥ ط النجف ، وفي شرح النهج للمعتزلي ١٢ / ٥١ ـ ٥٢ صورة أخرى عن هذه المحاورة ، فليراجع.

١٠٧

إذ قال لي : يابن عباس ما أرى صاحبك إلاّ مظلوماً.

فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها ، فقلت : يا أمير المؤمنين فأردد إليه ظلامته. فانتزع يده من يدي ، ومضى وهو يهمهم ساعة ، ثم وقف فلحقته.

فقال : يابن عباس ما أظن القوم منعهم عنه إلاّ أنّه استصغره قومه.

فقلت في نفسي : هذه والله شر من الأولى ، فقلت : والله ما استصغره الله ورسوله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من صاحبك أبي بكر.

قال : فأعرض عني وأسرع ، فرجعت عنه )(١) .

٦ ـ ( أوّل من راثكم عن هذا ـ الأمر ـ أبو بكر ).

قال عمرو بن عبد الله الليثي : ( قال عمر بن الخطاب ليلة في مسيره إلى الجابية(٢) : أين عبد الله بن عباس؟ فأتي به. فشكا إليه تخلّف عليّ بن أبي طالب عليه السلام عنه.

قال ابن عباس : فقلت له : أو لم يعتذر إليك؟

قال : بلى.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٨ و ٣ / ١٠٥ ط مصر الأولى ، كشف اليقين للعلامة الحلي / ٤٦١ والمحققة / ٤٠ و ٩٢ ، كشف الغمة للأردبيلي ٢ / ٤٥ ، السقيفة للجوهري / ٧٠.

وهذا الخبر ما لم يوجد في النسخة المطبوعة من الموفقيات بتوثيق الدكتور سامي مكي العاني ط الأوقاف ببغداد وقد أشرت في ص ٥٧ إلى ما أستدركته عليه ممّا فاتته الإشارة إليه.

(٢) الجابية : بكسر الباء وياء خفيفة قرية من أعمال دمشق.

١٠٨

قلت : فهو ما اعتذر به.

قال : ثم أنشأ يحدثني ، فقال : إنّ أوّل من راثكم(١) عن هذا ـ الأمر ـ أبو بكر ، إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوّة

ـ قال أبو الفرج الاصفهاني : ( ثم ذكر قصة طويلة ليست من هذا الباب ، فكرهت ذكرها )(٢) ـ.

ثم قال : يا بن عباس هل تروي لشاعر الشعراء؟

قلت : ومن هو؟

قال : ويحك ، شاعر الشعراء الذي يقول :

فلو أنّ حمداً يخلد الناس خلدوا

ولكن حمد الناس ليس بمخلد

قلت : ذاك زهير.

فقال : ذاك شاعر الشعراء.

قلت : وبم كان شاعر الشعراء؟

قال : إنّه كان لا يعاظل(٣) الكلام ، ويتجنب وحشيّه ، ولا يمدح أحداً

____________________

(١) راثكم : من الريث وهو الإبطاء كالريث للقاموس ( ريث ).

(٢)أقول : لماذا كره أبو الفرج الأموي الهوى والنسب أن يذكر القصة الطويلة وهو الذي حشا كتابه بكل غث وسمين؟! وأيم الله ما ضاقت صفحات كتابه عنها ، ولكن ضاق صدره أن يثبتها لما فيها من بليغ الجواب ، ونافح الخطاب ومرّ العتاب ، فالى الله المرجع والمآب ، وسيجد الذين يكتمون العلم شر الحساب ، ومن ورائهم أشد العذاب.

(٣) يعاظل : من العضال في القوافي ، بمعنى التضمين ، يقال : فلان لا يعاظل بين القوافي ( الصحاح عظل ).

١٠٩

إلاّ بما فيه )(١) .

٧ ـ ( إنّي بابٌ وعليّ مفتاحه ).

عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ( سمرت عند عمر ذات ليلة ، فجعل لا يسألني عن شيء إلاّ أخبرته ، فأعجب بذلك ، ثم قال : لو قلت إنّك سيد بني هاشم لصدقت.

قال ابن عباس : فقلت له كلا ، فأين أنت عن سيّدي وسيّديك ، وسيّدي شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين؟!

فقال : ومن هذان ويحك؟

قلت : الحسن والحسين ابنا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال عمر : فأبوهما؟

قلت : هيهات ، ذلك بحيث لا تحس به الظنون كرماً ، ولا تدركه الصفات فضلاً ، أبانه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل بيته بفضله كما أبان أهل الفضل بفضلهم من غيرهم.

فقال عمر : أبيت إلاّ وجداً به كوجد النصارى ، قالت في عيسى فكذبت.

قال ابن عباس : فإنّا نقول في صاحبنا ولسنا مبطلين ولا كذّابين ، وما عسى أن نبلغ بقولنا ما قاله محمد نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ، والله لئن قلت ذلك : لقد سمعت

____________________

(١) الأغاني ٩ / ٣٩ ط الساسي ، شرح نهج البلاغة ٤ / ٤٩٧.

١١٠

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من أحبّك يا عليّ فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ) ، وقال : ( إنّي باب وعلي مفتاحه ، فمن أرادني فليأته )(١) .

٨ ـ ( ولو سكت سكتنا ).

روى الحافظ ابن مردويه ، والراغب الاصفهاني ، والسيد ابن طاووس ، والشيخ المجلسي ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : ( كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل ، وأنا على فرس ، فقرأ آية فيها ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

فقال : أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر.

فقلت في نفسي : لا أقالني الله إن أقلته ، فقلت : أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين! وأنت وصاحبك اللذان وثبتما وانتزعتما وأفرغتما الأمر من ادون الناس؟!

فقال : إليكم يا بني عبد المطلب ، أمّا إنّكم أصحاب عمر بن الخطاب. فتأخرت وتقدم هنيهة ، فقال : سر لا سرت ، وقال : أعد عليَّ كلامك.

فقلت : إنّما ذكرت شيئاً فرددتُ عليه جوابه ، ولو سكت سكتنا.

فقال : إنّا والله ما فعلنا الذي فعلنا عن عداوة ، ولكن استصغرناه وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها.

____________________

(١) مصباح الأنوار لمحمد بن هاشم ٢ / باب ٤٨ مخطوط من موقوفات مكتبة المرحوم العلامة الجليل السيد عباس الخرسان ( قدس سره ).

١١١

قال : فأردت أن أقول : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعثه فينطح كبشها فلم يستصغره ، أفستصغره أنت وصاحبك؟

فقال : لا جرم فكيف ترى؟ والله ما نقطع أمراً دونه ، ولا نعمل شيئاً حتى نستأذنه )(١) .

٩ ـ ( إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد الأمر له ).

عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : ( خرجت مع عمر إلى الشام في أحدى خرجاته ، فانفرد يوماً يسير على بعيره ، فاتبعته.

فقال لي : يابن عباس أشكو إليك ابن عمك ، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجداً. فيم تظن موجدته؟

قلت : يا أمير المؤمنين إنّك لتعلم.

قال : أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة.

قلت : هو ذاك ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد الأمر له.

فقال : يابن عباس وأراد رسول الله الأمر له ، فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى؟ إنّ رسول الله أراد ذلك وأراد الله غيره ، فنفذ مراد رسوله ، أوكلّ ما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان؟ إنّه أراد إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم.

ـ قال ابن أبي الحديد : وقد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ ، وهو

____________________

(١) مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه / ١٢٧ ، اليقين لابن طاووس / ٢٠٥ ، محاضرات الراغب الاصفهاني ٢ / ٢١٣ ، بحار الأنوار ٨ / ٢٠٩ ط الكمباني.

١١٢

قوله : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددت عنه خوفاً من الفتنة ، وانتشار أمر الإسلام ، فعلم رسول صلى الله عليه وآله وسلم ما بنفسي وأمسك ، وأبى الله إلاّ إمضاء ما حتم ـ )(١) .

أقول : يبدو أنّ هذه المحاورة مبتورة الآخر! إذ لم يذكر الراوي للخبر عن ابن عباس رضي الله عنه جوابه على مقالة عمر في تفريقه بين مراد الله ومراد رسوله ، كما لم يذكر جوابه على مسألة إسلام عم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به هو أبو طالب. وليس من المعقول ولا من المقبول منطقياً أن يسكت ابن عباس عن جوابه ، وهو الذي قد ورد عنه الجواب الشافي في بقية إحتجاجاته عن إرادة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم الأمر لعليّ عليه السلام ، ومن غير المعقول أيضاً أنّه يتجاهل إسلام عمه أبي طالب رضي الله عنه وأبوه العباس هو أحد الشهود بإسلام أبي طالب ، وهو الذي كان عنده ساعة إحتضاره وكان عنده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ، وهو الذي روى عن أبيه قوله : ( أنّ أبا طالب ما مات حتى قال : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله )(٢) . وهو الذي أجاب من سأله : يا بن عم رسول الله إخبرني عن أبي طالب هل كان مسلماً؟

فقال له : ( وكيف لم يكن مسلماً وهو القائل :

وقد علموا أنّ ابننا لا مكذّبٌ

لدينا ولا يعبأ بقول الأباطل

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ١١٤.

(٢) أعيان الشيعة ٣٩ / ١٣٦ ، والغدير ٧ / ٣٩ نقلاً عن ضياء العالمين للفتوني.

١١٣

أنّ أبا طالب كان مثله كمثل أصحاب الكهف ، حين أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرتين )(١) .

فيا هل ترى أنّ ابن عباس رضي الله عنه عجز عن الجواب؟ وهو الذي كان على حدّ تعبير عمر كما في المحاججة الآتية : ( واهاً لابن عباس ما رأيته لاحى أحداً قط إلاّ خصمه )؟!!

أم أنّ يداً أثيمة امتدّت إلى المحاورة فحذفت منها ما لم يرق لها من بليغ الحجة وفصل الخطاب! كما صنع أبو الفرج في حذفه كلاماً كثيراً كره ذكره ، وقد مرّ اعترافه بذلك في إحتجاج(٦) تحت عنوان ( أوّل من راثكم عن هذا أبو بكر ) ، فراجع.

١٠ ـ ( واهاً لابن عباس ما رأيته لا حى أحداً قط إلاّ خصمه ).

بين يدي المحاججة :

لقد أخرج هذه المحاججة جمع من المصنفين في كتبهم ، منهم :

١ ـ أبو محمد الفضل بن شاذان في كتابه ( الإيضاح )(٢) .

٢ ـ أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني المعروف بـ ( ثعلب )

____________________

(١) الأمالي للصدوق / ٣٦٦ ، الحجة على المذاهب / ٩٤ ـ ١١٥ ، الغدير ٧ / ٣٩٦ ، وقد روى عن الإمام الصادق عليه السلام أنه أجاب أيضاً من سأله عن ذلك مستشهداً بالبيت المذكور ومعه قوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وفي رسالة ( بغية الطالب في إيمان أبي طالب ) ما يغني عن الإطالة.

(٢) كتاب الإيضاح لابن شاذان / ٨٧ ط الأعلمي بيروت.

١١٤

المتوفى ٢٩١ هـ ، وستأتي روايته لها ، لأنّها أوفى من روايات الآخرين أوّلاً ، ولكونه أقدمهم زماناً ثانياً.

٣ ـ شيخ المفسرين وإمام المؤرخين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي ٣١٠ هـ ، أخرجها في تاريخه ، قال :

( حدثني سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعض أصحابه يتذاكرون الشعر ، فقال بعضهم : فلان أشعر ، وقال بعضهم : بل فلان أشعر ، قال : فأقبلت ، فقال عمر : قد جاءكم أعلم الناس بها.

فقال عمر : من شاعر الشعراء يا بن عباس؟

قال : فقلت : زهير بن أبي سلمي.

فقال عمر : هلّم من شعره ما نستدل به على ما ذكرت؟

فقلت : أمتدح قوماً من بني عبد الله بن غطفان ، فقال : ( لو كان يقعد فوق الشمس من كرمٍ ) الأبيات الآتية )(١) .

٤ ـ المحدث الكبير أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري ـ معاصر السابق ـ والمتوفى في أوائل الأربعمائة أيضاً ، ويشاركه إسماً ونسباً وكنية ونسبة ، أخرجها في كتابه ( المسترشد في الإمامة ) ، قال :

( رواه ـ الحديث ـ سفيان بن عيينة ، عن النهدي ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه عبد الله بن عمر ، قال : كنّا عند أبي عمر ذات يوم إذ قال : من أشعر

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٢٢٢ تح محمد أبو الفضل إبراهيم.

١١٥

الناس؟ قلنا : فلان وفلان. فبينا نحن كذلك ، إذ طلع عبد الله بن عباس فسلّم فأجلسه إلى جنبه وقال : قد جاءكم ابن بجدتها ، من أشعر الناس يا بن عباس؟

قال : ذاك زهير بن أبي سلمى.

قال : فأنشدني شيئاً من شعره أستدل به على ما تقول؟

قال : امتدح قوماً من بني غطفان يقال لهم بنو سنان ، فقال : ( لوكان يقعد فوق الشمس من كرم ) الأبيات )(١) .

٥ ـ المؤرخ الشهير أبو الحسن ابن الأثير المتوفي ٦٣٠ هـ في كتابه ( الكامل في التاريخ ) أخرجها في حوادث سنة ٢٣ ط بمصر بنحو ما تقدم عن ابن جرير المؤرخ.

٦ ـ عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي في ( شرح النهج ) ، قال :

( وروى عبد الله بن عمر ، قال : من أشعر العرب؟ فقالوا : فلان وفلان ، فاطلع عبد الله ابن عباس فسلّم وجلس ، فقال عمر : قد جاءكم الخبير ، من أشعر الناس يا عبد الله؟

قال : زهير بن أبي سلمى.

قال : فأنشدني ممّا تستجيده له؟

فقال : يا أمير المؤمنين إنّه مدح قوماً من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال : ( لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ) الأبيات )(٢) .

____________________

(١) المسترشد في الإمامة / ٢٨٠.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ١٠٧.

١١٦

٧ ـ صاحب ( أخبار الدولة العباسية ) من القرن الثالث ، جاء فيه :

( أخبرنا علي بن إبراهيم بن هاشم القمي ، عن أبيه ، عن الزبيري بإسناد له يرفعه قال : بينما عمر جالس في جماعة من أصحابه فتذاكروا الشعر.

فقال : من أشعر الناس؟ فاختلفوا. فدخل عبد الله بن عباس.

فقال عمر : قد جاءكم ابن بجدتها وأعلم الناس. من أشعر الناس يابن عباس؟

قال : زهير بن أبي سلمى المزني.

قال : أنشدني من شعره.

فأنشدته : ( لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ) الخ )(١) .

٨ ـ الأمير أسامة بن منقذ المتوفى ٥٤٨ هـ في كتابه ( المنازل والديار ) ، قال :

( روي أنّ قوماً تشاجروا بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من أشعر الناس؟

فقال عمر : سأرسل إلى سيد الناس فأسأله. فقال الناس : تشاجرنا في سيد الشعراء فنريد الآن ننظر إلى سيد الناس ، فأرسل إلى عبد الله بن العباس ، فجاءه رضي الله عنه.

فقال له : يا أبا العباس أنشدنا ما تستحسن من الشعر.

فقال : سأنشدكم لسيد الشعراء ، فأنشدهم لزهير )(٢) .

____________________

(١) أخبار الدولة العباسية / ٣٢ تحقيق الدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور عبد الجبار المطلبي ط دار الطليعة بيروت ١٩٧١ هـ.

(٢) المنازل والديار / ١٥٥ ط موسكو ١٩٦١ نشر آثار الآداب الشرقية السلسلة الكبرى نصوص ١٢.

١١٧

هذه جملة من المصادر التي اطلعت عليها ولعلّ ما فاتني الإطلاع عليه أكثر ، ولنقتصر على هذا فحسب.

والآن إلى القارئ المحاججة بلفظ أبي العباس ثعلب في شرح ديوان زهير مع إضافة ما تنفرد به روايته عن الآخرين :

( قال(١) عبد الله بن محمد البصري ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله السدوسي ، عن محمد بن خداش الأسلمي ، عن نوح بن دراج ، عن حبيب ابن زاذان ، عن أبيه ، قال : دخلت على عمر بن الخطاب رحمه الله وعنده نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكروا الشعر ، فقال لهم عمر : من كان أشعر العرب؟ فاختلفوا ، فبينا هم كذلك إذ طلع عليهم عبد الله بن عباس ، فقال عمر لجلسائه : قد جاءكم ابن بجدتها(٢) ، وأعلم الناس بأيامها.

ثم قال عمر : من كان أشعر العرب يابن عباس؟

قال : ذاك زهير بن أبي سلمى المزني.

____________________

(١) قال أبو أحمد عبد السلام البصري : ممّا قرأت على شيخنا أبي رياش أحمد بن أبي هاشم قال تشاجروا في الشعر بين يدي عمر بن الخطاب رحمة الله عليه في أشعر الناس قال : سأرسل إلى سيد الناس فأسأله. فقال الناس : قد تشاجرنا في سيد الشعراء فنريد الآن ننظر من سيد الناس؟! فأرسل إلى عبد الله بن عباس فجاءه فقال له يا أبا العباس أنشدنا ما تستحسن من الشعر؟. فقال : سأنشدكم لسيد الشعراء فأنشدهم لزهير بن أبي سلمى : هل في تذكر أيام الصبا فند ـ القصيدة.

(٢) البجدة : دخلة الأمر وباطنه يقال : هو عالم بجدة أمرك ، ومنه يقال : هو ابن بجدتها للعالم بالشيء المتقن له المميزّ له ، وكذلك يقال : للدليل الهادي الخرّيت.

١١٨

فقال عمر : هلا تنشدني من شعره أبياتاً نستدل بها على قولك فيه؟

قال : نعم ، مدح قوماً من غطفان يقال لهم بنو سنان ، فقال :

هل في تذكّر أيام الصبا فند(١)

أم هل لما فات من أيامه رددُ

أم هل يلامنَّ باكٍ هاج عبرته

بالحجر إذ شفّه الوجدُ الذي يجد(٢)

أوفى على شرفٍ نشزٍ فأزعجه

قلبٌ إلى آل سلمى تائقٌ كمدُ(٣)

متى ترى دار حيّ عهدنا بهمُ

حيثُ التقى الغور من نعمان والنجد(٤)

لهم هوىً من هوانا ما يقرّبنا

ماتت على قربه الأحشاء والكبد

إني لما استودعتني يوم ذي غُذُمٍ

راعٍ إذا طال بالمستودع الأمد(٥)

إن تمس دارهمُ عنا مباعدة

فما الأحبةُ إلا هم وإن بعدوا

يا صاحبيّ انظرا والغور دونكما

هل يبدونَّ لنا فيما نرى الجمد(٦)

هيهات هيهات من نجد وساكنه

من قد أتى دونه البغثاء والثمدُ(٧)

____________________

(١) فند : الخطأ في القول والرأي.

(٢) شفّه : براه وأسقمه ، الوجد : الحبّ الشديد.

(٣) شرف : المكان العالي ، النشر : المرتفع.

(٤) الغور : ما انهبط من الأرض ، ضد النجد وهو ما ارتفع ، جمعه أنجد وأتجاه ونجاد ونجود ونجد.

(٥) ذوغذم بضمتين موضع من نواحي المدينة.

(٦) الجمدُ : بضمتين جبل لبني نصر بنجد.

(٧) البغثاء : أخلاها الناس ، ولعل الأبغث موضع ذو رمل وحجارة كما في تاج العروس وقد أهمله ياقوت ، والمد : الماس القليل الذي لا مادة له ، ولعل البغثاء والثمد موضعان بعينهما.

١١٩

إلى ابن سلمى سنان وابنه هرمٍ

تخبو باقتادها عيدية تخدُ(١)

في مسبطر تباري في أزمّتها

فتل المرافق في اعناقها قود(٢)

معصوصبات ببادرن النجاءبنا

إذا ترامت بها الديمومة الجدد(٣)

عوم القوادس قفّى الأردمون بها

إذا ترامى بها المغلولب الزبدُ(٤)

بفتية كسيوف الهند يبعثهم

همٌ فكلهم ذوحاجة يقد(٥)

منّهمُ السيرُ فانئآدت سوالفهم

وما بأعناقهم إلا الكرى أود(٦)

إني لأبعثهم والليل مطرق

ولم يناموا سوى إن قلت قد هجدوا(٧)

إلى مطايا لهم حدبٍ عرائكها

وقد تحلل من أصلابها القحدُ(٨)

____________________

(١) تخبو : تسرع ، والاقتاد : خشب الرجل أو جميع أدواته ، وعيدية : منسوبة إلى فحل منجب يقال له عيد ، تنسب إليه كرام النجائب ، وتخد : تسرع ، والوخد : سعة الخطو.

(٢) المسبطر : الممتد ، واسبطرت الأبل : أسرعت ، وفتل المرافق ذو الفتل وهو الاندماج والقود في العنق : الطول.

(٣) اعصوصبت الابل جدت في السير ، والنجا : السرعة ، والديمومة : الفلاة الواسعة أو المغازة التي لاماء فيها لبعدها ، والجدد : الأرض الغليظة المستوية.

(٤) عوم : سبح ، والقوادس ج قادس : السفينة العظيمة ، الأردمون ج أردم : وهو الملاح الحاذق ، الغلولب : العشب المتكاثر : ولعل المراد البحر المتلاطم بالزبد الكثير.

(٥) يقدُ : يشتعل كناية عن بعد الهمة في طلب الحاجة.

(٦) منهم السير : قطعهم وأعياهم ، انئادت انعطفت ، وسوالفهم : صفحة أعناقهم ، والأود إلاعوجاج.

(٧) الهجود : من الأضداد : نام بالليل وسهر بالليل ومنه المنهجد بالعبادة.

(٨) الحُدب من الأبل : البارزة الهزال ، والعرائك : الأسنمة ، تحلل : ذاب ، أصلابها : ظهورها والمقحدة : أصلا السنام. ولعل القحد هنا جمع القحدة بحذف التاء.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496