موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93294 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

لقيني كلّ واحد منهما يذكر من صاحبه ما لا تبرك عليه الإبل ، فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها )(١) .

المحاورة الثالثة :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) عن عمه ، عن عيسى بن داود ، عن رجاله ، قال : قال ابن عباس رحمه الله : ( لمّا بنى عثمان داره بالمدينة أكثر الناس عليه في ذلك فبلغه ، فخطبنا في يوم جمعة ، ثمّ صلّى بنا ، ثمّ عاد إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال :

أمّا بعد فإنّ النعمة إذا حدثت حدث لها حسّاد حسبها وأعداء قدرها ، وإنّ الله لم يحدث لنا نعماً ليحدث لها حسّاد عليها ومنافسون فيها ، ولكنه قد كان من بناء منزلنا هذا ما كان إرادة جمع المال فيه وضم القاصية إليه ، فأتانا عن أناس منكم أنّهم يقولون أخذ فيأنا وأنفق شيأنا وأستأثر بأموالنا ، يمشون خمراً ، وينطقون سرّاً ، كأنّا غيّب عنهم ، وكأنّهم يهابون مواجهتنا ، معرفة منهم بدحوض حجتهم ، فإذا غابوا عنا يروح بعضهم إلى بعض يذكرنا ، وقد وجدوا على ذلك أعواناً من نظرائهم ، ومؤازرين من شبهائهم ، فبُعداً بُعداً ، ورغماً رغماً ، ثمّ أنشد بيتين كأنّه يوميء فيهما إلى عليّ عليه السلام :

توقّد بنار أينما كنت وأشتعل

فلست ترى ممّا تعالج شافياً

تشط فيقضي الأمر دونك أهلُه

وشيكاً ولا تدعى إذا كنت نائياً

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٣٩٩ ط مصر الأولى.

١٦١

ما لي ولفيئكم وأخذ مالكم ، ألست من أكثر قريش مالاً وأظهرهم من الله نعمة؟ ألم أكن على ذلك قبل الإسلام وبعده؟

وهبوني بنيت منزلاً من بيت المال أليس هو لي ولكم؟ ألم أقم أموركم ، وأني من وراء حاجاتكم؟ فما تفقدون من حقوقكم شيئاً؟ فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت؟ فلِمَ كنت إماماً إذاً؟

ألا وإنّ من أعجب العجب أنّه بلغني عنكم أنّكم تقولون : لنفعلن به ولنفعلن ، فبمن تفعلون؟ لله آباؤكم ، أبنقد البقاع أم بفقع القاع؟ ألست أحراكم إن دعا أن يجاب؟ وأقمنكم إن أمر أن يطاع؟ لهفي على بقائي فيكم بعد أصحابي ، وحياتي فيكم بعد أترابي ، يا ليتني تقدمت قبل هذا ، لكني لا أحبّ خلاف ما أحبّه الله لي عليه السلام. إذا شئتم ، فإنّ الصادق المصدّق محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد حدثني بما هو كائن من أمري وأمركم ، وهذا بدء ذلك وأوّله ، فكيف الهرب ممّا حتم وقدّر. أما أنّه عليه السلام قد بشّرني في آخر حديثه بالجنة دونكم إذا شئتم ، فلا أفلح من ندم.

قال : ثمّ همّ بالنزول فبصر عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومعه عمّار بن ياسر رضي الله عنه وناس من أهل هواه يتناجون ، فقال : أيهاً أيهاً اسراراً لا جهاراً ، أما والذي نفسي بيده ما أحنق على جرة ولا أوتى على ضعف مرّة ، ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم لعاجلتكم فقد أغتررتم ، وأقلتم من أنفسكم ، ثمّ رفع يديه يدعو ويقول : اللّهمّ قد تعلم حبّي للعافية فألبسنيها ، وإيثاري للسلامة فاتنيها.

١٦٢

قال : فتفرق القوم عن عليّ عليه السلام ، وقام عدي بن الخيار ، فقال : أتم الله عليك يا أمير المؤمنين النعمة وزادك في الكرامة ، والله لأن تـُحسد أفضل من أن تَحسِد ، ولأن تُنافس أجل من أن تنافِس ، أنت والله في حبنا الصميم ومنصبنا الكريم ، إن دعوت أُجبت ، وأن أمرت أُطعت ، فقل نفعل وأدع نجب. جُعلت الخيرة والشورى إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليختاروا لهم ولغيرهم ، وأنّهم ليرون مكانك ويعرفون مكان غيرك ، فاختاروك منيبين طائعين غير مكرهين ولا مجبرين ، ما غيّرت ولا فارقت ولا بدّلت ولا خالفت ، فعلام يقدمون عليك ، وهذا رأيهم فيك ، أنت والله كما قال الأوّل :

اذهب إليك فما للحسود

إلا طلابك تحت العثار

حكمتَ فما جُرت في خُلةٍ

فحكمك بالحقّ بادي المنار

فإن يسبعوك فسراً وقد

جهرتَ بسيفك كلّ الجهار

قال : ونزل عثمان فأتى منزله ، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس ، فلمّا أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس ، فقال : ما لي ولكم يا بن عباس؟ ما أغراكم بي وأولعكم بتعقّب أمري؟ أتنقمون عليّ أمر العامة ، أتيت من وراء حقوقهم أم أمركم ، فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم ، لا والله لكن الحسد والبغي وتثوير الشر وإحياء الفتن ، والله لقد ألقى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليَّ ذلك ، وأخبرني عن أهله واحداً واحداً ، والله ما كذبت ولا أنا بمكذوب.

فقال ابن عباس : على رسلك يا أمير المؤمنين ، فوالله ما عهدتك جَهِراً

١٦٣

بسرّك ، ولا مظهراً ما في نفسك ، فما الذي هيّجك وثوّرك؟ إنّا لم يولعنا بك أمر ، ولم نتعقب أمرك بشيء ، أُتيت بالكذب وتـُسوّق عليك بالباطل ، والله ما نقمنا عليك لنا ولا للعامة ، قد أوتيت من وراء حقوقنا وحقوقهم ، وقضيت ما يلزمك لنا ولهم ، فأمّا الحسد والبغي وتثوير الفتن وإحياء الشرّ فمتى رضيت به عترة النبيّ وأهل بيته ، كيف وهم منه واليه ، على دين الله يثورون الشر؟ أم على الله يحيون الفتن؟ كلا ليس البغي ولا الحسد من طباعهم ، فاتئد يا أمير المؤمنين وأبصر أمرك وأمسك عليك ، فإنّ حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى ، لعمري إن كنت لأثيراً عند رسول الله وإن كان ليفضي إليك بسره ما يطويه عن غيرك ولا كذبت ولا أنت بمكذوب ، أخسىء الشيطان عنك ولا يركبك ، وأغلب غضَبك ولا يغلبك ، فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك؟

قال : دعاني إليه ابن عمك عليّ بن أبي طالب.

فقال ابن عباس : وعسى أن يكذب مبلّغك؟

قال عثمان : إنّه ثقة.

قال ابن عباس : إنّه ليس بثقة من بلّغ وأغرى.

قال عثمان : يا بن عباس ألله انّك ما تعلم من عليّ ما شكوت منه؟

قال : اللّهمّ لا ، إلاّ أن يقول كما يقول الناس ينقم كما ينقمون ، فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم؟

فقال عثمان : إنّما آفتي من أعظم من الداء الذي ينصب نفسه لرأس

١٦٤

الأمر وهو عليّ ابن عمك ، وهذا والله كلّه من نكده وشؤمه.

قال ابن عباس : مهلاً استثن يا أمير المؤمنين ، قل : إن شاء الله.

فقال : إن شاء الله ، ثمّ قال : إنّي أنشدك يا بن عباس الإسلام والرحم فقد والله غُلبت وابتليت بكم ، والله لوددت أنّ هذا الأمر كان صار إليكم دوني ، فحملتموه عنّي وكنت أحد أعوانكم عليه ، إذاً والله لوجدتموني لكم خيراً ممّا وجدتكم لي. ولقد علمتُ أنّ الأمر لكم ولكن قومكم دفعوكم عنه وأختزلوه دونكم ، فوالله ما أدري أرفعوه عنكم ، أم رفعوكم عنه؟

قال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين فإنّا ننشدك الله والإسلام والرحم مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدواً ، وتشمت بنا وبك حسوداً ، إنّ أمرك إليك ما كان قولاً ، فإذا صار فعلاً فليس إليك ولا في يديك ، وإنّا والله لنخالفنّ إن خولفنا ولننازعنّ إن نوزعنا ، وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلاّ أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ، ويعيب كما عابوا.

فأمّا صرف قومنا عنا الأمر ، فعن حسدٍ قد والله عرفته ، وبغيٍ قد والله علمتَه ، فالله بيننا وبين قومنا.

وأمّا قولك : إنّك لا تدري أرفعوه عنا أم رفعونا عنه ، فلعمري إنّك لتعرف إنّه لو صار إلينا هذا الأمر ما ازددنا به فضلاً إلى فضلنا ، ولا قدراً إلى قدرنا ، وإنّا لأهل الفضل وأهل القدر ، وما فضل فاضل إلاّ بفضلنا ، ولا سبق سابق إلاّ بسبقنا ، ولولا هدينا ما أهتدى أحد ، ولا أبصروا من عمىً ولا قصدوا من خور.

١٦٥

فقال عثمان : حتى متى يا بن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني ، هبوني كنت بعيداً ما كان لي من الحقّ عليكم أن أراقب وأن أناظر ، بلى ورب الكعبة ، ولكن الفرقة سهّلت لكم القول فيّ وتقدّمت لكم إلى الإسراع إليَّ ، والله المستعان.

قال ابن عباس : مهلاً حتى ألقى عليّاً ، ثمّ أحمل إليك على قدر ما أرى.

قال عثمان : افعل فقد فعلت ، وطالما طلبت فلا أطلب ولا أجاب ولا أعتب.

قال ابن عباس : فخرجت فلقيت عليّاً وإذا به من الغضب والتلظي أضعاف ما بعثمان ، فأردت تسكينه فأمتنع ، فأتيت منزلي وأغلقت بابي وأعتزلتهما. فبلغ ذلك عثمان فأرسل إليَّ فأتيته وقد هدأ غضبه ، فنظر إليّ ثمّ ضحك.

وقال : يا بن عباس ما أبطأ بك عنا؟ إنّ تركك العَود إلينا لدليل على ما رأيت عند صاحبك ، وعرفت من حاله فالله بيننا وبينه خذ بنا في غير ذلك.

قال ابن عباس : فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن عليّ فأردت التكذيب عنه يقول : ولا يوم الجمعة أبطأت عنا وتركتَ العود إلينا ، فلا أدري كيف أردّ عليه اهـ )(١) .

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٣٩٣ ط مصر الأولى.

١٦٦

المحاورة الرابعة :

روى الزبير بن بكار أيضاً في ( الموفقيات ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( خرجت من منزلي سحراً أسابق إلى المسجد وأطلب الفضيلة ، فسمعت خلفي حساً وكلاماً ، فتسمعته فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أنّ أحداً يسمعه ، ويقول : اللّهمّ قد تعلم نيّتي فأعنّي عليهم ، وتعلم الذين أبتليت بهم من ذوي رحمي وقرابتي فأصلحني لهم وأصلحهم لي.

قال : فقصّرت من خطوتي وأسرع في مشيته فألتقينا فسلّم فرددت عليه.

فقال : انّي خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة إلى المسجد.

فقلت : إنّه أخرجني ما أخرجك.

فقال : والله لئن سابقت إلى الخير إنّك لمن سابقين مباركين ، وإنّي لأحبّكم وأتقرب إلى الله بحبّكم.

فقلت : يرحمك الله يا أمير المؤمنين إنّا لنحبّك ونعرف سابقتك وسنّك وقرابتك وصهرك.

قال : يا بن عباس فما لي ولابن عمك وابن خالي؟

قلت : أيّ بني عمومتي وبني أخوالك؟

قال : اللّهم غفراً تسأل مسألة الجاهل.

قلت : إنّ بني عمومتي من بني خؤلتك كثير فأيّهم تعني؟

قال : أعني عليّاً لا غيره.

فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين ما أعلم منه إلاّ خيراً ولا أعرف له إلاّ

١٦٧

حسناً.

قال : والله بالحري أن يستر دونك ما يظهره لغيرك ، ويقبض عنك ما يبسط به إلى سواك.

قال : ورمينا بعمّار بن ياسر فسلّم فرددت عليه سلامه ، ثمّ قال : من معك؟ قلت : أمير المؤمنين عثمان. قال : نعم ، وسلّم بكنيته ولم يسلّم عليه بالخلافة ، فردّ عليه.

ثمّ قال عمّار : ما الذي كنتم فيه فقد سمعت ذرواً منه؟ قلت : هو ما سمعت.

فقال عمّار : ربّ مظلوم غافل وظالم متجاهل.

قال عثمان : أمّا إنّك من شنئاننا وأتباعهم ، وأيم الله إنّ اليد عليك منبسطة ، وإنّ السبيل إليك لسهلة ، ولولا إيثار العافية ولمّ الشعث لزجرتك زجرة تكفي ما مضى وتمنع ما بقي.

فقال عمّار : والله ما أعتذر من حبّي عليّاً وما اليد بمنبسطة ولا السبيل بسهلة ، إنّي لازم حجة ومقيم على سنّة ، وأمّا إيثارك العافية ولمّ الشعث فلازم لك ذلك ، وأمّا زجري فأمسك عنه فقد كفاك معلّمي تعليمي.

فقال عثمان : أما والله إنّك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه ، الخذلة عند الخير والمثبطين عنه.

فقال عمّار : مهلاً يا عثمان فقد سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصفني بغير ذلك.

قال عثمان : ومتى؟

١٦٨

قال : يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة وليس عنده غيرك ، وقد ألقى ثيابه وقعد في فضله ، فقبّلت صدره ونحره وجبهته ، فقال : يا عمّار إنّك لتحبّنا وإنّا لنحبّك ، وإنّك لمن الأعوان على الخير المثبّطين عن الشرّ.

فقال عثمان : أجل ولكنّك غيّرت وبدّلت.

قال : فرفع عمّار يده يدعو ، وقال : أمّن يا بن عباس : اللّهم مَن غيّر فغيّر به ثلاث مرات.

قال : ودخلنا المسجد ، فأهوى عمّار إلى مصلاه ومضيت مع عثمان إلى القبلة ، فدخل المحراب وقال : تلبث عليّ إذا أنصرفنا فلمّا رآني عمّار وحدي أتاني ، فقال : أما رأيت ما بلغ بي آنفاً.

قلت : أما والله لقد أصعبتَ به وأصعب بك ، وإنّ له لسنّه وفضله وقرابته.

قال : إنّ له ذلك ، ولكن لا حقّ لمن لا حقّ عليه. وانصرف.

وصلّى عثمان وأنصرفت معه يتوكأ عليَّ. فقال : هل سمعت ما قال عمّار؟

قلت : نعم ، فسرّني ذلك وساءني ، أمّا مساءته إياي فما بلغ بك ، وأمّا مسرّته لي فحملك واحتمالك.

فقال : إنّ عليّاً فارقني منذ أيام على المقاربة ، وأنّ عماراً آتيه فقائل له وقائل ، فأبدره إليه فإنّك أوثق عنده منه وأصدق قولاً ، فألق الأمر إليه على وجهه.

١٦٩

فقلت : نعم ، وأنصرفت أريد عليّاً عليه السلام في المسجد فإذا هو خارج منه ، فلمّا رآني تفجّع لي من فوت الصلاة ، وقال : ما أدركتها؟

قلت : بلى ولكني خرجت مع أمير المؤمنين ، ثمّ أقتصصت عليه القصة.

فقال : أما والله يا بن عباس إنّه ليقرف قرحة ليحورنّ عليه ألمها.

فقلت : إنّ له سنّه وسابقته وقرابته وصهره.

قال : إنّ ذلك له ولكن لا حقّ لمن لا حقّ عليه.

قال : ثمّ رهقنا عمّار فبشّ به عليّ وتبسّم في وجهه وسأله.

فقال عمّار : يا بن عباس هل ألقيت إليه ما كنّا فيه؟

قلت : نعم.

قال : أما والله إذاً لقد قلت بلسان عمّار ونطقت بهواه.

قلت : ما عدوت الحقّ جهدي ، ولا ذلك من فعلي ، وإنّك لتعلم أيّ الحظين أحبّ إليَّ ، وأيّ الحقين أوجب عليَّ.

قال : فظن عليّ أنّ عند عمّار غير ما ألقيت إليه ، فأخذ بيده وترك يدي ، فعلمت إنّه يكره مكاني ، فتخلّفت عنهما وأنشعب بنا الطريق فسلكاه ولم يدعني ، فأنطلقت إلى منزلي ، فإذا رسول عثمان يدعوني فأتيته ، فأجد ببابه مروان وسعيد بن العاص في رجال من بني أمية ، فأذن لي وألطفني وقرّبني وأدنى مجلسي ، ثمّ قال : ما صنعت؟ فأخبرته الخبر على وجهه ، وما قال الرجل وقلت له ، وكتمته قوله : إنّه ليقرف قرحة ليحورنّ عليه ألمها ،

١٧٠

إبقاءً عليه وإجلالاً له ، وذكرت مجيء عمّار وبشّ عليّ له وظن عليّ أن قِبلَه غير ما ألقيت عليه ، وسلوكهما حيث سلكا. قال : وفعلا؟ قلت : نعم.

فأستقبل القبلة ثمّ قال : اللّهم ربّ السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أصلح لي عليّاً وأصلحني له ، أمّن يا بن عباس ، فأمّنت ، ثمّ تحدثنا طويلاً وفارقته وأتيت منزلي اهـ )(١) .

المحاورة الخامسة :

ذكر ابن عبد ربه في ( العقد الفريد ) :

وقال عبد الله بن العباس : أرسل إليّ عثمان ، فقال لي : إكفني ابن عمك.

فقلت : إنّ ابن عمي ليس بالرجل يُرى له ، ولكنه يرى لنفسه ، فأرسلني إليه بما أحببت.

قال : قل له فليخرج إلى ماله بينبع فلا أغتمّ به ولا يغتمّ بي.

فأتيت عليّاً فأخبرته ، فقال : ما اتخذني عثمان إلاّ ناضحاً ، ثمّ أنشد يقول :

فكيف به أنّى أداوي جراحَه

فيَدوى فلا مُلّ الدواء ولا الداء

أما والله أنّه ليختبر القوم.

فأتيت عثمان فحدثته الحديث كلّه إلاّ البيت الذي أنشده وقوله : أنّه

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٣٩٦.

١٧١

ليختبر القوم.

فأنشد عثمان :

فكيف به أنّى أداوي جراحَه

فيَدوى فلا مُلّ الدواء ولا الداء

وجعل يقول : يا رحيم أنصرني ، يا رحيم أنصرني.

قال : فخرج عليّ إلى ينبع ، فكتب إليه عثمان حين أشتد الأمر : أمّا بعد فقد بلغ السيل الزُبى ، وجاوز الحزام الطبيين ، وطمع فيّ من كان يضعف عن نفسه.

فإنّك لم يفخر عليك كفاخر

ضعيف ولم يغلبك مثلُ مغلّبِ

فأقبل إليَّ على أيّ أمر يك أحببت،وكن لي أم عليَّ ، صديقاً كنت أم عدواً :

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلاّ فأدركني ولمّا أمزّق(١)

تعقيب : روى الشريف الرضي في ( نهج البلاغة ) ، قال : ( ومن كلام له عليه السلام قال لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور

____________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٣٠٩.

وجاء في أنساب الأشراف ١ق ٤ / ٥٦٨ تحـ إحسان عباس بيروت عن يحيى بن سعيد قال : كان طلحة قد استولى على أمر الناس في الحصار فبعث عثمان عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب إلى عليّ بهذا البيت. وذكر في حديث أبي مخنف قال صلّى عليّ بالناس يوم النحر وعثمان محصور فبعث عثمان ببيت المزق وسيأتي تمام الحديث في محله.

١٧٢

يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس بأسمه للخلافة ، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل.

فقال عليه السلام : يا بن عباس ما يريد عثمان إلاّ أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغَرب ، أقبل وأدبر ، بعث إليَّ أن أخرج ، ثمّ بعث إليَّ أن أقدم ، ثمّ هو الآن يبعث إليَّ أن أخرج ، والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً )(١) .

المحاورة السادسة :

سأل عثمان عبد الله بن عباس عن رأيه فيه ، فقال له :

( يا بن عمي ويابن خالي إنّه لم يبلغني في أمري شيء أحبه ولا أكرهه ، عليّ ولا لي ، وقد علمتُ أنّك رأيت بعض ما رأى الناس ، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا ، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك؟

فاعتذر ابن عباس ، فأبى عثمان عليه إلاّ أن يقول.

فقال : يا أمير المؤمنين إنّك ابتليتني بعد العافية ، وأدخلتني في الضيق بعد السعة ، والله إنّ رأيي لك أن يُجلّ سنّك ، ويُعرَف قدرَك وسابقتُك ، والله لوددت أنّك لم تفعل ما فعلتَه. فما ترك الخليفتان قبلك. فإن كان شيئاً تركاه لما رأيا أنّه ليس لهما ، علمتَ أنه ليس لك كما لم يكن لهما ، وإن كان ذلك لهما فتركاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي نَيل منك ، تركتَه لما تركاه له ، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك.

____________________

(١) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٢٨٢ ط مصر الأولى.

١٧٣

فقال عثمان : فما منعك أن تشير عليَّ بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟

فقال ابن عباس باستغراب وتعجب من عثمان : وما علميَ بأنّك تفعل ذلك قبل أن تفعل.

فقال عثمان : فهب لي صمتاً حتى ترى رأيي )(١) .

المحاورة السابعة :

أخرج ابن عساكر في تاريخه في ترجمة عثمان :

( أنّ عثمان بعث إلى ابن عباس وهو محصور ، فأتاه وعنده مروان بن الحكم.

فقال عثمان : يابن عباس أما ترى إلى ابن عمك ، كان هذا الأمر في بني تيم وعدي فرضي وسلّم ، حتى إذا صار الأمر إلى ابن عمه بغانا الغوائل.

قال ابن عباس : فقلت له : إنّ ابن عمك والله ما زال عن الحق ولا يزول ، ولو أنّ حسناً وحسيناً بغيا في دين الله الغوائل لجاهدهما في الله حق جهاده ، ولو كنت كأبي بكر وعمر لكان لك كما كان لهما ، بل كان لك أفضل لقرابتك ورحمك وسنّك ، ولكنك ركبت الأمر وهاباه.

قال ابن عباس : فأعترضني مروان ، فقال : دعنا من تخطئتك يابن

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ٢٩ ـ ٣٠ مطبعة الأمة ١٩٢٨ هـ ، وقد مرّ سابقاّ في الحلقة الأولى من هذه الموسوعة ٢ / ٣٤٠.

١٧٤

عباس ، فأنت كما قال الشاعر :

دعوتك للغياث ولست أدري

أمن خلفي المنية أم أمامي

فشققت الكلام رخيّ بال

وقد جلّ الفعال عن الكلام

إن يكن عندك غياث لهذا الرجل فأغثه ، وإلاّ فما أشغله عن التفهّم لكلامك ، والفكر في جوابك.

قال ابن عباس : فقلت له : هو والله كان عنك وعن أهل بيتك أشغل ، إذ أوردتموه ولم تُصدروه. ثم أقبلت على عثمان فقلت له :

جعلت شعار جلدك قوم سوء

وقد يجزى المقارن بالقرين

فما نظروا لدنيا أنت فيها

بإصلاح ولا نظروا لدين

ثم قلت له : إنّ القوم غير قابلين إلاّ قتلك أو خلعك ، فإن قُتلت قٌتلت على ما قد عملت وعلمت ، وإن تُركت فإنّ باب التوبة مفتوح )(١) .

المحاورة الثامنة :

روى مصعب بن الزبير في كتابه ( نسب قريش ) ، قال :

وقال أبو الزّناد : كانت بين حسّان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين بعض الناس منازعة عند عثمان بن عفان ، فقضى عثمان على حسّان ، فجاء حسّان إلى عبد الله بن عباس فشكا ذلك إليه.

____________________

(١) مختصر تاريخ ابن عساكر ١٦ / ٢١١ لابن منظور ط دار الفكر بدمشق.

١٧٥

فقال له ابن عباس : الحق حقك ، ولكن أخطأتَ حجّتك ، انطلق معي.

فخرج به حتى دخلا على عثمان فاحتج له ابن عباس حتى تبيّن عثمان الحق ، فقضى به لحسان بن ثابت ، فخرج آخذاً بيد ابن عباس حتى دخلا المسجد ، فجعل حسان بن ثابت ينشد الخلقّ ويقول :

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه

رأيتَ له في كلّ مجمعة فضلاً

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بمنتظمات لا ترى بينها فصلاً

كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي إربة في القول جداً ولا هزلاً(١)

قال البرقوقي في ( شرحه ديوان حسان ) عند مدح حسان لابن عباس بقوله :

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بملتقطات لا ترى بينها فصلاً

كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي إربة في القول جداً ولا هزلاً

سموت إلى العليا بغير مشقة

فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا

فذكر البرقوقي ترجمة ابن عباس في هامش ( ص ٣٥٨ ) ، وأكملها في ( ص ٣٥٩ ) ، وختمها بقوله : ( وبعد فإنّ مناقب ابن عباس أجل من أن نأتي عليها في مثل هذا المجال ، وانّه لمن ذوي الشخصيات الممتازة الذين تعتمد عليهم الخناصر ، وانّه لجدير بأن يفرد له كتاب

وقد قال حسان هذه الأبيات في ابن عباس بعد أن أحسن محضره

____________________

(١) نسب قريش / ٢٧.

١٧٦

لدى الفاروق ونوّه به وذكر عظيم قدر الأنصار وفضلهم وفضل حسان في نضاله عن رسول الله )(١) .

وليس هذا وهم من المحقق ، مع أنّ الخبر يتعلق بعثمان وليس بعمر كما مرّ ، ولعلّه رأى أنّ ابن عساكر ذكر ـ كما في مختصر تاريخ مدينة دمشق لابن منظور ـ في ترجمة ابن عباس ، أنّه أختصم إلى عمر بن الخطاب حسان بن ثابت وخصم له ، فسمع منهما وقضى على حسان ، فخرج وهو مهموم ، فمر بابن عباس فأخبره بقصته ، فقال له ابن عباس : لو كنت أنا الحكم بينكما لحكمت لك ، فرجع حسان إلى عمر فأخبره ، فبعث عمر إلى ابن عباس فأتاه فسأله عما قال حسان فصدّقه ، فسأله عن الحجة في ذلك فأخبره ، فرجع عمر إلى قول ابن عباس ، وحكم لحسان ، فخرج وهو آخذ بيد ابن عباس وهو يقول :

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه

رأيتَ له في كلّ منزلة فضلا

قضى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

ثم قال ابن عساكر : ( ورويت هذه الأبيات في ابن عباس في قصة أخرى )(٢) .

وروي الطبراني ، والهيثمي ، وابن عبد البر ، وابن حجر ، هذه القصة

____________________

(١) شرح ديوان حسان / ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(٢) مختصر تاريخ ابن عساكر ١٢ / ٢٢١ لابن منظور ط دار الفكر بدمشق.

١٧٧

بتفاوت في ألفاظها وأشعاره أوسع ممّا مرّ. وإلى القارئ بلفظ الأوّل منهم ، قال :

( حدثنا علي بن عبد العزيز ، ثنا الزبير بن بكار ، حدثني يحيى بن محمد ـ يعني الجابري ـ من أهل الجار من ساحل المدينة ـ حدثني إسحاق ابن محمد المسيبّي ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن الأعرج ، عن عبد الرحمن بن حسان ، عن أبيه حسان بن ثابت ، قال : بدت لنا معشر الأنصار إلى الوالي حاجة ، وكان الذي طلبنا إليه أمراً صعباً ، فمشينا إليه برجال من قريش وغيرهم ، فكلّموه وذكروا له وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنا ، فذكر صعوبة الأمر ، فعذره القوم وخرجوا ، وألحّ عليه ابن عباس ، فو الله ما وجد بدّاً من قضاء حاجتنا ، فخرجنا حتى دخلنا المسجد ، فإذا القوم أندية.

قال حسان : فضحكت وأنا أسمعهم إنّه والله كان أولاكم بها ، إنّها والله صبابة النبوة ، ووراثة أحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتهذيب أعراقه ، وانتزاع شبه طبائعه. فقال القوم : أجل يا حسان.

فقال ابن عباس : صدقوا.

فأنشأ حسان يمدح ابن عباس رضي الله عنه ، فقال :

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهّه

رأيتَ له في كلّ مجمعه فضلاً

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بملتقطات لا ترى بينها فصلاً

سموتَ إلى العليا بغير مشقة

فنلتَ ذراها لا جبانا ولا وغلا

١٧٨

خلقت حليفاً للمرؤة والندى

بليجاً(١) ولم تخلق كهاماً(٢) ولا خبلا(٣)

فقال الوالي : والله ما أراد بالكهام الخّبلّ غيري ، والله بيني وبينه )(٤) .

وذكر الهيثمي في ( مجمع الزوائد )(٥) تمام القصة نقلاً عن الطبراني ولم يتكلم عنها بشيء ، وكذا الصالحي الشامي في ( سبل الهدى والرشاد )(٦) ، فأمّا ابن عبد البر فذكر في ( الإستيعاب ) الأبيات مجردة ولم يستوعب تمام القصة في ترجمة ابن عباس مع تصحيف آخر في آخر البيت الخامس فجاء ( كهاماً ولا جبلاً ) وأظنه من الغلط المطبعي في ط مصطفى محمد(٧) .

وأمّا ابن حجر فذكر القصة في ( الإصابة ) في ترجمة ابن عباس ، وقد أصاب في تسمية الوالي على نحو إستحياء فنقلها عن الطبراني ولفظه :

( وأخرج الطبراني من طريق ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن النعمان : أنّ حسان بن ثابت ، قال : كانت لنا عند عثمان أو غيره من الأمراء حاجة فطلبناها إليه لجماعة من الصحابة منهم ابن عباس وكانت حاجة صعبة

____________________

(١) البلج : أي مشرق مضيء ( الصحاح ) بلج.

(٢) الكهام صفة ذم ومنه رجل كَهَام وكهيم : أي محسن لا غنه وعنده ( الصحاح ) كهم.

(٣) الخبل : بالتسكين الفساد.

(٤) المعجم الكبير للطبراني ٤ / ٤٣.

(٥) مجمع الزوائد ٩ / ٢٨٤.

(٦) سبل الهدى والرشاد ١١ / ١٣٢.

(٧) الإستيعاب ٣ / ٩٣٥.

١٧٩

شديدة ، فاعتلّ علينا ، فراجعوه إلى أن عذروه وقاموا إلاّ ابن عباس فلم يزل يراجعه بكلام جامع حتى سدّ عليه كلّ حاجة فلم ير بداً من أن يقضي حاجتنا ، فخرجنا من عنده وأنا آخذ بيد ابن عباس فمررنا على أولئك الذين كانوا عذروا وضعفوا ، فقلت : كان عبد الله أولاكم به. قالوا : أجل ، فقلت أمدحه ـ ثم ذكر ابن حجر ثلاثة أبيات وهي الأوّل والثالث والرابع ـ )(١) .

وقد ذكر الذهبي في ( سير أعلام النبلاء )(٢) في ترجمة ابن عباس شعر حسان من دون القصة ، ووردت الأبيات الثلاثة المعروفة أوّلاً في ديوان حسان ، ورواها البلاذري في ( أنساب الأشراف )(٣) ، والحاكم في ( المستدرك )(٤) ، ورواها ابن عبد البر في ( بهجة المجالس )(٥) .

المحاورة التاسعة :

روى أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن المنذر ، وابن أبي داود وابن الأنباري معاً في ( المصاحف ) ، والنحاس في ناسخه ، وأبو نعيم في ( المعرفة ) ، وابن مردويه(٦) ، وغيرهم.

____________________

(١) الإصابة ٤ / ١٢٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ٥ / ٣٥٣.

(٣) أنساب الأشراف ٢ / ٤٢.

(٤) مستدرك الحاكم ٢ / ٥٤٥ ،.

(٥) بهجة المجالس ١ / ٥٨ ط دار الكتب العلمية.

(٦) مسند أحمد ١ / ٥٧ ، سنن الترمذي ٤ / ٣٣٦ ، سنن النسائي ٥ / ١٠ ، صحيح ابن حبان ١ / ٢٣٠ ، مستدرك الحاكم ٢ / ٢٢١.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496