موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس8%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93226 / تحميل: 4728
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

لقيني كلّ واحد منهما يذكر من صاحبه ما لا تبرك عليه الإبل ، فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها )(١) .

المحاورة الثالثة :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) عن عمه ، عن عيسى بن داود ، عن رجاله ، قال : قال ابن عباس رحمه الله : ( لمّا بنى عثمان داره بالمدينة أكثر الناس عليه في ذلك فبلغه ، فخطبنا في يوم جمعة ، ثمّ صلّى بنا ، ثمّ عاد إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال :

أمّا بعد فإنّ النعمة إذا حدثت حدث لها حسّاد حسبها وأعداء قدرها ، وإنّ الله لم يحدث لنا نعماً ليحدث لها حسّاد عليها ومنافسون فيها ، ولكنه قد كان من بناء منزلنا هذا ما كان إرادة جمع المال فيه وضم القاصية إليه ، فأتانا عن أناس منكم أنّهم يقولون أخذ فيأنا وأنفق شيأنا وأستأثر بأموالنا ، يمشون خمراً ، وينطقون سرّاً ، كأنّا غيّب عنهم ، وكأنّهم يهابون مواجهتنا ، معرفة منهم بدحوض حجتهم ، فإذا غابوا عنا يروح بعضهم إلى بعض يذكرنا ، وقد وجدوا على ذلك أعواناً من نظرائهم ، ومؤازرين من شبهائهم ، فبُعداً بُعداً ، ورغماً رغماً ، ثمّ أنشد بيتين كأنّه يوميء فيهما إلى عليّ عليه السلام :

توقّد بنار أينما كنت وأشتعل

فلست ترى ممّا تعالج شافياً

تشط فيقضي الأمر دونك أهلُه

وشيكاً ولا تدعى إذا كنت نائياً

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٣٩٩ ط مصر الأولى.

١٦١

ما لي ولفيئكم وأخذ مالكم ، ألست من أكثر قريش مالاً وأظهرهم من الله نعمة؟ ألم أكن على ذلك قبل الإسلام وبعده؟

وهبوني بنيت منزلاً من بيت المال أليس هو لي ولكم؟ ألم أقم أموركم ، وأني من وراء حاجاتكم؟ فما تفقدون من حقوقكم شيئاً؟ فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت؟ فلِمَ كنت إماماً إذاً؟

ألا وإنّ من أعجب العجب أنّه بلغني عنكم أنّكم تقولون : لنفعلن به ولنفعلن ، فبمن تفعلون؟ لله آباؤكم ، أبنقد البقاع أم بفقع القاع؟ ألست أحراكم إن دعا أن يجاب؟ وأقمنكم إن أمر أن يطاع؟ لهفي على بقائي فيكم بعد أصحابي ، وحياتي فيكم بعد أترابي ، يا ليتني تقدمت قبل هذا ، لكني لا أحبّ خلاف ما أحبّه الله لي عليه السلام. إذا شئتم ، فإنّ الصادق المصدّق محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد حدثني بما هو كائن من أمري وأمركم ، وهذا بدء ذلك وأوّله ، فكيف الهرب ممّا حتم وقدّر. أما أنّه عليه السلام قد بشّرني في آخر حديثه بالجنة دونكم إذا شئتم ، فلا أفلح من ندم.

قال : ثمّ همّ بالنزول فبصر عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومعه عمّار بن ياسر رضي الله عنه وناس من أهل هواه يتناجون ، فقال : أيهاً أيهاً اسراراً لا جهاراً ، أما والذي نفسي بيده ما أحنق على جرة ولا أوتى على ضعف مرّة ، ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم لعاجلتكم فقد أغتررتم ، وأقلتم من أنفسكم ، ثمّ رفع يديه يدعو ويقول : اللّهمّ قد تعلم حبّي للعافية فألبسنيها ، وإيثاري للسلامة فاتنيها.

١٦٢

قال : فتفرق القوم عن عليّ عليه السلام ، وقام عدي بن الخيار ، فقال : أتم الله عليك يا أمير المؤمنين النعمة وزادك في الكرامة ، والله لأن تـُحسد أفضل من أن تَحسِد ، ولأن تُنافس أجل من أن تنافِس ، أنت والله في حبنا الصميم ومنصبنا الكريم ، إن دعوت أُجبت ، وأن أمرت أُطعت ، فقل نفعل وأدع نجب. جُعلت الخيرة والشورى إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليختاروا لهم ولغيرهم ، وأنّهم ليرون مكانك ويعرفون مكان غيرك ، فاختاروك منيبين طائعين غير مكرهين ولا مجبرين ، ما غيّرت ولا فارقت ولا بدّلت ولا خالفت ، فعلام يقدمون عليك ، وهذا رأيهم فيك ، أنت والله كما قال الأوّل :

اذهب إليك فما للحسود

إلا طلابك تحت العثار

حكمتَ فما جُرت في خُلةٍ

فحكمك بالحقّ بادي المنار

فإن يسبعوك فسراً وقد

جهرتَ بسيفك كلّ الجهار

قال : ونزل عثمان فأتى منزله ، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس ، فلمّا أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس ، فقال : ما لي ولكم يا بن عباس؟ ما أغراكم بي وأولعكم بتعقّب أمري؟ أتنقمون عليّ أمر العامة ، أتيت من وراء حقوقهم أم أمركم ، فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم ، لا والله لكن الحسد والبغي وتثوير الشر وإحياء الفتن ، والله لقد ألقى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليَّ ذلك ، وأخبرني عن أهله واحداً واحداً ، والله ما كذبت ولا أنا بمكذوب.

فقال ابن عباس : على رسلك يا أمير المؤمنين ، فوالله ما عهدتك جَهِراً

١٦٣

بسرّك ، ولا مظهراً ما في نفسك ، فما الذي هيّجك وثوّرك؟ إنّا لم يولعنا بك أمر ، ولم نتعقب أمرك بشيء ، أُتيت بالكذب وتـُسوّق عليك بالباطل ، والله ما نقمنا عليك لنا ولا للعامة ، قد أوتيت من وراء حقوقنا وحقوقهم ، وقضيت ما يلزمك لنا ولهم ، فأمّا الحسد والبغي وتثوير الفتن وإحياء الشرّ فمتى رضيت به عترة النبيّ وأهل بيته ، كيف وهم منه واليه ، على دين الله يثورون الشر؟ أم على الله يحيون الفتن؟ كلا ليس البغي ولا الحسد من طباعهم ، فاتئد يا أمير المؤمنين وأبصر أمرك وأمسك عليك ، فإنّ حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى ، لعمري إن كنت لأثيراً عند رسول الله وإن كان ليفضي إليك بسره ما يطويه عن غيرك ولا كذبت ولا أنت بمكذوب ، أخسىء الشيطان عنك ولا يركبك ، وأغلب غضَبك ولا يغلبك ، فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك؟

قال : دعاني إليه ابن عمك عليّ بن أبي طالب.

فقال ابن عباس : وعسى أن يكذب مبلّغك؟

قال عثمان : إنّه ثقة.

قال ابن عباس : إنّه ليس بثقة من بلّغ وأغرى.

قال عثمان : يا بن عباس ألله انّك ما تعلم من عليّ ما شكوت منه؟

قال : اللّهمّ لا ، إلاّ أن يقول كما يقول الناس ينقم كما ينقمون ، فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم؟

فقال عثمان : إنّما آفتي من أعظم من الداء الذي ينصب نفسه لرأس

١٦٤

الأمر وهو عليّ ابن عمك ، وهذا والله كلّه من نكده وشؤمه.

قال ابن عباس : مهلاً استثن يا أمير المؤمنين ، قل : إن شاء الله.

فقال : إن شاء الله ، ثمّ قال : إنّي أنشدك يا بن عباس الإسلام والرحم فقد والله غُلبت وابتليت بكم ، والله لوددت أنّ هذا الأمر كان صار إليكم دوني ، فحملتموه عنّي وكنت أحد أعوانكم عليه ، إذاً والله لوجدتموني لكم خيراً ممّا وجدتكم لي. ولقد علمتُ أنّ الأمر لكم ولكن قومكم دفعوكم عنه وأختزلوه دونكم ، فوالله ما أدري أرفعوه عنكم ، أم رفعوكم عنه؟

قال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين فإنّا ننشدك الله والإسلام والرحم مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدواً ، وتشمت بنا وبك حسوداً ، إنّ أمرك إليك ما كان قولاً ، فإذا صار فعلاً فليس إليك ولا في يديك ، وإنّا والله لنخالفنّ إن خولفنا ولننازعنّ إن نوزعنا ، وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلاّ أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ، ويعيب كما عابوا.

فأمّا صرف قومنا عنا الأمر ، فعن حسدٍ قد والله عرفته ، وبغيٍ قد والله علمتَه ، فالله بيننا وبين قومنا.

وأمّا قولك : إنّك لا تدري أرفعوه عنا أم رفعونا عنه ، فلعمري إنّك لتعرف إنّه لو صار إلينا هذا الأمر ما ازددنا به فضلاً إلى فضلنا ، ولا قدراً إلى قدرنا ، وإنّا لأهل الفضل وأهل القدر ، وما فضل فاضل إلاّ بفضلنا ، ولا سبق سابق إلاّ بسبقنا ، ولولا هدينا ما أهتدى أحد ، ولا أبصروا من عمىً ولا قصدوا من خور.

١٦٥

فقال عثمان : حتى متى يا بن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني ، هبوني كنت بعيداً ما كان لي من الحقّ عليكم أن أراقب وأن أناظر ، بلى ورب الكعبة ، ولكن الفرقة سهّلت لكم القول فيّ وتقدّمت لكم إلى الإسراع إليَّ ، والله المستعان.

قال ابن عباس : مهلاً حتى ألقى عليّاً ، ثمّ أحمل إليك على قدر ما أرى.

قال عثمان : افعل فقد فعلت ، وطالما طلبت فلا أطلب ولا أجاب ولا أعتب.

قال ابن عباس : فخرجت فلقيت عليّاً وإذا به من الغضب والتلظي أضعاف ما بعثمان ، فأردت تسكينه فأمتنع ، فأتيت منزلي وأغلقت بابي وأعتزلتهما. فبلغ ذلك عثمان فأرسل إليَّ فأتيته وقد هدأ غضبه ، فنظر إليّ ثمّ ضحك.

وقال : يا بن عباس ما أبطأ بك عنا؟ إنّ تركك العَود إلينا لدليل على ما رأيت عند صاحبك ، وعرفت من حاله فالله بيننا وبينه خذ بنا في غير ذلك.

قال ابن عباس : فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن عليّ فأردت التكذيب عنه يقول : ولا يوم الجمعة أبطأت عنا وتركتَ العود إلينا ، فلا أدري كيف أردّ عليه اهـ )(١) .

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٣٩٣ ط مصر الأولى.

١٦٦

المحاورة الرابعة :

روى الزبير بن بكار أيضاً في ( الموفقيات ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( خرجت من منزلي سحراً أسابق إلى المسجد وأطلب الفضيلة ، فسمعت خلفي حساً وكلاماً ، فتسمعته فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أنّ أحداً يسمعه ، ويقول : اللّهمّ قد تعلم نيّتي فأعنّي عليهم ، وتعلم الذين أبتليت بهم من ذوي رحمي وقرابتي فأصلحني لهم وأصلحهم لي.

قال : فقصّرت من خطوتي وأسرع في مشيته فألتقينا فسلّم فرددت عليه.

فقال : انّي خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة إلى المسجد.

فقلت : إنّه أخرجني ما أخرجك.

فقال : والله لئن سابقت إلى الخير إنّك لمن سابقين مباركين ، وإنّي لأحبّكم وأتقرب إلى الله بحبّكم.

فقلت : يرحمك الله يا أمير المؤمنين إنّا لنحبّك ونعرف سابقتك وسنّك وقرابتك وصهرك.

قال : يا بن عباس فما لي ولابن عمك وابن خالي؟

قلت : أيّ بني عمومتي وبني أخوالك؟

قال : اللّهم غفراً تسأل مسألة الجاهل.

قلت : إنّ بني عمومتي من بني خؤلتك كثير فأيّهم تعني؟

قال : أعني عليّاً لا غيره.

فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين ما أعلم منه إلاّ خيراً ولا أعرف له إلاّ

١٦٧

حسناً.

قال : والله بالحري أن يستر دونك ما يظهره لغيرك ، ويقبض عنك ما يبسط به إلى سواك.

قال : ورمينا بعمّار بن ياسر فسلّم فرددت عليه سلامه ، ثمّ قال : من معك؟ قلت : أمير المؤمنين عثمان. قال : نعم ، وسلّم بكنيته ولم يسلّم عليه بالخلافة ، فردّ عليه.

ثمّ قال عمّار : ما الذي كنتم فيه فقد سمعت ذرواً منه؟ قلت : هو ما سمعت.

فقال عمّار : ربّ مظلوم غافل وظالم متجاهل.

قال عثمان : أمّا إنّك من شنئاننا وأتباعهم ، وأيم الله إنّ اليد عليك منبسطة ، وإنّ السبيل إليك لسهلة ، ولولا إيثار العافية ولمّ الشعث لزجرتك زجرة تكفي ما مضى وتمنع ما بقي.

فقال عمّار : والله ما أعتذر من حبّي عليّاً وما اليد بمنبسطة ولا السبيل بسهلة ، إنّي لازم حجة ومقيم على سنّة ، وأمّا إيثارك العافية ولمّ الشعث فلازم لك ذلك ، وأمّا زجري فأمسك عنه فقد كفاك معلّمي تعليمي.

فقال عثمان : أما والله إنّك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه ، الخذلة عند الخير والمثبطين عنه.

فقال عمّار : مهلاً يا عثمان فقد سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصفني بغير ذلك.

قال عثمان : ومتى؟

١٦٨

قال : يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة وليس عنده غيرك ، وقد ألقى ثيابه وقعد في فضله ، فقبّلت صدره ونحره وجبهته ، فقال : يا عمّار إنّك لتحبّنا وإنّا لنحبّك ، وإنّك لمن الأعوان على الخير المثبّطين عن الشرّ.

فقال عثمان : أجل ولكنّك غيّرت وبدّلت.

قال : فرفع عمّار يده يدعو ، وقال : أمّن يا بن عباس : اللّهم مَن غيّر فغيّر به ثلاث مرات.

قال : ودخلنا المسجد ، فأهوى عمّار إلى مصلاه ومضيت مع عثمان إلى القبلة ، فدخل المحراب وقال : تلبث عليّ إذا أنصرفنا فلمّا رآني عمّار وحدي أتاني ، فقال : أما رأيت ما بلغ بي آنفاً.

قلت : أما والله لقد أصعبتَ به وأصعب بك ، وإنّ له لسنّه وفضله وقرابته.

قال : إنّ له ذلك ، ولكن لا حقّ لمن لا حقّ عليه. وانصرف.

وصلّى عثمان وأنصرفت معه يتوكأ عليَّ. فقال : هل سمعت ما قال عمّار؟

قلت : نعم ، فسرّني ذلك وساءني ، أمّا مساءته إياي فما بلغ بك ، وأمّا مسرّته لي فحملك واحتمالك.

فقال : إنّ عليّاً فارقني منذ أيام على المقاربة ، وأنّ عماراً آتيه فقائل له وقائل ، فأبدره إليه فإنّك أوثق عنده منه وأصدق قولاً ، فألق الأمر إليه على وجهه.

١٦٩

فقلت : نعم ، وأنصرفت أريد عليّاً عليه السلام في المسجد فإذا هو خارج منه ، فلمّا رآني تفجّع لي من فوت الصلاة ، وقال : ما أدركتها؟

قلت : بلى ولكني خرجت مع أمير المؤمنين ، ثمّ أقتصصت عليه القصة.

فقال : أما والله يا بن عباس إنّه ليقرف قرحة ليحورنّ عليه ألمها.

فقلت : إنّ له سنّه وسابقته وقرابته وصهره.

قال : إنّ ذلك له ولكن لا حقّ لمن لا حقّ عليه.

قال : ثمّ رهقنا عمّار فبشّ به عليّ وتبسّم في وجهه وسأله.

فقال عمّار : يا بن عباس هل ألقيت إليه ما كنّا فيه؟

قلت : نعم.

قال : أما والله إذاً لقد قلت بلسان عمّار ونطقت بهواه.

قلت : ما عدوت الحقّ جهدي ، ولا ذلك من فعلي ، وإنّك لتعلم أيّ الحظين أحبّ إليَّ ، وأيّ الحقين أوجب عليَّ.

قال : فظن عليّ أنّ عند عمّار غير ما ألقيت إليه ، فأخذ بيده وترك يدي ، فعلمت إنّه يكره مكاني ، فتخلّفت عنهما وأنشعب بنا الطريق فسلكاه ولم يدعني ، فأنطلقت إلى منزلي ، فإذا رسول عثمان يدعوني فأتيته ، فأجد ببابه مروان وسعيد بن العاص في رجال من بني أمية ، فأذن لي وألطفني وقرّبني وأدنى مجلسي ، ثمّ قال : ما صنعت؟ فأخبرته الخبر على وجهه ، وما قال الرجل وقلت له ، وكتمته قوله : إنّه ليقرف قرحة ليحورنّ عليه ألمها ،

١٧٠

إبقاءً عليه وإجلالاً له ، وذكرت مجيء عمّار وبشّ عليّ له وظن عليّ أن قِبلَه غير ما ألقيت عليه ، وسلوكهما حيث سلكا. قال : وفعلا؟ قلت : نعم.

فأستقبل القبلة ثمّ قال : اللّهم ربّ السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أصلح لي عليّاً وأصلحني له ، أمّن يا بن عباس ، فأمّنت ، ثمّ تحدثنا طويلاً وفارقته وأتيت منزلي اهـ )(١) .

المحاورة الخامسة :

ذكر ابن عبد ربه في ( العقد الفريد ) :

وقال عبد الله بن العباس : أرسل إليّ عثمان ، فقال لي : إكفني ابن عمك.

فقلت : إنّ ابن عمي ليس بالرجل يُرى له ، ولكنه يرى لنفسه ، فأرسلني إليه بما أحببت.

قال : قل له فليخرج إلى ماله بينبع فلا أغتمّ به ولا يغتمّ بي.

فأتيت عليّاً فأخبرته ، فقال : ما اتخذني عثمان إلاّ ناضحاً ، ثمّ أنشد يقول :

فكيف به أنّى أداوي جراحَه

فيَدوى فلا مُلّ الدواء ولا الداء

أما والله أنّه ليختبر القوم.

فأتيت عثمان فحدثته الحديث كلّه إلاّ البيت الذي أنشده وقوله : أنّه

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٣٩٦.

١٧١

ليختبر القوم.

فأنشد عثمان :

فكيف به أنّى أداوي جراحَه

فيَدوى فلا مُلّ الدواء ولا الداء

وجعل يقول : يا رحيم أنصرني ، يا رحيم أنصرني.

قال : فخرج عليّ إلى ينبع ، فكتب إليه عثمان حين أشتد الأمر : أمّا بعد فقد بلغ السيل الزُبى ، وجاوز الحزام الطبيين ، وطمع فيّ من كان يضعف عن نفسه.

فإنّك لم يفخر عليك كفاخر

ضعيف ولم يغلبك مثلُ مغلّبِ

فأقبل إليَّ على أيّ أمر يك أحببت،وكن لي أم عليَّ ، صديقاً كنت أم عدواً :

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلاّ فأدركني ولمّا أمزّق(١)

تعقيب : روى الشريف الرضي في ( نهج البلاغة ) ، قال : ( ومن كلام له عليه السلام قال لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور

____________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٣٠٩.

وجاء في أنساب الأشراف ١ق ٤ / ٥٦٨ تحـ إحسان عباس بيروت عن يحيى بن سعيد قال : كان طلحة قد استولى على أمر الناس في الحصار فبعث عثمان عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب إلى عليّ بهذا البيت. وذكر في حديث أبي مخنف قال صلّى عليّ بالناس يوم النحر وعثمان محصور فبعث عثمان ببيت المزق وسيأتي تمام الحديث في محله.

١٧٢

يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس بأسمه للخلافة ، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل.

فقال عليه السلام : يا بن عباس ما يريد عثمان إلاّ أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغَرب ، أقبل وأدبر ، بعث إليَّ أن أخرج ، ثمّ بعث إليَّ أن أقدم ، ثمّ هو الآن يبعث إليَّ أن أخرج ، والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً )(١) .

المحاورة السادسة :

سأل عثمان عبد الله بن عباس عن رأيه فيه ، فقال له :

( يا بن عمي ويابن خالي إنّه لم يبلغني في أمري شيء أحبه ولا أكرهه ، عليّ ولا لي ، وقد علمتُ أنّك رأيت بعض ما رأى الناس ، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا ، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك؟

فاعتذر ابن عباس ، فأبى عثمان عليه إلاّ أن يقول.

فقال : يا أمير المؤمنين إنّك ابتليتني بعد العافية ، وأدخلتني في الضيق بعد السعة ، والله إنّ رأيي لك أن يُجلّ سنّك ، ويُعرَف قدرَك وسابقتُك ، والله لوددت أنّك لم تفعل ما فعلتَه. فما ترك الخليفتان قبلك. فإن كان شيئاً تركاه لما رأيا أنّه ليس لهما ، علمتَ أنه ليس لك كما لم يكن لهما ، وإن كان ذلك لهما فتركاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي نَيل منك ، تركتَه لما تركاه له ، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك.

____________________

(١) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٢٨٢ ط مصر الأولى.

١٧٣

فقال عثمان : فما منعك أن تشير عليَّ بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟

فقال ابن عباس باستغراب وتعجب من عثمان : وما علميَ بأنّك تفعل ذلك قبل أن تفعل.

فقال عثمان : فهب لي صمتاً حتى ترى رأيي )(١) .

المحاورة السابعة :

أخرج ابن عساكر في تاريخه في ترجمة عثمان :

( أنّ عثمان بعث إلى ابن عباس وهو محصور ، فأتاه وعنده مروان بن الحكم.

فقال عثمان : يابن عباس أما ترى إلى ابن عمك ، كان هذا الأمر في بني تيم وعدي فرضي وسلّم ، حتى إذا صار الأمر إلى ابن عمه بغانا الغوائل.

قال ابن عباس : فقلت له : إنّ ابن عمك والله ما زال عن الحق ولا يزول ، ولو أنّ حسناً وحسيناً بغيا في دين الله الغوائل لجاهدهما في الله حق جهاده ، ولو كنت كأبي بكر وعمر لكان لك كما كان لهما ، بل كان لك أفضل لقرابتك ورحمك وسنّك ، ولكنك ركبت الأمر وهاباه.

قال ابن عباس : فأعترضني مروان ، فقال : دعنا من تخطئتك يابن

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ٢٩ ـ ٣٠ مطبعة الأمة ١٩٢٨ هـ ، وقد مرّ سابقاّ في الحلقة الأولى من هذه الموسوعة ٢ / ٣٤٠.

١٧٤

عباس ، فأنت كما قال الشاعر :

دعوتك للغياث ولست أدري

أمن خلفي المنية أم أمامي

فشققت الكلام رخيّ بال

وقد جلّ الفعال عن الكلام

إن يكن عندك غياث لهذا الرجل فأغثه ، وإلاّ فما أشغله عن التفهّم لكلامك ، والفكر في جوابك.

قال ابن عباس : فقلت له : هو والله كان عنك وعن أهل بيتك أشغل ، إذ أوردتموه ولم تُصدروه. ثم أقبلت على عثمان فقلت له :

جعلت شعار جلدك قوم سوء

وقد يجزى المقارن بالقرين

فما نظروا لدنيا أنت فيها

بإصلاح ولا نظروا لدين

ثم قلت له : إنّ القوم غير قابلين إلاّ قتلك أو خلعك ، فإن قُتلت قٌتلت على ما قد عملت وعلمت ، وإن تُركت فإنّ باب التوبة مفتوح )(١) .

المحاورة الثامنة :

روى مصعب بن الزبير في كتابه ( نسب قريش ) ، قال :

وقال أبو الزّناد : كانت بين حسّان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين بعض الناس منازعة عند عثمان بن عفان ، فقضى عثمان على حسّان ، فجاء حسّان إلى عبد الله بن عباس فشكا ذلك إليه.

____________________

(١) مختصر تاريخ ابن عساكر ١٦ / ٢١١ لابن منظور ط دار الفكر بدمشق.

١٧٥

فقال له ابن عباس : الحق حقك ، ولكن أخطأتَ حجّتك ، انطلق معي.

فخرج به حتى دخلا على عثمان فاحتج له ابن عباس حتى تبيّن عثمان الحق ، فقضى به لحسان بن ثابت ، فخرج آخذاً بيد ابن عباس حتى دخلا المسجد ، فجعل حسان بن ثابت ينشد الخلقّ ويقول :

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه

رأيتَ له في كلّ مجمعة فضلاً

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بمنتظمات لا ترى بينها فصلاً

كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي إربة في القول جداً ولا هزلاً(١)

قال البرقوقي في ( شرحه ديوان حسان ) عند مدح حسان لابن عباس بقوله :

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بملتقطات لا ترى بينها فصلاً

كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي إربة في القول جداً ولا هزلاً

سموت إلى العليا بغير مشقة

فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا

فذكر البرقوقي ترجمة ابن عباس في هامش ( ص ٣٥٨ ) ، وأكملها في ( ص ٣٥٩ ) ، وختمها بقوله : ( وبعد فإنّ مناقب ابن عباس أجل من أن نأتي عليها في مثل هذا المجال ، وانّه لمن ذوي الشخصيات الممتازة الذين تعتمد عليهم الخناصر ، وانّه لجدير بأن يفرد له كتاب

وقد قال حسان هذه الأبيات في ابن عباس بعد أن أحسن محضره

____________________

(١) نسب قريش / ٢٧.

١٧٦

لدى الفاروق ونوّه به وذكر عظيم قدر الأنصار وفضلهم وفضل حسان في نضاله عن رسول الله )(١) .

وليس هذا وهم من المحقق ، مع أنّ الخبر يتعلق بعثمان وليس بعمر كما مرّ ، ولعلّه رأى أنّ ابن عساكر ذكر ـ كما في مختصر تاريخ مدينة دمشق لابن منظور ـ في ترجمة ابن عباس ، أنّه أختصم إلى عمر بن الخطاب حسان بن ثابت وخصم له ، فسمع منهما وقضى على حسان ، فخرج وهو مهموم ، فمر بابن عباس فأخبره بقصته ، فقال له ابن عباس : لو كنت أنا الحكم بينكما لحكمت لك ، فرجع حسان إلى عمر فأخبره ، فبعث عمر إلى ابن عباس فأتاه فسأله عما قال حسان فصدّقه ، فسأله عن الحجة في ذلك فأخبره ، فرجع عمر إلى قول ابن عباس ، وحكم لحسان ، فخرج وهو آخذ بيد ابن عباس وهو يقول :

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه

رأيتَ له في كلّ منزلة فضلا

قضى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

ثم قال ابن عساكر : ( ورويت هذه الأبيات في ابن عباس في قصة أخرى )(٢) .

وروي الطبراني ، والهيثمي ، وابن عبد البر ، وابن حجر ، هذه القصة

____________________

(١) شرح ديوان حسان / ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(٢) مختصر تاريخ ابن عساكر ١٢ / ٢٢١ لابن منظور ط دار الفكر بدمشق.

١٧٧

بتفاوت في ألفاظها وأشعاره أوسع ممّا مرّ. وإلى القارئ بلفظ الأوّل منهم ، قال :

( حدثنا علي بن عبد العزيز ، ثنا الزبير بن بكار ، حدثني يحيى بن محمد ـ يعني الجابري ـ من أهل الجار من ساحل المدينة ـ حدثني إسحاق ابن محمد المسيبّي ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن الأعرج ، عن عبد الرحمن بن حسان ، عن أبيه حسان بن ثابت ، قال : بدت لنا معشر الأنصار إلى الوالي حاجة ، وكان الذي طلبنا إليه أمراً صعباً ، فمشينا إليه برجال من قريش وغيرهم ، فكلّموه وذكروا له وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنا ، فذكر صعوبة الأمر ، فعذره القوم وخرجوا ، وألحّ عليه ابن عباس ، فو الله ما وجد بدّاً من قضاء حاجتنا ، فخرجنا حتى دخلنا المسجد ، فإذا القوم أندية.

قال حسان : فضحكت وأنا أسمعهم إنّه والله كان أولاكم بها ، إنّها والله صبابة النبوة ، ووراثة أحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتهذيب أعراقه ، وانتزاع شبه طبائعه. فقال القوم : أجل يا حسان.

فقال ابن عباس : صدقوا.

فأنشأ حسان يمدح ابن عباس رضي الله عنه ، فقال :

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهّه

رأيتَ له في كلّ مجمعه فضلاً

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بملتقطات لا ترى بينها فصلاً

سموتَ إلى العليا بغير مشقة

فنلتَ ذراها لا جبانا ولا وغلا

١٧٨

خلقت حليفاً للمرؤة والندى

بليجاً(١) ولم تخلق كهاماً(٢) ولا خبلا(٣)

فقال الوالي : والله ما أراد بالكهام الخّبلّ غيري ، والله بيني وبينه )(٤) .

وذكر الهيثمي في ( مجمع الزوائد )(٥) تمام القصة نقلاً عن الطبراني ولم يتكلم عنها بشيء ، وكذا الصالحي الشامي في ( سبل الهدى والرشاد )(٦) ، فأمّا ابن عبد البر فذكر في ( الإستيعاب ) الأبيات مجردة ولم يستوعب تمام القصة في ترجمة ابن عباس مع تصحيف آخر في آخر البيت الخامس فجاء ( كهاماً ولا جبلاً ) وأظنه من الغلط المطبعي في ط مصطفى محمد(٧) .

وأمّا ابن حجر فذكر القصة في ( الإصابة ) في ترجمة ابن عباس ، وقد أصاب في تسمية الوالي على نحو إستحياء فنقلها عن الطبراني ولفظه :

( وأخرج الطبراني من طريق ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن النعمان : أنّ حسان بن ثابت ، قال : كانت لنا عند عثمان أو غيره من الأمراء حاجة فطلبناها إليه لجماعة من الصحابة منهم ابن عباس وكانت حاجة صعبة

____________________

(١) البلج : أي مشرق مضيء ( الصحاح ) بلج.

(٢) الكهام صفة ذم ومنه رجل كَهَام وكهيم : أي محسن لا غنه وعنده ( الصحاح ) كهم.

(٣) الخبل : بالتسكين الفساد.

(٤) المعجم الكبير للطبراني ٤ / ٤٣.

(٥) مجمع الزوائد ٩ / ٢٨٤.

(٦) سبل الهدى والرشاد ١١ / ١٣٢.

(٧) الإستيعاب ٣ / ٩٣٥.

١٧٩

شديدة ، فاعتلّ علينا ، فراجعوه إلى أن عذروه وقاموا إلاّ ابن عباس فلم يزل يراجعه بكلام جامع حتى سدّ عليه كلّ حاجة فلم ير بداً من أن يقضي حاجتنا ، فخرجنا من عنده وأنا آخذ بيد ابن عباس فمررنا على أولئك الذين كانوا عذروا وضعفوا ، فقلت : كان عبد الله أولاكم به. قالوا : أجل ، فقلت أمدحه ـ ثم ذكر ابن حجر ثلاثة أبيات وهي الأوّل والثالث والرابع ـ )(١) .

وقد ذكر الذهبي في ( سير أعلام النبلاء )(٢) في ترجمة ابن عباس شعر حسان من دون القصة ، ووردت الأبيات الثلاثة المعروفة أوّلاً في ديوان حسان ، ورواها البلاذري في ( أنساب الأشراف )(٣) ، والحاكم في ( المستدرك )(٤) ، ورواها ابن عبد البر في ( بهجة المجالس )(٥) .

المحاورة التاسعة :

روى أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن المنذر ، وابن أبي داود وابن الأنباري معاً في ( المصاحف ) ، والنحاس في ناسخه ، وأبو نعيم في ( المعرفة ) ، وابن مردويه(٦) ، وغيرهم.

____________________

(١) الإصابة ٤ / ١٢٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ٥ / ٣٥٣.

(٣) أنساب الأشراف ٢ / ٤٢.

(٤) مستدرك الحاكم ٢ / ٥٤٥ ،.

(٥) بهجة المجالس ١ / ٥٨ ط دار الكتب العلمية.

(٦) مسند أحمد ١ / ٥٧ ، سنن الترمذي ٤ / ٣٣٦ ، سنن النسائي ٥ / ١٠ ، صحيح ابن حبان ١ / ٢٣٠ ، مستدرك الحاكم ٢ / ٢٢١.

١٨٠

فهؤلاء إثنا عشر علماً من أعلام السنّة فهم غير متهمين في رواياتهم لهذه المحاورة التي تدلّ على إنكار ابن عباس على عثمان في مسألة جمع القرآن حين قرن بين سورتي الأنفال وبراءة ولم يفصل بينهما بالبسملة ؛ وهي في مجملها تنسف أكذوبة أنّ عثمان هو الذي جمع القرآن ، كما يحلو للعثمانية تفضيله بها ، وقد مرّ ذكر بعض ما يتعلق بمسألة جمع القرآن في الجزء الثاني من الحلقة الأولى(1) .

ولمّا كانت المسألة ذات أهمية بالغة في تاريخ جمع القرآن ، سأنقل هنا بعض ما مرّ للتنبيه على عبث الرواة في نصّ المحاورة ، وهي كما يلي برواية من تقدم ذكرهم :

( عن ابن عباس ، قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني(2) ، وإلى براءة وهي من المئين(3) ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟

فقال عثمان : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ممّا يأتي عليه الزمان تنزل عليه السور ذات العدد ، وإن كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب

____________________

(1) موسوعة عبد الله بن عباس الحلقة الأولى 2 / 325 ـ 328.

(2) لأنها تلي المئين ، وإنما سميت بالمثاني لتثنية الله جل ذكره فيها الأمثال والِغَير والعِبَر ( تفسر الطبري 1 / 103 ط محققة ).

(3) سميت بالمئين لأنها في عدد آياتها بلغت مائة آية أو تزيد عليها أو تنقص منها شيئاً يسيراً ( نفس المصدر ).

١٨١

عنده ، فيقول : ( ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) ، وكانت الأنفال من أوّل ما أنزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فظنت أنّها منها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ووضعتها في السبع الطوال )(1) .

وقد استوحش الطبري شيخ المفسرين من هذا الخبر ، فقال : ( فهذا الخبر ينبئ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنّه لم يكن تبيّن له أنّ الأنفال وبراءة من السبع الطوال ، ويصرّح عن ابن عباس أنّه لم يكن يرى ذلك منها )(2) .

وللسيوطي في كتاب ( الإتقان ) تشريق وتغريب في هذا الخبر لرفع الغريب المعيب في جواب عثمان! بينما نَقل عن الحارث المحاسبي أنّ القرآن كان مجموعاً على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : ( المشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على إختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لمّا خشي الفتنة عند إختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات )(3) .

وقد أكّد ابن الحصّار أنّ ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنّما

____________________

(1) الإتقان للسيوطي 1 / 62 ط حجازي بالقاهرة 1318 هـ ، كنز العمال 2 / 317ط حيدر آباد الثانية.

(2) جامع البيان 1 / 70.

(3) الإتقان 1 / 61.

١٨٢

كان بالوحي ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( ضعوا آية كذا في موضع كذا ) ، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وممّا أجمع الصحابة على وضعه هذا في المصحف(1) .

إذن ما بال ابن عباس ـ وهو الذي نشأ وتعلّم في بيت الوحي ـ يسأل من عثمان مستنكراً عليه وعلى من معه ، فيقول له : ( ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك )؟!

بينما تجد أنّ ابن عباس ، قال : ( سألت عليّ بن أبي طالب : لِم لم تكتب في براءة( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ؟ قال : لأنّها ـ البسملة ـ أمان ، وبراءة نزلت بالسيف )(2) !

فمن كان عنده باب مدينة العلم وقد سأله عن سبب ترك البسملة في أوّل سورة براءة ، لا يكون سؤاله من عثمان إلاّ من باب الإستنكار ، ولعلّه كان في سؤاله تعنتاً وليس مستفهماً ، فأجابه عثمان بما مرّ ، ولم يظهر من ابن عباس ما يُشعر برضاً وقناعة به!

ولذا قلت فيما مّر في سيرته : ( ويبدو فيما أظن أنّ الخبر لم يسلم من عبث الرواة ، فقد ورد في أخره جواب عثمان ولم يذكر فيه لابن عباس رأيه في الجواب مقتنعاً أو مفنّداً )(3) .

____________________

(1) نفس المصدر / 63.

(2) الإتقان 1 / 70.

(3) أنظر موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الاولى 2 / 327.

١٨٣

المحاورة العاشرة :

كان ابن عباس رضي الله عنه فقيهاً ومن أكابر الفقهاء الصحابة ، وعاصر معايشاً جماعة الخلفاء الثلاثة ، ولكثرة النوازل بهم كانوا لا يعلمون دائماً الجواب في أحكامهم ، فيستنقذهم بعض الصحابة وفي مقدمتهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إن كان حاضراً أو ابن عباس رضي الله عنه وهو أكثر حضوراً عندهم كما مرّت أسباب ذلك في الحلقة الأولى في الجزئين الثاني والثالث ، وقد مرّت شواهد كثيرة على تسديد الإمام عليه السلام وابن عباس لأبي بكر وعمر وعثمان فيما كانوا يقولون فيه بآرائهم ، وربما كان ذلك مخالفاً للكتاب والسنة ، فكانت معاناة الإمام عليه السلام وابن عباس في هذا السبيل كبيرة ، وكان ابن عباس قد تلقى علمه من الإمام عليه السلام الذي هو باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم عن الوحي :( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) ، كما مرّ عنه ذلك مراراً ، فكان يجيب ويفتي بما تلقاه من الإمام عليه السلام كما مَر في ( طابعه الفقهي ) في الجزء الثالث من هذه الحلقة.

والآن إلى شاهد واحد على ذلك في محاروة جرت له مع عثمان أخرجها الطبري في تفسيره ، والحاكم في ( المستدرك ) ، وغيرهم والخبر بلفظ الحاكم ، بسنده : ( عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أنّه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : إنّ الأخوين لا يردّان الأم عن الثلث (؟) قال الله عزوجل :( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) (2) ، فالإخوان بلسان قومك

____________________

(1) النجم / 3 ـ 4.

(2) النساء / 11.

١٨٤

ليسا بإخوة؟ فقال عثمان بن عفان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس )(1) .

وفي لفظ الطبري : ( هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوراثه الناس ومضى في الأمصار )(2) .

أقول : قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرّجاه ، وتبعه الذهبي في تلخيصه وقال ، صح ).

أقول : ولقد وهم غير واحد من الفقهاء ومنهم الطبري وكذا بعض أئمة الحديث ، في نسبة مسألة عدم حجب الأخوين عن الثلث إلى السدس ، وذلك لظنّهم أنّ استفهام ابن عباس من عثمان كان حقيقياً ، بينما كان استفهاماً إنكارياً ، كما هو ظاهر من لغة ابن عباس ومن جواب عثمان ، وهذا ما فهمه جماعة من الفقهاء أيضاً.

المحاورة الحادية عشر :

لقد روى ابن عبد البر في ( الإستيعاب ) في ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعض أقضيته في الأحكام ، فقال :

( وقال في المجنونة التي أمر برجمها ، وفي التي وضعت لستة أشهر فأراد عمر رجمها.

فقال له عليّ : إنّ الله تعالى يقول :( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (3) الحديث.

____________________

(1) المستدرك 4 / 325.

(2) تفسير الطبري 4 / 278.

(3) الأحقاف / 14.

١٨٥

وقال له : إنّ الله رفع القلم عن المجنون الحديث.

فكان عمر يقول : لولا عليّ لهلك عمر ).

ثم قال ابن عبد البر : ( وقد روي مثل هذه القصة لعثمان مع ابن عباس وعن عليّ أخذها ابن عباس ، والله العالم )(1) .

أقول : ما أشار إليه من القصة لعثمان مع ابن عباس ، رواه السيوطي في ( الدر المنثور ) نقلاً عن عبد الرزاق وعبد بن حميد ، عن أبي عبيدة مولى عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( رُفعت أمرأة إلى عثمان رضي الله عنه ولدت لستة أشهر ، فقال عثمان : إنّها قد رُفعت إليّ أمرأة ألا جاءت بشرّ. فقال ابن عباس : إذا أكملت الرضاعة كان الحمل ستة أشهر وقرأ :( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (2) فدرأ عثمان عنها )(3) .

إلى غير ذلك من مواقف خلافية بينهما في مسائل فقهية ، وقد مرّت الإشارة إلى بعضها فيما تقدم في الجزء الثاني من الحلقة الأولى ( في عهد عثمان ).

وممّا لم يتقدم ذكره نقده لعثمان في أيام عمر حول تركه غسل الجمعة ، فقد أخرج عبد الرزاق بسنده : ( أنّ عثمان جاء وعمر يخطب يوم الجمعة ، فقال عمر : ما حبسك؟ قال : يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت

____________________

(1) الإستيعاب 2 / 461 ط حيدر آباد.

(2) الأحقاف / 14.

(3) الدر المنثور 6 / 40.

١٨٦

النداء أن توضأت ثم أقبلت ، فلمّا قضيت الصلاة قال له ابن عباس : ألم تسمع ما قال يا أمير المؤمنين؟ قال : أما أنّه قد علم أنّا قد أمرنا بالغسل ، قال : قلت : المهاجرون خاصة أم الناس عامّة؟ قال : لا أدري )(1) .

____________________

(1) المصنف 3 / 195 / 5293 ـ 5294.

١٨٧

محاورات ابن عباس مع رموز الناكثين

لقد مرتّ بنا أخبار الناكثين لبيعة الإمام عليه السلام وأبرزهم ذكراً كان طلحة والزبير ، فهما أوّل المبايعين ، ثم هما أوّل الناكثين ، ولمّا كان ابن عباس قد حضر مشهد البيعة في المسجد النبوي الشريف ، ورأى طواعية البيعة من دون عسيب نخل أو سيف يحشر الناس كرهاً ، فهو لا يخفى عليه زيف إدعاء طلحة والزبير بأنّهما كان مُكرهَين ، على أنّه كان غير آمن من تخلف آخرين ، وقد مرّ بنا في الجزء الثالث من الحلقة الأولى في مبايعة المسلمين للإمام عليه السلام كثير روايات وأقوال ، كان منها قول ابن عباس : ( لمّا دخل عليه السلام المسجد وجاء الناس ليبايعوه خفت أن يتكلم بعض أهل الشنئان لعليّ من قتل أباه أو أخاه أو ذا قرابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيزهد عليّ في الأمر ويتركه ، فكنتُ أرصد ذلك وأتخوّفه ، فلم يتكلم أحد حتى بايعه الناس كلّهم راضين مسلّمين غير مكرهين )(1) .

لهذا كان شديد الشكيمة قوّي الحجة ، في محاوراته مع الناكثين في البصرة من قبل الحرب ، وقد مرّ ذكرها في محلها ، وكانت أيضاً له سفارات لحقن الدماء ، فنستذكر منها ما يظهر له من دور مميّز في إطفاء

____________________

(1) شرح الجهد لابن أبي الحديد 1 / 341 ، وقد مرّ في الحلقة الأولى من هذه الموسوعة 3 / 24.

١٨٨

الفتنة قبل أن يستعر أوارها ، حيث كان الإمام عليه السلام يرسله مفاوضاً.

( السفارة الأولى )

ولعلّ أوّل مرّة كانت سفارته التي ضم إليه فيها زيد بن صوحان ، فقال لهما : ( أمضيا إلى عائشة فقولا لها : ألم يأمركِ الله تبارك وتعالى أن تقرّي في بيتك؟ فخُدعتِ وانخدعتِ ، واستُنفرتِ فنفرتِ ، فاتقي الله الذي إليه مرجعكِ ومعادكِ ، وتوبي إليه ، فإنّه يقبل التوبة عن عباده ، ولا يحملنّكِ قرابة طلحة وحبّ عبد الله بن الزبير على الأعمال التي تسعى بك إلى النار ).

قال ابن أعثم : فانطلقا إليها وبلّغاها رسالة عليّ عليه السلام.

فقالت عائشة : ما أنا برادة عليكم شيئاً ، فإنّي أعلم أنّي لا طاقة لي بحجج عليّ بن أبي طالب(1) .

فقال لها ابن عباس : لا طاقة لكِ بحجج المخلوق ، فكيف بحجج الخالق؟

فرجعا إلى الإمام فأخبراه ، فقال عليه السلام : ( الله المستعان )(2) .

أقول : وإنّما ضّم الإمام عليه السلام زيد بن صوحان إلى ابن عباس ، لأنّ عائشة سبق أن كتبت إليه كتاباً تستنصره كما في رواية الطبري ، قال :

( وكتبتْ عائشة إلى زيد بن صوحان : من عائشة ابنة أبي بكر أم

____________________

(1) الفتوح لابن أعثم 2 / 306.

(2) مناقب ابن شهر آشوب 3 / 339.

١٨٩

المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان.

أمّا بعد : فإذا أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا على أمرنا هذا ، فإن لم تفعل فخذّل الناس عن عليّ.

فكتب إليها : من زيد بن صوحان إلى عائشة ابنة أبي بكر الصدّيق حبيبة ـ حبيسة ـ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أمّا بعد : فأنا ابنك الخالص إذ أعتزلتِ هذا الأمر ورجعت إلى بيتك ، وإلاّ فأنا أوّل من نابذكِ.

قال زيد بن صوحان : رحم الله أم المؤمنين ، أُمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل ، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به ، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه!؟ )(1) .

فإرسال الإمام عليه السلام له مع ابن عباس كان من هذه الجهة تنبيهاً لها على فشل ما خططته له من إستنصار.

ومن هنا تستمر محاورات ابن عباس مع رموز الناكثين. كما في :

( السفارة الثانية )

قال الشيخ المفيد في كتاب ( الجمل ) :

( ثم دعا عبد الله بن عباس ، فقال : ( انطلق إليهم فناشدهم الله وذكرّهم العهد الذي لي في رقابهم ).

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 476 ـ 477.

١٩٠

1 ـ مع طلحة

قال ابن عباس : جئتهم فبدأت بطلحة فذكّرته العهد.

فقال لي : يا بن عباس والله لقد بايعت عليّاً واللج(1) في رقبتي.

فقلت له : إنّي رأيتك بايعت طائعاً ، أو لم يقل لك عليّ قبل بيعتك له إن أحببتَ لأبايعك؟ فقلت : لا بل نحن نبايعك.

فقال طلحة : إنّما قال لي ذلك وقد بايعه قوم فلم أستطع خلافهم ، والله يا ابن عباس إنّ القوم الذين معه يغرّونه إن لقيناه فسيسلمونه ، أما علمتَ يا بن عباس أنّي جئت إليه والزبير ولنا من الصحبة ما لنا مع رسول الله والقدم في الإسلام ، وقد أحاط به الناس قياماً على رأسه بالسيوف ، فقال لنا : ـ بهزل ـ إن أحببتما بايعت لكما ، فلو قلنا نعم ، أفتراه يفعل وقد بايع الناس؟ فيخلع نفسه ويبايعنا ، لا والله ما كان يفعل ، وحتى يغري بنا مَن لا يرى لنا حرمة ، فباعينا كارهين ، وقد جئنا نطلب بدم عثمان ، فقل لابن عمك إن كان يريد حقن الدماء وإصلاح أمر الأمة فليمكننا من قتلة عثمان فهم معه ، ويخلع نفسه ويردّ الأمر ليكون شورى بين المسلمين فيولّوا من شاؤا ، فإنّما عليّ رجل كأحدنا ، وإن أبى أعطيناه السيف ، فما له عندنا غير هذا.

قال ابن عباس : يا أبا محمد لست تنصف ، ( ألست تتعسفه؟ ) ألم تعلم أنّك حصرت عثمان حتى مكث عشرة أيام يشرب ماء بئره وتمنعه من شرب الفرات ـ القراح ـ حتى كلمّك عليّ في أن تخلّي الماء له وأنت تأبى

____________________

(1) اللج : السيف ( الصحاح لج ).

١٩١

ذلك ، ولمّا رأى أهل مصر فعلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه بسلاحهم فقتلوه.

ثم بايع الناس رجلاً له من السابقة والفضل والقرابة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبلاء العظيم ما لا يُدفع ، وجئت أنت وصاحبك طائعيَن غير مكرهيَن حتى بايعتما ثم نكثتما. فعجب والله إقرارك لأبي بكر وعمر وعثمان بالبيعة ، ووثوبك على عليّ بن أبي طالب! فوالله ما عليّ دون أحد منهم.

وأمّا قولك : يمكنني من قتلة عثمان ، فما يخفي عليك من قتل عثمان.

وأمّا قولك : إن أبى عليّ فالسيف ، فو الله إنّك تعلم أنّ عليّاً لا يخوّف.

فقال طلحة : إيهاً الآن عنا من جدالك.

قال ـ ابن عباس ـ : فخرجت إلى عليّ وقد دخل البيوت بالبصرة. فقال : ( ما وراءك؟ ) فأخبرته الخبر.

فقال : ( اللهم أفتح بيننا بالحق وأنت خير الفاتحين ).

2 ـ مع عائشة

ثم قال : ( إرجع إلى عائشة وإذكر لها خروجها من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخوّفها من الخلاف على الله عزوجل ونبذها عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقل لها : إنّ هذه الأمور لا تصلحها النساء ، وأنّكِ لم تؤمري بذلك ، فلم يرض بالخروج عن أمر الله في تبرجّكِ بيتكِ الذي أمركِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالمقام فيه ، حتى أُخرجتِ إلى البصرة فقتلتِ المسلمين ، وعمدتِ إلى عمالي فأخرجتهم ، وفتحتِ بيت المال ، وأمرتِ بالتنكيل بالمسلمين ، وأمرتِ بدماء الصالحين فأريقت ، فراقبي الله عزوجل ،

١٩٢

فقد تعلمين أنّكِ كنتِ أشدّ الناس على عثمان ، فما هذا ممّا وقع؟ ).

قال ابن عباس : فلمّا جئتها وأديت الرسالة وقرأت كتاب عليّ عليها.

قالت : يا بن عباس ابن عمك يرى أنّه قد تملّك البلاد ، لا والله ما بيده منها شيء إلاّ وبيدنا أكثر منه.

قلت : يا أماه إنّ أمير المؤمنين عليه السلام له فضل وسابقة في الإسلام وعظم عناء.

قالت : ألا تذكر طلحة وعناءه يوم أحد؟

قال : قلت لها والله ما نعلم أحداً أعظم عناءً من عليّ عليه السلام.

قالت : أنت تقول هذا ومع عليّ أشباه كثيرة.

قلت لها : الله الله في دماء المسلمين.

قالت : وأي دم يكون للمسلمين إلاّ أن يكون عليّ يقتل نفسه ومن معه.

قال ابن عباس : فتبسّمت.

فقالت : ممّا تضحك يا بن عباس؟

فقلت : والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه.

قالت : حسبي الله ونعم الوكيل.

3 ـ مع الزبير وابنه

قال ـ ابن عباس ـ : وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاني أن ألقى الزبير ، وإن قدرت أن أكلّمه وابنه ليس بحاضر ، فجئت مرّة أو مرتين كلّ ذلك أجده عنده ، ثمّ جئت مرّة أخرى فلم أجده عنده ، فدخلت عليه ، وأمر

١٩٣

الزبير مولاه سرجس أن يجلس على الباب ، ويحبس عنا الناس. فجعلت أكلّمه.

فقال : عصيتم إن خولفتم ، والله لتعلمنّ عاقبة ابن عمك.

فعلمت أنّ الرجل مغضّب ، فجعلت ألاينه فيلين مرّة ويشتد أخرى ، فلمّا سمع سرجس ذلك أنفذ إلى عبد الله بن الزبير ، وكان عند طلحة ، فدعاه فأقبل سريعاً حتى دخل علينا.

فقال : يا بن عباس دع بيّنات الطريق ، بيننا وبينكم عهد خليفة ، ودم خليفة ، وانفراد واحد وإجتماع ثلاثة ، وأمّ مبرورة ، ومشاورة العامة.

قال ـ ابن عباس ـ : فأمسكت ساعة لا أكلّمه ، ثمّ قلت : لو أردت أن أقول لقلت.

فقال ابن الزبير : ولم تؤخر ذلك وقد لحم الأمر وبلغ السيل الزبى؟

قال ابن عباس : فقلت : أمّا قولك : عهد خليفة ، فإنّ عمر جعل المشورة إلى ستة نفر ، فجعل النفر أمرهم إلى رجل منهم يختار لهم منهم ويخرج نفسه منها ، فعرض الأمر على عليّ ( وعلى عثمان ) فحلف عثمان وأبى عليّ أن يحلف ، فبايع عثمان ، فهذا عهد خليفة.

وأمّا دم خليفة : فدمه عند أبيك ، لا يخرج أبوك من خصلتين : إمّا قتل ، أو خذل.

وأمّا انفراد واحد وإجتماع ثلاثة ، فإنّ الناس لمّا قتلوا عثمان فزعوا

١٩٤

إلى عليّ عليه السلام فبايعوه طوعاً وتركوا أباك وصاحبَه ولم يرضوا بواحد منهما.

وأمّا قولك : إنّ معكم أمّاً مبرورة ، فإنّ هذه الأم أنتما أخرجتماها من بيتها ، وقد أمرها الله أن تقرّ فيه. فأبيت أن تدعها ، وقد علمتَ أنت وأبوك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حذّرها من الخروج ، وقال : ( يا حميراء إياكِ أن تنبحكِ كلاب الحوأب ) ، وكان منها ما قد رأيت.

وأمّا دعواك مشاورة العامة ، فكيف يشاور فيمن قد أُجمع عليه ، وأنت تعلم أنّ أباك وطلحة بايعاه طائعَينَ غير كارهَين.

فقال ابن الزبير : الباطل والله ما تقول يا بن عباس ، وقد سُئل عبد الرحمن ابن عوف عن أصحاب الشورى فكان صاحبكم أخسّهم عنده ، وما أدخله عمر في الشورى إلاّ وهو يعرفه ، ولكنه خاف فتنة في الإسلام.

وأمّا قتل خليفة ، فصاحبك كتب إلى الآفاق حتى قدموا عليه ثمّ قتلوه وهو في داره بلسانه ويده ، وأنا معه أقاتل دونه حتى جُرحتُ بضعة عشر جُرحاً.

وأمّا قولك إنّ عليّاً بايعه الناس طائعين ، فوالله ما بايعوه إلاّ كارهَين والسيف على رقابهم ، غصبهم أمرهم.

فقال الزبير : دع عنك ما ترى يا بن عباس ، جئتنا لتوفينا؟

فقال له ابن عباس : أنتم طلبتم هذا ، والله ما عددناكم قط إلاّ منّا بني هاشم في برّك لأخوالك ومحبّتك لهم ، حتى أدرك ابنك هذا فقطع أرحامهم.

١٩٥

فقال الزبير : دع عنك هذا )(1) .

فرجع ابن عباس وأخبر الإمام عليه السلام بإصرار القوم على الخلاف ، فلم يبرح الإمام عليه السلام يبعث مَن يعظهم ويحذرهم مغبّة العواقب ، وكان أكثر رُسله سفارة هو ابن عمه عبد الله بن عباس.

( السفارة الثالثة )

عن ابن عباس ، قال :

( دخلت عليها ـ يعني عائشة ـ البصرة فذكّرتها هذا الحديث ـ يعني به حديثها معه يوم الصلصل وقد مرّ في الجزء الأوّل ـ.

فقالت : ذاك المنطق الذي تكلمت به يومئذ هو الذي أخرجني ، لم أر لي توبة إلاّ الطلب بدم عثمان ، ورأيت أنّه قتل مظلوماً.

قال ابن عباس : فقلت لها : فأنتِ قتلتيه بلسانكِ ، فأين تخرجين؟ توبي وأنتِ في بيتكِ ، أو أرضي ولاة دم عثمان ولده.

قالت : دعنا من جدالك فلسنا من الباطل في شيء )(2) .

( السفارة الرابعة )

قال الشريف الرضي في ( نهج البلاغة ) :

( من كلام له عليه السلام لابن عباس لمّا أرسله إلى الزبير يستفيئُه إلى طاعته

____________________

(1) الجمل / 171.

(2) تقريب المعارف لابي الصلاح الحلبي / 290 ، البحار 31 / 299.

١٩٦

قبل حرب الجمل : ( لا تلقينّ طلحة ، فإنّك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه ، يركب الصعبَ ويقول هو الذلول ، ولكن ألقَ الزبير ، فإنّه ألين عريكة ، فقل له : يقول لك ابن خالك : عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق ، فما عَدا ممّا بدا؟ ).

قال الرضي : أقول : هو أوّل من سُمعت منه هذه الكلمة ، أعني : ( فما عدا ممّا بدا )(1) .

قال الزبير بن بكار في ( الموفقيات ) عن ابن عباس ، قال : ( فأتيت الزبير فوجدته في بيت يتروّح في يوم حار ، وعبد الله ابنه عنده.

فقال : مرحباً بك يا بن لبابة ، أجئت زائراً أم سفيراً؟

قلت : كلا إنّ ابن خالك يقرأ عليك السلام ـ ( وذكر الرسالة ) ويقول لك : يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة؟

فقال :

علقتهم أنّي خلفت عصبة

قتادة تعلقت بنشبة

لن أدعهم حتى أولّف بينهم.

قال ـ ابن عباس ـ : فأردت منه جواباً غير ذلك.

فقال لي ابنه عبد الله : قل له بيننا وبينك دم خليفة

قال : فعلمت أنّه ليس وراء هذا الكلام إلاّ الحرب ، فرجعت إلى

____________________

(1) نهج البلاغة / خطبة 31 في الدهر وأهله.

١٩٧

عليّ عليه السلام فأخبرته )(1) .

أقول : قال السيد علي خان المدني الشيرازي : ( وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : ( من كان له ابن عم مثل ابن عباس فقد أقرّ الله عينه )(2) .

وكلمة الإمام عليه السلام ( فما عدا ممّا بدا ) لم يقلها أحد قبله.

قال ابن خلكان : ( وفي وقعة الجمل قبل مباشرة الحرب أرسل عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما إلى طلحة والزبير رضي الله عنهما برسالة يكفّهما عن الشروع في القتال ، ثمّ قال له : ( لا تلقينّ طلحة فإنّك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً أنفه يركب الصعب ويقول هو الذلول ، ولكن القَ الزبير فإنّه ألين عريكة منه ، وقل له : يقول ابن خالك : عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا ممّا بدا؟ ).

قال ابن خلكان : وعليّ رضي الله عنه أوّل من نطق بهذه الكلمة فأخذ ابن المعلم

____________________

(1) قال الزبير بن بكار : هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب ثمّ تركه وقال : إني رأيت جدي أبا عبد الله الزبير بن العوام في المنام وهو يعتذر من يوم الجمل ، فقلت له كيف تعتذر منه وأنت القائل :

علقتهم أنّى خلفت عصبة

قتادة تعلقت بنشبة

لن أدعهم حتى أولّف بينهم؟ فقال : لم أقله. وهذا من النصوص الضائعة من كتاب الموفقيات المطبوع ولم يستدركه المحقق ، وقد بلغ ما استدركته عليه أربعة عشر نصاً ، وقد ذكر هذه الرسالة المفضل بن سلمة في الفاخر / 301 ط مصر وابن عبد ربه في العقد الفريد 4 / 314 تحـ أحمد أمين ورفيقيه.

(2) الدرجات الرفيعة / 108.

١٩٨

المذكور هذا الكلام وقال :

منحوه بالجزع الكلام وأعرضوا

بالغور عنه ( فما عدا ممّا بدا )(1)

وهذا القول من جملة قصيدة طويلة.

( السفارة الخامسة )

قال ابن أبي الحديد :

( وقد روى المدائني قال : بعث عليّ عليه السلام ابن عباس يوم الجمل إلى الزبير قبل الحرب ، فقال له : إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لكم : ألم تبايعني طائعاً غير مكرَه فما الذي رابَك مني فاستحللت به قتالي؟

قال : فلم يكن له جواب ، إلاّ أنّه قال : إنّا مع الخوف الشديد لنطمع ، لم يقل غير ذلك.

قال أبو إسحاق ـ الراوي ـ : فسألت محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام ما تراه يعني بقوله هذا؟

فقال : والله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا؟

فقال يقول : إنّا مع الخوف الشديد ممّا نحن عليه نطمع أن نلي مثل الذي ولّيتم )(2) .

وقد روى هذه السفارة كلّ من الجاحظ في ( البيان والتبيين ) عن عبد

____________________

(1) وفيات الأعيان / ترجمة أبي الغنائم الواسطي المعروف بابن المعلم المتوفى سنة 592 هـ.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 499.

١٩٩

الله بن مصعب(1) ، ورواها أبو الفرج الاصبهاني في ( الأغاني ) بأسانيد متعددة ، ولعلّ روايته أوسع ممّا مرّ ، وإليك نصها :

قال : ( حدّثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي الكوفي ، وجعفر ابن محمّد بن الحسن العلوي الحسني ، والعباس بن علي بن العباس ، وأبو عبيد الصيرفي ، قالوا : حدثنا محمّد بن علي بن خلف العطار ، قال : حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، عن سليمان النوري ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن عليّ بن الحسين عليه السلام ، قال : حدّثني ابن عباس ، قال : قال لي عليّ صلوات الله عليه : ( إئت الزبير فقل له : يقول لك عليّ بن أبي طالب : نشدتك الله ألستَ قد بايعتني طائعاً غير مكره فما الذي أحدثت فاستحللتَ به قتالي ).

وقال أحمد بن يحيى في حديثه : قل لهما : ( إنّ أخاكما يقرأ عليكما السلام ويقول : هل نقمتما عليّ جوراً في حكم أو استئثاراً بفيء؟ ).

فقالا : لا ولا واحدة منهما ، ولكن الخوف وشدّة الطمع.

وقال محمّد بن خلف في خبره : فقال الزبير : مع الخوف شدّة المطامع(2) .

فأتيت عليّاً عليه السلام فأخبرته بما قال الزبير. فدعا بالبغلة فركبها وركبت معه فدنوا حتى اختلفت أعناق دابتيهما ، فسمعت عليّاً صلوات الله عليه يقول : ( نشدتك الله يا زبير ، أتعلم أنّي كنت أنا وأنت في سقيفة بني فلان

____________________

(1) البيان والتبيين 3 / 221 تحـ عبد السلام محمّد هارون ط الأولى.

(2) المصنف لابن أبي شيبة 15 / 267 ط باكستان.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496