موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93205 / تحميل: 4724
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهكذا نلاحظ كثيراً من الأدلة القرآنية التي تؤيد هذا الأمر. إذن ما ذهب إليه الإمامية صحيح ، لا يخالف القرآن كما إدعاه البعض.

وبعد هذا البيان والدراسة في بحث (الغيب) ، ندخل في دراسة القصة الغيبية.

ب ـ أقسام القصة الغيبية :

سبق أن قلنا أنّ هذا النوع من القصص تعد أحداثها بتفاصيلها مصدرها الوحي ، فهذه القصص من قبيل الغيب الذي كشفه الله عَزّ وجَلّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي غيب سواء أكانت في الماضي أو المستقبل ، فعلى هذا يمكن تقسيم القصة الغيبية إلى ما يلي :

الأول ـ قصص الماضي :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب ، خصوصاً ما جرى على الأمم الماضية ، فعلى سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته حيث أوحى الله سبحانه إلى يوسف في قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [يوسف / ١٥]. ففي الآية غيب موحى إلى يوسف ، وكذلك غيب موحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الوحي له بما حصل ليوسف عليه السلام وأكّد على ذلك في قوله تعالى :( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف / ١٠٢]. إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية ، فالقرآن ذكر تلك القصص على نحو الإختصار ، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوضحها ، فالملاحظ أنّ تلك القصص وما تضمنته من أحداث ليست في متناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحدث أمامه ، كما أنّه لم يُنشئها ولم يأخذها عن طريق غيره

١٠١

من المؤرخين ، بل مصدره الوحي ، وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام. «وذكر العلامة الجليل الورع الثقة النبيل ، السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) أكثر من ستمائة رواية في إخبارات الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم»(١٠٥) .

الثاني ـ قصص المستقبل :

يتناول هذا اللون من القصص أموراً مختلفة كلها تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع ، ولو تأملنا ما ذكر في القرآن الكريم ، وعلى لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأمكن تقسيمه إلى ما يلي :

أولاً ـ أخبار تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ـ وكان ذلك في المدينة المنورة قبل أن يخرج إلى الحديبية ـ أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكة عامهم هذا ، فلما إنصرفوا ولم يدخلوا مكة ؛ قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله هذه الآية :( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح / ٢٧]. وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة. وكان عام سبع للهجرة وتَمّ الفتح القريب من دونه ـ وهو صلح الحديبية ـ ، الذي كان مقدمة لفتح مكة سنة ثمان للهجرة.

ثانياً ـ أخبار تحققت بعد حياته :

وهذا ال نوع من القصص منه ما هو مشهور كأخبار آخر الزمان ، المسمى بـ(أحاديث الفتن والملاحم) ، ويندرج تحت هذا النوع كثير من الإخبارات ،

__________________

(١٠٥) ـ النمازي ، الشيخ علي الشاهرودي : مستدرك سفينة البحار ، ج ٨ / ٨٠.

١٠٢

كخبر الدابة التي تخرج للناس في آخر الزمان ، وقد جاء في القرآن الكريم خبرها في قوله تعالى :( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) [النمل / ٨٢]. ومن أراد تفاصيل ذلك ؛ فليراجع كتب التفسير.

كما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة إخبارات غيبية ، من أهمها ما يحل على أهل بيته عليهم السلام كإخباره بمقتل سبطه الحسين عليه السلام في كربلاء ، وقد ذكر منها ابن الأثير في ترجمة أنس بن الحارث حيث قال : «روى حديثه أشعث بن سحيم ، عن أبيه عن أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض ال عراق ، فمن أدركه فلينصره) ، فقتل مع الحسين عليه السلام»(١٠٦) .

وأيضاً إخباره عن الإمام المهدي عليه السالم ، وقد ذكرها علماء المسلمين ، لا ينكر ذلك إلا مكابر لا قيمة لرأيه.

ثالثاً ـ أخبار البعث والنشور :

لعلّ من أهم القضايا التي واجه بها نبينا الأعظم عليه السلام مشركي قريش قضية البعث والنشور ، فقد أنكر المشركون هذا الأمر باصرار عنيف ، واستغربوا من ذلك أشد الإستغراب ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الإنكار في أكثر من آية ، منها ما يلي :

قوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) [سبأ / ٧ ـ ٨].

__________________

(١٠٦) ـ ابن الاثير ، علي بن محمد : أسد الغابة ، ج ١ / ١٢٣.

١٠٣

وقوله تعالى :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [الجاثية / ٢٤].

وقوله تعالى :( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) [الصافات / ١٦ ـ ١٩].

وإزاء هذا الإنكار لهذه القضية ، إستخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القصة في عرض البعث واليوم الآخر ، وأكّد على ذلك بأن نَزّل المستقبل منزلة الحار ، فهذه القصص في الوقت الذي تحمل الرد على المنكرين ، فإنّها تُؤكِّد الإيمان بالبعث والنشور ، كما أنّ هناك عاملاً جوهرياً يضاف إلى وجود هذا النوع من قصص العالم الآخر ، ووراء كثرته وتكراره أنّ ذلك العالم هو محل العقاب والثواب ، وقضية العقاب والثواب أساسية يتمد عليها منهج التربية في الشريعة الإسلامية ، من أجل قيام الإنسان المسلم على مبادئ دينه والإلتزام بها ، حيث سيظل وازع الإحساس بالمسؤولية ، ـ عما يقول أو يفعل ـ مائلاً أمامه من خلال تصوره لحياة أخرى يؤمن بأنّه سيجازي فيها على سلوكه ، على الخير بالخير في الجنة والنعيم ، وعلى الشر بالشر في النار والعذاب ، كما في قوله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة / ٧ ـ ٨].

١٠٤

٣ ـ القصة الخيالية

أ ـ الخرافية

ب ـ التمثيلية

ج ـ الخيال العلمي

١٠٥
١٠٦

٢ ـ القصة الخيالية :

هي حكايات يبتدعها خيال المؤلف ، قد تكون نثراً أو نظماً ، والروايات والقصص القصيرة ، هي من أشهر أشكال قصص الخيال رواجاً ، وسمات هذه القصص أنّها تحتوي على عناصر خيالية ، إما كلياً أو جزئياً ، وهذه العناصر تشمل الشخصيات والأوضاع المحيطة ، وفي بعض قصص الخيال تكون العناصر الخيالية واضحة ـ أي بعيدة عن الواقع ـ مثل القصة الإطارية ، وهي قصة تروي في إطارها مجموعة من الحكايات ، ومن أحسن الأمثلة عليها قصة شَهْرَيَار الملك وشَهْرَزَاد في كتاب (ألف ليلة وليلة) ، ومع ذلك ليس من الضروري أن تختلف كثيراً عن الواقع ؛ إذ أنّ كثيراً من نماذج قصص الخيال تمثل شخصيات قريبة من الواقع ، وتصف أوضاعاً واقعية ، وبعض القصص ترتكز على شخصيات وحوادث حقيقية ، وتدمج عادة العناصر الواقعية في قصص الخيال مع الأوضاع والشخصيات والحوادث الخيالية ، والغرض الرئيس لمعظم قصص الخيال هو التسلية ، إلا أنّ هناك بعض الأعمال الجادة من قصص الخيال التي تحفز العقل وتدعو إلى التفكير عن طريق إيجاد الشخصيات ، ووضعها في مواقف محددة ، وتأسيس وجهات النظر ، ويقوم مؤلفو قصص الخيال الجادة بتوضيح الأحكام المميزة بين الأشياء ، وهذه الأحكام تتناول المسائل الأخلاقية والفلسفية والنفسية والإجتماعية ، ولعلّ أهم ما يمكن دراسته من أقسامها هي التالي :

أ ـ الخرافية :

الخُرافَة : «الحديث المستملح من الكذب. وقالوا : حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي في قولهم حديث خرافة أنّ خرافة من بني عُذْرَة أو من جُهَيْنَة ، إختطفته الجن ، ثم رجع إلى قومه فكان يُحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها

١٠٧

الناس ، فكذبوه فجرى على ألسن الناس»(١٠٧) . وعُرِّفت الخرافة أيضاً بـ«معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو إجتماعية. فمن الخرافات الدينية إيمان بعض المشلولين أو المقعدين ، بقدرة قديس بعينه أو قديسة بعينها على شفائهم.

ومن الخرافات الثقافية أو الإجتماعية ، إيمان كثير من الناس بأنّ الخرزة الزرقاء تدفع الشر ، وبأنّ نعل الفرس مجلبة للخير»(١٠٨) وبعد هذا التعريف فالحكاية الخرافية : «قصة أو حكاية خيالية قصيرة ذات مغزى في معظم الحكايات الخرافية ، يمثل واحد أو أكثر من الشخصيات حيواناً أو نباتاً أو شيئاً يتكلم ويتصرف كمخلوق بشري ، ويمكن أن نُقص الحكاية الخرافية نثراً أو شعراً ، وفي عديد من الحكايات يمكن تلخيص المراد من القصة ، أو مغزاها في النهاية على شكل مثل شعبي»(١٠٩) .

وهذا النوع من القصة الخيالية لا قيمة له على المستوى الديني ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية.

ب ـ التمثيلية :

لست بصدد دراسة القصة التمثيلية من جميع جوانبها ، وإنّما الهدف هو التعريف بها من بعض جوانبها ، في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي يهمنا بحثه هو التالي :

__________________

(١٠٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٩ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠٨) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٦١.

(١٠٩) ـ الموسوعة العربية العالمية ، ج ٩ / ٤٨١.

١٠٨

١ ـ التعريف بالمثل :

يطلق المثل على معانٍ ثلاثة ، هي كالتالي :

الأول ـ المثل السائر :

هو كلمة موجزة قيلت في مناسبة تناقلتها الأجيال بدون تبديل ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من البيان لسحرا)(١١٠) ، قال الميداني : «يعني أنّ بعض البيان يعمل عمل السحر ، ومعنى السحر : إظهار الباطل في صورة الحق ، والبيان : إجتماع الفصاحة والبلاغة ، وذكاء القلب مع اللسَنِ ، وإنما شُبّه بالسحر ، لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له. يضرب في إستحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة»(١١١) . والهدف منه مقصور على التطبيق.

الثاني ـ المثل القياسي :

ويقصد به البيانيون متشكل من أي وصف أو قصة أو تصوير رائع لتوضيح فكرة ، عن طريق تشبيه يسميه البلاغيون (التمثيل المركب) لتقريب أمر معقول من محسوس يجمع بذلك بين عمق الفكرة ، وجمال التصوير ولم يقصر على سماع أو نقل ، والإهتمام بصياغة الفكر فيه أكثر من إقتباس مثل سائر ، وحاصل القياسي : هو ما يخلقه المتمثل لغرض ينشده ، ومن نماذجه في القرآن الكريم ، قوله تعالى :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل / ١١٢]. فالآية فيها إستعارة تمثيلية ؛ حيث أخذ اللباس في الجوع والخوف الدال على إستعمالها لمن

__________________

(١١٠) ـ الميداني ، احمد بن محمد النيسابوري : مجمع الأمثال ، ج ١ / ٧.

(١١١) ـ نفس المصدر.

١٠٩

كفر بأنعم الله تعالى ـ الأمن والصحة والكفاية في الرزق وغيرها من النعم التي لا تحصى ـ ، ولو إكتفى بالإذاقة لفات ذلك. وفي الأمثال النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أيها الناس إياكم وخضراء من الدِمَن. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١١٢) .

قال الشريف الرضي : «... أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن ـ وهي منبت السوء ، أو في البيت السوء ـ ، فوجه المجاز في هذا القول ، أنّه عليه الصلاة والسلام ، شَبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها ، وشبّه منبتها السوء بالدِمْنَة لقباحته ، والدِمْنَة هي : الأبعار المتجمعة تركبها السوافي ، ويعلوها الهابي ، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتاً خضراء يروق منظره ويسوء مخبره ، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها ، أو مطعوناً عليها في نسبها ، لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها ، وتضرب في نسلها ، قال الشاعر :

وأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عِرق السوء لا بدّ مدرك(١١٣)

وفي السيرة الحسينية ما جاء في خطبته في مكة المكرمة : «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تُقطعها عُسْلَان الفَلوات بين النَوَاوِيس وكربلا ، فيملأن مني أكراشاً جُوفَاً ، وأجْرُبَة سُغُبَاً»(١١٤) .

__________________

(١١٢) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ٢٧٢.

(١١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن الحسين : المجازات النبوية / ٦٠ ـ ٦١.

(١١٤) ـ السماوي ، الشيخ محمد طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦.

١١٠

إنّ بلاغة هذه الخطبة وعُلو مضمونها ، يوجب لنا الإطمئنان بصدورها عن سيد الشهداء عليه السلام ، كما أنّها على وجازتها تضمنت نهج الحسين عليه السلام وهدفه ، ونهايته ووصف مصرعه ومكانه ، والذي يهمنا بحثه ـ هنا ـ بيان بعض أوجهها البلاغية ، المتمثلة فيما يلي :

أولاً ـ عَبّر الحسين عليه السلام عن الموت الذي هو طبيعي للبشر بأنّه : (خط مخط القِلادة على جِيدْ الفَتاة). وهذا التعبير براعة إستهلال عجيبة المعنى ؛ حيث أنّ مخط القلادة يراد منه شيئين :

أ ـ إسم مكان : وهو موضع خط القلادة ـ وهي الجلد المستدير من الجيد ـ ، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة ، كذلك الموت على ولد آدم.

ب ـ إسم مصدر : والمراد به نفس الخط ، فيكون معنى ذلك : أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم عن وسطها ، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها حال تقليده. فإذا كان الموت لابد منه ؛ فليختر الإنسان أفضل ميتة ، وأعظمها شرفاً ونفعاً ، وإن أدّت إلى تقطيع أوصاله.

ثانياً ـ إختيار الحسين عليه السلام لنفسه الموتة الكريمة ، التي هي مرتبطة بأمر السماء التي تتم فيها شهادة الحسين وسعادته ، وسعادة من سار على نهجه ، لقد قضي الأمر وتمت الخيرة ، وكيفية القتلة ومكانها وعَبّر عن ذلك بقوله : (وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقَطّعها عُسْلَان الفَلوات ، بين النَواوِيس وكربلاء).

فعسلان الفلوات : هي الذئاب ، ولعلّ الحسين عليه السلام يعني بها ـ مجازاً ـ الوحوش البشرية من أعدائه التي وَزّعت جسده الطاهر ، وتركته بالعراء وسلبته ووطأته بالخيول ، ثم تركته بلا مواراة ثلاثة أيام ، وقد عَبّر عن وحشيتهم بقوله

١١١

(فيملأن مني أكراشاً جُوْفَاً ـ أي واسعة ـ ، وأجربة سُغُباً ـ أي البطون الجائعة ـ ، وهذا تعبير عن شدتها وكثرة أكلها من دون محام ولا دافع عن الأعضاء المقطعة ، ويُؤَيّد هذا المعنى ما قاله لأصحابه لما نزل بَطْن العَقَبة : «ما أراني إلا مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(١١٥) . أراد الحسين عليه السلام أن يُبيّن للمسلمين من خلال خطبته ، تلك الجريمة النكراء التي إقترفها الأمويون في حق البيت النبوي الطاهر ، ومدى اللثم والخسة في نفوس أعدائه ، حيث إمتدت تلك الجريمة ـ بعد تقطيع الحسين عليه السلام بالسيوف ، ووطئ جثته بالخيول ـ لتدخل الرعب والهلع في نفوس النساء والأطفال ، وتُعَرِّضَهم للعطش والحرق والسحق والأسر وضرب السياط ، وبهذا أراد الحسين عليه السلام أن يسجل على صفحات التاريخ ، صوراً من البطش والهمجية التي لا يرتكبها إلا الذئاب المفترسة والوحوش الضارية.

الثالث ـ مطلق ما يسمى بالمثل :

سواء فيه المثل السائر ، والقياسي والفرضي المعروف بالخياليات التي صنعت للإعتبار والموعظة ، كفرضيات كتاب (كليلة ودمنة) ، وكل وصف به نوع غرابة أو إعجاب زائد ، كقوله تعالى :( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .) [محمد / ١٥]. المستفاد من كلمات اللغويين أنّ المثل بمعنى التمثيل والتنظير ، وسمي المثل مثلاً لأنّه ماثل بخاطر الإنسان ؛ أي شاخص به. يقول الجوهري : «ومثلت له كذا تمثلاً إذا صَوّرت له مثاله

__________________

(١١٥) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق الموسوي : مقتل الحسين / ١٨١.

١١٢

بالكتابة وغيرها»(١١٦) . فكأنّ مراد الجوهري الصورة بالكتابة والتمثال بخير الكتابة ؛ لأنّ غير الكتابة إما يكون وصفاً ؛ فهو أمر تخييلي محض ، وإما أن يكون عملاً يدوياً محسوساً فهو التمثال. فيكون الغاية من سوق المثل والتنظير له إقامة الحجة أو إظهار آية دالة على شيء ما. فالأسلوب في الآية عرضها مثول وانتصاب لحقيقتها أمام الناظر. ومن هذا الباب ما جاء عن الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، حينما إستدعى ابن سعد ومَثّل له نهايته ، حيث قال له : «أي عمر ، أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدّعي بلاد الرّي وجُورجَان ، والله لا تهنأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فصرف بوجهه عنه مغضباً»(١١٧) .

وعند خروج الأكبر عليه السلام إلى الميدان ؛ صاح بعمر بن سعد : «مالك؟! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسَلّط عليك من يذبحك على فراشك»(١١٨) .

٢ ـ أهمية المثل :

للمثل أهمية كبرى يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ إنّ أهمية الأمثال بيانية ، حيث لم يكن في كلام العرب أوجز منها ، ولا أشد إختصاراً. قال إبراهيم النظام : «إجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في

__________________

(١١٦) ـ الجوهري ، إسماعيل بن حَمّاد : تاج اللغة وصحاح العربية ، ج ٥ / ١٨١٦.

(١١٧) ـ المقرّم ، عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٥.

(١١٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٧.

١١٣

غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة»(١١٩) .

٢ ـ إنّ المقصود من ضرب الأمثال ، أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأنّ الغرض في المثل أن تنفعل به النفوس ، وتؤمن به القلوب ، فإن كان مدحاً ؛ كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهز للعطف ، وأسرع للإلف ، وأذكر وأيسر على الألسن ، وأولى بأن تعتلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذماً ؛ كان مَسّه أوجع ، ووقعه أشدّ ، وحَدّه أحد. ومن هذا ما ورد في الخطب الحسينية في الطريق وفي كربلاء. وكذلك ما ورد عن أهل بيته عليهم السلام أثناء الخطب في الكوفة ، ويمكن التركيز منها على ما يلي :

المثل في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) :

قال عليه السلام لابن عباس : «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقَة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذبهم ، حتى يكونوا أذلّ من فِرَام المرأة»(١٢٠) .

وقال أثناء طريقه إلى الكوفة : «إنّ هؤلاء أخافوني ـ وهذه كتب أهل الكوفة ـ وهم قاتليَّ ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا الله محرماً إلا انتهكوه ؛ بعث

__________________

(١١٩) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ١٠.

(١٢٠) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٤.

١١٤

الله إليهم من يقتلهم ، وحتى يكونوا أذلّ من فِرَام الأمّة»(١٢١) . وخاطب الأعداء يوم عاشوراء بقوله : (يا عَبيد الأمّة)(١٢٢) تحقيراً لهم.

إيضاح أهم مفردات المثل الحسيني :

الفِرَام : ورد في كتب اللغة أنّ (الفِرَام) : دواء تُضيِّق به المرأة المسلك ، أو حب الزبيب تحتشى به لذلك ، وكانت في أحراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب. والفرامة : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفِرَام ، وفيها يقول الشاعر :

وجَدْتُك فيها كأمِّ الغلام

متى ما تَجِدْ فَارِما تَفْترِم(١٢٣)

وأيضاً قال في (بَطْن العَقَبة) : «إنّهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم»(١٢٤) .

وقال في (الرُهَيَمة) : «وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذِلّاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلط عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سَبأ ؛ إذ ملكتهم إمرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(١٢٥) . هذه بعض الأمثال الحسينية الواردة في خطبه عليه السلام.

__________________

(١٢١) ـ المصدر السابق / ١٧٥.

(١٢٢) ـ نفس املصدر / ١٦٨.

(١٢٣) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ١٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(١٢٤) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٨١.

(١٢٥) ـ نفس المصدر / ١٨٥.

١١٥

وإن كان وعظاً ؛ كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، ويبصر الغاية.

المثل في خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة :

ومما ورد في الخطبة الزينبية التي خطبتها في الكوفة ـ من الأمثال ما يلي : «الحمد لله ، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتَل والغَدْر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّه ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»(١٢٦) . تشير أم المصائب زينب عليها السلام إلى قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [النحل / ٩٢].

وبعد مراجعة كتب المفسرين حول هذه الآية ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ هذا مثل قرآني يشير إلى المرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفَتلٍ للغزل ؛ وهي إمرأة حمقاء من قريش ، واسمها رَيطَة بنت عمرو ، بن كعب ، بن سعد ، بن تميم ، بن مُرّة ، وكانت تسمى خَرْقَاء مكة ، كانت تغزل مع جواريها إلى إنتصاف النهار ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها.

ثانياً ـ هذا نهي من الله للمكلفين أن يتصفوا بالصفات المذكورة في الآية ، المندرجة تحت الألفاظ التالية :

__________________

(١٢٦) ـ المصدر السابق / ٣١١.

١١٦

١ ـ أنْكَاثاً : جمع نِكْث ، وكل شيء نقض بعد الفتل ؛ فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

٢ ـ دَخَلاً : الدَخَل ، ما أدخل في الشيء على فساد ، فالمراد بالدخل وسيلته ، من تسمية السبب باسم المسبب ؛ أي وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ؛ تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتدعونهم بنقضها. ومعنى ذلك : أنكم كمثلها ، إذا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤدونها وتعقدونها ، ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثلها ، والله ينهاكم عنه.

٣ ـ أرْبَى : أي أكثر عدداً ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمة في رأس ماله. ومعنى ذلك لا ينقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ؛ أي لا تنقضوا عهدكم ، متخذيها دغلاً وغدراً وخديعة ، لمداراتكم قوماً هم أكثر عدداً ممن عاهدتم له ، بل عليكم الوفاء والحفظ لما عاهدتم عليه. فالسيدة زينب عليها السلام تذكرهم وتوبخهم بالعهد والبيعة لسيد الشهداء عليه السلام التي نقضوها ، وشبهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، إلى أن قالت : «ألا وهل فيكم إلا الصَلَف النَطَف ، والعجب والكذب والشَنِف ، ومَلِق الإماء ؛ وغَمَز الأعداء؟!» وفي هذا المقطع عَبّرت عنهم بألفاظ تعيبهم وتكشفهم بها توبيخاً لهم (فالصَلَف) : الذي يمتدح بما ليس عنده. وفي حديث المؤمن : (لا عنف ولا صَلَف) ، يقال : سحاب صلف ، إذ كان قليل الماء ، كثير الرعد ، وفي المثل (رُبّ صَلَف تحت الرَاعِدَة) يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم فيه»(١٢٧) .

__________________

(١٢٧) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ٨٢.

١١٧

(والنَطَفَ) : «القذف بالفجور ، أو الفساد ، أو الشر»(١٢٨) .

(والشنف) : المبغض(١٢٩) .

(ومَلِق الإماء) :

«المَلأِق : الضعيف. أو التودد والتذلل ، وإبداء ما باللسان من الإكرام والودّ ما ليس في القلب»(١٣٠) .

(وغَمَز الأعداء) :

«الغَمَز : الضعف والميل والعيب»(١٣١) ؛ أي أنتم ضعاف في عقولكم وعملكم بحيث إستزِهدكم الأعداء ، وسخروا بكم بإطاعتكم لهم. إلى أن قالت : «أو كَمَرْعَى على دِمّنَة ، أو كقَصّةٍ على مَلْحُودَة».

(الدِمنَة) :

«هي ما تُدمّنُه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها ؛ أي تلبّده في مرابضها ؛ فربما نبت الحسن النضير. ومنه الحديث : (فينبتون نبات الدِّمن في السيل) ، هكذا جاء في رواية بكسر الدال وسيكون يرعى البعير ؛ لسرعة ما ينبت فيه»(١٣٢) .

وقيل الدِّمنة : هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب وتحصل فيه بسبب نزولهم تغيّر في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم ، فإذا أمطرت أنبتت نبتاً حسناً شديد الخضرة والطراوة ؛ لكنّه مرعى وَبِيء للإبل

__________________

(١٢٨) ـ لويس ، معلوف : المنجد في اللغة / ٨١٦.

(١٢٩) ـ نفس المصدر / ٤٠٤.

(١٣٠) ـ نفس المصدر / ٧٧٤.

(١٣١) ـ نفس المصدر / ٥٥٩.

(١٣٢) ـ ابن الأثير ، المبارك بن محمد الجزري : نهاية في غريب الحديث ، ج ٢ / ١٣٤.

١١٨

مُضرّبها)(١٣٣) . ومن هذا ، ما ورد في الحديث النبوي (.. إياكم وخَضْرَاء الدِّمن ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدِّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١٣٤) .

قال الشريف الرضي (ره) : «والقول الآخر : أن يكون عليه الصلاة والسلام ؛ إنّما نهى في الحقيقة عن تغارض النفاق وتعاير الأخلاق ، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل ، وينطوي عن الباطن الدميم ، أو يخدعه بحلاوة اللسان ، ومن خلفها مرارة الجنان ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله :

وقد يَنْبُتُ المرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

وتَبْقَى حَزَازَاتُ النفوس كما هِيَا

كأنه أراد ، إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر ، فإنّا نضمر لكم على باطن الغش والغمز ، ومثل هذا قول الآخر :

وفِينَا وإن قِيلَ إصْظَلحْنَا تَضَاغُنٌ

كما طرّ أوبارُ الجِرَابِ على النّشْرِ

وقال أهل العربية : النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ ؛ وهو الجرب فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم»(١٣٥) ، وبعد هذا الإيضاح يظهر لنا مغزى ما يستفاد من كلام السيدة زينب عليها السلام ، حيث أنّ الغرض هو التعريف بأن الدِّمنَة وإن زها ظاهرها بالنبت ، إلا أنّه لا يفيد الحيوان قوة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكشافات السامة القاتلة ، فنتاج الدِّمنة لا يكون طيباً ، وأهل الكوفة وإن زها

__________________

(١٣٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٦ / ٢٤٨.

(١٣٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢٠ / ٣٥ (الباب ٧ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٧).

(١٣٥) ـ الشريف الرضي ، محمد بن ابي احمد الحسين : المجازات النبوية / ٦١.

١١٩

ظاهرهم بالإسلام ؛ إلا أنّ الصدور إنطوت على قلوب مظلمة لا يصدر منها إلا بما يقوم به أهل الجاهلية والإلحاد»(١٣٦) .

(أو كقَصّةٍ على مَلْحُودة) :

«القَصّةُ والقِصّة والقَصُّ ، الجَصّ : لغة حجازية. وقيل : الحجارة من الجَصّ ، وقد قصّصَ داره ، أي جصّصَها. ومدينة مُقصّصَة : مطلية بالقصّ ، وكذلك قبر مُقصّصٌ ، والتقصيص : هو التجصيص ، وذلك أنّ الجَصّ يقال له ، القَصّة. يقال : قصصت البيت وغيره ؛ أي جصّصته. وفي حديث زينب (يا قَصّةٌ عُلى مَلحُودَةٍ) ؛ شبهت أجسادهم بالقبور المتخذة من الجصّ ، وأنفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور»(١٣٧) .

قال السيد المقرّم (ره) : «والذي أراه ، أنّ النكتة في هذه الإستعارة ، أنّ القصّة بلغة الحجاز الجصّ ، والملحودة ؛ القبر لكونه ذا لحد ، فكان القبر يتزين ظاهره ببياض الجصّ ، ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، إلا أنّ قلوبهم كجيف الموتى ؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادئ الصحيحة ؛ وقد إنفردت (متتمة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة ، التي لم بسبقها مهرة البلغاء إليها»(١٣٨) .

إلى أن قالت عليها السلام : (ولقد أتيتم بها خَرْقَاء ، شَوْهَاء كِطلَاعِ الأرض ، ومِلء السماء).

__________________

(١٣٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١١ (بتصرف).

(١٣٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٧ / ٧٦ ـ ٧٧.

(١٣٨) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

تعالجني وأعالجك فمر بي ـ يعني النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقال : ( كأنّك تحبّه؟ ) ، فقلتُ : وما يمنعني؟ قال : ( أمّا انّه ليقاتلنك وهو لك ظالم )؟

فقال الزبير : اللّهمّ نعم ذكرتني ما نسيت ، وولّى راجعاً )(١) .

وروى البلاذري ، والذهبي ، وابن عساكر في تاريخه ، واللفظ له : ( إنّ ابن عباس قال للزبير يوم الجمل : يا بن صفية هذه عائشة تمتلك الملك لطلحة وأنت على ماذا تقاتل قريبك؟ فرجع )(٢) .

( السفارة السادسة )

وهي آخر مرة لإتمام الحجة ، وللإعذار قبل الإنذار ، وقبل أن يسبق السيف العَذل ، فقد أرسله الإمام إلى الناكثين وهو يحمل مصحفاً منشوراً يدعوهم إلى ما فيه.

قال محمّد بن إسحاق : ( حدّثني جعفر بن محمّد ـ الصادق ـ عن أبيه ـ الباقر عليهما السلام ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : بعثني عليّ عليه السلام يوم الجمل إلى طلحة والزبير وبعث معي بمصحف منشور ، وإنّ الريح لتصفق ورقه. فقال لي : ( قل لهما : هذا كتاب الله بيننا وبينكم فما تريدان؟

____________________

(١) الأغاني ١٦ / ١٢٧ ط الساسي.

في تاريخ الطبري ٥ / ٢٠٤ حوادث سنة ٣٦ ط الحسينية : ( قال له : كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرّق بيننا وبينك وعظم عليه أشياء فذكر ان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرّ عليهما فقال لعلي : ما يقول ابن عمّك ليقاتلنك وهو لك ظالم ).

(٢) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٥ / ٣٦٧ ط دار المسيرة بيروت ، أنساب الأشراف ( ترجمة الإمام ) / ٢٥٢ تحـ المحمودي ، تاريخ الإسلام ٢ / ١٥١ط القدسي.

٢٠١

فلم يكن لهما جواب إلاّ أن قالا : نريد ما أراد ، كأنّهما يقولان الملك. فرجعت إلى عليّ فأخبرته )(١) .

ولهذه السفارة حديث أوفى فيما رواه الشيخ المفيد في كتاب ( الجمل ) :

قال : ( ثمّ إنّ أمير المؤمنين عليه السلام رحل بالناس إلى القوم غداة الخميس لعشر مضين من جمادي الأولى ، وعلى ميمنته الأشتر ، وعلى ميسرته عمّار ابن ياسر ، وأعطى الراية محمّد بن الحنفية ابنه ، وسار حتى وقف موقفاً ، ثمّ نادى في الناس : ( لا تعجلوا حتى أعذر إلى القوم ). ودعا عبد الله بن العباس فأعطاه المصحف وقال : ( أمض بهذا المصحف إلى طلحة والزبير وعائشة ، وأدعهم إلى ما فيه ، وقل لطلحة والزبير : ألم تبايعاني مختارَين فما الذي دعاكما إلى نكث بيعتي ، وهذا كتاب الله بيني وبينكما؟ ).

قال عبد الله بن العباس : فبدأت بالزبير وكان عندي أبقاهما علينا ، وكلّمته في الرجوع ، وقلت له : إنّ أمير المؤمنين يقول لك : ألم تبايعني طائعاً فبم تستحل قتالي ، وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فإن شئت تحاكمنا إليه.

قال : ارجع إلى صاحبك فإنّا بايعنا كارهَين وما لي حاجة في محاكمته.

فانصرفت عنه إلى طلحة ، والناس يشتدون والمصحف في يدي ،

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٤٩٩ ط مصر الأولى.

٢٠٢

فوجدته قد لبس الدرع وهو محتب بحمائل سيفه ودابته واقفة. فقلت له : إنّ أمير المؤمنين يقول لك ما حملك على الخروج وبما استحللت نقض بيعتي والعهد عليك؟

قال : خرجت أطلب بدم عثمان ، أيظن ابن عمك أنّه قد حوى على الأمر حين حوى على الكوفة وقد والله كتبت إلى المدينة يؤخذ لي بمكة.

فقلت له : أتق الله يا طلحة فإنّه ليس لك أن تطلب بدم عثمان ، وولده أولى بدمه منك ، هذا أبان بن عثمان ما ينهض في طلب دم أبيه.

قال طلحة : نحن أقوى على ذلك منه ، قتله ابن عمك وابتزّ أمرنا.

فقلت له : أذكرك الله في المسلمين وفي دمائهم ، وهذا المصحف بيننا وبينكم ، والله ما أنصفتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ حبستم نساءكم في بيوتكم ، وأخرجتم حبيسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فأعرض عني ، ونادى أصحابه : ناجزوا القوم فإنّكم لا تقومون لحجاج ابن أبي طالب.

فقلت : يا أبا محمّد أبالسيف تخوّف ابن أبي طالب ، أما والله ليعاجلنك للسيف.

فقال : ذلك بيننا وبينكَ.

قال : فانصرفت عنهما إلى عائشة وهي في هودج مدقق بالدفوف(١) على جملها عسكر ، وكعب بن سور القاضي آخذ بخطامه ، وحولها ألازد

____________________

(١) أي مثبت بالسرج.

٢٠٣

وضبّة ، فلمّا رأتني قالت : ما الذي جاء بك يا بن عباس؟ والله لا سمعت منك شيئاً ، ارجع إلى صاحبك فقل له : ما بيننا وبينك إلاّ السيف ، وصاح مَن حولها : ارجع يا بن عباس لا يسفك دمك.

فرجعت إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته الخبر ، وقلت : ما تنتظر والله ما يعطيك القوم إلاّ السيف فأحمل إليهم قبل أن يحملوا عليك.

فقال : ( لنستظهر بالله عليهم ).

قال ابن عباس : فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع عليَّ نشّابهم كأنّه جراد منتشر. فقلت : ما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم؟ مرنا ندفعهم.

فقال : ( حتى أعذر إليهم ثانية )(١) .

____________________

(١) الجمل / ١٨٠.

٢٠٤

ابن عباس وعائشة

لقد مرّت صفحات قرأنا فيها عرض الوقائع التاريخية التي أدّت إلى التأزم والتشنج بين ابن عباس وعائشة ، وذلك قبل أن تقوم الحرب على ساق. ولمّا قامت الحرب وأنتهت وقد قتل طلحة والزبير ، وبقيت عائشة تدير المعركة حتى إذا عُقر الجمل خسرت ربّة الجمل كثيراً من رصيدها عند ابن عباس ، بل وعند آخرين ممن تأثروا بخطبة الإمام عليه السلام التي أوضح فيها الحكم في قتال أهل القبلة ، وأنّه تحل دماء المقاتلين ولا تحل نساؤهم ، وقال فيها :

( وأمّا فلانة أدركها رأي النساء وضغن غلافي صدرها ، كمرجل القين ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل ، ولها بعدُ حرمتُها الأولى والحساب عند الله ).

قال الشيخ محمد عبدة : ( المرجل القدر ، والقَين ـ بالفتح ـ الحداد ، أي أنّ ضغينتها وحقدها كانا دائمي الغليان ، كقدر الحداد ، فإنّه يغلي ما دام يصنع ، ولو دعاها أحد لتصيب من غيري غرضاً من الإساءة والعدوان مثل ما أتت إليّ ـ أي : فعلت بي ـ لم تفعل ، لأنّ حقدها كان عليّ خاصة أهـ )(١) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لمحمد عبدة ٢ / ٦٣.

٢٠٥

وهذا هو الذي أهبط رصيدها عند ابن عباس وعند غيره ، ممن عرفوها بتلك الصفة ، وبقيت في النفوس مرارة فعلها وما قامت به من سفك الدماء بغير حق ، حتى أنّ أمير الشعراء شوقي خاطب الإمام عليه السلام بقوله :

يا جبلاً تأبى الجبال ما حمل

ماذا رمت عليك ربة الجمل

أثأر عثمان الذي شجاها

أم غصة لم ينتزع شجاعاً

قضية من دمه تبنيها

هبت لها واستنفرت بنيها

ذلك فتق لم يكن بالبال

كيد النساء موهن الجبال

وإنّ أم المؤمنين لامرأة

وإنّ تك الطاهرة المبرأة

أخرجها من كنّها وسنّها

ما لم يُزل طول المدى من ضغنها

وشّر من عداك من تقيه

وملتقي السلاح تلتقيه(١)

ولقد مرّت في الجزء الثالث من الحلقة الأولى صفحات عن ابن عباس مع عائشة من بعد الحرب وما جرى بينهما من محاورات أدت إلى أنْ غلبها ابن عباس بالحجة ، ولكنّها استكانت وبكت حتى سُمع نشيجها ، فلنقرأ تلك الصفحات من جديد :

أمر تسيير عائشة إلى المدينة :

لم يبق للإمام عليه السلام أمر أهمّه إلاّ إرجاع عائشة إلى بيتها ، ولمّا كان عليه السلام

____________________

(١) دول العرب وعظماء الإسلام / ٥٤.

٢٠٦

يتّبع أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قتاله الناكثين فهو يقتفي ما رسم له ، وقد مرّت أحاديث دالة على ذلك. وثمة أحاديث أُخرى في خصوص تسيير عائشة.

فقد روى أبو رافع عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لعليّ : ( سيكون بينك وبين عائشة أمر ، فإذا كان ذلك فأرددها إلى مأمنها ). قال ابن حجر : أخرجه أحمد والبزار بسند حسن(١) . وأخرجه السيوطي في ( الخصائص ) عنهما وعن الطبراني(٢) .

وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت : ( ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين ، فضحكت عائشة ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنظري يا حميراء(٣) ألاّ تكوني أنتِ ).

ثمّ التفت إلى عليّ ، فقال : ( يا عليّ إن وليتَ من أمرها شيئاً فأرفق بها )(٤) .

إذن فعلى الإمام عليه السلام أن يتفرغ لذلك.

قال طه حسين : ( وكان من الأمور ذات الخطر التي أراد عليّ أن يفرغ

____________________

(١) فتح الباري ١٦ / ١٦٥.

(٢) الخصائص ٢ / ١٢٧ ط حيدر آباد الأولى.

(٣) من الطريف أن ينكر ابن قيم الجوزية ورود حديث فيه لفظ ( الحميراء ) وتبعه في ذلك غير واحد. وكأنهم ـ فيما أحسب ـ من باب سد الذرائع عندهم انكروا ذلك ، لئلا يصدمهم حديث الحوأب وفيه ( إياك أن تكونيها يا حميراء ) ، أو يدمغهم حديث ام سلمة المار ذكره في المتن ، مع أن الأحاديث التي ورد فيها لفظ ( الحميراء ) نافت على العشرين ـ فيما أحصيت ـ وربّما فاتني غيرها. فلا يعقل أن تكون جميع تلك الأحاديث موضوعة ، وبينها ما هو ثابت بسند صحيح كحديث الحوأب ، وقد أدرجه ناصر الدين الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة ١ / ٢٦٧ ـ ٢٧٧. وأفاض الكلام في سنده ودلالته ، والرد على من أنكره وهو سعيد الأفغاني ، فراجع ( إشعاع البتيراء على أحاديث الحميراء ) مخطوط للكاتب والبتيراء اسم للشمس كما في القاموس ( بتر ).

(٤) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ١٣٦ وصححه ، كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره.

٢٠٧

منها قبل أن يترك البصرة ، ردّ عائشة إلى المدينة لتقرّ في بيتها كما أمرها الله )(١) .

ولمّا كان قد أنزلها في دار عبد الله بن خلف ، فصارت لجأً لفلول الجرحى وغيرهم من أصحابها ، فكان لابدّ له من إنذارها بالتهيوء للرحيل ، قبل أن يتعاظم الخطب بطول بقائها ، ومن ذا هو الرسول الذي سيرسله إليها ، وهو يعلم منها ـ لما يبلغه عنها ـ صلابة وعناداً. وهل لها إلاّ ابن عمّه عبد الله بن عباس الذي سبق له أن كان رسوله إليها قبل الحرب. وله مواقف معها من قبلُ دلّت على كفاءة عالية وقدرة في دحض حججها.

وقد ذكرت بعض المصادر ـ كما سيأتي بيانها ـ بأنّ الإمام عليه السلام إستدعاه عقب خطبته في ذم أهل البصرة ، فقال : ( أين ابن عباس؟ ). فدعي له من كلّ ناحية ، فأقبل إليه ، فقال : ( إئت هذه المرأة ومرها فلترجع إلى بيتها الذي أمرها الله أن تقرّ فيه ).

قال ابن عباس : فأتيتها وهي في دار بني خلف ، فطلبت الإذن عليها فلم تأذن.

وهنا سؤال يفرض نفسه ، لماذا لم تأذن عائشة لابن عباس؟ ولعلّ في استعراض مواقفه السابقة معها ، وما كان يدور بينهما من تشنج نجد جواب ذلك وهو الذي فرض على عائشة تصلّب موقفها في عدم الإذن.

وإذا رجعنا نستقرئ مواقف ابن عباس معها ، فعلينا أن نبدأ بها من يوم

____________________

(١) الفتنة الكبرى ٢ / ٥٩.

٢٠٨

اجتمع بها في الصلصل سنة ٣٥ هـ حيث ضمّهما المنزل وكلاهما في الطريق إلى مكة ، وكان ابن عباس أمير الموسم في تلك السنة ، فحرّضته على عثمان ودعته إلى الهتاف بطلحة ، وقد مرّ بنا في الجزء الثالث من الحلقة الأولى خبر ذلك مفصّلاً.

ومن بعد ذلك كانت مواقف سفارته بين الإمام وبين زعماء الناكثين وهي منهم ، وكلّها كانت مواقف نصيحة لها من ابن عباس أن لا تخوض فيما وضع عنها وعن النساء ، وعليها أن ترجع إلى بيتها وتقرّ فيه كما أمرها الله ، ولكنه لم يجد لديها أذناً صاغية.

وآخر موقف كان قبيل نشوب الحرب ، إذ أرسله الإمام عليه السلام وهو يحمل مصحفاً ليدعو القوم إلى ما فيه فاجتمع بطلحة والزبير ، ولمّا أتى عائشة وكانت في هودجها تحفّها الأزد وضبّة ، وقد أخذ كعب بن سور القاضي بخطام الجمل ، فلمّا رأته نادته ما الذي جاء بك يا بن عباس ، والله ما سمعت منك شيئاً ، ارجع إلى صاحبك وقل له ما بيننا وبينك إلاّ السيف ، وتعاوت الغوغاء من حولها : ارجع يا بن عباس لا يسفك دمك.

فهذا التشنّج المذموم مع رسول يطلب حكم الكتاب لحقن الدماء ، لا شك له أثره في نفس ابن عباس ، كما لا شك أيضاً له ذكراه الأليمة في نفس قيادة مهزومة.

والآن أتاها وقد تبدّل الموقف على الساحة ، فهي كانت رأساً تقود جيشاً ، وأضحت الآن أسيرة حرب ، ورهينة مغلوبة. وأصبح ابن عباس قائداً

٢٠٩

منتصراً ، ورسولاً لإمام غدا مظفّراً ، فلعلّ شعورها بالفشل والخيبة دعاها إلى أن تحجب ابن عباس من الدخول عليها ، لئلا تراه في عزّ النصر ، ويراها في ذلّ الهزيمة.

أو لعلّها لم تأذن له لئلا يرى بيوتاً في دار ابن خلف ضمت فلول الناكثين ، أخفتهم معها حيث منحها الإمام عليه السلام الحماية الكافية ، فهي تحميهم بكنفها ، وإن شملهم العفو العام.

وما يدرينا لعلّهما معاً إعتملا في نفسها فلم تأذن له.

ومهما يكن مردّ ذلك المنع ، فلم يكن منعها برادع لابن عباس وهو رسول الإمام عليه السلام ، وحبر الأمة لا يخفى عليه وجه فقاهة الدخول بغير إذنها ، إلاّ أنّه الأدب القرآني الذي كان ابن عباس ترجمانه يأمره بالآية( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) .

ولعلّ عائشة أيضاً تخيّلت أنّها بمنعه من الدخول عليها ، ستغلبه بقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (٢) .

ولم تدر أنّ ابن عباس أوعى منها لأحكام القرآن كما سيتبين ذلك عند قراءة نص المحاورة.

____________________

(١) النور / ٢٧.

(٢) الأحزاب / ٥٣.

٢١٠

ماذا عن نص المحاورة؟

هذا موضوع استجدّ عندي بحثه بعد أن قرأت قريباً كتاب ( عائشة والسياسة ) لسعيد الأفغاني الشامي ، والرجل معروف من خلال كتابه ( الإسلام والمرأة ) ومعنّي بعائشة خاصة من خلال تحقيقه لكتاب ( الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة ) للزركشي وقد طبعه بدمشق سنة ١٣٥٨ هـ ، وتصاعدت حمّى الهيام بها فأخرج كتابه ( عائشة والسياسة ) وطبعه بالقاهرة سنة ١٩٤٧ م. فقرأته من ألفه إلى يائه ـ كما يقولون ـ فرأيته في المقدمة ينأى بنفسه عن التقليد ، ويزعم لنفسه ( التحرّر من كثير من الآراء والمذاهب التاريخية التي يتعبد بها بعض الباحثين لعصرنا )(١) .

وقال : ( وعلى هذا فلست إذن متبعاً مذهباً ما ، ولن أخضع الحوادث لتفسير ما فأكلّف الأشياء غير طبائعها ، فلا أقول بالعلّية التاريخية المطردة ، ولا أقرّ ( الجبرية ) في التاريخ ، وأجد أبعد المذاهب عن الواقع وأنآها عن الحقّ والفطرة : مذهب التفسير المادي للتاريخ ).

وهذا نهج جيّد لو استقام على الطريقة ، ويستحق الإجادة حين رأيته ، قال : ( وأحبّ أن أنبّه هنا إلى خطأ يوقع كثيراً من الباحثين في القصور ، ذلك أنّهم يكتفون في بحوثهم في التاريخ العربي بالمصادر التاريخية فحسب ، فتجيء بحوثهم على ضلع ، ما تكاد تستقل واقفة ، وكم من حقائق تاريخية خلت منها مصادر التاريخ وزخرت بها كتب الأدب ودواوين

____________________

(١) عائشة والسياسة ، المقدمة / ٣.

٢١١

الشعر وأن ما استفدته أنا من كتب اللغة والفقه والحديث والتفسير والأدب والأخبار لا يقلّ عمّا أصبته في مطوّلات التاريخ ).

فهذا أيضاً جيّد ونهج قويم لو لم يقل : ( ولابدّ من الإشارة إلى أنّي جعلت أكثر اعتمادي ـ بعد البحث في المصادر التاريخية ـ على تاريخ الطبري خاصة ، فهو أقرب المصادر من الواقع ، وصاحبه أكثر المؤرخين تحرّياً وأمانة ، وعليه اعتمد كلّ من أتى بعده من الثقات. وليس الكامل لابن الأثير إلاّ تاريخ الطبري منسّقاً مختصراً منه الأسانيد واختلاف الروايات ، وحسبك أنّ ابن خلدون فيلسوف المؤرخين نقل عنه حوادث الجمل ثمّ أدلى بهذه الشهادة القيّمة : ( هذا أمر الجمل ملخصاً من كتاب أبي جعفر الطبري ، اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين )(١) .

فأين التحرّر الذي زعمه أوّلاً؟! ثمّ أين الدعوة إلى قراءة الحقائق التاريخية في كتب اللغة والفقه والحديث والتفسير ...؟! ولِمَ نعى على الآخرين الإقتصار على المصادر التاريخية فحسب؟ فما دام قد أكثر الإعتماد على الطبري وليكن الباقي مرجعاً ثانوياً أو لا يكون. وهو لئن قارب الصواب حيناً فقد جانبه أحياناً ، ولست في مقام المؤاخذة والحساب على ما وجدته من هنات وهفوات في كتابه. ولقد سجلت ما عندي على هوامش صفحاته حين قراءتي له.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون ٢ / ٤٢٥ مطبعة النهضة سنة ١٣٥٥ هـ.

أقول : لقد مرّ بالقارئ ما ذكرته من شواهد خداع وتضليل المؤرخين ما قاله ابن كثير ، ولدى المقارنة تبيّن ما ارتكبه من الخيانة. فراجع.

٢١٢

لكن ممّا ينبغي التنبيه عليه في المقام أن أشير إلى زلة من زلاّته ممّا يتعلق بابن عباس وهذا هو الذي حداني إلى ذكره في المقام.

فالأفغاني ناقش رواية ابن عباس لحديث الحوأب. وهذه نقطة أولى تقدمت الإشارة إليها في هامش بعض الصفحات قريباً ، واكتفيت برد ابن بلده ناصر الدين الألباني ، فراجع.

أمّا النقطة الثانية : فهي مناقشته حوار ابن عباس مع عائشة بالبصرة وقد أرسله الإمام عليه السلام إليها يأمرها بالتهيؤ للرحيل والعودة إلى بيتها الذي أمرها الله أن تقرّ فيه.

فلابدّ لي من عرض جميع ما وقفت عليه من نصوص المحاورة ثمّ عرض مناقشة الأفغاني بعد ذلك.

بين يديّ فعلاً من المصادر التي روت المحاورة أكثر من عشرين مصدراً ، تختلف في روايتها مسندة ومرسلة ، مختصرة ومفصّلة ، وهي موزّعة على القرون كالآتي :

فمن القرن الثالث :

١ ـ كتاب ( الجمل ) للواقدي المتوفى سنة ٢٠٧ هـ وهذا بتوسط كتاب الشافي للمرتضى.

٢ ـ ( أخبار الدولة العباسية ) ، مجهول المؤلف من القرن الثالث يميل المحققان له أنّه لابن النطّاح المتوفى سنة ٢٥٢ هـ(١) .

____________________

(١) أخبار الدولة العباسية / ١٥ المقدمة ط دار الطليعة بيروت.

٢١٣

٣ ـ تاريخ اليعقوبي المتوفى سنة ٢٩٢ هـ.

٤ ـ كتاب ( الفتن ) لنعيم بن حماد المتوفى سنة ٢٢٩ هـ.

ومن القرن الرابع :

١ ـ تاريخ الفتوح لابن أعثم الكوفي المتوفى سنة ٣١٤ هـ.

٢ ـ ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه الاندلسي المتوفى سنة ٣٢٨ هـ.

٣ ـ ( البدء والتاريخ ) لأبي زيد البلخي المتوفى سنة ٣٤٣ هـ(١) .

٤ ـ ( مروج الذهب ) للمسعودي المتوفى سنة ٣٤٦ هـ.

٥ ـ ( شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار ) للقاضي أبي حنيفة النعمان بن محمّد التميمي المغربي المتوفى سنة ٣٦٣ هـ.

٦ ـ رجال الكشي ( معرفة أخبار الناقلين ) لأبي عمرو الكشي المتوفى قبل سنة ٣٦٨ هـ. وهذا بتوسط ( إختيار الرجال ) للطوسي.

ومن القرن الخامس :

١ ـ ( الشافي ) للشريف المرتضى المتوفى سنة ٤٣٦ هـ.

٢ ـ ( تلخيص الشافي ) للشيخ الطوسي المتوفى سنة ٤٦٠ هـ.

٣ ـ ( إختيار الرجال ) للشيخ الطوسي المتوفى سنة ٤٦٠ هـ.

____________________

(١) قال كاتب جلبي في كشف الظنون : وهو كتاب مفيد مهذب عن خرافات العجائز وتزاوير القصاص لأنه تتبع فيه صحاح الأسانيد أقول : وقد طبع في باريس سنة ١٩١٦ ميلادية بعناية كليمان هوار ، وكتب في صفحة العنوان المنسوب إلى أبي زيد أحمد بن سهل البلخي وهو لمطهر بن طاهر المقدسي.

٢١٤

ومن القرن السادس :

١ ـ ( مصباح الأنوار ) للشيخ هاشم بن محمّد المتوفى بعد سنة ٥٥٢ هـ.

ومن القرن السابع :

١ ـ ( الجوهرة في نسب النبيّ وأصحابه العشرة ) لمحمّد بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى الأنصاري التلمساني المشهور بالبرّيّ.

٢ ـ ( الحدائق الوردية ) لحميد بن أحمد المحلي الشهيد المتوفى سنة ٦٥٢ هـ.

٣ ـ ( تذكرة خواص الأمة ) لسبط ابن الجوزي المتوفى سنة ٦٥٤ هـ.

٤ ـ ( شرح نهج البلاغة ) لابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي المتوفى سنة ٦٥٥ هـ.

ومن القرن الثامن :

ومن القرن التاسع :

١ ـ ( شرح صحيح مسلم ) للأبي المالكي المتوفى سنة ٨٢٧ هـ.

ومن القرن العاشر :

ومن القرن الحادي عشر :

ومن القرن الثاني عشر :

١ ـ ( سمط النجوم العوالي ) للعصامي المكي المتوفى سنة ١١١١ هـ.

٢ ـ ( بحار الأنوار ) للشيخ المجلسي المتوفى سنة ١١١١ هـ.

٣ ـ ( الدرجات الرفيعة ) للسيد علي خان المدني الشيرازي المتوفى سنة ١١٢٠ هـ.

ومن القرن الثالث عشر :

١ ـ شعب المقال لأبي القاسم النراقي المتوفى سنة ١٣١٩ هـ.

٢١٥

٢ ـ أعيان الشيعة ج٣ ق٢ للسيد الأمين.

٣ ـ أحاديث أم المؤمنين عائشة للسيد مرتضى العسكري من المعاصرين.

٤ ـ عائشة والسياسة لسعيد الأفغاني من المعاصرين.

ولمّا كانت مصادر القرون المتأخرة مصادر ثانوية ، خصوصاً القرون ( ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٣ ، ١٤ ) فإنّها تستقي معلوماتها من المصادر الأولى لتصريح أربابها بذلك ، إذن لا حاجة بنا إلى الرجوع إليها إلاّ إذا دعت الحاجة إلى تصحيح المعلومة فيها ، كما سيأتي منا في محاسبة سعيد الأفغاني على ذلك.

أمّا مصادر القرون الأولى من الثالث وحتى التاسع ، فبعضها يروي المحاورة بسند متصل وقد يختلف عن سند الآخرين ، كما أنّ رواية المحاورة تتفاوت قليلاً أو كثيراً ، وذلك مسؤولية الرواة ولا ضير ، وبمقارنة بين النصوص المتشابهة يجعلنا أكثر إطمئناناً بما ورد في خصوص مصادر القرنين الثالث والرابع.

وسوف نأتي بنص المحاورة نقلاً منها على إختلاف روايتها في القرون الأولى ، ومنها :

نص المحاورة في مصادر القرن الثالث :

١ ـ قال السيد المرتضى :

( فإنّ الواقدي روى بإسناده ، عن شعبة ، عن ابن عباس ، قال : أرسلني عليّ عليه السلام إلى عائشة بعد الهزيمة وهي في دار الخزاعيين يأمرها أن ترجع إلى بلادها.

٢١٦

قال : فجئتها فوقفت على بابها ساعة لا تأذن لي ، ثمّ أذنت(١) ، فدخلت ولم يوضع لي وسادة ولا شيء أجلس عليه ، فالتفت فإذا وسادة في ناحية البيت على متاع فتناولتها ووضعتها ثمّ جلست عليها.

فقالت عائشة : يا بن عباس أخطأت السنّة تجلس على متاعنا بغير إذننا.

فقلت لها : ليست بوسادتك ، تركتِِ متاعك في بيتك الذي لم يجعل الله لكِ بيتاً غيره.

فقالت : والله ما أحبّ أنّي أصبحت في منزل غيره.

قلت : أمّا حين اخترتِ لنفسكِ فقد كان الذي رأيتِ.

فقالت : أيّها الرجل أنت رسول فهلمّ ما قيل لك؟

قال : فقلت : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يأمرك أن ترحلي إلى منزلكِ وبلدكِ.

فقالت : ذاك أمير المؤمنين عمر.

قال ابن عباس : فقلت : أمير المؤمنين عمر والله يرحمه ، وهذا والله أمير المؤمنين.

فقالت : أبيتُ ذلك.

فقلت : أما والله ما كان إلاّ فواق ناقة غير غزير حتى ما تأمرين ولا تنهين كما قال الشاعر الأسدي :

ما زال إهداء القصائد بيننا

شتم الصديق وكثرة الألقاب

____________________

(١) لم يرد هذا في غير هذا المصدر ، وأما في بقية المصادر دخل عليها بغير إذنها ، وهو الصحيح إذ ورد فيها قوله عائشة : أخطأت السنة دخلت منزلي بغير اذني.

٢١٧

حتى تركتِ كأنّ أمركِ فيهم

في كل ناحية طنينُ ذباب(١)

قال ابن عباس : فوالله يعلم لبكت حتى سمعت نشيجها.

فقالت : أفعل ، ما بلد أبغض إليَّ من بلد لصاحبك مملكة فيه ، وبلد قتل فيه أبو محمّد وأبو سليمان ـ تعني طلحة بن عبيد الله وابنه ـ.

فقلت : أنتِ والله قتلتهما.

قالت : وأجلهما إلى سباق.

قلت : لا ولكنكِ لما شجّعوكِ على الخروج خرجتِ ، فلو أقمتِ ما خرجا.

قال : فبكت مرّة أخرى أشد من بكائها الأوّل. ثمّ قالت : والله لئن لم يغفر الله لنا لنهلكن ، نخرج لعمري من بلدك ، فأبغض بها والله بلداً إليَّ وبمن فيها.

فقلت : والله ما هذا جزاؤنا وما هي بأيدينا عندك ولا عند أبيك ، لقد جعلنا أباكِ صدّيقاً وجعلناكِ للناس أمّاً.

____________________

(١) ما أستشهد به الحبر ابن عباس من أبيات للحضرمي بن عامر الأسدي وقد ذكرها ابن دريد في المجتنى / ١٠٤ بتفاوت يسير ، وأولها :

ما زال إهداء الضغائن بيننا

شتم الصديق وكثرة الألقاب

حتى تركت كأن أمرك فيهم

في كلّ مجمعة طنين ذباب

أهلكت جندك من صديق فالتمس

جنداً تعيش به من الأوغاب

الخ.

٢١٨

فقالت : أتمنّون عليَّ برسول الله.

قلت : إي والله لأمنّن بهِ عليكِ ، والله لو كان لكِ لمننتِ به.

قال ابن عباس : فقمت وتركتها ، فجئت عليّاً عليه السلام فأخبرته خبرها وما قلت لها.

فقال عليه السلام :( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) (٢) .

وهذا رواه الشيخ الطوسي في ( تلخيص الشافي ) أيضاً ملحقاً بـ ( الشافي ).

٢ ـ أخبار الدولة العباسية ، قال :

( لمّا فرغ عليّ رحمة الله عليه ورضوانه من قتال أهل البصرة ، بعث ابن عباس إلى عائشة رضي الله عنها وهي في ذكر شيء ( والصواب في دار بني خلف ) خلف الستر ، فأتاها ابن عباس فاستأذن في الدخول فلم تأذن له ، فدخل من غير إذن ، فلم تطرح له شيئاً يقعد عليه ، فأخذ وسادة فجلس عليها.

فقالت : أخطأت السنّة يا بن عباس ، دخلتَ علينا من غير إذن ، وجلستَ على مقرمتنا من غير أمرنا.

فقال : ما أنتِ والسنّة ، نحن علّمناكِ وأباكِ السنّة ، ونحن أولى بها منكِ ، والله ما هو بيتكِ ، وإنّما بيتكِ الذي خلّفكِ فيه رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم فخرجتِ منه ظالمة لنفسكِ ، فأوردتِ من بنيكِ ممّن أطاعكِ موارد الهلكة ، ولو كنتِ في بيتكِ الذي خلّفكِ فيه رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم لم ندخله إلاّ بإذنكِ ، إنّ أمير المؤمنين يأمرك

____________________

(١) آل عمران / ٣٤.

(٢) الشافي / ٢٩٢ ط حجرية.

٢١٩

بتعجيل الرحلة إلى المدينة وقلّة العرجة.

قالت : أردت عمر بن الخطاب؟

قال : عليّ والله أمير المؤمنين وإن تربّدت فيه وجوه ، وأرغمت فيه أنوف ( معاطس ) ، والله إن كان إباؤك لعظيم الشؤم ، ظاهر النكد ، وما كان مقدار طاعتك إلاّ مقدار حلب شاة ، حتى صرتِ تأمرين فلا تطاعين ، وتدعين فلا تجابين ، وما مثلكِ إلاّ كما قال أخو بني أسد :

ما زال يهدي والهواجر بيننا

شتم الصديق وكثرة الألقاب

حتى تركتِ كأنّ صوتك فيهم

في كل ناحية طنينُ ذباب

فانتحبت حتى سُمع حنينها من وراء الستر ، ثمّ قالت : والله ما في الأرض بلدة أبغض إليَّ من بلدة أنتم بها معاشر بني هاشم.

فقال : والله ما ذاك يدنا عندكِ وعند أبيكِ ، لقد جعلنا أباكِ صدّيقاً وهو ابن أبي قحافة(١) ، وجعلناكِ للمؤمنين أمّاً وأنت ابنة أم رومان(٢) .

____________________

(١) كان منادي عبد الله بن جدعان على مائدته وأجرته أربعة دوانيق ـ المنمق لمحمّد بن حبيب / ٤٦٥ ، وإرشاد القلوب بتوسط سفينة البحار ( قحف ).

(٢) اختلف مترجموها مع الصحابة في نسبها وفي أسمها وفي وفاتها ، وربّما هناك علة أخرى أغفلوها إكراماً لابنتها ، وإلا فلا معنى لتعيير ابن عباس لها بأمها فيقول لها : وأنت بنت أم رومان. وأكد ذلك تعيير محمّد بن الحنفية لعبد الله بن الزبير بها في المسجد الحرام على رؤوس الأشهاد فلم يردّ عليه. فقد روى اليعقوبي في تاريخه ٣ / ٨ ط النجف ، والمسعودي في مروج الذهب ٣ / ٨٠ ط دار الأندلس واللفظ له : قال : خطب ابن الزبير فنال من عليّ : فبلغ ذلك ابنه محمّد بن الحنفية فجاء حتى وضع له كرسي قدّامه فعلاه وقال : يا معشر قريش شاهت الوجوه

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496