موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93269 / تحميل: 4731
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

فقالت الإمرأة : سألتك بحق محمّد رسول الله ( كلمات مطموسة ) عليك إلاّ أخبرتني بالذي بعث إليك؟

قالت : إنّ رسول الله جعل طلاق نسائه بيد عليّ ، فمن طلّقها عليّ في الدنيا بانت من رسول الله في الآخرة(١) .

فقالت لها الإمرأة : أنتِ قد علمتِ مثل هذا وقاتلتيه؟!

قالت : قد كان ما رأيتِ )(٢) .

نص المحاورة في مصادر القرن السابع :

١ ـ ( الجوهرة في نسب النبيّ وأصحابه العشرة ) لمحمّد بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى الأنصاري التلمساني المشهور بالبُريّ ، قال :

( وقال عبد الله بن عباس : لمّا فرغ عليّ رضي الله عنه من أمر الجمل صعد على ربوة من الأرض وخطب ، فقال : ( يا أنصار المرأة ، وأصحاب البيهمة ، رغا فحننتم ، وانخشر ـ هرب جبناً ـ فانهزمتم ، نزلتم شر بلاد ، أبعدها من السماء ، بها مغيض كلّ ماء ، هي البصرة والبصيرة والمؤتفكة وتدمُر ، أين ابن عباس؟ ).

قال : فدعيت له من كلّ جانب. فلمّا حضرت ، قال لي : ( سر إلى هذه المرأة ـ يعني أم المؤمنين عائشة ـ وقل لها : تسير إلى الموضع الذي أمرها الله أن تقرّ فيه ).

____________________

(١) قارن مناقب آل أبي طالب لابن شهر اشوب ١ / ٣٩٧ ط الحيدرية.

(٢) مصباح الأنوار ( مخطوط ).

٢٤١

قال ابن عباس : فجئتها ، فاستأذنت عليها فلم تأذن لي. فدخلت عليها بغير إذن ، وعمدت إلى وساد كان في البيت فجلست عليه.

فقالت : تالله ما رأيت مثلك يابن عباس! تدخل بيتي وتجلس على وسادي بغير إذني؟

قال : فقلت لها : والله ما هو بيتك إلاّ الذي أمرك الله أن تقري فيه فلم تفعلي. إنّ أميرالمؤمنين يأمرك بالمسير إلى المدينة.

فبكت وقالت : رحم الله أميرالمؤمنين ، ذاك عمر بن الخطاب.

فقلت لها : نعم وهذا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب.

فقالت : أبيت أبيت.

فقلت لها : ما كان إباؤك إلاّ مثل فواق ناقة بكيّة(١) ثمّ صرت لا تحلين ولا تُمرين.

فقالت : نعم أسير ، إنّ أبغض البلاد إليَّ بلد أنتم فيه.

فقلت : والله ما كان هذا جزاؤنا منك ، أن صيّرناك للمؤمنين أمّاً ، وصيّرنا أباكِ لهم صدّيقاً.

فقالت : أتمنّ عليّ برسول الله يابن عباس؟

قلت : بلى والله نمن عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننتِ به علينا )(٢) .

____________________

(١) من المضحك ما جاء في الهامش : بكية كثيرة البكاء ، والصحيح غير ذلك بل الناقة البكية التي قلّ لبنها ( قطر المحيط ).

(٢) الجوهرة في نسب النبيّ وأصحابه العشرة لمحمّد بن أبي بكر ٢ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦ تح ـ د محمّد القوشنجي الاستاذ بجامعة حلب ط دار الرفاعي.

٢٤٢

٢ ـ ( الحدائق الوردية في مناقب الأئمة الزيدية ) لحميد بن أحمد المحلي الشهيد الزيدي المتوفى سنة ٦٥٢ هـ ، قال :

( ولمّا انهزم أصحاب الجمل بعث أمير المؤمنين ابن عباس إلى عائشة يأمرها بالانصراف إلى بيتها بالمدينة الذي تركها فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال له : ( قل لها : إنّ الذي يردّها خير من الذي يخرجها )(١) .

٣ ـ ( تذكرة خواص الأئمة ) لسبط ابن الجوزي المتوفى سنة ٦٥٤ :

( قال علماء السير : ثمّ بعث عليّ عليه السلام عبد الله بن عباس إلى عائشة يأمرها بالمسير إلى المدينة ، فدخل عليها ابن عباس بغير إذن.

فقالت له : أخطأت السنّة دخلت علينا بغير إذن.

فقال لها : لو كنتٍ في البيت الذي خلّفك فيه رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ما دخلنا عليك بغير إذنكِ ، ثمّ قال : إنّ أمير المؤمنين يأمرك بالمسير إلى البيت الذي أمرك الله بالقرار فيه ، فأبت عليه ، فشدّد عليها ، وقال : هو أمير المؤمنين وقد عرفتيه )(٢) .

٤ ـ ( شرح نهج البلاغة ) :

( بعث عليّ عبد الله بن عباس إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة.

قال : فأتيتها فدخلت عليها فلم يوضع لي شيء أجلس عليه ، فتناولت

____________________

(١) الحدائق الوردية في مناقب الأئمة الزيدية / ٣٤ نسخة مخطوطة في مكتبة الإمام كاشف الغطاء بخط المرحوم الحجة والده الشيخ عليّ وفي المطبوعة بصنعاء ١ / ٦٣.

(٢) تذكرة خواص الأئمة لسبط ابن الجوزي / ٤٥ ط حجرية سنة ١٢٨٥ هـ.

٢٤٣

وسادة كانت في رحلها فقعدت عليها.

فقالت : يا بن عباس أخطأت السنّة ، قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا.

فقلت : ليس هذا بيتك الذي أمرك الله أن تقرّي فيه ، ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلاّ بإذنك ، ثمّ قلت : إنّ أمير المؤمنين أرسلني إليك يأمركِ بالرحيل إلى المدينة.

فقالت : وأين أمير المؤمنين ذاك عمر.

فقلت : عمر وعليّ.

قالت : أبيت.

قلت : أما والله ما كان إباؤك إلاّ قصير المدة عظيم المشقة ، قليل المنفعة ، ظاهر الشؤم ، بيّن النكد ، وما عسى أن يكون إباؤك؟ والله ما كان أمرك إلاّ كحلب شاة ، حتى صرت لا تأمرين ولا تنهين ولا تأخذين ولا تعطين ، وما كنتِ إلاّ كما قال أخو بني أسد :

ما زال إهداء الصغائر بيننا

نثّ الحديث وكثرة الألقاب

حتى نزلتِ كأن صوتكِ بينهم

في كل نائبة طنين ذباب

قال : فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب ، ثمّ قالت : إنّي معجّلة الرحيل إلى بلادي إن شاء الله تعالى ، والله ما من بلد أبغض إليّ من بلد أنتم فيه.

٢٤٤

قلت : ولم ذاك فوالله لقد جعلناكِ للمؤمنين أمّاً ، وجعلنا أباكِ صدّيقاً.

قالت : يا بن عباس أتمن عليّ برسول الله؟

قلت : ما لي لا أمُنّ عليك بمن لو كان منك لمننتِ به عليَّ.

ثمّ أتيت عليّاً عليه السلام فأخبرته بقولها وقولي ، فسرّ بذلك ، وقال لي :( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) وفي رواية : أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك )(٢) .

نص المحاورة في مصادر القرن التاسع :

١ ـ ( إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم ) لمحمّد بن خلفة الوشتاني الآبي المالكي المتوفى سنة ٨٢٧ هـ أو ٨٢٨ هـ :

( قال ابن عباس : ولمّا انقضى أمر الجمل دخل عليّ البصرة بعد ثلاثة أيام ، ثمّ خطب خطبته الطويلة التي يقول فيها : ( يا أهل السبخة ، يا أهل المؤتفكة ، إئتفكت بأهلها ثلاث مرات في الدهر وعلى الله تمام الرابعة ، يا جند المرأة ، يا أتباع البهيمة ، رغا فأجبتم ، وعُقر فانهزمتم ، أخلاقكم دقاق ، وأحلامكم رقاق ، ودينكم نفاق ، نزلتم أشرّ بلاد الله وأبعدها من السماء وسُميت بشرّ الأسماء ، هي البصرة والمؤتفكة وتدمر. أين ابن عباس؟ ).

فدعي له من كلّ جانب. فقال : ( إئتِ هذه المرأة فلترجع إلى بيتها الذي أمر الربّ أن تقرّ فيه ).

____________________

(١) آل عمران / ٣٤.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٨١ ـ ٨٢ ط مصر الاُولى.

٢٤٥

قال : فجئت فاستأذنت فلم تأذن لي ، فدخلت بلا إذن ، ومددت يدي إلى وسادة فجلست عليها.

فقالت : يا ابن عباس ما رأيت مثلك تدخل بيتي بغير إذن ، وتجلس على وسادتي بغير إذن.

فقلت : والله ما هو بيتكِ ، وإنّما بيتكِ الذي أمركِ الله أن تقري فيه فلم تفعليّ ، إنّ أمير المؤمنين يأمركِ أن ترجعي إلى بلدكِ الذي خرجتِ منه.

قالت : رحم الله أمير المؤمنين ذلك عمر.

قلت : نعم وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.

قالت : أبيت أبيت.

قلت : ما كان إباؤك إلاّ فواق ناقة ثمّ أبتِ ما تحكمين ولا تأمرين ولا تنهين.

فبكت حتى علا نشيجها ، ثمّ قالت : نرجع ، فإنّ أبغض البلاد إليّ البلاد أنتم فيها.

فقلت : أما والله ما كان جزاؤنا منك أن جعلناكِ أمّ المؤمنين ، وجعلنا أباكِ صدّيقاً لهم.

قالت : أتمنّ عليَّ برسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم؟

قلت : نعم أمنّ عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننتِ به علينا.

ثمّ أتيت عليّاً فأخبرته ، فقبّل بين عيني ، وقال : بأبي وأمي( ذُرِّيَّةً

٢٤٦

بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١) (٢) .

فنادى ابن عباس؟

ماذا قال سعيد الأفغاني في كتابه ( عائشة والسياسة ) في هذا المقام؟

لقد جعل الفصل الخامس من كتابه في آخر أيام عائشة بالبصرة ، وعنونه : ( دخول عائشة البصرة وتجهيزها إلى الحجاز ). ثمّ بدأ ينقل نصوص الطبري في ذلك بانتقاء أحاديث سيف خاصة! وهي لا تخلو من مناقشة سنداً ومتناً ، ثمّ ختم ذلك بقوله : ( وظلت السيدة مدّة إقامتها بالبصرة راضية عن سيرة عليّ ، فقد كانت خطته مع المخالفين خطة إجمال وكفّ ، وتغافل في الجملة ، وخاصة مع السيدة نفسها ، فقد صانها عن كلّ أذى ومكروه ، ورعاها وكمّ الأفواه عن قولة السوء فيها ، واشتد في ذلك على أصحابه حتى أمسكوا ).

وهنا فصل بنجوم ثلاث بين ما مرّ وبين ما يأتي ، وتبدلت اللهجة الجادة إلى هزل أدبي ، وكأنّه كاتب قصصي يصوّر للقارئ بعض مشاهد مسرحياته الخيالية ، ولعلّه أصابه السأم من مرويات الطبري لأحاديث سيف ـ المتهم حتى بالزندقة والكذب(٣) ـ فاستبدل النغم ، فقال يخاطب قارئه :

____________________

(١) آل عمران / ٣٤.

(٢) إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم ٦ / ٢٣٩ ط دار الكتب العلمية بيروت.

(٣) قال ابن عدي : بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الأثبات. قال وقالوا انه كان يضع الحديث. وبقية كلام ابن حبان : اتهم

٢٤٧

( لعلك اشتقت إلى روايات ابن أبي الحديد الطريفة! فقد طال إمساكنا عن أخباره وإضرابنا عن قصصه ، فها نحن أولاء مطلعوكَ على مشهد ممتع وحوار أمتع :

لمّا فرغ عليّ من القتال دعا بآجرتين : فحمد الله وأثنى عليه وخطب في أهل البصرة قائلاً : ( يا أنصار المرأة ، وأصحاب البهيمة! رغا فجئتم ، وعقر فانهزمتم ، نزلتم شر بلاد ، أبعدها عن السماء إلخ ).

ثمّ نادى(١) ابن عباس ، فاقبل إليه ، فقال له : ( إئتِ هذه المرأة فمرها أن ترجع إلى بيتها الذي أمرها الله أن تقرّ فيه ) ، ثمّ تمثل :

إني زلَلتُ زلَة فأعتذر

واجمع الأمر الشتيت المنتشر

واجمع الأمر الشتيت المنتشر

قال ابن عباس : فجئت فاستأذنت عليها فلم تأذن لي ، فدخلت بلا إذن ، فمددت يدي إلى وسادة في البيت فجلست عليها.

فقالت عائشة : تالله ما رأيت مثلك يا بن عباس! تدخل بيتنا بلا إذننا ، وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا؟ ، ( أخطأت السنّة مرتين ).

____________________

بالزندقة وقال البرقاني عن الدار قطني : متروك وقال الحاكم : اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط. تهذيب التهذيب ٤ / ٢٩٦.

(١) هكذا يريد ابن أبي الحديد : نداء وصراخا على رؤوس الأشهاد. تعليقة الأفغاني في كتابه عائشة والسياسة / ١٩٣.

٢٤٨

فقلت : ( نحن علمناكم السنّة )(١) والله ما هو بيتك ، وما بيتك إلاّ الذي خلّفك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به وأمرك الله أن تقري فيه فلم تفعلي. إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى بلدك الذي خرجتِ منه.

قالت : رحم الله أمير المؤمنين ، ذاك ابن الخطاب.

قلت : وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.

قالت : أبيت أبيت.

قلت : ما كان إباؤكِ إلاّ فواق(٢) ناقة ، ثمّ صرت ما تُحلين ولا تمرِين ، ولا تأمرين ولا تنهين ، وما كنت إلاّ كما قال أخو بني أسد :

مـا زال إهـداء الصغـائر بيننا

نثّ الحديث وكثرة الألقاب

حـتى نزلتِ كأن صوتكِ بينهم

في كل نـائبة طنـين ذباب

فبكت حتى علا نشيجها (!!!) ثمّ قالت : نعم أرجع ، فإنّ أبغض البلدان إليّ بلدٌ أنتم فيه.

قالت ( كذا في المطبوع والصواب قلت ) : أما والله ما كان هذا جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أمّاً ، وجعلنا أباكِ لهم صدّيقاً.

قالت : أتمنّ عليَّ برسول الله يا بن عباس؟.

قلت : نعم ، نمنّ عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننتِ به علينا.

____________________

(١) علق الأفغاني في المقام بقوله : هكذا في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ٨٢.

(٢) الفواق : ما بين الحلبتين من الوقت ، لأنها تحلب ثمّ تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ، ثمّ تحلب ـ مختار الصحاح.

٢٤٩

قال ابن عباس : فأتيت عليّاً فأخبرته بما كان ، فقبّل بين عينيّ ، وقال :( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ) (١) ، أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك(٢) انتهت الرواية.

أمّا الذي لا يمكن أن يقبله امرؤ ذو روية فما رواه المسعودي المؤرخ الحزبي فقد زعم أنّ عائشة قالت لعليّ بعد خطب طويل كان بينهما : ( إنّي أحبّ أن أقيم معك فأسير إلى قتال عدوك عند مسيرك.

فقال عليّ : بل ارجعي إلى البيت الذي تركك فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(٣) .

وهذا خبر غير معقول ألبتة ، وهو مخالف منطق الحوادث ، أمن تجييش الجيوش على عليّ ، إلى القتال معه؟ أهكذا إنقلاباً فجائياً من

____________________

(١) آل عمران / ٣٤.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ٨٢ ، وانظر العقد الفريد ٣ / ١٠٣ ، واليعقوبي ٢ / ٢١٣ ، ولقد كان هذا الخبر ـ ان صح ـ أجدر أن يوجد في الطبري وأرجّح أنه راج بعده ( مات الطبري سنة ٣١٠ ) ولعله علم به وأهمله لكذبه. ومن أمعن في هذه الأقوال استبعد صدورها عن مثل ابن عباس ، فليس ممّا يرضاه ذوق أن تجابه امرأة مهزومة بمثل هذا فكيف بمثل عائشة مكانة وحرمة. والخبر مصنوع بأداة حزبية عصبية طبقية ، والا فابن عباس أصح عقيدة وأتقى لله من أن ينسب إلى أسرته ما هو من صنع الله ، وكلّ مسلم يعلم : أن زواج عائشة كان بوحي من الله ، وأن صديقية أبي بكر كانت هداية من الله وحده ، لا وساماً تمنحه أسرة. وكلّ ما مرّ بك آنفاً وما سيمرّ بك عاجلاً من معاملة عليّ لعائشة ومخالفيه مبعد عن تصديق هذا الخبر الروائي. لقد كان ابن أبي الحديد ( أو صناع بعض أخباره على الأصح ) في كثير ممّا يروى : الصديق الجاهل للإمام كرم الله وجهه. والمشهور من نبل عليّ ودينه وسمو خلقه يجعل المنصفين يضربون بكثير من هذه الروايات عرض الحائط. وقريب منه في ذلك ابن عباس. ( تعليقة سعيد الأفغاني بنصها وفصها ).

(٣) مروج الذهب ٢ / ٩ تعليقة سعيد الأفغاني.

٢٥٠

أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بهذه الخفة والسرعة الخاطفة؟!! ألا قليلاً من العقل والرويّة أيّها المؤرخون العصبيون! ).

ثمّ وضع نجومه الثلاث للفاصلة ، وقال : ( ونعود ـ بعد هذه الإستجمامة المسليّة ـ إلى التاريخ الجدّ :

جهز عليّ عائشة بكلّ شيء ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع )(١)

وقفة مع الأفغاني للحساب :

وهنا لابدّ من وقفة عابرة معه لنحاسبه بعد أن استعاد نشاطه في تلك الإستجمامة المسليّة ، فإنّ في كلامه متناً وهامشاً مواقع للنظر! وإلى القارئ بعضاً منها :

أوّلاً : لقد ساق المحاورة موهماً قراءه أنّها نقلاً عن ابن أبي الحديد ، وأكّد ذلك في تعليقه على أوّل جملة منها ( ثمّ نادى ابن عباس ) ، فقال في الهامش ـ كما مرّ ـ : ( هكذا يريد ابن أبي الحديد نداءً وصراخاً على رؤوس الجماهير ) ، وزاد في تأكيده بذكر الجزء والصفحة ( ٢ / ٨٢ )! وهل يشك بعد هذا أحد بأنّه نقلها عن ابن أبي الحديد؟

ونحن لا نعنّي القارئ كثيراً سوى الرجوع إلى ما مرّ من نص المحاورة التي رواها ابن أبي الحديد ، وهي في مدوّنات القرن السابع ، فليقرأها بإمعان فهل يجد فيها جملة ( ثمّ نادى ابن عباس ) كما زعم الأفغاني؟ أو سيجدها تبتديء بجملة : ( بعث عليّ عبد الله بن عباس إلى

____________________

(١) عائشة والسياسة / ١٩٠.

٢٥١

عائشة يأمرها بالرحيل ) فلماذا البهتان والتزوير؟!!

وقد يعجب القارئ إذا ما نبّهته إلى إغراق الأفغاني في التعتيم على الواقع حين قال في الهامش بعد ذكر شرح النهج : ( واُنظر العقد الفريد ٣ / ١٠٣ ، واليعقوبي ٢ / ٢١٣ ). وهذا يعني أنّ في المصدرين المذكورَين أيضاً مثل ما سبق نقله عن شرح نهج البلاغة ( ٢ / ٨٢ )! وقد مرّت المحاورة أيضاً نقلاً عنهما معاً وليس فيهما جملة ( ثمّ نادى ابن عباس )!!

نعم ، ورد في نص ( العقد الفريد ) جملة : ( أين ابن عباس ) ، ولعلّه أوّل مصدر ترد فيه هذه الجملة ، ثمّ لم ترد بعد إلاّ في نص ورد عند الآبي المالكي في ( إكمال إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم ) ، وهو من مدونات القرن التاسع. واللافت للنظر أن ابن عبد ربه صاحب ( العقد الفريد ) ، والآبي صاحب ( الإكمال ) كلاهما مغربيّان ، وليست لهما أي صلة بحزبية ابن أبي الحديد كما يحلو للأفغاني رميه بذلك على استحياء كما سيأتي.

وقد يزداد القارئ عجباً إذا أخبرته أن ما ذكره الأفغاني من تمثل الإمام عليه السلام بالشعر الرجز فذكر ثلاثة شطور ليس له في أيّ من المصادر التي مرّ ذكرها أيّ أثر!! وقد مرّت جميع نصوص المحاورة في مختلف المصادر عبر القرون وليس فيها ذكر لذلك الرجز ، فمن أين أتى به ودسّه سعيد الأفغاني؟

إنّه أتى به من تاريخ الطبري ، ولو أنّه نقله بأمانة لرفع عنه إصر

٢٥٢

الخيانة ، ولكنه غيّر وبدّل!

والأبيات مذكورة في تاريخ الطبري ، وهي من حديث سيف ، فقد ذكرها في حديث بيعة الإمام عليه السلام بالمدينة ، قال :

( ولمّا فرغ عليّ من خطبته وهو على المنبر قال المصريون :

خذها واحذراً أبا حسن

إنا نمرّ الأمر إمرار الرسن

وإنّما الشعر : خذها إليك واحذراً أبا حسن.

فقال عليّ مجيباً :

إنّي عجزت عجزة ما اعتذر

سوف أكيس بعدها واستمرّ

ثمّ قال الطبري : وكتب إليَّ السري عن شعيب عن سيف عن محمّد وطلحة قالا : ولمّا أراد عليّ الذهاب إلى بيته قالت السبيئة :

خذها واحذراً أبا حسن

إنا نمرّ الأمر إمرار الرسن

صولة أقوام كأسداد السفن

بمشرفّيات كغدران اللبنَ

ونطعن الملك بلين كالشطن

حتى يُمرّنَ على غير عنَن

فقال عليّ : وذكر تركهم العسكر والكينونة على عِدةَ ما منّوا حين غمزوهم ورجعوا إليهم ، فلم يستطيعوا أن يمتنعوا حتى(١)

إنّي عجزت عجزة لا أعتذر

سوف أكيس بعدها واستمر

____________________

(١) هنا نقص في أصول ط ( عن هامش الطبري ٤ / ٤٣٧ ط دار المعارف ).

٢٥٣

ارفع من ذيلي ما كنت أجرّ

وأجمع الأمر الشتيت المنتشر

إن لم يشاغبني العجول المنتصر

أو يتركوني والسلاح يبتدر )(١)

         

ثانياً : لقد مرّت بنا تعليقة الأفغاني على جملة ( نحن علّمناكم السنّة ) ، فقال : ( هكذا في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( ٢ / ٨٢ ).

وهذا كسابقه محض بهتان لا ظل له من الحقيقة! وقد مرّت المحاورة برواية ابن أبي الحديد فارجع البصر إليها كرّتين من جديد فلا تجد فيها ما نسبه إليه كذباً وزوراً. وهكذا تتكشف أمانة الأفغاني في النقل!

ثمّ إنّ جملة : ( نحن علمناكم السنّة ) لم ترد بهذا اللفظ نصاً في أيّ مصدر من المصادر التي بين يدي وهي أكثر من عشرين مصدراً!

نعم ، إنّ الذي ورد فيها جملة : ( نحن علّمناكِ وأباكِ السنّة )(٢) ، أو جملة : ( نحن أولى بالسنّة منكِ ، ونحن علّمناك السنّة )(٣) ، أو جملة : ( نحن علمناكِ السنّة )(٤) . ثمّ لم ترد في بقية المصادر بأيّ صيغة اخرى ، فأين الأمانة يا سعيد الأفغاني؟!

ثالثاً : لقد مرّ بنا تعليقه في نهاية الخبر تشكيكه في صحته ، ورجّح أنّه راج بعد الطبري الذي مات سنة٣١٠ هـ ، ثمّ قال : ( ولعلّه علم به وأهمله

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧ ط دار المعارف.

(٢) كما في أخبار الدولة العباسية ، راجع رقم٢ من مصادر القرن الثالث.

(٣) كما في رجال الكشي ، راجع رقم ٤ من مصادر القرن الخامس.

(٤) كما في مصباح الأنوار ، راجع رقم ١ من مصادر القرن السادس.

٢٥٤

لكذبه ). وهذا لعمري يدلّ على مدى لوذعية الأفغاني وبُعدِ غوره في فهم الأخبار التأريخية (؟) فما دام لم يذكره الطبري فهو بترجيحه راج الخبر من بعده ، أو لعلّه علم به وأهمله لكذبه

أيّ ميزان هذا؟! فإنّ الطبري رجل جمّاع أخبار وليس بصَنّاع ، وهو يعترف في مواضع من تاريخه بأنّه قد لا يذكر من الحقائق التاريخية لعلّة هناك ، وقد يذكر العلّة أحياناً وقد لا يذكرها!

وقد مرّت بالقارئ بعض تلك الموارد في خصوص الفترة من زمن عثمان إلى خلافة الإمام عليه السلام ، لنقرأ تصريحات خطيرة للطبري ، وهي تعني ضياع الكثير من الحقائق التاريخية ، ولا نترك الأفغاني دون أن ننبّه على حبّه الشديد لأمّه ، فهو المدافع العنيد.

قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( حبّك الشيء يعمي ويصم )

حديث نبوي شريف أخرجه أحمد ، وأبو داود ، وابن حجر ، وابن كثير ، والقرطبي ، وآخرون غيرهم(١) .

وقد وجدت الغلوّ في الحبّ يشتطّ بصاحبه حتى يخرج به عن الجادة إلى مهاوي سحيقة في الضلالة ، ولا شك أنّ العدوّ القالي كذلك على حدّ المحبّ الغالي في سوء العاقبة ، وتبقى الفضيلة وسطاً بين الرذيلتين الإفراط والتفريط.

لماذا هذه البداية؟ إنّها إثارة قراءة فاحصة في كتاب ( الإجابة فيما

____________________

(١) أنظر موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف ٤ / ٥٢٣ ط عالم التراث بيروت.

٢٥٥

استدركته عائشة على الصحابة ) تأليف الإمام بدر الدين الزركشي ، عُني بتحقيقه ووضع مقدمته وتعاليقه وفهارسه سعيد الأفغاني ، وله حقوق الطبع ، طبع بالمطبعة الهاشمية بدمشق ١٣٥٨ هـ ١٩٣٩ م ( هكذا كتب على ظهر الكتاب ).

ولقد وجدت المؤلف جعل كتابه في ثلاثة أبواب :

الباب الأوّل في ترجمتها وخصائصها ، وهذا في فصلين.

١ ـ الفصل ـ ١ ـ في ذكر شيء من حالها.

٢ ـ الفصل ـ ٢ ـ في خصائصها الأربعين.

الباب الثاني في استداركاتها على أعلام الصحابة.

وهم أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبو هريرة ، ومروان بن الحكم ، وأبو سعيد الخدري ، وابن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، والبراء ابن عازب ، وعبد الله بن الزبير ، وعروة بن الزبير ، وجابر بن عبد الله ، وأبو طلحة ، وأبو الدرداء ، وابن عون ، وأخوها عبد الرحمن ، وفاطمة بنت قيس ، وأخيراً استدراكاتها على أزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

أمّا الباب الثالث في الإستدراكات العامة ، وقد ذيل المؤلف بموارد أخرى.

وقد أغرق نزعاً في لملمة الهشيم والحطيم والرميم ، ليبني منها هيكلاً تقف على ذراه أم المؤمنين عائشة.

٢٥٦

وأمّا المحقق فلم يكن دونه في التفاني في حبّ السيدة أم المؤمنين.

ولمّا كان ابن عباس ممن جاء اسمه في قائمة الرجال الذين استدركت عليهم عائشة ، فلابد لي وأنا بعدُ في حلبتيهما الحوارية من عرض ما عند الزركشي ، لنزركش ما مرّ من المحاورات بما قاله الزركشي في ( ص ٩٥ ـ ١١١ ).

إستدراكها على عبد الله بن عباس

( الحديث الأوّل ) أخرج البخاري ومسلم كلاهما من طريق عمرة بنت عبد الرحمن : أنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلي عائشة : ( إنّ عبد الله بن عباس قال : ( من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ). وقد بعثت بهديي فاكتبي لي بأمرك ).

قالت عمرة : قالت عائشة : ( ليس كما قال ابن عباس أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي ، ثم قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثم بعث بها مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي ). وترجم عليه البخاري باب من قلد القلائد بيده ) ولم يذكر فيه ( وقد بعثت بهديي فاكتبي إليّ بأمرك ).

قال الحافظ أبو الحجاج المياسي ومن خطه نقلت : ( هكذا وقع في كتاب مسلم ( أنّ ابن زياد ) ووقع في جميع الموطآت : ( أنّ زياد بن أبي سفيان ) كما وقع في البخاري ).

وأخرج البيهقي في سننه عن شعيب ، قال : قال الزهري : أوّل من كشف

٢٥٧

العُمّى عن الناس وبيّن لهم السنة في ذلك عائشة رضي الله عنها : فأخبرني عروة وعمرة أنّ عائشة قالت : ( إنّي كنت لأفتل قلائد هدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيبعث بهديه مقلداً وهو مقيم بالمدينة ، ثم لا يجتنب شيئاً حتى ينحر هديه ) ، فلمّا بلغ الناس قول عائشة هذا أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس.

قال البيهقي : وروى في هذا المعنى مسروق والأسود عن عائشة.

فإن قيل : فقد روي عن جابر خلاف ذلك.

قال الطحاوى في ( معاني الآثار ) : ثنا ربيع المؤذن ، ثنا أسد بن موسى ، ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن عطاء بن(١) أبي لبيبة ، عن عبد الملك بن جابر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كنت عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جالساً فقدّ قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه ، فنظر القوم إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( إنّي أَمرت ببُدني التي بعثت بها أن تقلّد اليوم وتشعر على مكان كذا وكذا ، فلبست قميصي ونسيت ، فلم أكن لأخرج قميصي من ورائي ). وكان بعث ببُدنه وأقام بالمدينة.

فالجواب : أنّ هذا حديث ضعيف لا يقاوم هذا الصحيح ، قال البخاري : ( عبد الرحمن بن عطاء فيه نظر ) ، وقال الطحاوي : ( قد تواترت الآثار عن عائشة بما لم تتواتر عن غيرها بما يخالف حديث جابر ، وحديث عائشة إسناده صحيح بلا خلاف بين أهل العلم ، ومعه النظر والمعنى ).

____________________

(١) في تهذيب التهذيب : أنه : ابن بنت أبي لبيبة.

٢٥٨

قلت : وممّا يضعف حديث جابر وحديث يعلي بن مرّة : أنّ(١) النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر صاحب الجبة إلاّ بنزعها. وروى الطحاوي ، عن يونس : ثنا ابن وهب : أَنّ مالكاً حدثه ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إِبراهيم التيمي ، عن ربيعة بن عبد الله بن الهُدَيْر : أَنّه رأى رجلاً متجرداً بالعراق ، قال : سأَلت الناس عنه؟ فقالوا : ( أََمر بهديه أَن يقلد فلذلك تجرد ) ، قال ربيعة : فلقيت عبد الله بن الزبير ، فقال : ( بدعة ورب الكعبة ) ، قال : ولا يجوز عندنا أن يكون ابن الزبير يحلف على ذلك أَنّه بدعة إِلاّ وقد علم السنة خلاف ذلك.

( الحديث الثاني ) أَخرج مسلم ، عن ابن جريج أَخبرني عطاء ، قال : كان ابن عباس يقول : ( لا يطوف بالبيت حاج ولا عن حاج إلاّ حلّ ) ، فقلت لعطاء : ( من أين تقول ذلك؟ ) ، قال : من قوله :( ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (٢) ، قلت : ( فإنّ ذلك بعد الوقوف ). قال : كان ابن عباس يقول : ( من بعد الوقوف وقبله ) ، وكان يأخذ ذلك من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه حين أَمرهم أَن يحلّوا من حجة الوداع.

قال البيهقي قد قررنا : إِن صح الحج كان خاصاً بهم فلا يقوي الإستدلال ، وقد أَنكرت عائشة ذلك وحكت فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أَخرجاه في الصحيحين عن عروة عن عائشة ، وأَنكره عليه ابن عمر أَيضاً. أخرجه مسلم عن وبرة ، قال : كنت جالساً عند ابن عمر فجاءه رجل فقال : ( أَيصلح أَن

____________________

(١) في الأصل : فأن.

(٢) الحج / ٣٣.

٢٥٩

أطوف بالبيت قبل أن آتي(١) الموقف )؟ فقال : [نعم] ، قال : فإِنّ ابن عباس يقول : ( لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف ) ، فقال ابن عمر : ( قد حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف ، فبقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس إِن كنت صادقاً ).

( الحديث الثالث ) أَخرجه البيهقي في سننه من جهة عبد الله بن الوليد العدني : ثنا سفيان ، عن جابر الجعفي ، عن أبي الضحى : أنّ عبد الملك أو غيره بعث إِلى عبد الله بن عباس الأطباء على البرد وقد وقع الماء في عينيه ، فقالوا : ( تصلي سبعة أيام مستلقياً ) ، فسأل أم سلمة وعائشة عن ذلك فنهتاه.

قال الذهبي في مختصره : ( الجعفي ليس بشيء وابن عباس(٢) كرهه تورعاً ، والتداوي مشروع ).

وقال صاحب ( الدر النقي ) : في ذكر عبد الملك هنا نظر ، لأنّه ولي الخلافة سنة خمس وستين ، وكانت وفاة عائشة وأم سلمة قبل ذلك بسنين ، اللهم إِلاّ أن يحمل على أن عبد الملك أرسلهم إِليه قبل خلافته وفيه بُعد ، إذ لا يعلم لعبد الملك في زمن عائشة وأم سلمة ولاية تقتضي الإِرسال على البُرد ، قال : ( والعدني متكلم فيه ) ، قال أَحمد : لم يكن صاحب حديث وكان ربما أخطأ في الأسماء ولا يحتج به. وقال ابن معين : لا

____________________

(١) في الأصل : آت.

(٢) في الأصل : فكرهه.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) )

التّفسير

بما ذا رموا موسىعليه‌السلام واتّهموه؟

بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب احترام مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وترك كلّ ما يؤذيه والابتعاد عنه ، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين ، وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ) .

إنّ إختيار موسىعليه‌السلام من جميع الأنبياء الذين طالما أوذوا ، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر ، إضافة إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك بحث بين المفسّرين في المراد من إيذاء موسىعليه‌السلام هنا؟ ولماذا ذكره

٣٦١

القرآن بشكل مبهم؟ وقد ذكروا احتمالات عديدة في تفسير الآية ، ومن جملتها :

١ ـ إنّ موسى وهارونعليهما‌السلام قد ذهبا إلى جبل ـ طبق رواية ـ وودّع هارون الحياة ، فأشاع المرجفون من بني إسرائيل أنّ موسىعليه‌السلام قد تسبّب في موته ، فأبان الله سبحانه حقيقة الأمر ، وأسقط ما في يد المرجفين.

٢ ـ كما أوردنا مفصّلا في ذيل الآيات الأخيرة من سورة القصص ، فإنّ قارون المحتال أراد أن يتملّص من قانون الزكاة ، ولا يؤدّي حقوق الضعفاء والفقراء ، فعمد إلى بغيّ واتّفق معها على أن تقوم بين الناس وتتّهم موسىعليه‌السلام بأنّه زنى بها ، إلّا أنّ هذه الخطّة قد فشلت بلطف الله سبحانه ، بل وشهدت تلك المرأة بطهارة موسىعليه‌السلام وعفته ، وبما أراده منها قارون.

٣ ـ إنّ جماعة من الأعداء اتّهموا موسىعليه‌السلام بالسحر والجنون والافتراء على الله ، ولكن الله تعالى برّأه منها بالمعجزات الباهرات.

٤ ـ إنّ جماعة من جهّال بني إسرائيل قد اتّهموه بأنّ فيه بعض العيوب الجسمية كالبرص وغيره ، لأنّه كان إذا أراد أن يغتسل ويستحمّ لا يتعرّى أمام أحد مطلقا ، فأراد أن يغتسل يوما بمنأى عن الناس ، فوضع ثيابه على حجر هناك ، فتدحرج الحجر بثيابه ، فرأى بنو إسرائيل جسمه ، فوجدوه مبرّأ من العيوب.

٥ ـ كان المعذرون من بني إسرائيل أحد عوامل إيذاء موسىعليه‌السلام ، فقد كانوا يطلبون تارة أن يريهم اللهعزوجل «جهرة» ، واخرى يقولون : إنّ نوعا واحدا من الطعام ـ وهو «المنّ والسلوى» ـ لا يناسبنا ، وثالثة يقولون : إنّنا غير مستعدّين للدخول إلى بيت المقدس ومحاربة «العمالقة». اذهب أنت وربّك فقاتلا ، وافتحاه لنا لندخله بعد ذلك!

الّا أنّ الأقرب لمعنى الآية ، هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع ، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسىعليه‌السلام من جوانب متعدّدة ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ) كإشاعة بعض الأكاذيب واتّهام زوج النّبي

٣٦٢

بتهم باطلة ، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور ـ ذيل الآيات ١١ ـ ٢٠ ـ والاعتراضات التي اعترضوا بها على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في زواجه بزينب ، وأنواع الأذى والمضايقات التي كانوا يضايقونه بها في بيته ، أو مناداته بأسلوب خال من الأدب والأخلاق ، وغير ذلك.

وأمّا الاتّهام بالسحر والجنون وأمثال ذلك ، أو العيوب البدنية ، فإنّها وإن اتّهم موسى بها ، إلّا أنّها لا تتناسب مع( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالنسبة لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يتّهم المؤمنون موسىعليه‌السلام ولا نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسحر والجنون. وكذلك الاتّهام بالعيوب البدنية ، فإنّه على فرض كونه قد حدث بالنسبة لموسىعليه‌السلام ، وأنّ الله تعالى قد برّأه ، فليس له مصداق أو حادثة تؤيّده في تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّة حال ، فيمكن أن يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيها وذا منزلة ، فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل ، فكن طاهرا وعفيفا ، واحفظ وجاهتك عند الله ، فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس ، حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس.

وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة «يوسف» الصدّيق الطاهر ، وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة.

وكذلك في شأن «مريم» بنت عمران أمّ عيسىعليه‌السلام ، حيث شهد وليدها الرضيع بطهارتها وعفّتها ، وقطع بذلك ألسن المتربّصين بها من بني إسرائيل ، والذين كانوا يسعون لاتّهامها وتلويث سمعتها.

والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصا بالمؤمنين في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى أولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به ، فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه ، وينسون مواريثه ، ولذلك

جاء في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام : «يا أيّها الذين آمنوا لا

٣٦٣

تؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في علي والأئمّة صلوات الله عليهم ...»(١) .

وآخر كلام في تفسير هذه الآية هو : أنّه بعد ملاحظة أحوال الأنبياء العظام الذين لم يكونوا بمأمن من جراحات ألسن الجاهلين والمنافقين ، يجب أن لا نتوقّع أن لا يبتلى المؤمنون والطاهرون بمثل هؤلاء الأفراد ، فإنّ الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «إنّ رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ..» ثمّ يضيف الإمام في نهاية هذا الحديث : «ألم ينسبوا إلى موسى أنّه عنين وآذوه حتّى برّأه الله ممّا قالوا ، وكان عند الله وجيها»(٢) .

قولوا الحقّ لتصلح أعمالكم :

بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النّبي ، تصدر الآية التالية أمرا هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الاجتماعي الخطير ، فتقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) .

«القول السديد» من مادّة (سد) أي المحكم المنيع الذي لا يعتريه الخلل ، والموافق للحقّ والواقع ، ويعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل. وإذا ما فسّره بعض المفسّرين بالصواب ، والبعض الآخر بكونه خالصا من الكذب واللغو وخاليا منه ، أو تساوي الظاهر والباطن ووحدتهما ، أو الصلاح والرشاد ، وأمثال ذلك ، فإنّها في الواقع تفاسير ترجع إلى المعنى الجامع أعلاه.

ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد ، فتقول :( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) .

إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه ، ومنبع قول الحقّ ، والقول الحقّ أحد العوامل المؤثّرة في إصلاح الأعمال ، وإصلاح الأعمال سبب

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٨.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٩.

٣٦٤

مغفرة الذنوب ، وذلك لـ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) .(١)

يقول علماء الأخلاق : إنّ اللسان أكثر أعضاء البدن بركة ، وأكثر الوسائل تأثيرا في الطاعة والهداية والصلاح ، وهو في الوقت نفسه يعدّ أخطر أعضاء البدن وأكثرها معصية وذنبا ، حتّى أنّ ما يقرب من الثلاثين كبيرة تصدر من هذا العضو الصغير(٢) .

وفي حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(٣) .

ومن الرائع جدّا ما ورد في حديث آخر عن الإمام السجّادعليه‌السلام : «إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه فيقول : كيف أصبحتم؟ فيقولون : بخير إن تركتنا. ويقولون : الله الله فينا ، ويناشدونه ويقولون : إنّما نثاب بك ونعاقب بك»(٤) .

هناك روايات كثيرة في هذا الباب تحكي جميعا عن الأهميّة الفائقة للّسان ودوره في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس الإنسانية ، ولذلك نقرأ في حديث : «ما جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا المنبر قطّ إلّا تلا هذه الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٢) عد الغزالي في إحياء العلوم عشرين كبيرة أو معصية تصدر عن اللسان ، وهي : ١ ـ الكذب ٢ ـ الغيبة ٣ ـ النميمة ٤ ـ النفاق في الكلام ، أي كون الإنسان ذا لسانين ووجهين ٥ ـ المدح في غير موضعه ٦ ـ بذاءة الكلام ٧ ـ الغناء والأشعار غير المرضية ٨ ـ الإفراط في المزاح ٩ ـ السخرية والاستهزاء ١٠ ـ إفشاء أسرار الآخرين ١١ ـ الوعد الكاذب ١٢ ـ اللعن في غير موضعه ١٣ ـ التخاصم والنزاع ١٤ ـ الجدال والمراء ١٥ ـ البحث في امور الباطل ١٦ ـ الثرثرة ١٧ ـ البحث في الأمور التي لا تعني الإنسان ١٨ ـ وصف مجالس الشراب والقمار والمعصية ١٩ ـ السؤال عن المسائل الخارجة عن إدراك الإنسان والبحث فيها ٢٠ ـ التصنع والتكلف في الكلام. ونزيد عليها عشرة مواضيع مهمة اخرى ، وهي : ١ ـ الاتهام ٢ ـ شهادة الزور ٣ ـ إشاعة الفحشاء ، ونشر الإشاعات التي لا أساس لها ٤ ـ مدح الإنسان نفسه ٥ ـ الإصرار في غير محله ٦ ـ الغلظة والخشونة في الكلام ٧ ـ الأذى باللسان ٨ ـ ذم من لا يستحق الذم ٩ ـ كفران النعمة اللسان ١٠ ـ الإعلام الباطل.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٧٨.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٢٧٨.

٣٦٥

اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) (١).

ثمّ تضيف الآية في النهاية :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون أعمال الإنسان صالحة ، وذنوبه مغفورة ، وهو عند الله من المبيضة وجوههم الذينرضي‌الله‌عنهم ؟!

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل تفسير الميزان ، الجزء ١٦ ، صفحة ٣٧٦.

٣٦٦

الآيتان

( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣) )

التّفسير

حمل الأمانة الإلهية أعظم افتخارات البشر :

تكمل هاتان الآيتان ـ اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب ـ المسائل المهمّة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان ، والعمل الصالح ، والجهاد ، والإيثار ، والعفّة والأدب والأخلاق ، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعا ساميا جدّا بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة الله العظيمة ، وكيف أنّه إذا ما جهل قيمه الحياتية والوجودية سيظلم نفسه غاية الظلم ، وينحدر إلى أسفل سافلين!

تبيّن الآية أوّلا أعظم امتيازات الإنسان وأهمّها في كلّ عالم الخلقة ، فتقول :( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ

٣٦٧

مِنْها ) .

ممّا لا شكّ فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وامتناعها عن ذلك لم يكن استكبارا منها ، كما كان ذلك من الشيطان ، حيث تقول الآية (٢٤) من سورة البقرة :( أَبى وَاسْتَكْبَرَ ) ، بل إنّ إياءها كان مقترنا بالإشفاق ، أي الخوف الممتزج بالتوجّه والخضوع.

إلّا أنّ الإنسان ، اعجوبة عالم الخلقة ، قد تقدّم( وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) .

لقد تحدّث كبار مفسّري الإسلام حول هذه الآية كثيرا ، وسعوا كثيرا من أجل الوصول إلى حقيقة معنى «الأمانة» ، وأبدوا وجهات نظر مختلفة ، نختار أفضلها بتقصّي القرائن الموجودة في طيّات الآية.

ويجب التأكيد في هذه الآية العميقة المحتوى على خمس موارد :

١ ـ ما هو المراد من الأمانة؟

٢ ـ ما معنى عرضها على السماوات والأرض والجبال؟

٣ ـ لماذا وكيف أبت هذه الموجودات حمل هذه الأمانة؟

٤ ـ كيف حمل الإنسان ثقل الأمانة هذا؟

٥ ـ لماذا وكيف كان ظلوما جهولا؟

لقد ذكرت تفاسير مختلفة للأمانة ومن جملتها :

أنّ المراد من الأمانة : هي الولاية الإلهية ، وكمال صفة العبودية ، والذي يحصل عن طريق المعرفة والعمل الصالح.

أنّ المراد : صفة الإختيار والحرية والإرادة التي تميّز الإنسان عن سائر الموجودات.

أنّ المراد : العقل الذي هو ملاك التكليف ، ومناط الثواب والعقاب.

أنّ المراد : أعضاء جسم الإنسان ، فالعين أمانة الله ، ويجب الحفاظ عليها وعدم

٣٦٨

استعمالها في طريق المعصية ، والاذن واليد والرجل واللسان كلّها أمانات يجب حفظها.

أنّ المراد : الأمانات التي يأخذها الناس بعضهم من بعض ، والوفاء بالعهود.

أنّ المراد : معرفة الله سبحانه.

أنّ المراد : الواجبات والتكاليف الإلهيّة كالصلاة والصوم والحجّ.

لكن يتّضح من خلال أدنى دقّة أن هذه التفاسير لا تتناقض مع بعضها ، بل يمكن إدغام بعضها في البعض الآخر ، فبعضها أخذت جانبا من الموضوع ، وبعضها الآخر كلّه.

ومن أجل الحصول على جواب جامع كاف ، يجب أن نلقي نظرة على الإنسان لنرى أي شيء يمتلكه وتفتقده السماوات والأرضون والجبال؟

إنّ الإنسان موجود له استعدادات وقابليات يستطيع من خلال استغلالها أن يكون أتمّ مصداق لخليفة الله ، ويستطيع أن يصل إلى قمّة العظمة والشرف باكتساب المعرفة وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات ، وأن يسمو حتّى على الملائكة.

إنّ هذا الاستعداد المقترن بالحرية والإرادة والإختيار يعني أنّ الإنسان يطوي هذا الطريق بإرادته وإختياره ، ويبدأ فيه من الصفر ويسير إلى ما لا نهاية.

إنّ السماء والأرض والجبال تمتلك نوعا من المعرفة الإلهية ، وهي تذكر الله سبحانه وتسبّحه ، وتخضع لعظمته وتخشع لها وتسجد ، إلّا أنّ كلّ ذلك ذاتي وتكويني وإجباري ، ولذلك ليس فيه تكامل ورقي ، والموجود الوحيد الذي لا ينتهي منحني صعوده ونزوله ، وهو قادر على ارتقاء قمّة التكامل بصورة لا تعرف الحدود ، ويقوم بكلّ هذه الأعمال بإرادته وإختياره ، هو الإنسان ، وهذه هي «الأمانة الإلهيّة» التي امتنعت من حملها كلّ الموجودات ، وحملها الإنسان! ولذلك نرى الآية التالية قسّمت البشر إلى ثلاث فئات : «المؤمنين» و «الكفّار» و

٣٦٩

«المنافقين».

بناء على هذا يجب القول في عبارة مختصرة أنّ الأمانة الإلهية هي قابلية التكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والإختيار ، والوصول إلى مقام الإنسان الكامل ، وعبودية الله الخاصّة وتقبّل ولاية الله.

لكن لماذا عبّر عن هذا الأمر بالأمانة ، مع أنّ كلّ وجودنا وكلّ ما لدينا أمانة الله؟

لقد عبّر بهذا التعبير لأهميّة امتياز البشر العظيم هذا ، وإلّا فإنّ بقية المواهب أمانات الله أيضا ، غير أنّ أهميّتها تقلّ أمام هذا الامتياز.

ويمكن أن نعبّر هنا عن هذه الأمانة بتعبير آخر ونقول : إنّها التعهّد والالتزام وقبول المسؤولية.

بناء على هذا فإنّ أولئك الذين فسّروا الأمانة بصفة الإختيار والحرية في الإرادة ، قد أشاروا إلى جانب من هذه الأمانة العظمى ، كما أنّ أولئك الذين فسّروها بالعقل ، أو أعضاء البدن ، أو أمانات الناس لدى بعضهم البعض ، أو الفرائض والواجبات ، أو التكاليف بصورة عامّة ، قد أشار كلّ منهم إلى غصن من أغصان هذه الشجرة العظيمة المثمرة ، واقتطف منها ثمرة.

لكن ما هو المراد من عرض هذه الأمانة على السموات والأرض؟

هل المراد : أنّ الله سبحانه قد منح هذه الموجودات شيئا من العقل والشعور ثمّ عرض عليها حمل هذه الأمانة؟

أو أنّ المراد من العرض هو المقارنة؟ أي أنّها عند ما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من القابليات والاستعدادات أعلنت عدم لياقتها واستعدادها عن تحمّل هذه الأمانة العظيمة.

طبعا ، يبدو أنّ المعنى الثّاني هو الأنسب ، وبهذا فإنّ السماوات والأرض والجبال قد صرخت جميعا بأنّا لا طاقة لنا بحمل هذه الأمانة.

٣٧٠

ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثالث أيضا ، بأنّ هذه الموجودات لما ذا وكيف رفضت وأبت حمل هذه الأمانة العظمى ، وأظهرت إشفاقها من ذلك؟

ومن هنا تتّضح كيفية حمل الإنسان لهذه الأمانة الإلهية ، لأنّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤولية والقيام بها ، وأن يتقبّل ولاية الله ، ويسير في طريق العبودية والكمال ويتّجه نحو المعبود الدائم ، وأن يطوي هذا الطريق بقدمه وإرادته ، وبالاستعانة بربّه.

أمّا ما ورد في روايات عديدة وردت عن أهل البيتعليهم‌السلام من تفسير هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وولده ، فمن أجل أنّ ولاية الأنبياء والأئمّة نور ساطع من تلك الولاية الإلهية الكليّة ، والوصول إلى مقام العبودية ، وطي طريق التكامل لا يمكن أن يتمّ من دون قبول ولاية أولياء الله.

جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه سئل عن تفسير آية عرض الأمانة ، فقال : «الأمانة الولاية ، من ادّعاها بغير حقّ كفر»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال عند ما سئل عن تفسير هذه الآية : «الأمانة الولاية ، والإنسان هو أبو الشرور المنافق»(٢) .

والمسألة الاخرى التي يلزم ذكرها هنا ، هي أنّنا قلنا في ذيل الآية (١٧٢) من سورة الأعراف فيما يتعلّق بعالم الذرّ بأن أخذ ميثاق الله على التوحيد كان عن طريق الفطرة ، واستعداد وطبيعة الآدمي ، وإنّ عالم الذرّ هو عالم الاستعداد والفطرة.

وفي مورد قبول الأمانة الإلهيّة يجب القول بأنّ هذا القبول لم يكن قبول اتّفاق وعقد ، بل كان قبولا تكوينيا حسب عالم الاستعداد.

السؤال الوحيد الذي يبقى هو مسألة كون الإنسان «ظلوما جهولا» ، فهل أنّ

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٣ ، صفحة ٣٤١ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

٣٧١

وصف الإنسان بهاتين الصفتين ـ وظاهرهما ذمّه وتوبيخه ـ كان نتيجة قبوله لهذه الأمانة؟

من المسلّم أنّ النفي هو جواب هذا السؤال ، لأنّ قبول هذه الأمانة أعظم فخر وميزة للإنسان ، فكيف يمكن أن يذمّ على قبوله مثل هذا المقام السامي؟

أم أنّ هذا الوصف بسبب نسيان غالب البشر وظلمهم أنفسهم ، وعدم العلم بقدر الإنسان ومنزلته وبسبب الفعل الذي بدأ منذ ابتداء نسل آدم من قبل قابيل وأتباعه ، ولا يزال إلى اليوم.

إنّ الإنسان الذي ينادى من العرش ، وبني آدم الذين وضع على رؤوسهم تاج (كرّمنا بني آدم) والبشر الذين هم وكلاء الله في الأرض بمقتضى قوله سبحانه :( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) والإنسان الذي كان معلّما للملائكة وسجدت له ، كم يجب أن يكون ظلوما جهولا لينسى كلّ هذه القيم السامية الرفيعة ، ويجعل نفسه أسيرة هذه الدنيا ، وتابعا لهذا التراب ، ويكون في مصاف الشياطين ، فينحدر إلى أسفل سافلين؟!

أجل إنّ قبول هذا الخطّ المنحرف ـ والذي كان ولا يزال له أتباع وسالكون كثيرون جدّا ـ خير دليل على كون الإنسان ظلوما جهولا ، ولذلك نرى أنّه حتّى آدم نفسه ، والذي كان رأس السلسلة ومتمتّعا بالعصمة ، يعترف بأنّه قد ظلم نفسه( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .(١)

لقد كان «ترك الأولى» الذي صدر منه ناشئا في الحقيقة عن نسيان جزء من عظمة هذه الأمانة الكبرى!

وعلى أي حال ، فيجب الاعتراف بأنّ الإنسان الضعيف والصغير في الظاهر ، هو اعجوبة علم الخلقة ، حيث استطاع أن يتحمّل أعباء الأمانة التي عجزت السماوات

__________________

(١) الأعراف ، ٢٣.

٣٧٢

والأرضون عن حملها إذا لم ينس مقامه ومنزلته(١) .

وتبيّن الآية التالية علّة عرض هذه الأمانة على الإنسان ، وبيان حقيقة أنّ أفراد البشر قد انقسموا بعد حمل هذه الأمانة إلى ثلاث فئات : المنافقين والمشركين والمؤمنين ، فتقول :( لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

يوجد هناك احتمالان في معنى «اللام» في( لِيُعَذِّبَ ) :

الأوّل : أنّها «لام الغاية» التي تذكر لبيان عاقبة الشيء ونهايته ، وبناء على هذا يكون معنى الآية : كانت عاقبة حمل هذه الأمانة أن سلك جماعة طريق النفاق ، وجماعة سبيل الشرك ، وهؤلاء سيبتلون بعذاب الله لخيانتهم أمانته ، وجماعة هم أهل الإيمان الذين ستشملهم رحمته لأدائهم هذه الأمانة والقيام بواجباتهم.

والثاني : أنّها «لام العلّة» ، فتكون هناك جملة مقدرة ، وعلى هذا يكون تفسير الآية : كان الهدف من عرض الأمانة أن يوضع كلّ البشر في بوتقة الاختبار ، ليظهر كلّ إنسان باطنه فيرى من الثواب والعقاب ما يستحقّه.

وهنا امور ينبغي الالتفات إليها :

١ ـ إنّ سبب تقديم أهل النفاق على المشركين هو أنّ المنافق يتظاهر بأنّه أمين في حين أنّه خائن ، إلّا أنّ خيانة المشرك ظاهرة مكشوفة ، ولذلك فإنّ المنافق يستحقّ حظّا أكبر من العذاب.

٢ ـ يمكن أن يكون سبب تقديم هاتين الفئتين على المؤمنين هو أنّ الآية

__________________

(١) اتّضح ممّا قلناه في تفسير الآية أن لا حاجة مطلقا إلى أن نقدر شيئا في الآية ، كما قال ذلك جمع من المفسّرين ، ففسّروا الآية بأنّ المراد من عرض أمانة الله على السماء والأرض والجبال هو عرضها على أهلها ، أي الملائكة! ولذلك قالوا بأنّ أولئك الذين أبوا أن يحملوها قد أدّوها ، وأولئك الذين حملوها خانوها. إنّ هذا التّفسير ليس مخالفا لظاهر الآية من ناحية الاحتياج إلى التقدير وحسب ، بل يمكن أن يناقش ويورد على اعتقاده بأنّ على الملائكة نوع تكليف ، وأنّها حاملة لجزء من هذه الأمانة. وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإنّ تفسير أهل الجبال بالملائكة لا يخلو من غرابة ، دقّقوا ذلك.

٣٧٣

السابقة قد ختمت بـ( ظَلُوماً جَهُولاً ) وهاتان الصفتان تناسبان المنافق والمشرك ، فالمنافق ظالم ، والمشرك جهول.

٣ ـ لقد وردت كلمة (الله) مرّة واحدة في شأن المنافقين والمشركين ، ومرّة في شأن المؤمنين ، وذلك لأنّ مصير الفئتين الاوّليين واحد ، وحساب المؤمنين يختلف عنهما.

٤ ـ يمكن أن يكون التعبير بالتوبة بدل الجزاء والثواب في شأن المؤمنين بسبب أنّ أكثر خوف المؤمنين من الذنوب والمعاصي التي تصدر عنهم أحيانا ، ولذا فإنّ الآية تطمئنهم وتمنحهم السكينة بأنّ ذنوبهم ستغفر.

أو لأنّ توبة الله على عباده تعني رجوعه عليهم بالرحمة ، ونعلم أنّ كلّ الهبات والعطايا والمكافآت قد أخفيت في كلمة «الرحمة».

٥ ـ إنّ وصف الله بالغفور والرحيم ربّما كان في مقابل الظلوم والجهول. أو لمناسبته ذكر التوبة بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات.

الآن وقد بلغنا نهاية سورة الأحزاب بفضل الله سبحانه ، نرى لزاما ذكر هذه المسألة ، وهي : أنّ انسجام بداية هذه السورة مع نهايتها يستحقّ الدقّة والانتباه ، لأنّ هذه السورة ـ سورة الأحزاب ـ قد بدأت بخطاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بتقوى الله ، ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين ، والتأكيد على كون الله عليما حكيما ، وانتهت بذكر أعظم مسألة في حياة البشر ، أي حمل أمانة الله. ثمّ بتقسيم البشر إلى ثلاث فئات : المنافقين ، والكافرين ، والمؤمنين ، والتأكيد على كون الله غفورا رحيما.

وبين هذين البحثين طرحت بحوثا كثيرة حول هذه الفئات الثلاثة ، وأسلوب تعاملهم مع هذه الأمانة الإلهية ، وكلّ هذه البحوث يكمل بعضها بعضا ، ويوضّح بعضها بعضا.

اللهمّ اجعلنا ممّن قبلوا أمانتك بإخلاص ، وحملوها بعشق ولذّة ، وقاموا

٣٧٤

بواجباتهم تجاهها.

اللهمّ اجعلنا من المؤمنين الذين وسعتهم رحمتك ، لا من المنافقين والمشركين الذين استحقّوا العذاب لكونهم ظلومين جهولين.

اللهمّ انزل غضبك وسخطك على أحزاب الكفر التي اتّحدت مرّة اخرى ، واحتّلت مدينة الإسلام في عصرنا الحاضر ، واهدم قصورهم على رؤوسهم. اللهمّ وهب لنا من الثبات والاستقامة ما نقف به كالجبل لندافع عن مدينة الإسلام ونحرسها في هذه اللحظات الحسّاسة.

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة الأحزاب

٣٧٥
٣٧٦

سورة

سبأ

مكيّة

وعدد آياتها أربع وخمسون آية

٣٧٧
٣٧٨

«سورة سبأ»

محتوى سورة سبأ :

سمّيت السورة بهذا الاسم (سبأ) لذكرها قصّة قوم سبأ ، وهي من السور المكيّة ، التي تشتمل عادة على بحوث المعارف الإسلامية واصول الإعتقادات ، خصوصا «المبدأ» و «المعاد» و «النبوّة». فأغلب بحوثها تحوم حول تلكم الموضوعات ، لحاجة المسلمين لبلورة امور العقيدة في مكّة ، وإعدادهم للانتقال إلى فروع الدين ، وتشكيل الحكومة ، وتطبيق كافّة البرامج الإسلامية.

وبشكل إجمالي يمكن القول بأنّ محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع :

١ ـ «التوحيد» ، وبعض الآثار الدالّة عليه في عالم الوجود ، وبعض صفات الله المقدّسة كالوحدانية ، والربوبية ، والالوهية.

٢ ـ قضيّة المعاد التي نالت النصيب الأوفى من العرض في هذه السورة ، باستعراضها ضمن بحوث منوّعة ومن زوايا مختلفة.

٣ ـ نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والردّ على تخرصات أعدائه حوله ، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء.

٤ ـ التعرّض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة ، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال استعراض جانب من حياة النّبي سليمانعليه‌السلام وحياة قوم سبأ.

٥ ـ الدعوة إلى التفكّر والتأمّل والإيمان والعمل الصالح ، وبيان تأثير هذه

٣٧٩

العوامل في سعادة وموفقية البشر.

وعلى كلّ حال ، فانّها تشكّل برنامجا تربويا شاملا لتربية الباحثين عن الحقّ.

فضيلة هذه السورة :

يلاحظ في الروايات تعبيرات ملفتة حول أهميّة هذه السورة وأهميّة قراءتها. من جملتها ما ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ الحمدين جميعا ، سبأ وفاطر ، في ليلة لم يزل ليلته في حفظ الله تعالى وكلاءته ، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه ، واعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»(٢) .

ونذكّر ـ كما في بداية كلّ سورة ـ بأنّ من الطبيعي أنّ هذا الثواب العظيم لا يكون نصيب من يكتفي من قراءته بلقلقة اللسان وحسب ، بل يجب أن تكون القراءة مقدّمة للتفكير الذي يكون بدوره باعثا على العمل الصالح.

فإنّ من يقرأ هذه السورة مثلا ، سيعلم بأنّ الدمار الذي حلّ بقوم سبأ وجعل من مصرعهم عبرة للعالمين ، ومصيرهم مضربا للأمثال ، إنّما كان لكفرانهم النعم الإلهية الوافرة.

ومن يطّلع على ذلك فسيؤدّي شكر النعمة بطريقة عملية. والشاكر بنعمة الله سيكون في حفظه وأمانه تعالى.

وقد ذكرنا شرحا أوفى حول هذا الموضوع في أوّل تفسيرنا لسورة النور.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، بداية سورة سبأ ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٧٥.

(٢) المصدر السابق.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496