موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس16%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93313 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

أَعرفه ، لم أكتب عنه شيئاً. وجابر المذكور في مسنده أَظنه الجعفي ، وقد قال البيهقي في موضع : لا يحتج به. وقال الدارقطني : متروك.

وقد روى هذه القصة عن سفيان الثوري من لا نسبة بينه وبين العدني حفظاً وجلالة وهو عبد الرحمن بن مهدي ولم يذكر فيه عبد الملك. قال ابن أبي شيبة في مصنفه : قال ابن مهدي : ثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي الضحى : أنّ ابن عباس وقع في عينه الماء فقيل له : ( تستلقي سبعاً ولا تصلي إلاّ مستلقياً ) ، فبعث إِلى عائشة وأم سلمة يسألهما فنهتاه.

وأَخرج الحاكم في المناقب من جهة أبي معاوية : ثنا الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، قال : لمّا كف بصر ابن عباس أتاه رجل فقال له : ( إنّك إِن صبرت لي سبعاً لم تصل إلاّ مستلقياً تومي إِيماءً داويتك [و] برأت إِن شاء الله ، فأرسل إِلى عائشة وأَبي هريرة وغيرهما من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم )(١) .

( الحديث الرابع ) : قال الطبراني في معجمه الوسط : حدثنا علي بن سعيد الرازي ، ثنا الهيثم بن مروان الدمشقي ، ثنا يزيد بن يحيى بن عبيد ، ثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة : حدثني عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ، ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : ( يا بن عباس ما هاتان الركعتان )؟ فقال : ( بدعة

____________________

(١) تتمة الرواية : وكل يقول ( أرأيت إن مت في هذا السبع كيف تصنع بالصلاة )؟ فترك عينه ولم يداوها. عن المستدرك للحاكم ٣ / ٥٤٦ طبع الهند.

٢٦١

وصاحبها صاحب بدعة ) ، فلما انفتل قال : ( ما قلتما )؟ قال : ( قلنا : كيت وكيت ) ، قال : ( ما ابتدعت ولكن حدثتني خالتي عائشة ) ، فأرسل معاوية إلى عائشة ، فقالت : ( صدق ، حدثتتني أم سلمة ) ، فأرسل إلى أُم سلمة : ( أنّ عائشة حدثتنا عنك بكذا ) ، فقالت : ( صدقت ، أَتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فصلى بعد العصر فقمت وراءه فصليت ، فلما انفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت فصليت معك. فقال : إِنّ عاملاً لي على الصدقات قدم علي فجمعت(١) عليه؟ )؟

وفي الصحيحين : عن كريب مولى ابن عباس : أنّ عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوه إِلى عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : ( اقرأ عليها السلام منّا جميعاً ، وسلها عن الركعتين بعد العصر ، وقل : إِنّا أخبرنا أنّك تصلينها ، وقد بلغنا أَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ) ، قال ابن عباس : ( وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنها ) ، قال كريب : فدخلت عليها وبلغتها ، فقالت : ( سل أم سلمة ) ، فذكر نحو ما

____________________

(١) كذا في الأصل وقد رجعنا إلى جميع المظان ووجدنا أحاديث كثيرة في شأن الركعتين بعد العصر ، في مسند أحمد أكثر من عشرة مواضيع وفي البخاري مثلاً في الكتاب ٦٤ الباب ٩٦ وفي مسلم وغيرهما وليس في الظاهرية والمكتبات التي في دمشق نسخة عن المعجم الأوسط فنصحح عنها ، ومن حديث مسند أحمد ج٦ الباب ٦٩ : ( ركعتان كنت أركعهما بعد الظهر فشغلني قسم هذا المال حتى جائني المؤذن بالعصر فكرهت أن أدعمها ) ثم وجدت مسند ابن عباس في المجلد الثالث من المعجم الكبير للطبراني ( مخطوط في الظاهرية رقم ٢٨٣ ـ حديث ) فسردته كله متحرباً فلم أجد عبد الله بن الحارث يروي عن ابن عباس إلا عشرة أحاديث ليس حديثنا هذا بينها.

٢٦٢

سبق إِلى أنّه قال : إِنّه أَتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان.

وأخرج الترمذي من جهة عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ( إنّما صلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الركعتين بعد العصر لأَنّه أَتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر ثم لم يعد لهما ) ، وقال : حديث حسن. ويعارضها في الصحيحين عن عروة : قالت عائشة : ( يا ابن أُختي ما ترك النبيّ السجدتين(١) بعد العصر عندي قط ).

( الحديث الخامس ) : أخرجه أَبو داوود ، وابن ماجة في سننهما من طريق يزيد بن أَبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أَثواب نجرانية ، الحلة ثوبان ، وقميصه الذي مات فيه ).

قال الذهبي في مختصر سنن البيهقي : ( يزيد فيه لين ، ومقسم صدوق ضعفه ابن حزم ). ا هـ. أَعله المنذري بيزيد ، قال : وقد أَخرج له مسلم في المتابعات ، وقال غير واحد من الأئمة : إِنّه لا يحتج بحديثه. قلت : وقد خالفه ابن أَبي ليلى. فأخرج البيهقي في سننه من جهة قبيصة : ثنا سفيان ، عن أَبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثوبين أَبيضين وبرد حِبَرة ) ، قال البيهقي : ( كذا رواه محمد بن عبد

____________________

(١) البخاري ١ / ٧٦ باب من لم يكره الصلاة إِلا بعد العصر والفجر وفي تيسير الوصول ٣ / ٢٩٥ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتيني في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين ) وفي رواية : ( ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط ) أخرجه الخمسة إلا الترمذي.

٢٦٣

الرحمن بن أَبي ليل ). قال الذهبي : ( وليس بقوي ) ، وقد روت عائشة رضي الله عنها : ( أَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفن في ثلاثة أَثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ) ، أَخرجه الأَئمة الستة في كتبهم.

قال البيهقي : وقد بينت عائشة رضي الله عنها أَنّ الإشتباه في ذلك على غيرها : فأخرج مسلم من جهة هشام ، عن أَبيه ، عن عائشة ، قالت : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أَثواب بيض سحولية من كرسفُ ليس فيها قميص ولا عمامة ، فأمّا الحلّة فإنّما شبه على الناس فيها أَنها اشتريت له حلّة ليكفن فيها فتركت الحلّة فأخذها عبد الله بن أَبي بكر فقال : ( لأحبسنَها لنفسي حتى أُكفّن فيها ) ، ثم قال : ( لو رضيها الله لنبيّه لكفنه فيها ) فباعها وتصدق بثمنها ). وفي رواية : ( أدرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في برد حبرة ، ثم أخذ عنه ). قال القاسم : ( إِنّ بقايا ذلك الثوب عندنا بعد ) ، قال البيهقي : هذا الثوب الثالث ، وأَمّا الحلّة فتصدق بثمنها عبد الله وهي ثوبان. أهـ.

( الحديث السادس ) : ـ إنكارها عليه الرؤية : أخرج الترمذي في التفسير من جهة مسلم بن جعفر هو البغدادي ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، فقلت ( أليس الله يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )؟

فقال ( ويحك ، ذاك إِذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، قد رأى ربه مرتين ) ، وقال : حسن غريب. قال شيخنا عماد الدين ابن كثير : ( مسلم بن جعفر ليس بذاك المشهور ، والحكم بن أبان وثقه جماعة ) ، وقال ابن

٢٦٤

المبارك : ( ارم به ). اهـ.

قلت : وأخرج الحاكم في مستدركه من جهة معاذ بن هشام : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ( أتعجبون أن تكون الخلّة لإِبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم قال : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وله شاهد صحيح عن ابن عباس في الرؤية. ثم ساقه من جهة إِسماعيل بن زكريا ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ( رأى محمد ربّه ) وله شاهد آخر صحيح الإسناد ، ثم ساقه عن يزيد بن هارون ، ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن ابن عباس ، قال : ( قد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربّه ). وعن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : ( رآه مرتين ). ثم قال الحاكم : قد اعتمد الشيخان في هذا الباب أخبار عائشة بنت الصديق ، وأُبي بن كعب ، وابن مسعود ، وأَبي ذر : ( أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل عليه السلام ). وهذه الأخبار التي ذكرنا صحيحة. اهـ.

وقد أخرج البخاري من حديث القاسم ، عن عائشة ، قالت : ( من زعم أنّ محمداً رأُى ربّه فقد أعظم ، ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادّاً ما بين الأفق ). وفي الصحيحين من حديث مسروق : ( قلت لعائشة : يا أمتاه هل رأَى محمد ربّه؟ فقالت : ( لقد قفّ شعري ممّا قلت ، من حدثك أَنّ محمداً رأى ربّه فقد كذب ، ثم قرأت :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) ، ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته

____________________

(١) الأنعام / ١٠٣.

٢٦٥

مرتين ). وفي رواية : ( من زعم أنّ محمداً رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية ) ، فقلت : ( يا أم المؤمنين أُنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله عزوجل :( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ) (١) ،( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) (٢) ، فقالت : أنا أوّل هذه الأَمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( إنّما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إِلى الأرض ) ، وقالت : ( أولم تسمع أنّ الله عزوجل يقول :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٣) ؟ أولم تسمع أنّ الله عزوجل يقول :( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٤) .

قلت : وهذا قاطع في هذه المسألة إِذ صرحت فيه بالدفع. ونقل عن ابن خزيمة أنه قال في كتاب التوحيد له : ( أنّه صلى الله عليه وآله وسلم إِنّما خاطب عائشة على قدر عقلها ) ، ثم أخذ يحاول تخطئتها وليس كما قال ، فقد جاء عن غيرها ذلك مرفوعاً إِلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منهم ابن مسعود ، رواه محمد بن جرير الطبري في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، ثنا عبد الواحد بن زياد ، ثنا سليمان الشيباني ، ثنا زر بن حبيش ، قال : ( قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية :( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) (٥) ، قال :

____________________

(١) التكوير / ٢٣.

(٢) النجم / ١٣.

(٣) الأنعام / ١٠٣.

(٤) الشورى / ٥١.

(٥) النجم / ٩.

٢٦٦

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رأيت جبريل له ستمائة جناح ) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.

وفي كتاب ( الجمع بين الصحيحين ) للحميدي : قال أَبو مسعود في الأطراف في حديث عبد الواحد :( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) (١) ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رأَيت جبريل في صورته له ستمائة جناح ) ، قال الحميدي : وليس ذلك كما رأيناه من النسخ ولا ذكره البرقاني فيما خرجه على الكتابين. ومنهم أَبو ذر : قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عفان ، ثنا هشام ، عن عبد الله بن شقيق ، قال : قلت لأبي ذر : ( لو رأَيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسألته ) ، قال(٢) : ( وما كنت تسأله )؟

قلت : ( كنت أسأله : هل رأَى ربه عزوجل )؟ فقال : ( إنّي سألته؟ فقال : قد رأَيته نوراً أنىّ أَراه ) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ : ( رأيت نوراً ) ، ثم قال : ( معناه أنّه لم ير ربّه ، ولكن رأى نوراً علوياً من الأنوار المخلوقة ). اهـ. هكذا وقع في رواية الإِمام أحمد.

وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين : أحدهما قال : ( رأيت نوراً أنّى أراه ) ، والثاني قال : ( رأَيت نوراً ). وهو مصرح بنفي الرؤية إِذ لو أراد الإِثبات لقال : ( نعم ) ، أَو ( رأَيته ) ، ونحو ذلك ، وهو يرد قول ابن خزيمة : ( أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها ) ، ولهذا لم يجد ابن خزيمة عنه

____________________

(١) النجم / ١٣.

(٢) في الأصل : قلت. والتي بعدها : قال : وهو سهو مخل بسياق الحديث.

٢٦٧

ملجأ إِلاّ أنّه كان يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شقيق وأبي ذر(١) ، فقال : ( في القلب من صحة مسند هذا الخبر شيء ) لم أَر أحداً من علماء الأثر نظر لعلّة في إِسناد ، قال : عبد الله بن شقيق راوي هذا الحديث كأنّه لم يكن يثبت أبا ذر ولا يعرفه بعينه واسمه ونسبه ، قال : لأنّ أبا موسى محمد ابن المثنى حدثنا : عن معاذ بن هشام ، عن أَبيه ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق. قال : أَتيت المدينة فإِذا رجل قائم على غرائر سود يقول : ألا ليبشر أصحاب الكنوز بكيّ في الحياة والممات ، فقالوا : ( هذا أبو ذر ). فكأنّه لا يثبته ولا يعلم أنه أبو ذر.

وقال بعض العلماء في هذا الحديث : قد أجمعنا على أَنّه ليس بنور ، وخطأنا المجوس في قولهم : هو نور ، والأنوار أجسام والباري سبحانه ليس بجسم ، والمراد بهذا الحديث أنّه حجابه النور ، وكذلك روي في حديث أَبي موسى ، فالمعنى : كيف أراه وحجابه النور؟ ومن أثبت رؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ربّه ، فإِنّما يثبت ليلة المعراج ، وأسلم أبو ذر بمكة فدعا(٢) قبل المعراج ، ثم رجع إِلى بلاد قومه فأقام بها حتى مضت بدر وأُحد والخندق ، ثم قدم المدينة بعد ذلك ، يحتمل أَنّه سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقت إِسلامه : ( هل رأيت

____________________

(١) هنا شطب المؤلف على ما يلي :

وأَنى له ذلك وأما ابن الجوزي فأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الإِسراء فأجابه بما أجابه ، ولو سأله بعد الإِسراء لأجابه بالإِثبات. وهذا ضعيف فإِن عائشة أم المؤمنين قد سألت عن ذلك بعد الإِسراء ولم يثبت لها الرؤية.

(٢) كذا في الأصل.

٢٦٨

ربك )؟ وما كان عرج به بعد فقال : ( نور أنّى أَراه ) ، أَي أَنّ النور يمنع من رؤيته. وقد قال بعد المعراج في رواية ابن عباس : ( رأيت ربي ) اهـ. وهذا ضعيف ، فإِنّ عائشة أم المؤمنين قد سألت عن ذلك بعد الإسراء ولم يثبت لها الرؤية.

وأَمّا قول الإِمام أَحمد : ( ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أَدري ما وجهه ) ، فقال بعض الأئمة : لا نعرف معنى هذا الإِنكار ، وقد صح ذلك عن أَبي ذر وغيره. وللكلام على هذا الحديث موضع آخر قد بسطته فيه ، ورددت ما حرّفه بعض النقلة في لفظه ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

( الحديث السابع ) : إِحالته معرفة الوتر عليها. أخرجه مسلم في صحيحه : عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن سعد بن هشام : أنّه طلق أمرأته فأتى المدينة ليبيع بها عقاراً له ، فيجعله في السلاح والكراع ، فذكر الحديث وأنّه لقي ابن عباس فسأله عن الوتر ، فقال : ( ألا أُنبئك بأَعلم أَهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )؟ قال : ( نعم ) ، قال : ( عائشة ، إِيتها فسلها ثم إرجع إِليّ فأخبرني بردها عليك ) ، قال : فأتيت(١) حكيم بن أَفلح فاستلحقته إِليها ، فقال : ( ما أَنا بقاربها ، إِنّي نهيتها أَن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً فأبت فيهما إِلا مضياً فيه ) ، فأقسمت عليه فجاء معي فدخل عليها فقال : يا أُم ألمؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( كنا نُعِدُّ له سواكه

____________________

(١) في الأصل : علي بن حكيم بن أفلح ، ولم نجد في كتب رجال الحديث أحداً بهذا الاسم وإنما هو حكيم بن أفلح كما في ( تهذيب التهذيب ) و ( لسان الميزان ). والحديث مذكور في مسند أحمد واسم الرجل فيه كما أَثبتناه.

٢٦٩

وطهوره فيبعثه الله بما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ، ثم يصلي ثمانية ركعات لا يجلس فيهن إلاّ عند الثامنة فيجلس ويذكر الله ويدعو ، ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد الله ويصلي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثم يسلم تسليماً يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد ، فتلك إِحدى عشرة ركعة يا بني ، فلمّا أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالس بعد ما سلم ، فتلك تسع ركعات يا بني ) ، وفي رواية له : ( وسلم تسليماً يسمعنا ).

وقد أختلفت الأَحاديث ولا سيما الأًحاديث عن عائشة رضي الله عنها في عدد الوتر وفي صحيح مسلم عنها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في الليل ثلاث عشرة يوتر من ذلك بخمس ) ، وروي أَبو داوود : ( لم يكن يوتر بأكثر من ثلاث(١) عشرة ) ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ووجه الإختلاف فيها بحسب إختلاف أحواله صلى الله عليه وآله وسلم من إتساع الوقت أَو ضيقه بحسب طول القراءة كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود. أو عذره بمرض أو غيره ، أو في بعض الأَوقات عند كبر السن كما روته ورواه أيضاً خالد بن زيد.

أَو وجه الثلاثة عشرة أَنّها عدّت معها(٢) ركعتي الفجر ، كما بيّن أَبو داود ذلك في رواية له عنها.

____________________

(١) في الأصل : ثلاثة.

(٢) في الأصل : معه.

٢٧٠

( الحديث الثامن ) : ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (١) (٢) بالتخفيف. فأخرج البخاري في التفسير عن ابن أبي مليكة : قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (٣) خفيفة ذهب بها هنالك ، وتلا : ] حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [(٤) فلقيت عروة بن الزبير فذكرت له ذلك ، فقال : ( قالت عائشة : معاذ الله ، والله ما وعد الله ورسوله في شيء قط إِلا علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أَن يكون من معهم يكذّبونهم فكانت تقرؤها ( كُذِّبوا ) مثقلة.

تعقيب في استدراك عائشة على ابن عباس

لا شك أنّ عائشة كانت جريئة في نقدها لمن لا يوافقها ، صريحة في آرائها النقدية ، فهي لمكانتها الإجتماعية وكونها إحدى أمّهات المؤمنين ، فقد كان يُرعى ويُحسب لها عند السلطة القائمة ما يميزها عن غيرها من أمهات المؤمنين ، بعدما برزت في المجتمع تقود المعارضة ضدّ الإمام عليه السلام

____________________

(١) يوسف / ١١٠.

(٢) هنا شطب المؤلف علَى ما يلي :

قاله أبو الفرج ابن الجوزي : ففي البخاري : قالت عائشة رضي الله عنها : ( لم ينزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم ) وكانت تقرؤها مثقلة ، وتلا :( مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) البقرة / ٢١٤ ، فقالت : ( معاذ الله ، ما وعد الله رسوله من شيء قط إِلا على علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم ينزل ).

(٣) يوسف / ١١٠.

(٤) البقرة / ٢١٤.

٢٧١

في حرب الجمل ، وأخذت تزداد في التنمر له ولمن يشايعه ويتابعه ، وساعدها على ذلك معاوية وبنو أمية ، فصارت مرجعاً في الحديث حتى فاقت بمروياتها جميع ما رواه أبوها وبقية الخلفاء وجميع أمهات المؤمنين ، وقد مرَّ في الجزء الأوّل ما يتعلق بها ، وصار من المتعيّن على من شايعها أن يجمع لها من بين ذلك الكم الهائل من أحاديثها ما يرفع من شأنها ، سواء صح أم لم يصح ، كما فعل الزركشي في كتابه ( الإجابة ) وقد مرّت بنا صفحات من كتابه ممّا يتعلق بابن عباس فكان نصيبه فيها ثمانية أحاديث مهلهلة سنداً ومتناً! لا يَسلم منها واحد من مشكلة سندية ، كما لا نجد واحداً منها منسجماً مع معنى الإستدراك ، لو أنصف المنصفون ، ولنستعرضها واحداً بعد واحد ، وإن كنّا قد ذكرنا الحديث الأوّل منها في الحلقة الأولى في الجزء الثالث فنستعيده لضمه مع ما تلاه من روايات ، لنرى مكان الصدق عند الزركشي فيما رآه فرواه.

( حديث واحد خير من ألف شاهد ) :

شاهد واحد ردّت فيه عائشة فتيا فقهية لابن عباس بإصرار وعناد لغرض سياسي أكثر منه لبيان حكم شرعي! وتلك الفتيا فيمن أقام وأرسل الهدي تطوّعاً إلى الحرم ، هل عليه أن يجتنب عمّا يجتنبه المحرم كما هو رأي ابن عباس؟ أو لا يجب كما هو رأي عائشة؟

ورُوي عنها في ذلك عدّة أحاديث نافت على العشرة متفاوتة سنداً ومتناً ، حتى ليخيّل لناظرها أنّها في وقائع متعددة ، مع أنّ الأصل فيها واقعة

٢٧٢

واحدة ـ كما سيأتي بيانه ـ والأحاديث التي رويت عنها ونافت على العشرة ، روى بعضها مالك وعنه البخاري أيضاً ، كما روى بعضها الآخر هو ومسلم وبقية أصحاب السنن والمسانيد ، ومدار الجميع على الرواة عن عائشة ، وجميعهم من حامّتها وخاصّتها كعروة ابن أختها ، والقاسم ابن أخيها ، وعمرة بنت عبد الرحمن ربيبتها ، وهؤلاء الثلاثـة جعلهم ابن عيـيـنة أعلم الناس بحديث عائشة(١) ! ثمّ رواية أبي قلابة ، وهو عبد الله بن يزيد الجرمي(٢) ، ورواية الأسود بن يزيد النخعي ، ومسروق بن الأجدع من المختصّين بها(٣) ، ولهؤلاء جميعاً مقام مرموق عند حكام الأمويين ، أضف إليهم ابن شهاب الزهري فهو من صنائعهم!

والآن إلى صور الحديث الذي أشرنا إليه نقلاً عن المصادر الثلاث الأولى :

١ ـ ( الموطأ لمالك بشرح تنوير الحوالك ) للسيوطي : ( حدثني يحيى ،

____________________

(١) اسعاف المبطأ / ٢١.

(٢) كان ديوانه بالشام ومات بداريا سنة ١٠٤ ـ ١٠٥ ، وحسبك بذلك تعريفاً. راجع المعارف / ٤٤٦ ـ ٤٤٧. وفي تهذيب ابن حجر ٦ / ٨٠ ط الهند ( عبد الله بن يزيد رضيع عائشة بصري ، وعنه ( كنيته ظ ) أبو قلابة الجرمي ) وهذا له في الصحاح عدا البخاري.

(٣) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ١ / ٢٦٩ وروى أبو نعيم عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق قال : ثلاثة لا يؤمنون على عليّ بن أبي طالب : مسروق ومرة وشريح وروي ان الشعبي رابعهم ـ وقال : روى سلمة بن كهيل انهما ـ الأسود بن يزيد ومسروق بن الاجدع ـ كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقعان في عليّ عليه السلام فأما الاسود فمات على ذلك ، وأمّا مسروقً فلم يمت حتى كان لا يصلي لله تعالى صلاة إلاّ صلّى بعدها على عليّ ابن أبي طالب عليه السلام لحديث سمعه من عائشة في فضله. فيا ترى من هي التي كانا يمشيان إليها فيقعان في علي عليه السلام غير عائشة؟

٢٧٣

عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمّد ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن ، : أنّها أخبرته : أنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : أنّ عبد الله بن عباس ، قال : من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر الهديَ ، وقد بعثت بهديي فاكتبي إليّ بأمركِ ، أو مري صاحب الهدي.

قالت عَمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلتُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدَيّ ، ثمّ قلدَها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثمّ بعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحلّه الله له حتى نُحِرَ الهدي )(١) .

٢ ـ صحيح البخاري : ( حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن عبد الله ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن : أنّها أخبرته : أنّ زياد ابن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها : أنّ عبد الله بن عباس رضي الله عنها قال : من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر هديُه. قالت عَمرة : فقالت عائشة رضي الله عنها : ليس كما قال ابن عباس رضي الله عنه ، فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديّ ثمّ قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثمّ بعث بها مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحله الله حتى نُحر الهديَ )(٢) .

٣ ـ صحيح البخاري : ( حدثنا اسماعيل بن عبد الله ، قال : حدثني مالك ،

____________________

(١) الموطأ ١ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ط مصطفى محمّد بمصر.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من قلد القلائد بيده ٢ / ١٦٩ط بولاق.

٢٧٤

عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن : أنّها أخبرته : قالت عائشة رضي الله عنها : أنا فتلتُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديّ ، ثمّ قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديه ، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحلّه الله له حتى نُحر الهدي )(١) .

٤ ـ صحيح مسلم : ( حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن : أنّها أخبرته : أنّ ابن زياد كتب إلى عائشة أنّ عبد الله بن عباس ، قال : من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمركِ ، قالت عَمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي ثمّ قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي )(٢) .

هذه هي صور الحديث الواحد ، وأصله عند مالك في ( الموطأ ) ، ورواه الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ عنه ، فليقارن القارئ بين هذه الصور ليعلم مدى الأمانة في النقل! فمن تزيّد ومن تغيير ومن نقصان. لماذا ذلك؟

ومن أجل أن تبقى تلك الرموز ـ صحاحاً ورجالاً ـ في البروج العاجية ، استبسل علماء التبرير في سدّ بعض الفجوات ، إلاّ أنّهم لم يوفّقوا تماماً. وقد أخترت طائفة من أقوالهم من خلال شروحهم لتلك الصحاح.

____________________

(١) نفس المصدر ، كتاب الوكالة ، باب الوكالة في البدن وتعاهدها ٣ / ١٠٢.

(٢) صحيح مسلم ( كتاب الحج ) باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم ١ / ٣٧٢ ح ١١ ط بولاق.

٢٧٥

فمن شروح الموطأ : ( المنتقى ) لأبي الوليد الباجي ، وشرح الزرقاني ، و ( تنوير الحوالك ) للسيوطي.

ومن شروح البخاري : ( فتح الباري ) لابن حجر ، و ( إرشاد الساري ) للقسطلاني ، و ( الكواكب الدراري ) للكرماني ، و ( كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري ) للشنقيطي الجكني.

ومن شروح مسلم : شرح النووي ، و ( إكمال إكمال المعلم ) للآبي ، و ( مكمل إكمال إكمال المعلم ) للسنوسي.

إلى غير ذلك كسنن البيهقي ، ومصنف ابن أبي شيبة ، وتكملة المنهل المورود بشرح سنن أبي داود.

فماذا قال علماء التبرير؟

١ ـ قال ابن حجر في ( فتح الباري ) :

( ( تنبيه ) وقع عند مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك في هذا الحديث : أنّ ابن زياد بدل قوله : أنّ زياد بن أبي سفيان ، وهو وهم نبّه عليه الغساني ومن تبعه )(١) .

٢ ـ قال النووي في ( شرح صحيح مسلم ) :

( إنّ ابن زياد كتب إلى عائشة هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم أنّ ابن زياد ، قال أبو علي الغساني والمازري والقاضي وجميع

____________________

(١) فتح الباري ٤ / ٢٩٣ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨ هـ.

٢٧٦

المتكلمين على صحيح مسلم : هذا غلط وصوابه : أنّ زياد بن أبي سفيان ، وهو المعروف بزياد بن أبيه ، وهكذا وقع على الصواب في صحيح البخاري والموطأ وسنن أبي داود وغيرها من الكتب المعتمدة ، ولأنّ ابن زياد لم يدرك عائشة والله أعلم )(١) .

ونحن نقول له : فأين قوله : اتفق العلماء رحمهم الله على أنّ اصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم؟! وتلقتهما الأمّة بالقبول؟! وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة؟!(٢) .

ولا ضيرَ حتى ولو لم يروه أولئكم ، فإنّ البخاري وحده يكفيهم ، لأنّ كتابه عندهم أصح وأكثر فوائد! وإن تزيّد في النقل فمنح الترضّي حسب الهواية والمشتهاية ، وإن تنقّص فحذف في روايته في الوكالة بعض ما ذكره في روايته في كتاب الحج ـ فقارن ـ وفي المقامين حذف من رواية المصدر جملة ( أو مري صاحب الهدي ) ، فهكذا هي الأمانة في النقل (؟!). ولعلّ هذا من الفوائد والمعارف الغامضة.

ومهما يكن فنحن لا يهمنا غلط مسلم في ذكره ابن زياد بدل أبيه ، فكلاهما دعيّ وفي النُصب سواء ، والإعتذار بأنّ ابن زياد لم يدرك عائشة ، إعتذارٌ واه فقد أدركها ، لأنّها ماتت سنة ( ٥٦ هـ أو ٥٧ هـ أو ٥٨ هـ ) كما في

____________________

(١) صحيح مسلم ٩ / ٧٢ ط مصر.

(٢) أنظر مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي ١ / ١٤.

٢٧٧

تاريخ اليعقوبي(١) ، وابن زياد ولاه معاوية خراسان بعد وفاة أبيه زياد سنة ٥٤ هـ ، وليس بالضرورة أن يكون سؤاله لها أيام ولايته البصرة ، فيمكن أنّه سألها أيام أبيه. وإنّما الذي يهمنا هو تنبيه القارئ إلى أنّ المرجعية الرسمية للأحكام الشرعية يومئذ هي عائشة دون باقي أمهات المؤمنين وبقية فقهاء الصحابة والتابعين! ولذلك قلنا استبسل شرّاح الصحيح في سدّ الثغرات ، وزاد بعضهم فضاعف جهده لإثبات صحة رأي عائشة وتفنيد رأي ابن عباس حتى ولو كان رأيه موافقاً لرأي عمر ورأي عليّ وآراء آخرين من صحابة وتابعين ، بل تصاعدت حمّى الزهري ـ وهو من فقهاء البلاط الأموي ـ فجعل لها المنّة على المسلمين حيث كشفت لهم ما أستغلق عليهم فهمه كما سيأتي.

٣ ـ قال ابن التين :

( خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء ، واحتجت عائشة بفعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه ، ولعلّ ابن عباس رجع عنه ، انتهى )(٢) .

ولفجاجة هذا الرأي وسماجة هذا القول تعقبه ابن حجر بقوله : ( وفيه قصور شديد ، فإنّ ابن عباس لم ينفرد بذلك ، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة : منهم ابن عمر : رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب ، وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما عن نافع عن ابن عمر كان إذا بعث

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٢.

(٢) فتح الباري ٤ / ٢٩٤ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨.

٢٧٨

بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم إلاّ أنّه لا يلبي(١) .

ومنهم قيس بن سعد بن عبادة : أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد ابن المسيب عنه نحو ذلك(٢) .

وروى ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن علي بن الحسين عن عمر وعليّ أنّهما قالا في الرجل يرسل ببدنته : أنّه يمسك عما يمسك عنه المحرم(٣) . وهذا منقطع )(٤) .

٤ ـ قال ابن المنذر :

( قال عمر وعليّ وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون : من أرسل الهدي وأقام حَرُمَ عليه ما يحرم على المحرم.

وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون : لا يصير بذلك محرماً ، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار )(٥) (؟).

٥ ـ قال ابن حجر :

( ومن حجة الأولين ما رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه ، قال : كنت جالساً عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقدّ قميصه من جيبه حتى

____________________

(١) أنظر المصنف لابن أبي شيبة ٤ ق١ / ٨٨ ط باكستان ادارة القرآن والعلوم الإسلامية.

(٢) فتح الباري ٤ / ٢٩٤ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨ هـ.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) نفس المصدر.

٢٧٩

أخرجه من رجليه ، وقال : إنّي أمرت ببُدني التي بعثت أن تقلّد اليوم وتشعر على مكان كذا ، فلبست قميصي ونسيت ، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. الحديث ، وهذا لا حجة فيه لضعف اسناده ، إلاّ أنّ نسبة ابن عباس إلى التفرد بذلك خطأ )(١) .

٦ ـ وقال أيضاً :

( وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنّه لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم إلاّ الجماع ليلة جمع. رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح )(٢) .

٧ ـ وقال أيضاً :

( نعم جاء عن الزهري ما يدلّ على أنّ الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عباس ، ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه ، وأخرجه البيهقي من طريقه ، قال : أوّل من كشف العمى عن الناس وبيّن لهم السنّة في ذلك عائشة ، فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها. قال : فلمّا بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس(٣) (٤) .

٨ ـ وقال أيضاً :

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) سنن البيهقي ٥ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ فراجع ستجد الدفاع باندفاع عن رأي عائشة.

(٤) فتح الباري ٤ / ٢٩٤.

أخرجه الهميثي في مجمع الزوائد ٣ / ٢٢٧ ط القدسي وقال رواه أحمد والبزار باختصار ورجال أحمد ثقات.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496