موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93325 / تحميل: 4734
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

صار يمتد على وجه الأرض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه فترى الأصل من القرع(١) والبطيخ مفترشا للأرض وثماره مبثوثة عليها وحواليه كأنه هرة ممتدة وقد اكتنفتها جراؤها(٢) لترضع منها.

( موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها)

وانظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارة(٣) الصيف ووقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح وتشوق إليها ولو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها واقشعرارا(٤) منها مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان ألا ترى أنه ربما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره ويسقم معدته.

__________________

(١) القرع - بالفتح - نوع من اليقطين، الواحدة قرعة.

(٢) في الأصل المطبوع « اجزاؤها » وهذا تصحيف شنيع، والجراء جمع جرو - بتثليث الجيم - صغير كل شيء حتّى الرمان والبطّيخ وغلب على الكلب والأسد، والمراد هنا بالجراء أولاد الهرة.

(٣) الحمارة: شدة الحرّ والجمع حمّار.

(٤) اقشعر: تغير لونه.

١٦١

( في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك)

فكر يا مفضل في النخل فإنه لما صار فيه إناث تحتاج إلى التلقيح جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل وهو لا يحمل تأمل خلقة الجذع كيف هو فإنك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى وأخرى معه معترضة كاللحمة(١) كنحو ما ينسج بالأيدي وذلك ليشتد ويصلب ولا يتقصف من حمل القنوات(٢) الثقيلة وهز الرياح العواصف إذا صار نخلة وليتهيأ للسقوف والجسور وغير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا.

وكذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضه بعضا طولا وعرضا كتداخل أجزاء اللحم وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا(٣) كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرة والتوابيت وما أشبه ذلك ومن جسيم المصالح في الخشب أنه

__________________

(١) اللحمة - بالضم - ما سدي به بين سدى الثوب أي ما نسج عرضا وهو خلاف سواه والجمع لحم.

(٢) في الأصل المطبوع - قنوان - ولا معنى لها هنا والقنوات جمع قناة وهي العسا الغليظة، وقد أراد بها الإمامعليه‌السلام هنا هي سعف النخل الغليظة.

(٣) أراد بالمستحصف: الشديد المحكم كانه الحجارة.

١٦٢

يطفو على الماء فكل الناس يعرف هذا منه وليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه فلو لا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن والأظراف(١) تحمل أمثال الجبال من الحمولة وأنى كان ينال الناس هذا الرفق وخفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد وكانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسر وجوده.

( العقاقير واختصاص كل منها)

فكر في هذه العقاقير وما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج(٢) وهذا ينزف المرة السوداء(٣) مثل الأفتيمون(٤) وهذا

__________________

(١) كذا في النسخ، والظرف لا يجمع على لفظ اظراف وانما يقال للجمع ظروف.

(٢) جاء في تذكرة الانطاكى: شيطرج هندي هو الخامشة وهو نبت يوجد بالقبور الخراب له ورق عريض ودقيق ينتثر أعلاه إذا برد الجو وزهره أحمر إلى بياض، يخلف بزر أسود أصغر من الخردل ورائحته ثقيلة حادة وطعمه الى مرارة.

(٣) المرة السوداء: خلط من أخلاط البدن والجمع مرار.

(٤) افتيمون لفظ يوناني معناه دواء الجنون وهو نبات له أصل كالجزر شديد الحمرة وفروع كالخيوط الليفية تحف باوراق دقاق خضر وزهره الى حمرة وغيرة وبزر دون الخردل أحمر إلى صفرة يلتف بما يليه.

١٦٣

ينفي الرياح مثل السكبينج(١) وهذا يحلل الأورام وأشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة ومن فطن الناس لها إلا من جعل هذا فيها ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق - كما قال القائلون وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم وأشباه هذا كثير ولعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا أنس ولا أنيس فتظن أنه فضل لا حاجة إليه وليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش وحبه علف للطير وعوده وأفنانه حطب فيستعمله الناس وفيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان وأخرى تدبغ بها الجلود وأخرى تصبغ الأمتعة وأشباه هذا من المصالح ألست تعلم أن من أخس النبات وأحقره هذا البردي وما أشبهها ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة والحصر التي يستعملها كل صنف من الناس ويعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني ويجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب وتنكسر وأشباه هذا من المنافع

فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره وبما له قيمة

__________________

(١) سكبينج او سكنبيج هو شجرة بفارس، ويورد الاطباء الاقدمون اوصافا طبية كثيرة من السكنبيج ويذكرون انه يذهب عدة أمراض لا مجال لذكرها هنا.

١٦٤

وما لا قيمة له وأخس من هذا وأحقره الزبل والعذرة التي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة معا وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء حتى أن كل شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلا بالزبل والسماد الذي يستقذره الناس ويكرهون الدنو منه.

واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

قال المفضل: وحان وقت الزوال، فقام مولاي إلى الصلاة وقال بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجا بما آتانيه حامدا لله على ما منحنيه فبت ليلتي مسروراً.

١٦٥

المجلس الرابع

قال المفضل: فلما كان اليوم الرابع بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي، فأمرني بالجلوس فجلست، فقالعليه‌السلام : منا التحميد والتسبيح والتعظيم والتقديس، للاسم الأقدم، والنور الأعظم، العلي العلام،ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ، ومنشئ الأنام، ومفني العوالم والدهور، وصاحب السر المستور، والغيب المحظور، والاسم المخزون، والعلم المكنون، وصلواته وبركاته على مبلغ وحيه، ومؤدي رسالته، الذي بعثهبَشِيراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ ،وَسِراجاً مُنِيراً ،لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، فعليه وعلى آله من بارئه الصلوات الطيبات، والتحيات الزاكيات الناميات، وعليه وعليهم السلام والرحمة والبركات في الماضين والغابرين، أبد الآبدين ودهر الداهرين، وهم أهله ومستحقوه.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق، والشواهد على صواب التدبير والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك. ما فيه عبرة لمن اعتبر، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير، وما أنكرت المعطلة والمنانية من المكاره والمصائب، وما

١٦٦

أنكروه من الموت والفناء، وما قاله أصحاب الطبائع، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق، ليتسع ذلك القول في الرد عليهمقاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .

( الآفات ونظر الجهال إليها والجواب على ذلك)

اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد(١) والجراد ذريعة إلى جحود الخالق والتدبير والخلق فيقال في جواب ذلك أنه إن لم يكن خالق ومدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا وأفظع فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوي الأرض فتذهب سفلا وتتخلف الشمس عن الطلوع أصلا وتجف الأنهار والعيون حتى لا يوجد ماء للشفة وتركد الريح حتى تخم الأشياء وتفسد ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتد حتى تجتاح كل ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثم لا تلبث أن ترفع أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره ويلذع(٢) أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف

__________________

(١) ذهب ذكر اليرقان والبرد سابقا.

(٢) يقال لذعته النار اي احرقته ولذعه بلسانه اي اوجعه بكلام. وفي بعض النسخ باهمال الأول واعجام الثاني من لدغ العقرب.

١٦٧

عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة وقد أنكرت المنانية من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة والقائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر ولو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشر(١) والعتو(٢) إلى ما لا يصلح في دين ولا دنيا كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون إليه حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر وأنه مربوب أو أن ضررا يمسه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنن على ضعيف أو يتعطف على مكروب فإذا عضته المكاره ووجد مضضها اتعظ وأبصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه.

والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة ويتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة ويتكرهون الأدب والعمل ويحبون أن يتفرغوا للهو والبطالة وينالوا كل مطعم ومشرب ولا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام وما لهم في الأدب من الصلاح وفي الأدوية من المنفعة وإن شاب ذلك بعض الكراهة،

__________________

(١) الاشر: البطر.

(٢) العتو - بالضم - الاستكبار وتجاوز الحد.

١٦٨

فإن قالوا: فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوي، حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره قيل: إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها، ولا مستحقا للثواب عليها. فإن قالوا: وما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب، بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم: اعرضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل، أن يجلس منعما، ويكفى كلما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي والحركة أشد اغتباطا وسرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة، فإن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا وجعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق فيكمل له السرور والاغتباط بما يناله منه فإن قالوا: أوليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير، وإن كان لا يستحقه، فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة؟ قيل لهم: إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب(١) والضراوة على الفواحش، وانتهاك المحارم، فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه

__________________

(١) في الأصل المطبوع الكلبة. ولا معنى للفظ هنا، والصحيح ما ذكرناه اذ الكلب - بفتحتين - هو داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعض الناس فتكلب الناس أيضا إذا تمنعوا عن استعمال لقاح الطبيب الفرنسي المعروف باستور.

١٦٩

صائر إلى النعيم لا محالة أو من كان يأمن على نفسه وأهله وماله من الناس لو لم يخف الحساب والعقاب فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل والحكمة معا وموضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب ووضع الأمور في غير مواضعها.

( لما ذا تصيب الآفات جميع الناس وما الحجة في ذلك)

وقد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر والفاجر أو يبتلى بها البر ويسلم الفاجر منها فقالوا كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم وما الحجة فيه فيقال لهم إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح والطالح جميعا فإن الله عز وجل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما أما الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر وأما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش وكذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في ذلك أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر والصلاح ويزدادون فيه رغبة وبصيرة وأما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم وتطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس والصفح عمن أساء إليهم ولعل قائلا يقول إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق والغرق والسيل والخسف؟ فيقال له إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا للصنفين جميعا أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة

١٧٠

من تكاليفها والنجاة من مكارهها وأما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم وحبسهم عن الازدياد منها وجملة القول أن الخالق تعالى ذكره بحكمته وقدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير والمنفعة فكما أنه إذا قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق واستعملها في ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم وأموالهم فيصيرها جميعا إلى الخير والمنفعة فإن قال ولم تحدث على الناس قيل له: لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي ويفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض والدعة وهذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم وتنبههم على ما فيه رشدهم فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان والمعصية كما غلا الناس في أول الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان وتطهير الأرض منهم.

( الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

ومما ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير الموت والفناء فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا مبرءين من هذه الآفات فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله.

أفرأيت لو كان كل من دخل العالم ويدخله يبقون ولا يموت أحد منهم ألم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن والمزارع والمعايش فإنهم والموت يفنيهم أولا فأولا يتنافسون في المساكن

١٧١

والمزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب وتسفك فيهم الدماء فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون ولا يموتون وكان يغلب عليهم الحرص والشره وقساوة القلوب فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله ولا أفرج لأحد عن شيء يسأله ولا سلا عن شيء مما يحدث عليه ثم كانوا يملون الحياة وكل شيء من أمور الدنيا كما قد يمل الحياة من طال عمره حتى يتمنى الموت والراحة من الدنيا فإن قالوا: إنه كان ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتى لا يتمنوا الموت ولا يشتاقوا إليه فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو والأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا والدين وإن قالوا إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن والمعايش قيل لهم إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله تعالى ومواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن(١) واحد لا يتوالدون ولا يتناسلون فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق ويخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعايش عنهم ثم لو كانوا لا يتوالدون ولا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات وذوي الأرحام والانتصار بهم عند الشدائد وموضع تربية الأولاد والسرور بهم ففي هذا دليل على أن كل ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ وسفه من الرأي والقول.

__________________

(١) المراد بالقرن هنا أهل زمان واحد والجمع قرون.

١٧٢

( الطعن على التدبير من جهة أخرى والجواب عليه)

ولعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير ونحن نرى الناس في هذه الدنيا من عز بز فالقوي يظلم ويغصب والضعيف يظلم ويسالم الخسف والصالح فقير مبتلى والفاسق معافى موسع عليه ومن ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم فكان الصالح هو المرزوق والطالح هو المحروم وكان القوي يمنع من ظلم الضعيف والمنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة فيقال في جواب ذلك إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق وحمل النفس على البر والعمل الصالح احتسابا للثواب وثقة بما وعد الله عنه ولصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا والعلف ويلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم ثم لا يعرف ما غاب ولا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا وكان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة في هذه الدنيا ويكون الممتنع من الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه شيء من اليقين بما عند الله ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من

١٧٣

الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية على خلاف قياسه، بل قد تجري على ذلك أحيانا والأمر المفهوم.

فقد ترى كثيرا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون، والأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح وترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم كما عوجل فرعون(١) بالغرق وبختنصر(٢) بالتيه وبلبيس(٣) بالقتل وإن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة وأخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ولا يبطل تدبيرهم بل يكون تأخيرهم ما أخروه وتعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي والتدبير وإذا كانت

__________________

(١) قصة غرق فرعون في البحر معروفة في الكتب المقدّسة، والقرآن الكريم يشير إليها في أكثر من موضع واحد.

(٢) او نبوخدنصر كان أعظم ملوك الكلدانيين، وملك في بابل من سنة ٦٠٤ الى سنة ٥٦١ ق م وقد وصف بالقوة والبأس وعد من أبطال التاريخ في الشرق، وجاء ذكره في التوراة كثيرا لأنّه عاقب الأمم الغربية عقابا شديدا، وهاجم اليهود - سكان مملكة يهوذا الصغيرة - هجوما صاعقا بعد ان أجلى أكثرهم الى بابل ودمر عاصمتهم اورشليم تدميرا شديدا.

(٣) بلبيس كذا في الأصل وهو غير معروف عند المؤرخين، ولم نجده فيما بين ايدينا من الكتب.

١٧٤

الشواهد تشهد وقياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز وإما جهل وإما شرارة وكل هذا محال في صنعته عز وجل وتعالى ذكره وذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة والجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب والحكمة والشرير لا يتطاول لخلقها وإنشائها وإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة وإن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير ومخارجه فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة ولا تعرف أسبابه لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك وأسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب والشاهد المحنة ولو شككت في بعض الأدوية والأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد ألم تكن ستقضي عليه بذلك وتنفي الشك فيه عن نفسك فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق والتدبير مع هذه الشواهد الكثيرة وأكثر منها ما لا يحصى كثرة ولو كان نصف العالم وما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي وسمت(١) الأدب أن يقضى على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر وما يظهر فيه من الصواب وإتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية فكيف وكل ما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شيء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح وأصوب منه.

__________________

(١) السمت - بالفتح - الطريق والمحجة والجمع سموت.

١٧٥

( اسم هذا العالم بلسان اليونانية)

واعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس وتفسيره الزينة وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة أفكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير والنظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا ونظاما حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب والإتقان على غاية الحسن والبهاء.

( عمي ماني عن دلائل الحكمة وادعاؤه علم الأسرار)

اعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطإ وهم يرون الطبيب يخطئ ويقضون على العالم بالإهمال ولا يرون شيئا منه مهملا بل اعجب من أخلاق من ادعى الحكمة حتى جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل وعلا بل العجب من المخذول ماني حين ادعى علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطإ ونسب خالقه إلى الجهل تبارك الحكيم الكريم.

( انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل)

وأعجب منهم جميعا المعطلة الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود والتكذيب فقالوا ولم لا يدرك بالعقل قيل لأنه فوق مرتبة العقل كما لا يدرك البصر ما هو

١٧٦

فوق مرتبته فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به فليس هذا العلم من قبل البصر بل من قبل العقل لأن العقل هو الذي يميزه فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه أفلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه ولكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسا ولم يعاينها ولم يدركها بحاسة من الحواس.

( معرفة العقل للخالق معرفة إقرار لا معرفة إحاطة)

وعلى حسب هذا أيضا نقول إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته فإن قالوا فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به قيل لهم إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أطويل هو أم قصير وأبيض هو أم أسمر وإنما يكلفهم الإذعان لسلطانه والانتهاء إلى أمره ألا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك فقال اعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك وإلا لم أسمع لك كان قد أحل نفسه بالعقوبة فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرضا لسخطه فإن قالوا أوليس قد نصفه فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم كل هذه صفات إقرار وليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه وكذلك

١٧٧

قدير وجواد وسائر صفاته كما قد نرى السماء فلا ندري ما جوهرها ونرى البحر ولا ندري أين منتهاه بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له ولأن الأمثال كلها تقصر عنه ولكنها تقود العقل إلى معرفته فإن قالوا ولم يختلف فيه قيل لهم لقصر الأوهام عن مدى عظمته وتعديها أقدارها في طلب معرفته وأنها تروم الإحاطة به وهي تعجز عن ذلك وما دونه.

( الشمس واختلاف الفلاسفة في وضعها وشكلها ومقدارها)

فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة أمرها ولذلك كثرت الأقاويل فيها، واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها، فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء ناراً، له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع وقال آخرون هو سحابة وقال آخرون هو جسم زجاجي، يقل نارية في العالم، ويرسل عليه شعاعها وقال آخرون هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر وقال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار وقال آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة ثم اختلفوا في شكلها فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة وقال آخرون هي كالكرة المدحرجة وكذلك اختلفوا في مقدارها فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء وقال آخرون بل هي أقل من ذلك وقال آخرون بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة وقال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة وسبعين مرة ففي اختلاف

١٧٨

هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر ويدركها الحس قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها فكيف ما لطف عن الحس واستتر عن الوهم فإن قالوا ولم استتر قيل لهم لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب من الناس بالأبواب والستور وإنما معنى قولنا استتر أنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام كما لطفت النفس وهي خلق من خلقه وارتفعت عن إدراكها بالنظر فإن قالوا ولم لطف تعالى عن ذلك علوا كبيرا كان ذلك خطأ من القول لأنه لا يليق بالذي هو( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إلا أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء سبحانه وتعالى.

( الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء أربعة أوجه وتفصيل ذلك)

فإن قالوا: كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء؟ قيل لهم: الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه فأولها أن ينظر أموجود هو أم ليس بموجود والثاني أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره والثالث أن يعرف كيف هو وما صفته والرابع أن يعلم لما ذا هو ولأي علة فليس من هذه الوجوه شيء يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته غير أنه موجود فقط فإذا قلنا وكيف وما هو فممتنع علم كنهه وكمال المعرفة به وأما لما ذا هو فساقط في صفة الخالق لأنه جل ثناؤه علة كل شيء وليس شيء بعلة له ثم ليس

١٧٩

علم الإنسان بأنه موجود يوجب له أن يعلم ما هو وكيف هو كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي وكيف هي وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم قيل لهم هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهده ومستور بذاته.

( أصحاب الطبائع ومناقشة أقوالهم)

فأما ( أصحاب الطبائع ) فقالوا إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا تتجاوز عما فيه تمام الشيء في طبيعته وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك فقيل لهم فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه في صفات الخالق وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق وكان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف والعادة كإنسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

أَعرفه ، لم أكتب عنه شيئاً. وجابر المذكور في مسنده أَظنه الجعفي ، وقد قال البيهقي في موضع : لا يحتج به. وقال الدارقطني : متروك.

وقد روى هذه القصة عن سفيان الثوري من لا نسبة بينه وبين العدني حفظاً وجلالة وهو عبد الرحمن بن مهدي ولم يذكر فيه عبد الملك. قال ابن أبي شيبة في مصنفه : قال ابن مهدي : ثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي الضحى : أنّ ابن عباس وقع في عينه الماء فقيل له : ( تستلقي سبعاً ولا تصلي إلاّ مستلقياً ) ، فبعث إِلى عائشة وأم سلمة يسألهما فنهتاه.

وأَخرج الحاكم في المناقب من جهة أبي معاوية : ثنا الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، قال : لمّا كف بصر ابن عباس أتاه رجل فقال له : ( إنّك إِن صبرت لي سبعاً لم تصل إلاّ مستلقياً تومي إِيماءً داويتك [و] برأت إِن شاء الله ، فأرسل إِلى عائشة وأَبي هريرة وغيرهما من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم )(١) .

( الحديث الرابع ) : قال الطبراني في معجمه الوسط : حدثنا علي بن سعيد الرازي ، ثنا الهيثم بن مروان الدمشقي ، ثنا يزيد بن يحيى بن عبيد ، ثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة : حدثني عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ، ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : ( يا بن عباس ما هاتان الركعتان )؟ فقال : ( بدعة

____________________

(١) تتمة الرواية : وكل يقول ( أرأيت إن مت في هذا السبع كيف تصنع بالصلاة )؟ فترك عينه ولم يداوها. عن المستدرك للحاكم ٣ / ٥٤٦ طبع الهند.

٢٦١

وصاحبها صاحب بدعة ) ، فلما انفتل قال : ( ما قلتما )؟ قال : ( قلنا : كيت وكيت ) ، قال : ( ما ابتدعت ولكن حدثتني خالتي عائشة ) ، فأرسل معاوية إلى عائشة ، فقالت : ( صدق ، حدثتتني أم سلمة ) ، فأرسل إلى أُم سلمة : ( أنّ عائشة حدثتنا عنك بكذا ) ، فقالت : ( صدقت ، أَتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فصلى بعد العصر فقمت وراءه فصليت ، فلما انفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت فصليت معك. فقال : إِنّ عاملاً لي على الصدقات قدم علي فجمعت(١) عليه؟ )؟

وفي الصحيحين : عن كريب مولى ابن عباس : أنّ عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوه إِلى عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : ( اقرأ عليها السلام منّا جميعاً ، وسلها عن الركعتين بعد العصر ، وقل : إِنّا أخبرنا أنّك تصلينها ، وقد بلغنا أَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ) ، قال ابن عباس : ( وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنها ) ، قال كريب : فدخلت عليها وبلغتها ، فقالت : ( سل أم سلمة ) ، فذكر نحو ما

____________________

(١) كذا في الأصل وقد رجعنا إلى جميع المظان ووجدنا أحاديث كثيرة في شأن الركعتين بعد العصر ، في مسند أحمد أكثر من عشرة مواضيع وفي البخاري مثلاً في الكتاب ٦٤ الباب ٩٦ وفي مسلم وغيرهما وليس في الظاهرية والمكتبات التي في دمشق نسخة عن المعجم الأوسط فنصحح عنها ، ومن حديث مسند أحمد ج٦ الباب ٦٩ : ( ركعتان كنت أركعهما بعد الظهر فشغلني قسم هذا المال حتى جائني المؤذن بالعصر فكرهت أن أدعمها ) ثم وجدت مسند ابن عباس في المجلد الثالث من المعجم الكبير للطبراني ( مخطوط في الظاهرية رقم ٢٨٣ ـ حديث ) فسردته كله متحرباً فلم أجد عبد الله بن الحارث يروي عن ابن عباس إلا عشرة أحاديث ليس حديثنا هذا بينها.

٢٦٢

سبق إِلى أنّه قال : إِنّه أَتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان.

وأخرج الترمذي من جهة عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ( إنّما صلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الركعتين بعد العصر لأَنّه أَتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر ثم لم يعد لهما ) ، وقال : حديث حسن. ويعارضها في الصحيحين عن عروة : قالت عائشة : ( يا ابن أُختي ما ترك النبيّ السجدتين(١) بعد العصر عندي قط ).

( الحديث الخامس ) : أخرجه أَبو داوود ، وابن ماجة في سننهما من طريق يزيد بن أَبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أَثواب نجرانية ، الحلة ثوبان ، وقميصه الذي مات فيه ).

قال الذهبي في مختصر سنن البيهقي : ( يزيد فيه لين ، ومقسم صدوق ضعفه ابن حزم ). ا هـ. أَعله المنذري بيزيد ، قال : وقد أَخرج له مسلم في المتابعات ، وقال غير واحد من الأئمة : إِنّه لا يحتج بحديثه. قلت : وقد خالفه ابن أَبي ليلى. فأخرج البيهقي في سننه من جهة قبيصة : ثنا سفيان ، عن أَبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثوبين أَبيضين وبرد حِبَرة ) ، قال البيهقي : ( كذا رواه محمد بن عبد

____________________

(١) البخاري ١ / ٧٦ باب من لم يكره الصلاة إِلا بعد العصر والفجر وفي تيسير الوصول ٣ / ٢٩٥ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتيني في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين ) وفي رواية : ( ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط ) أخرجه الخمسة إلا الترمذي.

٢٦٣

الرحمن بن أَبي ليل ). قال الذهبي : ( وليس بقوي ) ، وقد روت عائشة رضي الله عنها : ( أَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفن في ثلاثة أَثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ) ، أَخرجه الأَئمة الستة في كتبهم.

قال البيهقي : وقد بينت عائشة رضي الله عنها أَنّ الإشتباه في ذلك على غيرها : فأخرج مسلم من جهة هشام ، عن أَبيه ، عن عائشة ، قالت : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أَثواب بيض سحولية من كرسفُ ليس فيها قميص ولا عمامة ، فأمّا الحلّة فإنّما شبه على الناس فيها أَنها اشتريت له حلّة ليكفن فيها فتركت الحلّة فأخذها عبد الله بن أَبي بكر فقال : ( لأحبسنَها لنفسي حتى أُكفّن فيها ) ، ثم قال : ( لو رضيها الله لنبيّه لكفنه فيها ) فباعها وتصدق بثمنها ). وفي رواية : ( أدرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في برد حبرة ، ثم أخذ عنه ). قال القاسم : ( إِنّ بقايا ذلك الثوب عندنا بعد ) ، قال البيهقي : هذا الثوب الثالث ، وأَمّا الحلّة فتصدق بثمنها عبد الله وهي ثوبان. أهـ.

( الحديث السادس ) : ـ إنكارها عليه الرؤية : أخرج الترمذي في التفسير من جهة مسلم بن جعفر هو البغدادي ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، فقلت ( أليس الله يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )؟

فقال ( ويحك ، ذاك إِذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، قد رأى ربه مرتين ) ، وقال : حسن غريب. قال شيخنا عماد الدين ابن كثير : ( مسلم بن جعفر ليس بذاك المشهور ، والحكم بن أبان وثقه جماعة ) ، وقال ابن

٢٦٤

المبارك : ( ارم به ). اهـ.

قلت : وأخرج الحاكم في مستدركه من جهة معاذ بن هشام : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ( أتعجبون أن تكون الخلّة لإِبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم قال : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وله شاهد صحيح عن ابن عباس في الرؤية. ثم ساقه من جهة إِسماعيل بن زكريا ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ( رأى محمد ربّه ) وله شاهد آخر صحيح الإسناد ، ثم ساقه عن يزيد بن هارون ، ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن ابن عباس ، قال : ( قد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربّه ). وعن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : ( رآه مرتين ). ثم قال الحاكم : قد اعتمد الشيخان في هذا الباب أخبار عائشة بنت الصديق ، وأُبي بن كعب ، وابن مسعود ، وأَبي ذر : ( أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل عليه السلام ). وهذه الأخبار التي ذكرنا صحيحة. اهـ.

وقد أخرج البخاري من حديث القاسم ، عن عائشة ، قالت : ( من زعم أنّ محمداً رأُى ربّه فقد أعظم ، ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادّاً ما بين الأفق ). وفي الصحيحين من حديث مسروق : ( قلت لعائشة : يا أمتاه هل رأَى محمد ربّه؟ فقالت : ( لقد قفّ شعري ممّا قلت ، من حدثك أَنّ محمداً رأى ربّه فقد كذب ، ثم قرأت :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) ، ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته

____________________

(١) الأنعام / ١٠٣.

٢٦٥

مرتين ). وفي رواية : ( من زعم أنّ محمداً رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية ) ، فقلت : ( يا أم المؤمنين أُنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله عزوجل :( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ) (١) ،( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) (٢) ، فقالت : أنا أوّل هذه الأَمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( إنّما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إِلى الأرض ) ، وقالت : ( أولم تسمع أنّ الله عزوجل يقول :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٣) ؟ أولم تسمع أنّ الله عزوجل يقول :( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٤) .

قلت : وهذا قاطع في هذه المسألة إِذ صرحت فيه بالدفع. ونقل عن ابن خزيمة أنه قال في كتاب التوحيد له : ( أنّه صلى الله عليه وآله وسلم إِنّما خاطب عائشة على قدر عقلها ) ، ثم أخذ يحاول تخطئتها وليس كما قال ، فقد جاء عن غيرها ذلك مرفوعاً إِلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منهم ابن مسعود ، رواه محمد بن جرير الطبري في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، ثنا عبد الواحد بن زياد ، ثنا سليمان الشيباني ، ثنا زر بن حبيش ، قال : ( قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية :( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) (٥) ، قال :

____________________

(١) التكوير / ٢٣.

(٢) النجم / ١٣.

(٣) الأنعام / ١٠٣.

(٤) الشورى / ٥١.

(٥) النجم / ٩.

٢٦٦

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رأيت جبريل له ستمائة جناح ) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.

وفي كتاب ( الجمع بين الصحيحين ) للحميدي : قال أَبو مسعود في الأطراف في حديث عبد الواحد :( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) (١) ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رأَيت جبريل في صورته له ستمائة جناح ) ، قال الحميدي : وليس ذلك كما رأيناه من النسخ ولا ذكره البرقاني فيما خرجه على الكتابين. ومنهم أَبو ذر : قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عفان ، ثنا هشام ، عن عبد الله بن شقيق ، قال : قلت لأبي ذر : ( لو رأَيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسألته ) ، قال(٢) : ( وما كنت تسأله )؟

قلت : ( كنت أسأله : هل رأَى ربه عزوجل )؟ فقال : ( إنّي سألته؟ فقال : قد رأَيته نوراً أنىّ أَراه ) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ : ( رأيت نوراً ) ، ثم قال : ( معناه أنّه لم ير ربّه ، ولكن رأى نوراً علوياً من الأنوار المخلوقة ). اهـ. هكذا وقع في رواية الإِمام أحمد.

وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين : أحدهما قال : ( رأيت نوراً أنّى أراه ) ، والثاني قال : ( رأَيت نوراً ). وهو مصرح بنفي الرؤية إِذ لو أراد الإِثبات لقال : ( نعم ) ، أَو ( رأَيته ) ، ونحو ذلك ، وهو يرد قول ابن خزيمة : ( أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها ) ، ولهذا لم يجد ابن خزيمة عنه

____________________

(١) النجم / ١٣.

(٢) في الأصل : قلت. والتي بعدها : قال : وهو سهو مخل بسياق الحديث.

٢٦٧

ملجأ إِلاّ أنّه كان يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شقيق وأبي ذر(١) ، فقال : ( في القلب من صحة مسند هذا الخبر شيء ) لم أَر أحداً من علماء الأثر نظر لعلّة في إِسناد ، قال : عبد الله بن شقيق راوي هذا الحديث كأنّه لم يكن يثبت أبا ذر ولا يعرفه بعينه واسمه ونسبه ، قال : لأنّ أبا موسى محمد ابن المثنى حدثنا : عن معاذ بن هشام ، عن أَبيه ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق. قال : أَتيت المدينة فإِذا رجل قائم على غرائر سود يقول : ألا ليبشر أصحاب الكنوز بكيّ في الحياة والممات ، فقالوا : ( هذا أبو ذر ). فكأنّه لا يثبته ولا يعلم أنه أبو ذر.

وقال بعض العلماء في هذا الحديث : قد أجمعنا على أَنّه ليس بنور ، وخطأنا المجوس في قولهم : هو نور ، والأنوار أجسام والباري سبحانه ليس بجسم ، والمراد بهذا الحديث أنّه حجابه النور ، وكذلك روي في حديث أَبي موسى ، فالمعنى : كيف أراه وحجابه النور؟ ومن أثبت رؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ربّه ، فإِنّما يثبت ليلة المعراج ، وأسلم أبو ذر بمكة فدعا(٢) قبل المعراج ، ثم رجع إِلى بلاد قومه فأقام بها حتى مضت بدر وأُحد والخندق ، ثم قدم المدينة بعد ذلك ، يحتمل أَنّه سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقت إِسلامه : ( هل رأيت

____________________

(١) هنا شطب المؤلف على ما يلي :

وأَنى له ذلك وأما ابن الجوزي فأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الإِسراء فأجابه بما أجابه ، ولو سأله بعد الإِسراء لأجابه بالإِثبات. وهذا ضعيف فإِن عائشة أم المؤمنين قد سألت عن ذلك بعد الإِسراء ولم يثبت لها الرؤية.

(٢) كذا في الأصل.

٢٦٨

ربك )؟ وما كان عرج به بعد فقال : ( نور أنّى أَراه ) ، أَي أَنّ النور يمنع من رؤيته. وقد قال بعد المعراج في رواية ابن عباس : ( رأيت ربي ) اهـ. وهذا ضعيف ، فإِنّ عائشة أم المؤمنين قد سألت عن ذلك بعد الإسراء ولم يثبت لها الرؤية.

وأَمّا قول الإِمام أَحمد : ( ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أَدري ما وجهه ) ، فقال بعض الأئمة : لا نعرف معنى هذا الإِنكار ، وقد صح ذلك عن أَبي ذر وغيره. وللكلام على هذا الحديث موضع آخر قد بسطته فيه ، ورددت ما حرّفه بعض النقلة في لفظه ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

( الحديث السابع ) : إِحالته معرفة الوتر عليها. أخرجه مسلم في صحيحه : عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن سعد بن هشام : أنّه طلق أمرأته فأتى المدينة ليبيع بها عقاراً له ، فيجعله في السلاح والكراع ، فذكر الحديث وأنّه لقي ابن عباس فسأله عن الوتر ، فقال : ( ألا أُنبئك بأَعلم أَهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )؟ قال : ( نعم ) ، قال : ( عائشة ، إِيتها فسلها ثم إرجع إِليّ فأخبرني بردها عليك ) ، قال : فأتيت(١) حكيم بن أَفلح فاستلحقته إِليها ، فقال : ( ما أَنا بقاربها ، إِنّي نهيتها أَن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً فأبت فيهما إِلا مضياً فيه ) ، فأقسمت عليه فجاء معي فدخل عليها فقال : يا أُم ألمؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( كنا نُعِدُّ له سواكه

____________________

(١) في الأصل : علي بن حكيم بن أفلح ، ولم نجد في كتب رجال الحديث أحداً بهذا الاسم وإنما هو حكيم بن أفلح كما في ( تهذيب التهذيب ) و ( لسان الميزان ). والحديث مذكور في مسند أحمد واسم الرجل فيه كما أَثبتناه.

٢٦٩

وطهوره فيبعثه الله بما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ، ثم يصلي ثمانية ركعات لا يجلس فيهن إلاّ عند الثامنة فيجلس ويذكر الله ويدعو ، ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد الله ويصلي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثم يسلم تسليماً يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد ، فتلك إِحدى عشرة ركعة يا بني ، فلمّا أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالس بعد ما سلم ، فتلك تسع ركعات يا بني ) ، وفي رواية له : ( وسلم تسليماً يسمعنا ).

وقد أختلفت الأَحاديث ولا سيما الأًحاديث عن عائشة رضي الله عنها في عدد الوتر وفي صحيح مسلم عنها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في الليل ثلاث عشرة يوتر من ذلك بخمس ) ، وروي أَبو داوود : ( لم يكن يوتر بأكثر من ثلاث(١) عشرة ) ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ووجه الإختلاف فيها بحسب إختلاف أحواله صلى الله عليه وآله وسلم من إتساع الوقت أَو ضيقه بحسب طول القراءة كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود. أو عذره بمرض أو غيره ، أو في بعض الأَوقات عند كبر السن كما روته ورواه أيضاً خالد بن زيد.

أَو وجه الثلاثة عشرة أَنّها عدّت معها(٢) ركعتي الفجر ، كما بيّن أَبو داود ذلك في رواية له عنها.

____________________

(١) في الأصل : ثلاثة.

(٢) في الأصل : معه.

٢٧٠

( الحديث الثامن ) : ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (١) (٢) بالتخفيف. فأخرج البخاري في التفسير عن ابن أبي مليكة : قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (٣) خفيفة ذهب بها هنالك ، وتلا : ] حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [(٤) فلقيت عروة بن الزبير فذكرت له ذلك ، فقال : ( قالت عائشة : معاذ الله ، والله ما وعد الله ورسوله في شيء قط إِلا علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أَن يكون من معهم يكذّبونهم فكانت تقرؤها ( كُذِّبوا ) مثقلة.

تعقيب في استدراك عائشة على ابن عباس

لا شك أنّ عائشة كانت جريئة في نقدها لمن لا يوافقها ، صريحة في آرائها النقدية ، فهي لمكانتها الإجتماعية وكونها إحدى أمّهات المؤمنين ، فقد كان يُرعى ويُحسب لها عند السلطة القائمة ما يميزها عن غيرها من أمهات المؤمنين ، بعدما برزت في المجتمع تقود المعارضة ضدّ الإمام عليه السلام

____________________

(١) يوسف / ١١٠.

(٢) هنا شطب المؤلف علَى ما يلي :

قاله أبو الفرج ابن الجوزي : ففي البخاري : قالت عائشة رضي الله عنها : ( لم ينزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم ) وكانت تقرؤها مثقلة ، وتلا :( مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) البقرة / ٢١٤ ، فقالت : ( معاذ الله ، ما وعد الله رسوله من شيء قط إِلا على علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم ينزل ).

(٣) يوسف / ١١٠.

(٤) البقرة / ٢١٤.

٢٧١

في حرب الجمل ، وأخذت تزداد في التنمر له ولمن يشايعه ويتابعه ، وساعدها على ذلك معاوية وبنو أمية ، فصارت مرجعاً في الحديث حتى فاقت بمروياتها جميع ما رواه أبوها وبقية الخلفاء وجميع أمهات المؤمنين ، وقد مرَّ في الجزء الأوّل ما يتعلق بها ، وصار من المتعيّن على من شايعها أن يجمع لها من بين ذلك الكم الهائل من أحاديثها ما يرفع من شأنها ، سواء صح أم لم يصح ، كما فعل الزركشي في كتابه ( الإجابة ) وقد مرّت بنا صفحات من كتابه ممّا يتعلق بابن عباس فكان نصيبه فيها ثمانية أحاديث مهلهلة سنداً ومتناً! لا يَسلم منها واحد من مشكلة سندية ، كما لا نجد واحداً منها منسجماً مع معنى الإستدراك ، لو أنصف المنصفون ، ولنستعرضها واحداً بعد واحد ، وإن كنّا قد ذكرنا الحديث الأوّل منها في الحلقة الأولى في الجزء الثالث فنستعيده لضمه مع ما تلاه من روايات ، لنرى مكان الصدق عند الزركشي فيما رآه فرواه.

( حديث واحد خير من ألف شاهد ) :

شاهد واحد ردّت فيه عائشة فتيا فقهية لابن عباس بإصرار وعناد لغرض سياسي أكثر منه لبيان حكم شرعي! وتلك الفتيا فيمن أقام وأرسل الهدي تطوّعاً إلى الحرم ، هل عليه أن يجتنب عمّا يجتنبه المحرم كما هو رأي ابن عباس؟ أو لا يجب كما هو رأي عائشة؟

ورُوي عنها في ذلك عدّة أحاديث نافت على العشرة متفاوتة سنداً ومتناً ، حتى ليخيّل لناظرها أنّها في وقائع متعددة ، مع أنّ الأصل فيها واقعة

٢٧٢

واحدة ـ كما سيأتي بيانه ـ والأحاديث التي رويت عنها ونافت على العشرة ، روى بعضها مالك وعنه البخاري أيضاً ، كما روى بعضها الآخر هو ومسلم وبقية أصحاب السنن والمسانيد ، ومدار الجميع على الرواة عن عائشة ، وجميعهم من حامّتها وخاصّتها كعروة ابن أختها ، والقاسم ابن أخيها ، وعمرة بنت عبد الرحمن ربيبتها ، وهؤلاء الثلاثـة جعلهم ابن عيـيـنة أعلم الناس بحديث عائشة(١) ! ثمّ رواية أبي قلابة ، وهو عبد الله بن يزيد الجرمي(٢) ، ورواية الأسود بن يزيد النخعي ، ومسروق بن الأجدع من المختصّين بها(٣) ، ولهؤلاء جميعاً مقام مرموق عند حكام الأمويين ، أضف إليهم ابن شهاب الزهري فهو من صنائعهم!

والآن إلى صور الحديث الذي أشرنا إليه نقلاً عن المصادر الثلاث الأولى :

١ ـ ( الموطأ لمالك بشرح تنوير الحوالك ) للسيوطي : ( حدثني يحيى ،

____________________

(١) اسعاف المبطأ / ٢١.

(٢) كان ديوانه بالشام ومات بداريا سنة ١٠٤ ـ ١٠٥ ، وحسبك بذلك تعريفاً. راجع المعارف / ٤٤٦ ـ ٤٤٧. وفي تهذيب ابن حجر ٦ / ٨٠ ط الهند ( عبد الله بن يزيد رضيع عائشة بصري ، وعنه ( كنيته ظ ) أبو قلابة الجرمي ) وهذا له في الصحاح عدا البخاري.

(٣) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ١ / ٢٦٩ وروى أبو نعيم عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق قال : ثلاثة لا يؤمنون على عليّ بن أبي طالب : مسروق ومرة وشريح وروي ان الشعبي رابعهم ـ وقال : روى سلمة بن كهيل انهما ـ الأسود بن يزيد ومسروق بن الاجدع ـ كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقعان في عليّ عليه السلام فأما الاسود فمات على ذلك ، وأمّا مسروقً فلم يمت حتى كان لا يصلي لله تعالى صلاة إلاّ صلّى بعدها على عليّ ابن أبي طالب عليه السلام لحديث سمعه من عائشة في فضله. فيا ترى من هي التي كانا يمشيان إليها فيقعان في علي عليه السلام غير عائشة؟

٢٧٣

عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمّد ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن ، : أنّها أخبرته : أنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : أنّ عبد الله بن عباس ، قال : من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر الهديَ ، وقد بعثت بهديي فاكتبي إليّ بأمركِ ، أو مري صاحب الهدي.

قالت عَمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلتُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدَيّ ، ثمّ قلدَها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثمّ بعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحلّه الله له حتى نُحِرَ الهدي )(١) .

٢ ـ صحيح البخاري : ( حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن عبد الله ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن : أنّها أخبرته : أنّ زياد ابن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها : أنّ عبد الله بن عباس رضي الله عنها قال : من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر هديُه. قالت عَمرة : فقالت عائشة رضي الله عنها : ليس كما قال ابن عباس رضي الله عنه ، فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديّ ثمّ قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثمّ بعث بها مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحله الله حتى نُحر الهديَ )(٢) .

٣ ـ صحيح البخاري : ( حدثنا اسماعيل بن عبد الله ، قال : حدثني مالك ،

____________________

(١) الموطأ ١ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ط مصطفى محمّد بمصر.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من قلد القلائد بيده ٢ / ١٦٩ط بولاق.

٢٧٤

عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن : أنّها أخبرته : قالت عائشة رضي الله عنها : أنا فتلتُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديّ ، ثمّ قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديه ، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحلّه الله له حتى نُحر الهدي )(١) .

٤ ـ صحيح مسلم : ( حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن : أنّها أخبرته : أنّ ابن زياد كتب إلى عائشة أنّ عبد الله بن عباس ، قال : من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمركِ ، قالت عَمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي ثمّ قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي )(٢) .

هذه هي صور الحديث الواحد ، وأصله عند مالك في ( الموطأ ) ، ورواه الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ عنه ، فليقارن القارئ بين هذه الصور ليعلم مدى الأمانة في النقل! فمن تزيّد ومن تغيير ومن نقصان. لماذا ذلك؟

ومن أجل أن تبقى تلك الرموز ـ صحاحاً ورجالاً ـ في البروج العاجية ، استبسل علماء التبرير في سدّ بعض الفجوات ، إلاّ أنّهم لم يوفّقوا تماماً. وقد أخترت طائفة من أقوالهم من خلال شروحهم لتلك الصحاح.

____________________

(١) نفس المصدر ، كتاب الوكالة ، باب الوكالة في البدن وتعاهدها ٣ / ١٠٢.

(٢) صحيح مسلم ( كتاب الحج ) باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم ١ / ٣٧٢ ح ١١ ط بولاق.

٢٧٥

فمن شروح الموطأ : ( المنتقى ) لأبي الوليد الباجي ، وشرح الزرقاني ، و ( تنوير الحوالك ) للسيوطي.

ومن شروح البخاري : ( فتح الباري ) لابن حجر ، و ( إرشاد الساري ) للقسطلاني ، و ( الكواكب الدراري ) للكرماني ، و ( كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري ) للشنقيطي الجكني.

ومن شروح مسلم : شرح النووي ، و ( إكمال إكمال المعلم ) للآبي ، و ( مكمل إكمال إكمال المعلم ) للسنوسي.

إلى غير ذلك كسنن البيهقي ، ومصنف ابن أبي شيبة ، وتكملة المنهل المورود بشرح سنن أبي داود.

فماذا قال علماء التبرير؟

١ ـ قال ابن حجر في ( فتح الباري ) :

( ( تنبيه ) وقع عند مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك في هذا الحديث : أنّ ابن زياد بدل قوله : أنّ زياد بن أبي سفيان ، وهو وهم نبّه عليه الغساني ومن تبعه )(١) .

٢ ـ قال النووي في ( شرح صحيح مسلم ) :

( إنّ ابن زياد كتب إلى عائشة هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم أنّ ابن زياد ، قال أبو علي الغساني والمازري والقاضي وجميع

____________________

(١) فتح الباري ٤ / ٢٩٣ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨ هـ.

٢٧٦

المتكلمين على صحيح مسلم : هذا غلط وصوابه : أنّ زياد بن أبي سفيان ، وهو المعروف بزياد بن أبيه ، وهكذا وقع على الصواب في صحيح البخاري والموطأ وسنن أبي داود وغيرها من الكتب المعتمدة ، ولأنّ ابن زياد لم يدرك عائشة والله أعلم )(١) .

ونحن نقول له : فأين قوله : اتفق العلماء رحمهم الله على أنّ اصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم؟! وتلقتهما الأمّة بالقبول؟! وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة؟!(٢) .

ولا ضيرَ حتى ولو لم يروه أولئكم ، فإنّ البخاري وحده يكفيهم ، لأنّ كتابه عندهم أصح وأكثر فوائد! وإن تزيّد في النقل فمنح الترضّي حسب الهواية والمشتهاية ، وإن تنقّص فحذف في روايته في الوكالة بعض ما ذكره في روايته في كتاب الحج ـ فقارن ـ وفي المقامين حذف من رواية المصدر جملة ( أو مري صاحب الهدي ) ، فهكذا هي الأمانة في النقل (؟!). ولعلّ هذا من الفوائد والمعارف الغامضة.

ومهما يكن فنحن لا يهمنا غلط مسلم في ذكره ابن زياد بدل أبيه ، فكلاهما دعيّ وفي النُصب سواء ، والإعتذار بأنّ ابن زياد لم يدرك عائشة ، إعتذارٌ واه فقد أدركها ، لأنّها ماتت سنة ( ٥٦ هـ أو ٥٧ هـ أو ٥٨ هـ ) كما في

____________________

(١) صحيح مسلم ٩ / ٧٢ ط مصر.

(٢) أنظر مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي ١ / ١٤.

٢٧٧

تاريخ اليعقوبي(١) ، وابن زياد ولاه معاوية خراسان بعد وفاة أبيه زياد سنة ٥٤ هـ ، وليس بالضرورة أن يكون سؤاله لها أيام ولايته البصرة ، فيمكن أنّه سألها أيام أبيه. وإنّما الذي يهمنا هو تنبيه القارئ إلى أنّ المرجعية الرسمية للأحكام الشرعية يومئذ هي عائشة دون باقي أمهات المؤمنين وبقية فقهاء الصحابة والتابعين! ولذلك قلنا استبسل شرّاح الصحيح في سدّ الثغرات ، وزاد بعضهم فضاعف جهده لإثبات صحة رأي عائشة وتفنيد رأي ابن عباس حتى ولو كان رأيه موافقاً لرأي عمر ورأي عليّ وآراء آخرين من صحابة وتابعين ، بل تصاعدت حمّى الزهري ـ وهو من فقهاء البلاط الأموي ـ فجعل لها المنّة على المسلمين حيث كشفت لهم ما أستغلق عليهم فهمه كما سيأتي.

٣ ـ قال ابن التين :

( خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء ، واحتجت عائشة بفعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه ، ولعلّ ابن عباس رجع عنه ، انتهى )(٢) .

ولفجاجة هذا الرأي وسماجة هذا القول تعقبه ابن حجر بقوله : ( وفيه قصور شديد ، فإنّ ابن عباس لم ينفرد بذلك ، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة : منهم ابن عمر : رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب ، وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما عن نافع عن ابن عمر كان إذا بعث

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٢.

(٢) فتح الباري ٤ / ٢٩٤ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨.

٢٧٨

بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم إلاّ أنّه لا يلبي(١) .

ومنهم قيس بن سعد بن عبادة : أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد ابن المسيب عنه نحو ذلك(٢) .

وروى ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن علي بن الحسين عن عمر وعليّ أنّهما قالا في الرجل يرسل ببدنته : أنّه يمسك عما يمسك عنه المحرم(٣) . وهذا منقطع )(٤) .

٤ ـ قال ابن المنذر :

( قال عمر وعليّ وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون : من أرسل الهدي وأقام حَرُمَ عليه ما يحرم على المحرم.

وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون : لا يصير بذلك محرماً ، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار )(٥) (؟).

٥ ـ قال ابن حجر :

( ومن حجة الأولين ما رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه ، قال : كنت جالساً عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقدّ قميصه من جيبه حتى

____________________

(١) أنظر المصنف لابن أبي شيبة ٤ ق١ / ٨٨ ط باكستان ادارة القرآن والعلوم الإسلامية.

(٢) فتح الباري ٤ / ٢٩٤ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨ هـ.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) نفس المصدر.

٢٧٩

أخرجه من رجليه ، وقال : إنّي أمرت ببُدني التي بعثت أن تقلّد اليوم وتشعر على مكان كذا ، فلبست قميصي ونسيت ، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. الحديث ، وهذا لا حجة فيه لضعف اسناده ، إلاّ أنّ نسبة ابن عباس إلى التفرد بذلك خطأ )(١) .

٦ ـ وقال أيضاً :

( وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنّه لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم إلاّ الجماع ليلة جمع. رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح )(٢) .

٧ ـ وقال أيضاً :

( نعم جاء عن الزهري ما يدلّ على أنّ الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عباس ، ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه ، وأخرجه البيهقي من طريقه ، قال : أوّل من كشف العمى عن الناس وبيّن لهم السنّة في ذلك عائشة ، فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها. قال : فلمّا بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس(٣) (٤) .

٨ ـ وقال أيضاً :

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) سنن البيهقي ٥ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ فراجع ستجد الدفاع باندفاع عن رأي عائشة.

(٤) فتح الباري ٤ / ٢٩٤.

أخرجه الهميثي في مجمع الزوائد ٣ / ٢٢٧ ط القدسي وقال رواه أحمد والبزار باختصار ورجال أحمد ثقات.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496