موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس8%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93317 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

( وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أنّ من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرماً ، حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق )(١) .

٩ ـ وقال أيضاً :

( وقال أصحاب الرأي : من ساق الهدي وأمّ البيت ثمّ قلّد وجب عليه الاحرام )(٢) .

١٠ ـ وقال أيضاً :

( وقال الجمهور : لا يصير بتقليد الهدي محرماً ولا يجب عليه شيء )(٣) .

١١ ـ وقال أيضاً :

( ونقل الخطابي عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس ، وهو خطأ عليهم ، فالطحاوي أعلم بهم منه ، ولعل الخطابي ظن التسوية بين المسألتين )(٤) .

١٢ ـ قال أمين محمود خطاب(٥) :

( وسبب هذا الحديث ما روت عمرة بنت عبد الرحمن أن زياد بن

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) في فتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود ١ / ١٤ ط الأولى بالاعتصام بالخيمية سنة ١٣٧٥.

٢٨١

أبي سفيان كتب إلى عائشة ـ وذكر الحديث ـ ثمّ قال أخرجه البخاري والطحاوي )(١) .

وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث من ثمانية عشر طريقاً ، لبيان حجة من قال : لا يجب على من بعث هدياً أن يتجرد عن ثيابه ، ولا يترك شيئاً من محظورات الإحرام إلاّ بدخوله فيه بحج أو عمرة. وإلى هذا ذهب أكثر الصحابة والحنفيون ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد.

وعن ابن عباس وعمر وعليّ والنخعي وعطاء وابن سيرين : أنّ من أرسل هدياً إلى الحرم يلزمه إذا قلده الإحرام. ويحرم عليه كلّ ما يحرم على المحرم ، لحديث عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة ، عن عبد الملك ابن جابر ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنها قال : كنت عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جالساً فقدّ قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه ، فنظر القوم إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( إنّي أمرت ببُدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على ماء كذا وكذا ، فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي ). وكان قد بعث ببُدنه من المدينة فأقام بالمدينة. أخرجه أحمد والطحاوي والبزار(٢) ، لكن ابن أبي لبيبة ليس ممّن يحتج به فيما ينفرد به ،

____________________

(١) انظر فتح الباري ٣ / ٣٥٤ ( من قلد القلائد بيده ) و ٤٣٩ ، وشرح معاني الآثار.

(٢) انظر ١٣ / ٣٣ من الفتح الرباني. و ٣ / ٢٢٧ من مجمع الزوائد ( من بعث هدياً وهو مقيم ) و ١ / ٤٣٩ من شرح معاني الآثار ( هامش المصدر السابق ).

٢٨٢

فكيف فيما خالفه فيه من هو أثبت منه.

قال الطحاوي في ( شرح معاني الآثار ) : إسناد حديث عائشة صحيح لا تنازع بين أهل العلم فيه ، وليس حديث جابر بن عبد الله كذلك ، لأنّ من رواه دون من روى حديث عائشة ، لكن قال في ( مجمع الزوائد ) بعد أن ذكر الحديث : ورجال أحمد ثقات. ( وعن عطاء ) بن يسار عن نفر من بني سلمة قالوا : كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جالساً فشق ثوبه. فقال : إنّي واعدت هدياً يشعر اليوم. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، وبهذا يرد على من قال : الظاهر أنه لا أصل لهذا الحديث.

ماذا وراء الأكمة من غمّة؟

إنّ اندفاع علماء التبرير في دفاعهم المستميت يوحي بدءاً بأنّهم في مقام إثبات حكم شرعي ، وإن دلّ على دعم موقف عائشة في فتياها التي ردت بها على فتيا ابن عباس ، كما هو الوجه الظاهر للعملة التي يتعاملون بها مع الناس ، وهذا وجه باهت اللون خافت النور إذا قيس بالوجه الآخر الذي كانوا يتعاملون به مع الحكام فإنّه ليس كذلك ، بل هو ذو لون صارخ أشدّ وهجاً وأكثر رهجاً ، وهو جوهر القضية في الحديث المذكور.

وذلك فيما أرى ـ والله العالم ـ كان لإستصدار قرار عائشي بتصديق نسب زياد بعد الإستلحاق وأنّه ابن أبي سفيان ، وهذا يتم من خلال جواب الكتاب تحريراً لو تم. وإذا لم يتم ـ كما هو الحال ـ فيكفي أنّ راوية

٢٨٣

الحديث عَمرة بنت عبد الرحمن(١) ذكرت ذلك عن عائشة ولم تذكر عنها إنكاراً لذلك ، وفي سكوتهاـ على أقل تقدير ـ إمضاء لما جاء في الحديث ، وفي هذا حسب زياد وآل زياد ، وفي مقابل ذلك لا بد من تقديم ثمن لعائشة يساوي ما أخذوه من مثمن ، وهل من ثمن أكثر قيمة من إذاعة وإشاعة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث هديه من المدينة ، وعائشة هي التي تفتل القلائد للهدي ، وأبوها يسوق الهدي إلى مكة أو إلى منى ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجتنب عما يجتنبه المحرم. وهكذا صار الحديث وكأنّه مناورة سياسية أكثر من بيان واقعة شرعية. واستمرت المناورة ـ فيما يبدوـ فقد ذكر السيد ابن عقيل أنّ زياداً كتب إلى عائشة كتاباً فيه : ( من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له : إلى زياد بن أبي سفيان ليحتج بذلك ، فكتبت إليه من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد )(٢) .

وفي رواية ابن أبي الحديد قال : ( كتبت عائشة إلى زياد فلم تدر ما تكتب عنوانه ، إن كتبت زياد بن عبيد وابن أبيه أغضبته ، وإن كتبت زياد

____________________

(١) أتدري مَن هي عمرة بنت عبد الرحمن؟ كانت هي وأخواتها في حجر عائشة وعندها ( طبقات ابن سعد ٨ / ٣٥٣ ) افست ليدن.

وهي التي كتب عمر بن عبد العزيز في حقها إلى أبي بكر بن محمّد بن حزم : ان انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو سنة ماضية أو حديث عمرة فاكتبه فإني خشيت دروس العلم وذهاب أهله؟ يا لله يكون حديث عمرة بمنزلة حديث رسول الله ومثل السنّة الماضية في ميزان الاعتبار عند الخليفة الأموي؟ ولزيادة الاطلاع فان ابا بكر بن محمّد بن حزم هو زوج اختها؟ وراوي حديث الفتيا هو ابن اختها فظن خيراً.

(٢) النصائح الكافية / ٥٦ ط بمبي سنة ١٣٢٦ هـ.

٢٨٤

ابن أبي سفيان أثمت فكتبت من أم المؤمنين إلى ابنها زياد ، فلمّا قرأه ضحك وقال : لقد لقيت أم المؤمنين من هذا نصبا )(١) .

وأخيراً نجحت بالتالي مؤامرة زياد ، فكتبت إليه كتاب شفاعة لمرة بن أبي عثمان مولى عبد الرحمن بن أبي بكر ـ وقال ابن الكلبي هو مولى عائشة ـ سأل عائشة أن تكتب له إلى زياد وتبدأ به في عنوان كتابه ، فكتبت إليه بالوصاة به وعنونته : إلى زياد بن أبي سفيان من عائشة أم المؤمنين ، فلمّا رأى زياد أنّها قدّمته ونسبته إلى أبي سفيان سرّ بذلك وأكرم مرّة وألطفه وقال للناس : هذا كتاب أم المؤمنين إليّ وفيه كذا ، وعرضه ليقرأ عنوانه ثمّ أقطعه مائة جريب على نهر الأبّلة ، وأمر أن يحفر لها نهرٌ فنسب إليه(٢) .

وهذا ما أدركه علماء التبرير ـ ولا أقل بعضهم ـ إلاّ أنّهم تسللوا من وراء الأكمة لواذاً لئلا تصدمهم الحقيقة المرّة ، فتزل قدم بعد اهتزازها على أرضية هشة من المبررات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

حتى قال بعضهم ممعناً في التبرير والتزوير ، فقال : ( وقع التحديث بهذا في زمن بني أمية ، وأمّا بعدهم فما كان يقال له إلاّ زياد بن أبيه وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد ، وكانت أمّه سمية مولاة الحرث بن كلدة الثقفي وهي تحت عبيد المذكور فولدت زياداً على فراشه ، فكان ينسب إليه ، فلمّا كان في أيام معاوية شهد جماعة على

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٧٦ ط مصر الأولى و ١٦ / ٢٠٤ تحـ أبو الفضل إبراهيم والقضايا الكبرى في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي / ١٨٨.

(٢) راجع معجم البلدان ٥ / ٣٢٣ ( نهر مرّة ).

٢٨٥

إقرار أبي سفيان بأنّ زياداً ولده ، فاستلحقه معاوية بذلك ، وخالف الحديث الصحيح ( إنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر ) وذلك لغرض دنيوي ، وقد أنكر هذه الواقعة على معاوية من أنكرها ، حتى قيلت فيها الأشعار ، ومنها قول القائل :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

مغلغلة من الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عِفٌّ

وترضى أن يقال أبوك زاني

وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان ، وما وقع من أهل العلم في زمان بني أمية فإنّما هو تقية.

وذكر أهل الأمهات نسبته إلى أبي سفيان في كتبهم مع كونهم لم يؤلفوها إلاّ بعد انقراض عصر بني أمية محافظة منهم على الألفاظ التي وقعت من الرواة في ذلك الزمان كما هو دأبهم )(١) .

وجاء في ( كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري ) للشيخ محمّد الخضر الجكني الشنقيطي المتوفى سنة ١٣٥٤ هـ ، ترجمة زياد وكيفية إستلحاقه وأسماء الشهود له بذلك ، وفي آخر الترجمة ذكر غضب بني أمية من إستلحاقه ، وذكر شعر عبد الرحمن بن الحكم نقلاً عن ( الإستيعاب ) ، فمن أراد ذلك فليرجع إلى المصدر المذكور(٢) .

____________________

(١) نيل الأوطار للشوكاني ٥ / ١٠٧ ط العثمانية بمصر سنة ١٣٥٧ هـ.

(٢) كوثر المعاني ١٣ / ٣٨٨ ط مؤسسة الرسالة سنة ١٤١٥ هـ.

٢٨٦

وذكر الآبي في شرحه صحيح مسلم عند قوله : ( انّ ابن زياد كتب ). ( قلت ) ابن زياد هو عبيد الله بن زياد هذا هو الذي قتل الحسين بن عليّ ، وزياد هذا هو والده وكان معاوية استلحقه لأبيه أبي سفيان ، وتقدم إشباع الكلام على ذلك وعلى كيفية استلحاقه في حديث : ( من انتسب لغير أبيه من كتاب الإيمان فراجعه هناك )(١) .

نور على الدرب :

لو تفحصنا حديث عائشة في المصادر التي مرّ ذكرها لوجدناه ـ كما قلنا ـ يتفاوت بين مصدر وآخر ، بل بين رواية راو واحد في المصدر الواحد. وللتدليل والإختصار نذكر للقارئ ما في صحيح البخاري فقط ، وهو عند أصحابه كلّ الصيد في جوف الفرا.

ولقد ذكر الحديث في ستة أبواب متتابعة بشتى الصور ، وهي كما يلي في كتاب الحج بألفاظها :

١ ـ باب ( من أشعر وقلّد بذي الحليفة ثمّ أحرم ).

قال البخاري : ( حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أفلح ، عن القاسم ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : فتلت قلائد بُدن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيديّ ثمّ قلّدها وأشعرها وأهداها ، وما حُرم عليه شيء كان أحلّ له )(٢) .

____________________

(١) شرح صحيح مسلم ٣ / ٤١٣.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ١٦٩ح ٣ ط بولاق.

٢٨٧

أقول : وهذا الحديث لم يشرحه ابن حجر في ( فتح الباري )(١) فظن خيراً!

٢ ـ باب ( فتل القلائد للبدن والبقر ).

قال البخاري : ( حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، حدثنا ابن شهاب ، عن عروة ، عن عمرة بنت عبد الرحمن : أنّ عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثمّ لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم )(٢) .

أقول : وهذا الحديث أيضاً غض ابن حجر النظر عنه فتعداه بسلام!(٣)

٣ ـ باب ( إشعار البدن ).

قال البخاري : ( حدثنا عبد الله بن سلمة ، حدثنا أفلح بن حميد ، عن القاسم ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : فتلت قلائد هدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ أشعرها وقلّدها أو قلّدتها ، ثمّ بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلّ )(٤) .

أقول : وعلى ما عودنا ابن حجر في سابقيه لقد تغاضى عن شرحه إلى شرح معنى الإشعار ومشروعيته وإختلاف العلماء فيه!(٥)

٤ ـ باب ( من قلد القلائد بيده ).

____________________

(١) فتح الباري ٤ / ٢٩١.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ١٦٩ ح ٢ط بولاق.

(٣) فتح الباري ٤ / ٢٩١.

(٤) صحيح البخاري ٢ / ١٦٩ ح ١ ط بولاق.

(٥) فتح الباري ٤ / ٢٩٢.

٢٨٨

قال البخاري : ( عبد الله بن يوسف )(١) وذكر الحديث الذي ذكرناه أوّلاً كخير شاهد فلا حاجة إلى إعادة ذكره.

٥ ـ باب ( تقليد الغنم ).

قال البخاري : ( حدثنا أبو النعمان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا الأعمش ، حدثنا إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أفتل القلائد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيقلّد الغنم ويقيم في أهله حلالاً )(٢) .

أقول : وقد استبسل ابن حجر في شرح عنوان الباب وذكر ( من رأى تقليد الغنم ومن لم ير ) ، والردّ عليه بحديث الباب إلى آخر ما عنده(٣) .

٦ ـ نفس الباب.

قال البخاري : ( حدثنا أبو النعمان ، حدثنا حماد ، حدثنا منصور بن المعتمر ( ح= حيلولة ) ، وحدثنا محمّد بن كثير أخبرنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أفتل قلائد الغنم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيبعث بها ثمّ يمكث حلالاً )(٤) .

أقول : ذكر ابن حجر إعلال بعض المخالفين حديث الباب ، بأنّ الأسود تفرد عن عائشة بتقليد الغنم دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم. قال المنذري وغيره : ليست هذه بعلّة لأنّه حافظ ثقة لا يضرّه

____________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٦٩ ح ٢ ط بولاق.

(٢) نفس المصدر.

(٣) من شاء الاستزادة فليرجع إلى فتح الباري ٤ / ٢٩٥.

(٤) صحيح البخاري ٢ / ١٧٠ ح ٣ ط بولاق.

٢٨٩

التفرد(١) (؟)

٧ ـ الباب نفسه.

قال البخاري : ( حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زكرياء ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : فتلت لهدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، تعني القلائد قبل أن يحرم )(٢) .

٨ ـ باب ( القلائد من العهن ).

قال البخاري : ( حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا معاذ ، حدثنا ابن عون ، عن القاسم ، عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : فتلت قلائدها من عهن كان عندي )(٣) .

أقول : وقد أشار ابن حجر في ( فتح الباري ) إلى تفاوت رواية يحيى في الباب ، كما أشار إلى رواية مسلم للحديث عن ابن عون مثله وزاد : ( فأصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي الحلال من أهله )(٤) !

وهذه الزيادة كشفت لنا غمغمة الأحاديث السابقة في أقوال عائشة : ( وما حرم عليه شيء كان أحلّ له ) ، أو ( لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم ) ، أو ( فما حرم عليه شيء كان له حلّ ) ، أو قولها : ( فيقيم في أهله

____________________

(١) فتح الباري ٤ / ٢٩٦.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ١٧٠ح ٤ ط بولاق.

(٣) نفس المصدر.

(٤) فتح الباري ٤ / ٢٩٦.

٢٩٠

حلالاً ، أو ثمّ يمكث حلالاً ).

وبعد هذا العرض نترك المقارنة لمن أحبّ ، ليعرف كيف التلاعب بألفاظ الحديث عند الرواة ، من دون حياء.

والآن إلى نقاط على الحروف :

إذا ما رجعنا ثانية إلى الحديث وقرأناه قراءة ثانية ومتأنّية تساقطت من أجوائه المسائل التالية :

١ ـ ما بال زياد يكتب إلى عائشة في ذلك؟! وكان الأحرى به وقد أصبح ابن أبي سفيان أن يكتب إلى أخته أم حبيبة؟ أليس كذلك؟ فهي أخته فيما يزعمون ، وهي من أمهات المؤمنين ، ولا يخفى عليها ذلك من فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن لم تكن فتلت القلائد مرّة ، فلا أقل أنّها رأت أو سمعت من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيئاً. وهذه عاشت كثيراً من سنيّ ولاية زياد وأدرك هو حياتها فقد ماتت سنة ٥٩ هـ كما في ( إسعاف المبطأ )(١) .

٢ ـ هل أنّ أحاديث عائشة كلّها لواقعة واحدة؟ فإن كانت فلماذا تفاوتت صورها ، وقد بلغت عند مسلم عشرة أحاديث ومرّت ثمانية منها عند البخاري؟ أو هي وقائع متعددة؟

فإن كانت كلّها لواقعة واحدة ، فلماذا اختلفت إختلافاً فاحشاً حتى في رواية الراوي الواحد عن عائشة وفي المصدر الواحد؟

فأنظر روايات عمرة وعروة والقاسم والأسود ، وقارن بين رواياتهم

____________________

(١) إسعاف المبطأ / ٣٥.

٢٩١

على انفراد فضلاً عن مقارنتها بروايات بعضهم مع بعض؟ وإن كانت لوقائع متعددة فما بال عائشة وحدها تتولى فتل القلائد دون بقية الزوجات في جميع تلك السنين؟

على أنّه من المستبعد جداً أن لا يكون قد شاركتها مرّة غيرَها في ذلك الفتل العظيم الذي خصّت نفسها به!

وأبعد من ذلك كلّه عدم ورود حديث واحد عنهن يؤيد ذلك الإختصاص!

٣ ـ ثمّ ما بالها لم تذكر ـ ولو لمرّة واحدة ـ اسم الشخص الذي كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرسل معه الهدي ، وما ذكرت غير أبيها؟ فهل يعني ذلك أنّه وحده كان يتولى سياق الهدي كما كانت ابنته تتولى فتل القلائد في جميع سني الهجرة؟ وهذا ما يكذبه الوجدان ، لأنّه لم يذهب إلى مكة أو إلى منى بعد الهجرة إلاّ وهو مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سواء في عمرة القضاء أو في حجة الوداع ، وفي كلتيهما كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم موجوداً يتولى هديه بنفسه.

ولو سلّمنا جدلاً زعم بعض علماء التبرير أنّه كان ذلك في السنة التاسعة ـ وهي سنة تبليغ براءة ـ بحجة ذهابه أميراً على الموسم ، فما بال الرواة وعلماء التبرير أبلسوا عن مصير الهدي عندما لحقه الإمام عليه السلام وأبلغه أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى المدينة ، كيف صار الهدي هل أرجعه معه؟ أو أخذه عليّ عليه السلام كما أخذ آيات براءة؟ أو أرسله أبو بكر مع آخرين غير عليّ عليه السلام؟ وهكذا استفهام بعد استفهام ، هذا كلّه

٢٩٢

إذا صدقت تلكم الأحلام.

ولكي يستبين زيف ذلك الزعم ، فلنقرأ في ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند :

( قال عبد الله بن أحمد : حدثنا محمّد بن سليمان لوين ، حدثنا محمّد ابن جابر ، عن سماك ، عن حنش ، عن عليّ ، قال : لمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، دعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر ، فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ، ثمّ دعاني النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي : ( أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى مكة فاقرأه عليهم ) ، فلحقته بالجحفة ، فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله نزل فيَّ شيء؟ قال : لا. ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك )(١) .

ونعود إلى أوّل السؤال ، لو سلّمنا جدلاً أن أباها تولى كان ذلك في السنة التاسعة ، فمن هم أولئك الذين تولوا المهمة في باقي السنوات؟ ولماذا لم تذكرهم؟ وهي لا تخلو إمّا أن تكون تعلمهم وكتمت أسماءهم لحاجة في نفسها ـ كما فعلت ذلك في حديث آخر وذلك في مرض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت خروجه يتوكأ على رجلين الفضل بن العباس ورجل ، فسأل السامع ابن عباس فأخبره أنّه عليّ ، ولكن عائشة لا تطيب لها نفس أن تذكره ـ وهذا لا يليق بها!

وإمّا أن تكون لا تعلمهم وهو بعيد غايته ، كيف وابن عباس كان يعلم

____________________

(١) زيادات المسند ١ / ٣٢٢ برقم ١٢٩٦.

٢٩٣

بعضاً منهم ، فيذكر ذويب الخزاعي منهم ، وناجية الأسلمي منهم(١) (؟)

وأعود إلى الأفغاني الذي استدرجني إلى هذه الجولة لأقول له في الختام :

أرأيت كيف كان ابن عباس أوعى وأذكى وأزكى في حديثه حين سمّى من عَرفهم ، وهو لم يفتل فتلاً ولا حبلاً ولا دق طبلاً (؟!!)

وأمّا فتياه فقد كانت هي الفتيا الصحيحة ، ورأيه هو الصواب ، وهو على رأي الإمام عليه السلام ورأي عمر وابنه وقيس بن سعد ، وهؤلاء كلّهم من الصحابة بينهم خليفتان ، مضافاً إلى نفر من فقهاء التابعين كالنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرين.

وحسب ابن عباس أنّه كان على رأي عليّ أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو مع الحقّ والحقّ معه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم(٢) ، ولو بحثنا عن جذور المسألة تاريخياً

____________________

(١) راجع المحلى لابن حزم ٧ / ٢٦٩ عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع فلان الأسلمي ثماني عشرة بدنة وفي سنن ابن ماجة ٢ / ١٠٣٦ برقم ٣١٠٥ عن ابن عباس ان ذويباً الخزاعي حدث ان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث معه بالبدن وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة سمي الأسلمي وهو ناجية ، وقال الترمذي : حديث ناجية حديث حسن صحيح. وفي المبسوط للسرخسي الحنفي ٤ / ١٤٥ : ان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعث عام الحديبية الهدايا على يد ناجية بن جندب الأسلمي

(٢) تاريخ بغداد ١٤ / ٣٢١ بسنده عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر عليّاً فقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة ) ، وهذا ما رواه سعد بن أبي وقاص أيضاً وقد قال سمعت في بيت ام سلمة ، فأرسل معاوية إلى أم سلمة فسألها فقالت قد قاله رسول الله في بيتي ، فقال معاوية لسعد : ما كنت عندي قط ألوم منك الآن فقال : ولم؟ قال : لو سمعت

٢٩٤

لوجدناها من أيام كان ابن عباس بالمدينة قبل أن يخرج منها مع الإمام عليه السلام فكان يبعث هديه ويتجرّد كما كان يفعل ذلك الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً.

فقد روى الشيخ الطوسي في ( التهذيب ) بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( أنّ ابن عباس رضي الله عنه وعليّاً عليه السلام كانا يبعثان بهديهما من المدينة ثمّ يتجرّدان ، وإن بعثا بهما من أفق من الآفاق واعدا أصحابهما بتقليدهما وإشعارهما يوماً معلوماً ، ثمّ يمسكان يومئذ إلى يوم النحر عن كلّ ما يمسك عنه المحرم ، ويجتنبان كلّ ما يجتنب المحرم ، إلاّ أنّه لا يلبي إلاّ من كان حاجاً أو معتمراً )(١) . والحديث صحيح الإسناد(٢) .

وقد استمر كذلك حتى في أيام ولايته على البصرة ، كما سيمرّ مزيد بيان عن ذلك في تاريخ ولايته.

( الحديث الثاني ) :

عن ابن عباس ـ وهذا أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الحج بابّ التقصّير في العمرة ـ وهو صحيح السند وواضح الدلالة(٣) .

وأمّا حكاية قول البيهقي : ( قد قررنا ) فذلك قاله عقب حديث ابن

____________________

من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم أزل خادماً لعليّ حتى أموت. أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٦ ، ولم يسم معاوية بل كنى عنه بأحد وبالرجل. وهذه سجية علماء التبرير في كل زمان ومكان.

(١) تهذيب الأحكام ٥ / ٤٢٤.

(٢) كما في الجواهر ٢٠ / ١٦٠ ط الآداب النجف.

(٣) صحيح مسلم ٤ / ٥٨ ط صبيح.

٢٩٥

عباس ولفظه : ( قد روينا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم عن أبي ذر ما دلّ على أنّ فسخهم للحج بالعمرة كان خاصاً للركب من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ غيرهم إذا حجّوا أو قرنوا ثم طافوا طواف القدوم لم يحلّوا حتى يكون يوم النحر فيحلون بما جعل به التحلل والله أعلم

ثم ساق حديث ابن عمر )(١) .

أقول : ومن الغريب من البيهقي أن يذكر هذا! وهو الذي روى في باب من أختار التمتع بالعمرة إلى الحج… حديث مسلم في صحيحه عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : ( هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن معه هدي فليحلّ الحلّ كلّه فقد دخل العمرة في الحج إلى يوم القيامة )(٢) .

وأوضح من ذلك حديث عائشة ـ وقد أخرجه مسلم في الصحيح أيضاً ـ قالت : ( قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأربع أو لخمس مضين من ذي الحجّة ، قالت : فدخل عليَّ يوماً وهو غضبان ، قلت : من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار(٣) ؟ قال : ( أما شعرتِ أنّي أمرت الناس بأمر فإذا هم

____________________

(١) راجع سنن البيهقي ٥ / ٧٨ ، باب تعجيل الطواف بالبيت.

(٢) سنن البيهقي ٥ / ١٨ ط دار الفكر بيروت.

(٣) لا ينقضي العجب من أم المؤمنين فهي إذ تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ( من اغضبك ادخله الله النار ) فهل كان خروجها من بيتها إلى البصرة رضاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أولم ينهها عن ذلك كما في حديث الحوأب ثم في حربها للإمام هل كان رضأً لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كيف وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم حربك حربي وسلمك سلمي ، بأنها أورثت الأمة معاناة التوفيق والتلفيق.

٢٩٦

يترددون فيه ) ، قال : ( ولو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقتُ الهدى حتى اشتريه ، ثم أحلّ كما حلّوا )(١) .

وأوفى من ذلك حديث عطاء عن جابر بن عبد الله ، قال : ( أهللنا أصحاب رسول صلى الله عليه وآله وسلم بالحج خالصاً وحده ، فقدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمر بعد أن قدم أن نحلّ ، فقال : ( أحلّوا وأصيبوا النساء ) ، قال عطاء : ولم يعزم عليهم أن يصيبوا النساء ولكنّه أحلّهن لهم.

قال عطاء قال جابر : فبلغه عنّا أنّا نقول : لمّا لَم يكن بيننا وبين عرفة إلاّ خمس ، أمرنا أن نحلّ إلى نسائنا ، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني فقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بيننا فقال : ( قد علمتم أنّي أتقاكم لله ، وأصدقكم وأبرّكم ، ولولا هديي لأحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما أستدبرت ما أُهديت ، فحلّوا ) ، قال : فأحللنا وسمعنا وأطعنا.

قال جابر : فقدم عليّ رضي الله عنه من سعايته ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( بما أهللت؟ ).

قال : بما أهل به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

قال : ( فاهدي وأمكث حراماً ).

قال : فأهدى له عليّ رضي الله عنه.

قال سراقة بن مالك بن جعشم : متعتنا هذه يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد؟

قال : ( بل لأبد )(٢) .

____________________

(١) سنن البيهقي ٥ / ١٩.

(٢) سنن البيهقي ٥ / ١٨.

٢٩٧

فتبين أنّ فتيا ابن عباس هي على السنّة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!

فهذه الأحاديث الثلاثة أثبتت أنّ الحق كان مع ابن عباس ، وما رواه الزركشي عن عائشة وابن عمر في إنكارها على ابن عباس لا وجه له إلا التشهير به بغير حق ، فإنّ ابن عباس لم يقل لا يجوز الطواف قبل الإتيان بعرفة كما شهروا به ، بل صريح ما رواه الزركشي وقبله البيهقي ، وأخرجه مسلم : عن عطاء ، عن ابن عباس كان يقول : ( لا يطوف بالبيت حاج ولا عن حاج إلاّ حلّ ). وبقية إستدلال عطاء يكشف عن مراد ابن عباس هو للحاج المتمتع وليس للقارن.

( الحديث الثالث ) :

ومداره حول رواية البيهقي في إستفتاء ابن عباس من عائشة وأم سلمة حول إجراء عملية جراحية لعينيه فنهتاه ، وأيضاً حول رواية الحاكم في ( المستدرك ) في إستفتائه من عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الموضوع نفسه.

وهذا قد سبق مني الكلام فيه في الجزء الرابع من الحلقة الأولى في عنوان : ( وابيضت عيناه من الحزن )(١) ، وذكرت هناك بعض الخبط حول سبب العمى ، حيث قالوا : كان سبب عماه رؤية الملك ، وفندت ذلك.

والآن قالوا سبب عماه مبالغته في إيصال الماء إلى داخل عينيه ، حيث

____________________

(١) موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى ٤ / ٣٠٢.

٢٩٨

يرى وجوب ذلك كما في ( تفسير الرازي )(١) ، ووعدت بالتحقيق في هذه المسألة في الحلقة الثانية. وحان وقت انجاز الوعد ، فأقول :

لقد وقع الخلط في هذه المسألة ( إيصال الماء إلى داخل العين في غسل الوجه ) :

فقال أصحاب الشافعي : إنّه مستحب ، وحكي عن ابن عمر مثل ذلك(٢) .

قال القرطبي في تفسيره : ( وأمّا العينان فالناس كلّهم مجمعون على أنّ داخل العينين لا يلزم غسله ، إلاّ ما روي عن عبد الله بن عمر أنّه كان ينضح الماء في عينيه ، وإنّما سقط غسلهما للتأذي بذلك والحرج به.

قال ابن العربي : ولذلك كان عبد الله بن عمر لمّا عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك )(٣) .

وقال الجصاص الحنفي في ( أحكام القرآن ) : ( فإن قيل أنّ ابن عمر كان يدخل الماء عينه في الجنابة؟ قيل له : لم يكن يفعله على وجه الوجوب ، وقد كان مصعباً على نفسه في أمر الطهارة يفعل فيهما ما لا يراه واجباً ، قد كان يتوضأ لكلّ صلاة ويفعل أشياء على وجه الإحتياط لا على وجه الوجوب )(٤) .

وقال السرخسي الحنفي في ( المبسوط ) : ( وحدّ الوجه من قصاص

____________________

(١) تفسير الرازي ١١ / ١٥٧.

(٢) الخلاف ١ / ٨٥.

(٣) تفسير القرطبي ٦ / ٨٤.

(٤) أحكام القرآن ٢ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٢٩٩

الشعر إلى أسفل الذقن إلى الأذنين ، لأنّ الوجه أسم لما يواجه الناظر إليه ، غير أنّ إدخال الماء في العينين ليس شرط ، لأنّ العين شحم لا يقبل الماء.

وفيه أيضاً : فمن تكلف له من الصحابة رضوان الله عليهم كُفّ بصره في آخر عمر كابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم )(١) .

وقال الكاساني في ( بدائع الصنائع ) : ( وإدخال الماء في داخل العينين ليس بواجب ، لأنّ داخل العين ليس بوجه ، لأنّه لا يواجه إليه ، ولأنّ فيه حرجاً ، وقيل أنّ من تكلف لذلك من الصحابة كفّ بصره كابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم )(٢) .

وقال أيضاً : ( واحتج بحديث ابن عباس رضي الله عنه أنّ طبيباً قال له بعد ما كفّ بصره : لو صبرت أياماً مستلقياً صحت عيناك. فشاور عائشة وجماعة من الصحابة رضي الله عنه فلم يرخصوا له في ذلك ، وقالوا له : أرأيت لو مّتَ في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟

ثم قال الكاساني : وتأويل حديث ابن عباس رضي الله عنه : أنّه لم يظهر لهم صدق ذلك الطبيب فيما يدعي )(٣) .

هذه جملة ممّا قالوه في سبب عماه. وقد أبعدوا مرمى حجارتهم حتى نالت ابن عمر أيضاً فجعلوه أعمى ، وهذا لم يذكره مترجموه في ترجمته ، راجع ( الإصابة ) ، و ( الإستيعاب ) ، و ( أسد الغابة ) ، وطبقات ابن سعد.

____________________

(١) المبسوط ١ / ٦.

(٢) بدائع الصنائع ١ / ٨٧.

(٣) نفس المصدر ١ / ٣١٦.

٣٠٠

وأمّا عن سبب عمى ابن عباس ، فقد ذكرت في الجزء الرابع من الحلقة الأولى ما يغني عن إعادته.

وأمّا عن مشاورته عائشة وأم سلمة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة فلم يرخصوا له في إجراء العملية ، وقالوا له : أرأيت إن متّ في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟

وبهذا أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية ، فهو لا يعلم كيف يعمل فيستفتي عائشة وأبا هريرة وبعض الصحابة!!

فأين أثر دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يفقهه في الدين ويعلّمه الحكمة؟!

وأين صارت شهادة عائشة في سنة ( 35 هـ ) فسألت : من ولي أمارة الموسم؟ فقيل لها : ابن عباس ، قالت : أنّه أعلم الناس بالحج! فكيف صار الآن لا يعرف تكليفه الشرعي؟!

وهو الذي قال عنه طاووس : ( رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تدارؤا صاروا إلى قول ابن عباس ).

وقد مرّت بنا هذه الأقوال وغيرها في الجزء الثاني من هذه الحلقة فراجعها تجدها مع مصادرها.

وقد قرأنا شواهد ومشاهد في أعقاب حرب الجمل فيها مواقف متشنجة بين ابن عباس وعائشة ، فكيف نستغفل عقولنا ونقبل ما رواه الرواة ممن طُبعوا على حبّ أم المؤمنين ، فصارا يبنون لها أهرامات من الفضائل تفوق أهرامات مصر الفرعونية!

٣٠١

( الحديث الرابع ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس في بدعية صلاة ركعتين بعد العصر ، حيث روي : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : يا بن عباس ما هاتان الركعتان؟ فقال : بدعة وصاحبها صاحب بدعة ، ولمّا فرغ ابن الزبير سألهما عما قالاه فأخبراه ، قال : ما ابتدعت ، ولكن حدثتني خالتي عائشة. فأرسل معاوية إليها ، فقالت : صدق ، حدثتني أم سلمة ، فأرسل إلى أم سلمة : أنّ عائشة حدثتنا عنكِ بكذا ، فذكرت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم بعد العصر ( فقمت وراءه فصليت ) فلما أنفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت وصليت معك ، فقال : إنّ عاملاً لي على الصدقات قدم عليَّ فجمعت عليه ).

ثم روى الزركشي عن الصحيحين ، عن كريب : أنّ ابن عباس وابن أزهر والمسور أرسلوا إلى عائشة لأنّهم أخبروا أنّها تصليها والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ، فقالت : سلوا أم سلمة ثم ذكر نحو ما سبق.

فهذا الحديث يدلّ على مخالفة عائشة لنهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإتيان بهما ، وأنّ ابن عباس كان هو وعمر يضربان الناس عنها. فالأحرى أن يعدّ الزركشي هذا الحديث ممّا إستدركه ابن عباس على عائشة لا العكس! لكن الزركشي شغوف بلملمة أخبار عائشة مع الصحابة وإن إستلزم ذلك توهيناً لها من حيث يدري ولا يدري.

٣٠٢

( الحديث الخامس ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس فهو لا يستبطن كذبه متناً فقط ، بل تكفي آفة سنده ، فقد أعلّه المنذري بيزيد بن أبي زياد ، وقال غير واحد من الأئمة أنّه لا يحتج بحديثه ، ومهما يكن حال السند ، فإنّ ما رواه ابن عباس كما في المتن هو أولى بالقبول لحضوره مع أهل البيت مراسيم الدفن.

ولكن هلّم الخطب فيما روته عائشة فهو محلّ الشك في صدقه ، إذ لم تكن حاضرة حين التكفين! أليس هي التي كانت مع النساء اللواتي يلتدمن كما تقول هي فيما رواه أحمد في مسنده عنها ، قالت : ( مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت التدم مع النساء وأضرب وجهي )(1) ، وقد قالت أيضاً : ( ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ( ليلة الأربعاء )(2) .

فمتى حضرت التكفين ورأت ثياب الكفن؟!

فكلّ ما ورد عنها في هذا الشأن مشكوك في صحته ، لأنّها تريد إستبعاد عليّ عليه السلام وأهل البيت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

____________________

(1) مسند أحمد 6 / 274.

(2) الإستيعاب 1 / 47.

٣٠٣

وأنكى من ذلك إستبدالهم بآل أبي بكر! فهلمّ وأقرأ ما روته من خبر الحلّة التي أشتريت ليكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأدرجوه فيها ثم نزعت عنه.

فلنقرأ الخبر برواية ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه ( المغني ) وهو غير متهم عليها ، فقال في الخبر : ( وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعائشة أقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعرف بأحواله ، ولهذا لما ذكر لها قول الناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كُفن في برد ، قالت : قد أتي بالبُرد ولكنهم لم يكفنوه فيه ، فحفظت ما أغفله غيرها. وقالت أيضاً : أدرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حلّة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ، ثم نزعت عنه ، فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلّة وقال : أكفن فيها ، ثم قال : لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتصدق بها ). قال ابن قدامة : رواه مسلم(1) .

أقول : فهل تطلب أثراً بعد عين ، وتريد سخفاً بعد ميَن؟

فعائشة وعبد الله بن أبي بكر بطلا الحضور في الإحتضار والتكفين! وليذهب أهل البيت عليهم السلام جميعاً في غيابات الحقد الدفين ، كما تريد أم المؤمنين ، وليكتب الزركشي ما يزركش به أخبارها ولو على حساب الآخرين.

على أن ابن شهاب الزهري ـ وهو غير متهم على عائشة ـ قال : ولم يله إلاّ أقاربه(2) .

____________________

(1) المغني 2 / 329.

(2) أنظر دلائل النبوة للبيهقي 7 / 234 ، عن هامش ، التمهيد لابن عبد البر 9 / 358 ط الإحياء للتراث العربي.

٣٠٤

( الحديث السادس ) :

ما رواه الزركشي عن عكرمة عن ابن عباس في حديث ( رأى ربّه مرتين ) ، وإنكار عائشة عليه الرؤية ، والخبر الذي رواه في سنده من قال فيه ابن المبارك : أرم به ، لكن الزركشي لم يرم به ، بل أطال في جميع ما يتعلق بالموضوع وحكى قول ابن خزيمة : أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها.

وحكى قول أحمد : ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أدري ما وجهه.

ثم الحديث في متنه : ( قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، وابن عباس لم يكن يقول بالرؤية البصرية كما هو واضح من لفظ الحديث الذي ذكره الزركشي نقلا ًعن الترمذي في التفسير ، وهو مخالف لقول الله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .

وفي سنده من هو مخدوش ، ورواية مسلم له في الصحيح لا تضفي عليه شرعية أبداً ـ فكم في كتابي الصحيح من حديث غير صحيح ـ وسيأتي عن ابن عباس في جواب نجدة بن عامر ـ عويمر ـ الخارجي وقد سأله : ( كيف معرفتك بربّك؟ فأجابه أعرفه بما عرّف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ) ، فهذا ينفي صحة نسبة القول بالرؤية البصرية إليه ، وسيأتي خبره مع نجدة فيما يأتي.

____________________

(1) الأنعام / 103.

٣٠٥

ومجرد رواية الترمذي عن عكرمة ذلك ، لا يضفي عليه الصحة.

ولم لا يكون الخبر من بعض أكاذيب عكرمة على مولاه ، وقد مرّت بعض الشواهد على ذلك ، كما سيأتي غيرها.

( الحديث السابع ) :

ما ذكره الزركشي في إحالة ابن عباس معرفة الوتر عليها ـ في حديث رواه مسلم في صحيحه ـ وأنّ سعد بن هشام سأل ابن عباس عن الوتر ، فقال : ( ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : نعم ، قال عائشة )(1) .

أقول : إنّ هذا الحديث الذي ذكره لا يصح الإعتماد عليه! لإختلاف النقل عن عائشة ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ، كما ذكره الزركشي نفسه.

وكيف نصدّق نحن بالخبر ، وابن عباس الذي كان يبيت في بيت خالته ميمونة ليحفظ ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاة وأذكار ـ وقد مرّت في الحلقة الأولى في الجزء الأوّل عدّة شواهد على هذا ـ فكيف صار لا يعلم عن صلاة الوتر شيئاً حتى أحال على أعلم أهل الأرض؟ يا لها من دعوى عريضة مريضة!!

لكن زوامل الأسفار يكتبون ما راق لهم ، أو يملى عليهم من السلطات الحاكمة من رفعهم عائشة إلى مقام لم تكن فيه عالمة ولا حالمة.

____________________

(1) صحيح مسلم 2 / 269 ط صبيح.

٣٠٦

( الحديث الثامن ) :

ما ذكره الزركشي من حديث عائشة وقد ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) بالتخفيف ، فذكر الزركشي ما أخرجه البخاري في صحيحه في التفيسر عن ابن أبي مليكة قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (1) الخ بالتخفيف إلى آخر الخبر ، بينما كانت عائشة تقرؤها( كُذّبُوا ) مثقلة.

أقول : ما مرّ من إختلاف القراءة فيه نظر! فإنّ القراءة بالتخفيف هي قراءة أهل البيت عليهم السلام عليّ وزين العابدين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وزيد بن علي وابن عباس ، وهي أيضاً قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والأعمش وغيرهم ، وهي قراءة أهل الكوفة(2) .

وقد أطنب الطبري في تفسيره ، فساق ثماني عشرة رواية عن ابن عباس مؤداها متفق عليه بين الرواة عن ابن عباس ، وأوّلها بسند الطبري ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (3) ، قال : ( لمّا أُيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك ، فننجي من نشاء )(4) .

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) مجمع البيان 5 / 465 ط الأعلمي.

(3) يوسف / 110.

(4) تفسير الطبري 13 / 82 ـ 83.

٣٠٧

وما جاء في بعضها أنّ ابن عباس قال : إنّهم ـ أي الأنبياء ـ بشر ، أي أنّهم هم الذين ظنوا ، فهذا وهم في الفهم ، فابن عباس لم يقل ذلك.

وقد ورد في ( عيون أخبار الرضا عليه السلام ) للشيخ الصدوق ، بسنده : عن علي بن محمد بن الجهم : أنّ المأمون قال لأبي الحسن ـ الرضا عليه السلام ـ : فأخبرني عن قول الله تعالى :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (1) ؟ قال الرضا عليه السلام : يقول الله : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم أنّ الرسل قد كذبوا ، جاء الرسل نصرُنا.

وهذا هو عين ما رواه ثلاثة من تلاميذ ابن عباس ، كما في ( الدر المنثور ) للسيوطي في تفسير الآية ، قال : ( أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابراهيم ، عن أبي حمزة الجزري ، قال : صنعت طعاماً فدعوت ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير ، والضحاك بن مزاحم ، فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير ، فقال : يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف ، فإنّي إذا أتيت عليه تمنيت أنّي لا أقرأ هذه السورة( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم وظنّ المرسَل إليهم أنّ الرسل قد كُذبوا فقال الضحاك : لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلاً )(2) .

ومهما يكن فحسب القارئ من فقاهة السيدة عائشة أنّها لم تكن ترى

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) الدر المنثور 4 / 41.

٣٠٨

نفسها أم المؤمنين رجالاً ونساءً! بينما كانت أم المؤمنين أم سلمة ترى أنّها أم المؤمنين رجالاً ونساءاً. أخرج ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن مسروق ، عن عائشة في قوله :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (1) . قال : فقالت لها أمرأة : يا أمه ، فقالت عائشة : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ، قال : فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن موسى المخزومي ، فقال : أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية عن أم سلمة ، أنّها قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء )(2) .

أقول : وأحسب أنّ عائشة قالتها في ساعة غضب على النساء اللاتي كنّ يسألنها عن شرعية خروجها في حرب الجمل كأم جميع وأضرابها.

وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً ، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ بأنّ الزركشي لم يكن دقيقاً في إختياره اسم كتابه ، إذ تبيّن أنّ ما ذكره تحت عنوان ( استدراكها على ابن عباس ) لم يكن خالياً من الإلباس ، وما ذكره لو يصح ولا يَصح ـ لا يعني أنّ بين عائشة وابن عباس من الوئام ما يصح معه زعم التواصل والتساؤل في الأحكام ، بل أنّ ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً ، وبقيا على حالهما كذلك حتى ماتت عائشة ، ولعلّه اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت عليهم السلام. وكان ابن

____________________

(1) الأحزاب / 6.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 128.

٣٠٩

عباس رجل الساعة والساحة المناصر لأهل البيت عليهم السلام ، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم ، كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث ، والشواهد على ذلك متوفرة.

فقد أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في ( كفاية الطالب ) وعنه الأربلي في ( كشف الغمة ) قال : ( روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال : ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند عائشة وابن عباس حاضر ، فقالت عائشة : كان من أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال ابن عباس : وأيّ شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله ، وارتضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأخوّته ، واختاره لكريمته ، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده ، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود ، وإن أردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه ، وإن أردتِ شجاعته فبَهمة حرب وقاضية حتم ، يصافح السيوف أنساً ، لا يجد لوقعها حسّاً ، ولا ينهنه نعنعة ، ولا تفله الجموع ، الله ينجده ، وجبرئيل يرفده ، ودعوة الرسول تعضده ، أحدّ الناس لساناً ، وأظهرهم بياناً ، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب ، عظته أقلّ من عمله ، وعمله يعجز عنه أهل دهره ، فعليه رضوان الله ، وعلى مبغضيه لعائن الله )(1) .

وإنّما قال ابن عباس رضي الله عنه هذا لأنّه كان يعلم من عائشة موقفها المتشنج إزاء أهل البيت عليهم السلام خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحتى

____________________

(1) كشف الغمة 1 / 363 ، كما في البحار 40 / 51 ط الجديدة.

٣١٠

الحسن والحسين عليهما السلام ، فلم تكن تأذن لهما بالدخول عليها ، وإذا أذنت احتجبت منهما ، وكان ابن عباس يشجب موقفها هذا ، فقد أخرج ابن سعد في ( الطبقات الكبير ) بسنده عن عكرمة قال : ( سمعت ابن عباس يقول ـ وبلغه أنّ عائشة احتجبت من الحسن بن علي ـ فقال : إنّ رؤيته لها لحلّ )(1) .

وقد مرّت بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى محاورة ابن عباس مع عائشة عند موت الحسن عليه السلام فليرجع القارئ إليها. فهي محاورة تكشف عن مبلغ التشنج عند الطرفين المتباعدين المتباغضين.

وقد إستدام حقد عائشة حتى عند موتها ، فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن ذكوان مولى عائشة : ( أنّه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك.

فقالت : دعني من ابن عباس ومن تزكيته.

فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن : إنّه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله ، فأئذني له فليسلّم عليك وليودّعك.

قالت : فأئذن له إن شئت.

قال : فإذن له ، فدخل ابن عباس ثم سلّم وجلس ، وقال : أبشري أم المؤمنين

____________________

(1) الطبقات الكبرى8 / 128ط ليدن.

٣١١

فقالت : دعني يا بن عباس من هذا ، فو الله لوددت أنّي كنت نسياً منسيّاً(1) (2) . فقد جزعت حين احتضرت. فقيل لها ، فقالت : أعترض في حلقي يوم الجمل )(3) .

وإلى هنا ننهي الحديث عن ابن عباس مع عائشة ، ونستقبل بقية محاوراته مع معاوية وأشياعه.

____________________

(1) مسند أحمد 1 / 349 ط الأولى و 5 / 90 برقم ( 3262 ) ط شاكر.

(2) قال شاكر : في هامش الحديث برقم ( 2496 ) إسناده صحيح وهو مطول 1905 ، ورواه البخاري 8 / 371 ـ 372 مختصرا.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 345.

٣١٢

محاورات ابن عباس مع معاوية

قميصّ عثمان أضحى مضربَ المثل

لكلّ ثائرة من أخبث الحيل

في كلّ واقعة كذباً مخادعةً

صار الشعار لعيّابين في الدوَل

لو ينشر اليوم عثمانٌ لطالبهم

مع القصاص له بالغُنم من نفَل

فليته لو وعى نصحاً لجنّبه

تلك المآسي ولكن شاب عن عَذَل

فكان ما كان من أمرٍ تخيّره

شيخٌ ضعيفٌ هوى في حمأة الزَلَل

فأورث الناس آلاماً بمقتله

زلّت به النعل فالتاثته بالوَحَل

فأوّل القوم من نادوا بمقتله

ثاروا له اليوم يا للقلب الحَوِل

هم ناقموا الأمس قد جاؤا بأمّهمُ

وسيرّوا عسكراً في وقعة الجَمَل

وعاهل الشام أدلى في قليبهم

فقد رأى فرصة وافت لمهتبل

فحرب صفين قد أورى شرارتها

في النهروان فأورت كُلِّ ذي شُعلِ

حتى الطفوف وقتل السبط من ذَحل

حرق الخيام بتلك النار لم يَزل

ما ثأر عثمان أحماهم وأغضبهم

لولا الخلافة عادت للإمام عليّ

تلكم قريشُ لتأبى أن ترى رجلا

بالأمس قاتلهم واليوم فيه يلي

٣١٣

فأعصبوا قتل عثمان بحيدرة

أبناءُ من سجدوا دهراً إلى هُبل

هذا عليّ وهذي بعضُ محنته

أن يعصبوه دماً من خاتم الرّسُل

قال الزمخشري : قميص عثمان الذي قتل فيه ، مَثَلٌ فيما يهيّج الحزن ويجدّد الحسرة والبكاء ، وعن عمرو بن العاص : أنّه لمّا أحسّ من العسكر فتوراً أشار على معاوية بأن يبرز لهم قميص عثمان ، فلمّا وقعت عيونهم عليه ، ارتفعت صيحتهم بالبكاء والنحيب ، وجدّوا في الحرب فعندها قال حرّك لها حوارها تحنّ(1) .

مَن هم قتلة عثمان؟ هل هم بنو هاشم؟ أم هم بنو أمية؟

هذا سؤال قد يثير استغراباً لدى القارئ إذ لم يرد في التاريخ أنّ واحداً من هؤلاء قد شارك في قتل عثمان ، مباشرة ، فلماذا إذن السؤال؟

والجواب يُعرف من الأبيات المتقدمة ، وعلى هذا الوتر كانت أصابع معاوية تضرب وأبواقه تعزف بأنّ عليّاً قتل عثمان! وإذا حوقق قال : آوى قتلته!

ولم يكن ابن عباس بعيداً عن مرمى معاوية في حجارته لعداوته ، وسنقرأ في كثير من محارواته ما يدلّ على ذلك. وإذا بحثنا عن جذور تلك العداوات نجدها متأصلة في فرعي عبد مناف بني هاشم وبني أمية منذ عهد بعيد ، فلنقرأ بعض ما جاء في ذلك :

____________________

(1) ربيع الأبرار 4 / 32 ط أوقاف بغداد.

٣١٤

إنّ من راجع كتاب ( السفيانية ) للجاحظ ، و ( النزاع والتخاصم ) للمقريزي وأضرابهما ، يجد جذور العداوة بين بني أمية وبين بني هاشم وهم من قريش ، ضاربة في أصولها متنامية في فروعها ، ولم يخف ذلك على الباحثين من قدامى ومحدثين.

فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان حاجب الحجاب ، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه(1) ، فلنقرأ ما يقول وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان ، فقال : ( هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ، ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّج عليّاً بابنته ، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى ، وكان إختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة أكثر من إختصاصه للبنت الأخرى ، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. وإختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به وإستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من إختصاصه لعثمان ، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما ).

إلى أن قال : ( ثمّ أتفق أنّ عليّاً عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بني عبد

____________________

(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال : وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.

٣١٥

شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتأكد الشنآن ، وإذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.

ثمّ مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المتخلّفين عن البيعة ، وكانت في نفس عليّ عليه السلام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوّة عمر وشدّته ، وانبساط يده ولسانه.

فلمّا قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة ، وعدل بها عبد الرحمن عن عليّ إلى عثمان ، لم يملك عليّ نفسه فأظهر ما كان كامناً ، وأبدى ما كان مستوراً ، ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم.

ومع ذلك فلم يكن عليّ عليه السلام لينكر من أمره إلاّ منكراً ، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.

وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً ، قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم ، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه )(1) .

ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو أُمية الإمام عليه السلام وبني هاشم ، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم ،

____________________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 401 ط مصر الأولى.

٣١٦

ولكنها الأحقاد الأموية.

فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله : هل شرك عليّ في دم عثمان؟

فقال : ( لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية ، ولكنّه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن )(1) .

واقرأ لابن عمر كلمته الأُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان.

قال : ( ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال )(2) .

وليس عروة بن الزبير بدون ابن عمر في نصبه ، ومع ذلك فقد كان يقول : ( كان عليّ أتقى لله من أن يعين في قتل عثمان ، وكان عثمان أتقى لله من أن يعين في قتله عليّ )(3) .

وقال ابن سيرين : ( لقد قتل عثمان يوم قتل وما أحد يتهم عليّاً في قتله )(4) .

ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، جاء فيه : ( لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ولا بيدك أمان ).

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 593.

(2) نفس المصدر 4 / 595.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 355 ط اوقاف بغداد.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 594.

٣١٧

فأجابه بجواب طويل جاء فيه : ( وأمّا قولك أنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوماً ، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت ،( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (1) (2) .

نعم ، إنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان هذا أوّلاً ، لأنّهم يرون أنّ الحقّ لهم ، وكانوا أيضاً من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عمالُه ، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته ، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.

فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عثمان؟ فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(3) .

____________________

(1) الأنبياء / 111.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 58.

(3) نفس المصدر 1 / 231.

٣١٨

وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال : ( نعم شهده ثمانمائة )(1) .

فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين قتلوا عثمان ، ومن هم الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه ، لكن من تولى كبر قتله ، لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان ، وإذ لم يكونوا معهم ، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ إنّهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه ، بل كانوا من المدافعين عنه ، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم ، وكان يتّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف ـ بني هاشم وبني أمية ـ.

والآن إلى ما رواه البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والنويري ، نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لعثمان ، ننقلها بلفظ الطبري :

قال ـ بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان ـ : ( فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رأيتَ

____________________

(1) نفس المصدر.

٣١٩

وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ونلتَ صهره.

وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم رَحِماً ، ولقد نلتَ من صهر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ما لم ينالا. ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنّك والله ما تُبصّر من عَمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإنّ أعلام الدين لقائمة ، تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هُدي وهَدىَ ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة ، فوالله إن كلاً لبيّن وإنّ السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، فيدور في جهنم كما تدور الرحا ، ثمّ يرتطم في غمرة جهنم ).

وإنّي أحذّرك الله ، وأحذّرك سطوته ونقماته ، فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنّه يقال : يقتل في هذه الأمة إمام ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتُلّبس أمورُها عليها ، ويتركهم شيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496