موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس16%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93276 / تحميل: 4731
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

فقال عثمان : قد والله علمتُ ، ليقولُنّ الذي قلتَ ، أما والله لو كنتَ مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ، ولا عبت عليك ، ولا جئت مُنكراً أن وصلتَ رحماً ، وسددت خلّة ، وآويت ضائعاً ، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولّي.

أنشدك الله يا عليّ هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟

قال : نعم.

قال : فتعلم أنّ عمر ولاّه؟

قال : نعم.

قال : فلم تلومني أن ولّيت ابن عامر في رحمه وقرابته؟

قال عليّ : سأخبرك ، إنّ عمر بن الخطاب كان كلّ من ولّى فإنّما يطأ على صماخه ، إن بلغه عنه حرف جلبه ثمّ بلغ به أقصى الغاية ، وأنت لا تفعل ، ضعفتَ ورقـَقتَ على أقربائك.

قال عثمان : هم أقرباؤك أيضاً.

فقال عليّ : لعمري إنّ رحمهم مني لقريبة ، ولكن الفضل في غيرهم.

قال عثمان : هل تعلم إنّ عمر ولّى معاوية خلافته كلّها؟ فقد وليته.

فقال عليّ : أنشدك الله هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟

قال : نعم.

قال عليّ : فإنّ معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت لا تعلمها ، فيقول للناس : هذا أمر عثمان فيبلغك فلا تغيّر على معاوية.

٣٢١

ثمّ خرج عليّ من عنده ، وخرج عثمان على أثره ، فجلس على المنبر فقال : أمّا بعد ، فإنّ لكلّ شيء آفة ، ولكلّ أمر عاهة ، وإنّ آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيّابون طعّانون ، يُرونكم ما تحبون ، ويُسرّون ما تكرهون ، يقولون لكم وتقولون ، أمثال النعام يتبعون أوّل ناعق ، أحبّ مواردها إليها البعيد ، لا يشربون إلاّ نَغَصاً ، ولا يردون إلاّ عكَراً ، لا يقوم لهم رائد ، وقد أعيتهم الأمور ، وتعذّرت عليهم المكاسب.

ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنه وطأكم برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه ، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم ، ولنتُ لكم ، وأوطأت لكم كنفي ، وكففت يدي ولساني عنكم ، فأجترأتم عليَّ.

أما والله لأنا أعزّ نفراً ، وأقرب ناصراً ، وأكثر عدداً ، وأقمن إن قلت هلمّ أُتي إليّ ، ولقد أعددت لكم أقرانكم ، وأفضلت عليكم فضولها ، وكشّرت لكم عن نابي ، وأخرجتم مني خُلُقاً لم أكن أحسِنَه ، ومنطقاً لم أنطق به ، فكفّوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ، فانّي قد كففت عنكم مَن لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا.

ألا فما تفقدون من حقّكم؟ والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ مَن كان قبلي ، ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فَضَل فضلٌ من مال ، فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد! فلمَ كنت إماماً؟!

فقام مروان بن الحكم ، فقال : إن شئتم حكّمنا والله بيننا وبينكم السيف

٣٢٢

نحن وأنتم كما قال الشاعر :

فرشنا لكم أعراضَنا فنبت بكم

مغارسُكم تبنون في دمن الثرى

فقال عثمان : أسكت لا سكتّ ، دعني وأصحابي ، ما منطقك في هذا؟ ألم أتقدّم إليك ألاّ تنطق!

فسكت مروان ونزل عثمان )(١) .

هكذا كان موقف الإمام عليه السلام في نصحه ، ولكن عثمان وبني أمية لا يحبون الناصحين.

وختاماً كانت لابن عباس مواقف مع الشانئين من قريش الذين تولوا السلطة فاتخذوا سيرة الشيخين حجة في استبعاد بني هاشم ، فكانت له أحاديث مرفوعة تحض على مودة أهل البيت عليهم السلام ، فكان يرويها للمسلمين حرصاً على هدايتهم أن يخدعهم الإعلام الكاذب من حكام قريش.

فمن الأحاديث ، ما رواه مرفوعاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( يا بني عبد المطلب إنّي سألت الله لكم أن يعلّم جاهلكم ، وأن يثبّت قائمكم ، وأن يهدي ضالكم ، وأن يجعلكم نجداء جوداء رحماء ، أما والله لو أنّ رجلاً صفّ قدميه بين الركن والمقام مصلياً ، ولقي الله وهو يبغضكم أهل البيت لدخل النار )(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٧ ـ ٣٣٩ ط دار المعارف. وأنظر أنساب الأشراف ١ ق ٤ / ٥٤٩ تحـ احسان عباس ، تاريخ الكامل ٣ / ٦٢ ـ ٦٤ ط بولاق ، والبداية والنهاية ٧ / ١٦٨ ط السعادة ، ونهاية الإرب ١٩ / ٤٧٠.

(٢) أمالي المفيد / ١٣٤ ط الحيدرية سنة ١٣٦٧.

٣٢٣

ومن بعض المواقف مع الشانئين ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج نقلاً عن الزبير بن بكار بسنده : عن عثمان بن عبد الرحمن ، قال : ( قال عبد الله بن عباس : والله لقد علمت قريش أنّ أوّل من أخذ الإيلاف وأجاز لها العيرات لهاشم. والله ما شدّت قريش رحالاً ولا حبلاً بسفر ، ولا أناخت بعيراً لحضر إلاّ بهاشم. والله انّ أوّل من سقى بمكة ماءً عذباً وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب )(١) .

كبرياء معاوية في عتابه واعتداد ابن عباس في جوابه :

روى ابن قتيبة في ( الإمامة والسياسة ) قال :

( وقدم معاوية بن أبي سفيان على أثر ذلك ـ يعني النقمة على عثمان ـ من الشام ، فأتى مجلساً فيه عليّ بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعمار بن ياسر ، فقال لهم : يا معشر الصحابة أوصيكم بشيخي هذا خيراً ، فوالله لئن قتل بين أظهركم لأملأنها عليكم خيلاً ورجالاً.

ثمّ أقبل على عمّار بن ياسر ، فقال : يا عمّار إنّ بالشام مائة ألف فارس كلّ يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم لا يعرفون عليّاً ولا قرابته ، ولا عمّاراً ولا سابقته ، ولا الزبير ولا صحابته ، ولا طلحة ولا هجرته ، ولا يهابون ابن عوف ولا ماله ، ولا يتقون سعداً ولا دعوته ، فإياك يا عمّار أن

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٤٥٨.

٣٢٤

تقع غداً في فتنة تنجلي ، فيقال هذا قاتل عثمان ، وهذا قاتل عليّ.

ثمّ أقبل على ابن عباس ، فقال : يا ابن عباس إنّا كنا وإياكم في زمان لا نرجوا فيه ثواباً ولا نخاف عقاباً ، وكنّا أكثر منكم فوالله ما ظلمناكم ولا قهرناكم ولا أخرناكم عن مقام تقدّمناه ، حتى بعث الله رسوله منكم فسبق إليه صاحبكم فوالله ما زال يكره شركنا ويتغافل به عنا ، حتى ولي الأمر علينا وعليكم ، ثمّ صار الأمر إلينا وإليكم ، فأخذ صاحبنا على صاحبكم لسنّه ، ثمّ غيّر فَنَطق ونُطقَ على لسانه ، فقد أوقدتم ناراً لا تطفأ بالماء.

فقال ابن عباس : كنا كما ذكرت حتى بعث الله رسوله منّا ومنكم ، ثمّ ولي الأمر علينا وعليكم ، ثمّ صار الأمر إلينا وإليكم ، فأخذ صاحبكم على صاحبنا لسنّه ولما هو أفضل من سنّه ، فوالله ما قلنا إلاّ ما قال غيرنا ، ولا نطقنا إلاّ بما نطق به سوانا ، فتركتم الناس جانباً وصيّرتمونا بين إن أقمنا متهمّين ، أو نزعنا مُعتَبن ، وصاحبنا من قد علمتم والله لا يهجهج مهجهج إلاّ ركبه ، ولا يرد حوضاً إلاّ أفرطه ، وقد أصبحتُ أحبُ منك ما أحببت وأكره ما كرهت ، ولعلّي لا ألقاك إلاّ في خير )(١) .

وكانت بين معاوية وابن عباس في تلك الفترة قصة :

( حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها )

( كان عقيل بن أبي طالب قد تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ـ برغبة

____________________

(١) أنظر الإمامة والسياسة ١ / ٢٧ مط الأمة سنة ١٩٢٨ م ، مسند أحمد ١ / ٥٧ وهو أوّل حديث فيه من مسند عثمان ، فراجع ، ومرة أخرى ١ / ٦٩.

٣٢٥

منها فيه ـ فقالت له : تصير لي وأنفق عليك. فكان إذا دخل عليها ، قالت : أين عتبة بن ربيعة؟ وشيبة بن ربيعة؟ ـ وكانا من المقتولين ببدر ـ فيسكت عنها ، حتى إذا دخل عليها يوماً وهو بَرِم ، قالت : أين عتبة بن ربيعة وشيبة ابن ربيعة؟ قال : عن يسارك في النار إذا دخلتِ ، فشدّت عليها ثيابها ، فجاءت عثمان فذكرت ذلك له ، فضحك فأرسل إلى ابن عباس ومعاوية ـ وكان يومئذ بالمدينة ـ فقال ابن عباس : لأفرقنّ بينهما ، وقال معاوية : ما كنت لأفرّق بين شيخين من بني عبد مناف ، فأتيا فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما فرجعا )(١) .

فهكذا بدايات مؤسفة لابدّ أن تأتي بنتائج سيئة ، ونهايات محزنة ، وتبقى نار العداوات بين الأجداد تورث في الأولاد والأحفاد ، فإنّ تخبو حيناً فإنّها أحياناً تستعر حين توافيها الظروف وينفخ فيها هوى الأهواء ، فإن بدت منذ أيام عثمان وقدتها ، فقد توقدت في أيام معاوية جمرتها ، فكانت أيام سوء على المسلمين عامّة وعلى بني هاشم خاصة ، وقد طالت أربعين عاماً ـ عشرين منها والياً على الشام وعشرين منها ملكاً على المسلمين ـ وجرت في أيامه أنهار الدماء من شيعة الإمام عليه السلام إذ عمّهم بالبلاء ، وكان يتربص بأهل البيت عليهم السلام فأضمر لهم كلّ مكروه ، وجرّعهم الغصص بما لا يوفّي حقّه القَصَص.

وكان ابن عباس مستهدفاً لمعاوية منذ حين ، ومرّ بنا مخادعته

____________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ٦ / ٥١٢ / ٥١٣ ، وقارن تفسير الطبري ٥ / ٤٥ باختصار.

٣٢٦

ومخاتلته في حرب صفين ، وتراكمت التداعيات من بعد إستشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وكلّما امتد الزمن بهما كثرت المحاورات بينهما ، ولمّا هادن الإمام الحسن عليه السلام حقناً للدماء ، بعد أن رأى خَوَر الكثير من أصحابه ، ونفاق بعضهم ممن استمالهم معاوية ، فكانوا له عيوناً في العراق ، فاستقامت لمعاوية بسياسة الخداع الحكومة ، وصار أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم في ضنك وضيق ، فكانوا يفدون عليه بالشام لأخذ عطائهم ممّا يفوّقهم فيه تفويقاً ، ضغطاً عليهم وتضييقاً.

وكان ابن عباس أكثرهم جدالاً وجلاداً مع معاوية ، فهو حين يدمغه بالحجة ، يتركه مراوغاً بالمودة والنسب ، تفادياً من غرب لسانه.

فكان يتقيه ، وكان ابن عباس يتعمّد إساءته ويتطلب مناظرته ، لكن معاوية يتهرّب ما وسعه الهرب ، ويقول : ( ما باحثت أحداً في عقله أشد علماً من ابن عباس )(١) .

فقد روى الراغب الإصفهاني في كتابه ( محاضرات الأدباء ) في باب ذم المراء في المناظرة : أنّ ابن عباس قال لمعاوية : هل لك في مناظرتي فيما زعمت؟

قال : وما تصنع في ذلك فأشعب بك وتشعب لي ، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك ، ويبقى في قلبي ما يضرك(٢) .

____________________

(١) المقفى الكبير للمقريزي ٤ / ٥١٨ ط دار الغرب الإسلامية بيروت.

(٢) مخطوط المكتبة الرضوية برقم ( ٤٤٠٣ ) وفي المطبوعة بمصر ١ / ٣٤ ، والتذكرة الحمدونية ٢ / ١٤٤ ، وبهجة المجالس ١ / ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

٣٢٧

وقال له معاوية : أخبرني عن بني هاشم وبني أميّة؟

قال : أنت أعلم بهم.

قال : أقسمت عليك لتخبرني.

قال : نحن أفصح وأصبح وأسمح ، وأنتم أمكر وأنكر وأغدر(١) .

فكان يحتمل منه قوارع الكلم وقوارص الشتم ، بما هو فيه ما لم ينقل عنه أنّه تحمّله من غيره ، وأحسب أنّ السبب هو معرفته بابن عباس وبما أشتملت عليه جوانحه من أوليات معاوية وفيها فضائحه ، وقد مرّت بعض الشواهد على هذا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى ، رغم ما أحيط به شخص معاوية من أسطورة الحلم يبقى ابن عباس كالصقر مع فريسته.

ومن أوّل محاورة جرت بينهما سواء كانت بالشام أو كانت بالمدينة في المسجد الشريف على ملأ من السملمين ، نجد غلبة ابن عباس ، ومنها نعرف مغزى كلمة من قال عن ابن عباس : ( وكان ابن عباس حقّاراً له ). وسنأتي على معناها قريباً تحت عنوان : ( ذلك أدحض لحجتك ).

وكم مرّة أراد معاوية الوقيعة بابن عباس من طريق إحراجه ببعض المسائل ذات الحساسية العالية في نفوس العامّة ، كسؤاله عن الخلفاء واحداً واحداً ، فكان ابن عباس في جوابه مخيباً لظن معاوية في الوقيعة به ، وإسقاطه في أنظار الدهماء.

فقال له مرّة : أنت على ملّة عليّ؟

____________________

(١) نثر الدر ١ / ٢٨٣ ط دار الكتب العلمية بيروت.

٣٢٨

فقال ابن عباس : ولا على ملّة عثمان ، أنا على ملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(١) .

فسكت معاوية وانقطع مخصوماً ، إذ كان ابن عباس في جوابه موفقاً في التخلص من شرّ أريد به ، فهو لم يخرج من صدق إيمانه في موالاته للإمام عليه السلام إذ كان عليّ عليه السلام على ملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما لم يغفل عن التعريض بعثمان بأنّه ليس على ملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأحسب أنّ السؤال والجواب كانا في الشام أمام أولئك الطغام ، الذين أشربوا حبّ العجل وأنشؤا على بغض الإمام عليه السلام وسبّه ، وهذا منه من الأجوبة المسكتة ، التي يبلغ بها حاجته ويدفع بها خصمه.

ولنبدأ بقراءة ما تيسر لي الإطلاع عليه من محاورات عقائدية مع معاوية وأشياعه ، ففيها من فنون الكلام ما تنفع معرفته في أصول الجدل والخصام :

( المحاورة الأولى )

هذه المحاورة ليست هي أوّل لقاء بين ابن عباس وبين معاوية ، بل سبق قبلها لقاء في الشام ، وقد مرّ تحقيق ذلك في الحلقة الأولى في الجزء الخامس ، وقد أخرجها من الفريقين ، جماعة لا يتطرق الريب إلى رواياتهم.

فممن رواها من العامّة :

____________________

(١) حلية الأولياء ١ / ٣٢٩.

٣٢٩

١ ـ الزبير بن بكار ( ت ٢٥٦ هـ ) في كتابه ( الموفقيات ) ، وهذا ممّا لم يوجد في المطبوع منه ، لكن قد روى النص عنه الأربلي في ( كشف الغمة ) ، وهذا من النصوص الضائعة كغيره ممّا استدركته على المحقق ، وقد بلغ خمسة عشر مورداً. وسيأتي نص رواية الموفقيات في الصورة المنقولة عنها كما في ( كشف الغمة )(١) .

٢ ـ الحافظ أحمد بن موسى الأصبهاني المعروف بابن مردويه ( ت ٣٥٦ هـ ) في مناقبه كما في ( كشف الغمة ) للأربلي. وسيأتي نص روايته كما في الصورة السابقة في وجودها في كشف الغمة.

٣ ـ أبو هلال العسكري ، من علماء القرن الرابع في كتابه ( الدلائل ). وسيأتي نص روايته في الصورة التي نقلها عنه السيوطي.

٤ ـ الحاكم النيسابوري المتوفى ( ت ٤٠٥ هـ ) في كتابه ( المستدرك على الصحيحين ). وسيأتي نص روايته في الصورة الأولى.

٥ ـ أبو حفص عمر بن عيسى الخطيب الدهلقي ، من أعلام القرن السادس في كتابه ( فضائل الخلفاء )(٢) . وسيأتي نص روايته في الصورة الثانية.

٦ ـ الحافظ السيوطي ( ت ٩١١ هـ ) في كتابه ( تاريخ الخلفاء ). وسيأتي نص روايته في الصورة الثالثة.

وحسبنا بهؤلاء الحفاظ من العامّة ، فإنّهم أخرجوا الجزء الأوّل من

____________________

(١) كشف الغمة ١ / ٤٠٦ منشورات الشريف الرضي.

(٢) مخطوطة مكتبة آيا صوفيا بتركيا برقم ( ٣٣٤٣ ) تاريخها ٩١٩ هـ.

٣٣٠

المحاورة.

أمّا من رواها من الخاصة فحسبنا منهم :

١ ـ التابعي الجليل سليم بن قيس الهلالي. وسيأتي نص روايته في الصورة الرابعة.

٢ ـ الوزير سعد بن منصور الآبي ( ت ٤٢١ هـ ) في كتابه ( نثر الدر )(١) . سيأتي نص روايته في الصورة الخامسة.

٣ ـ أبو منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي ، من علماء القرن السادس في كتابه ( الإحتجاج ). وسيأتي نص روايته في الصورة السادسة والتنبيه على أنّه ليس في المطبوع منه أثر.

٤ ـ أبو المعالي كافي الكفاة محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون ( ت ٥٦٢ هـ ) في كتابه ( التذكرة الحمدونية ). وسيأتي نص روايته في الصورة السابعة.

٥ ـ بهاء الدين علي بن عيسى الأربلي ، من أعلام القرن السابع الهجري في كتابه ( كشف الغمة ). وسيأتي نص روايته في الصورة الثامنة والتاسعة.

وحسبنا بمن ذكرناه من علماء الفريقين.

والآن إلى قراءة النص في الصور المتفاوتة في بعض ألفاظها ممّالم يغيّرمن جوهرها شيئاً :

____________________

(١) نثر الدر ١ / ٢٨٤.

٣٣١

( الصورة الأولى ) :

برواية الحاكم في ( المستدرك على الصحيحين ) بسنده : عن معروف ابن خربوذ المكي ، قال : ( بينا عبد الله بن عباس جالس ونحن بين يديه إذ أقبل معاوية فجلس إليه ، فأعرض عنه ابن عباس.

فقال له معاوية : مالي أراك معرضاً؟ ألست تعلم أنّي أحق بهذا الأمر من ابن عمك؟

قال : لمَ؟ لأنّه كان مسلماً وكنت كافراً؟

قال : ولكني ابن عم عثمان.

قال : فابن عمي خير من ابن عمك.

قال : إنّ عثمان قتل مظلوماً.

قال : ـ وعندهما ابن عمر ـ فقال ابن عباس : فإنّ هذا أحق بالأمر منك.

فقال معاوية : إنّ عمر قتله كافر وعثمان قتله مسلم.

فقال ابن عباس : ذاك والله أدحض لحجتك )(١) .

وقد مرّ في الجزء الخامس الحلقة الأولى تحقيق حول زمان ومكان المحاورة فراجع(٢) .

( الصورة الثانية ) :

روى الخطيبي الدهلقي في ( فضائل الخلفاء ).

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ / ٤٦٧.

(٢) موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى ٥ / ٣٣ فما بعدها.

٣٣٢

( قال معاوية : أنا كنت أولى بالأمر من ابن عمك ، لأنّي ابن عم الخليفة المقتول ظلماً ـ وكان ابن عمر إلى جنبه ـ

قال ابن عباس : هذا أولى بالأمر منك ، لأنّ أباه قُتل قبل ابن عمك )(١) .

أقول : ولا يخفى التخفيف والتلطيف في السياق ، ولا أقول أنّه التحريف في هذه الصورة!

( الصورة الثالثة ) :

ما رواه السيوطي في ( تاريخ الخلفاء ) ، قال :

( وأخرج العسكري في كتاب الأوائل عن سليمان بن عبد الله بن معمر ، قال : قدم معاوية مكة أو المدينة فأتى المسجد فقعد في حلقة فيها ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فأقبلوا عليه ، وأعرض عنه ابن عباس.

فقال : وأنا أحق بهذا الأمر من هذا المعرض وابن عمه.

فقال ابن عباس : ولم؟ ألتقدم في الإسلام؟ أم مع سابقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أو قرابة منه؟

قال : لا ولكني ابن عم المقتول.

قال : فهذا أحق به ـ يريد ابن أبي بكر ـ.

قال : إّن أباه مات موتاً.

قال : فهذا أحق به ـ يريد ابن عمر ـ.

____________________

(١) مخطوطة الكتاب في مكتبة أياصوفيا بتركيا برقم ( ٣٣٤٣ ) وتاريخ النسخة ٩١٩ هـ.

٣٣٣

قال : إنّ أباه قتله كافر.

قال : فذاك أدحض لحجتك إن كان المسلمون عتبوا على ابن عمك فقتلوه )(١) .

( الصورة الرابعة ) :

ما رواه التابعي سليم بن قيس في كتابه.

( قال سليم وعمر بن أبي سلمة : قدم معاوية حاجاً في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وصالح الحسن عليه السلام مرّ بحلقة من قريش ، فلمّا رأوه قاموا له غير عبد الله بن عباس.

فقال له : يا بن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاّ ما وجدت في نفسك علي بقتالي أياكم يوم صفين ، يا بن عباس إنّ ابن عمي قتل مظلوماً.

فقال له ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوماً ، فسلّم الأمر إلى ولده وهذا ابنه.

فقال : إنّ عمر قتله مشرك.

قال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟

قال : قتله المسلمون.

قال : فذلك أدحض لحجتك وأحلّ لدمه ، إن كان المسلمون قتلوه

____________________

(١) تاريخ الخلفاء / ١٣٤.

٣٣٤

وخذلوه فليس إلا بحق.

قال معاوية : فإنّا قد كتبنا في الآفاق ننهي عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته ، فكفّ لسانك يا بن عباس ، وأربع على نفسك.

فقال له ابن عباس : أتنهانا عن قراءة القرآن؟

قال : لا.

قال : أفتنهانا عن تأويله؟

قال : نعم.

قال : فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟

قال : نعم.

قال : فأيّما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

قال معاوية : العمل به.

قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.

قال : إنّما أنزل القرآن على أهل بيتي ، فأسأل عنه آل أبي سفيان وأسأل عنه آل أبي معيط؟ أو اليهود والنصارى والمجوس؟

قال معاوية : فقد عدلتنا بهم وصيّرتنا منهم.

فقال له ابن عباس : لعمري ما أعدلك بهم ، غير أنّك نهيتنا أن نعبد الله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ ، أو

٣٣٥

عام أو خاص ، أو محكم أو متشابه ، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا.

قال معاوية : فأقرؤا القرآن وتأولوه ، ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم من تفسيره ، وما قاله رسول الله فيكم ، وأرووا ما سوى ذلك.

قال ابن عباس : قال الله في القرآن :( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) .

قال معاوية : يا بن عباس إكفني نفسك وكفّ عنّي لسانك ، وإن كنت لابدّ فاعلاً ، فليكن ذلك سراً ، ولا يسمعه أحدّ منك علانية.

ثم رجع إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم )(٢) .

أقول : وقد مرّ بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى تعقيب على هذه المحاورة في شرعية أخذ المال من الحاكمين الظالمين ، فراجع.

( الصورة الخامسة ) :

رواها الوزير سعد بن منصور الآبي في كتابه ( نثر الدر ) ، قال :

( مرّ معاوية بقوم من قريش ، فلمّا رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس.

فقال : يا بن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك؟ ما ذاك إلاّ لموجدة أنّي قاتلتكم بصفين ، فلا تجد ، فإنّ عثمان ابن عمي قُتل مظلوماً.

قال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قُتل مظلوماً.

____________________

(١) التوبة / ٣٢.

(٢) كتاب سليم بن قيس٢ / ٧٧٧ و ٧٨٢ و ٧٨٤ ط الهادي بتحقيق الأنصاري.

٣٣٦

قال : إنّ عمر قتله كافر.

قال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟

قال : المسلمون.

قال : فذلك أدحض لحجتك )(١) .

( الصورة السادسة ) :

رواها الطبرسي في ( الإحتجاج ) ـ ولا توجد في المطبوع منه بل رواها عنه صاحب ( القمقام الزخار )(٢) ، وهذا يدلّ على نقصان المطبوع من ( الإحتجاج ) ـ قال : وجاء في الاحتجاج وغيره :

( ومرّ معاوية في اليوم الثاني ، فكان كلّما مرّ بملأ من قريش ترجلوا له وقام الجالس منهم ، إلاّ ابن عباس فلم يفعل ذلك ، فاغتاظ معاوية منه ووجَه خطابه إليه قائلا : ما لك لم تسلك مسلك أصحابك؟ أنا على يقين من أنّ غصة صفين ما زالت تعتادك في باطنك ، ولست أرى غمك نافعك شيئاً ، فإنّي طلبت بثأر ابن عمي عثمان الذي قتل مظلوماً ونهضتُ طالباً بدمه.

فأجابه ابن عباس : إن كنت تطلب بدم المظلوم فإنّ عمر قتل مظلوماً أيضاً.

فقال معاوية : كلا فإنّ عمر قتله كافر.

فقال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟

____________________

(١) نثر الدر ١ / ٢٨٤.

(٢) القمقام الزخار ١ / ٣٥ ط قم.

٣٣٧

فقال معاوية : قتله المسلمون.

فقال عبد الله : ذلك أدحض لحجتك.

فقال معاوية : يا بن عباس إنّي قد بعثت إلى الآفاق أن لا يذكر أحد من الناس شيئاً من فضل عليّ بن أبي طالب.

فقال ابن عباس : أتمنعنا من تلاوة كتاب الله؟

فقال معاوية : كلا.

فقال ابن عباس : أتمنعنا من تأويله؟

قال معاوية : نعم.

فقال ابن عباس : يا للعجب أفنقرأ كتاب الله ثم لا نفقه معناه؟ قل لي يا معاوية : هل العمل بكتاب الله أوجب أم تلاوته؟

فقال معاوية : بل العمل به.

قال : كيف نعمل به إذا جهلنا معناه؟

قال معاوية : سل غيرك ممن لا يذهب في تأويله مذهبكم أهل البيت.

فقال ابن عباس : إنّ القرآن في بيتنا نزل ، ونحن العالمون به ، أفنسأل آل معاوية وآل أبي سفيان عن معناه؟ أتريد بهذا أن تحول بيننا وبين بيان أحكامه للناس من الحلال والحرام؟

قال معاوية : كلا ، لا أفعل ذلك سجيس الليالي ، بل أقول أعملوا بمعناه وأكتموا ما نزل فيكم منه عن الناس.

٣٣٨

قال ابن عباس : إنّك إن تفعل هذا فإنّ الله يقول :( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) .

قال معاوية : إنّي اليوم أنهاك عن هذا ، وإن أبيت إلاّ عناداً فاحكِ ذلك في السرّ وأياك والعلن.

ولما عاد إلى الشام أرسل إلى ابن عباس بدرة فيها مأة ألف درهم )(٢) .

( الصورة السابعة ) :

رواها الحمدوني في ( التذكرة ) ، قال :

( مرّ معاوية بقوم من قريش ، فلمّا رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس.

فقال : يا بن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك؟ ما ذاك إلاّ لموجدة أنّي قاتلتكم بصفين ، فلا تجد ، فإنّ عثمان بن عفان قتل مظلوماً.

قال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قتل مظلوماً.

قال : إنّ عمر قتله كافر.

قال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟

قال : المسلمون.

قال : فذالك أدحض لحجتك )(٣) .

____________________

(١) التوبة / ٣٢.

(٢) القمقام الزخار ١ / ٣٥.

(٣) التذكرة الحمدونية ٧ / ١٨٥ تح إحسان عباس وبكر عباس ، ط دار صادر بيروت / ٨٥٦.

٣٣٩

( الصورة الثامنة ) :

رواها الأربلي في ( كشف الغمة ) ، نقلاً عن كتاب ( الموفقيات ) للزبير ابن بكار ، قال :

( حج معاوية فجلس إلى ابن عباس ، فأعرض عنه ابن عباس.

فقال معاوية : لم تعرض عني ، فو الله إنّك لتعلم أنّي أحق بالخلافة من ابن عمك.

قال ابن عباس : لم ذاك لأنّه كان مسلماً وكنت كافراً؟

قال : لا ، ولكن ابن عمي عثمان قتل مظلوماً.

قال ابن عباس : وعمر رحمه الله قتل مظلوماً.

قال : إنّ عمر قتله كافر ، وإنّ عثمان قتله المسلمون.

قال ابن عباس : ذاك أدحض لحجتك.

فأسكت معاوية )(١) .

( الصورة التاسعة ) :

رواها الأربلي أيضاً في ( كشف الغمة ) نقلاً عن مناقب ابن مردويه ، قال : ومنه عن عبيد الله بن عبد الله الكندي ، قال :

( حج معاوية فأتى المدينة وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون ، فجلس في حلقة بين عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، فضرب بيده على فخذ ابن

____________________

(١) كشف الغمة ١ / ٤٠٦ ، منشورات الشريف الرضي.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496