موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93274 / تحميل: 4731
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

عباس ، ثم قال : أنا كنت أحق وأولى بالأمر من ابن عمك.

قال ابن عباس : وبمَ؟

قال : لأنّي ابن عم الخليفة المقتول ظلماً.

قال : هذا إذن ـ يعني ابن عمر ـ أولى بالأمر منك ، لأنّ أبا هذا قتل قبل ابن عمك.

قال : فانصاع(١) عن ابن عباس )(٢) .

هذه نهاية الصور اللاتي عثرت عليها لمحاورة ابن عباس مع معاوية ، وجميعها مهما تكن اختلفت روايتها فقد دلّت على مدى تحقير ابن عباس لمعاوية ، وهو في أوج سلطانه ، كما دلّت على شموخ ابن عباس بقوّة إيمانه ، على أنّه ما زال متهماً عند معاوية بتهمة التحريض على عثمان أو التقصير في نصرته ، وقد سبق لمعاوية أن كتب إليه في ذلك كتاباً ، وقرأ منه جواباً ـ كما مرّ في الجزء الخامس من الحلقة الأولى ، وسيأتي أيضاً في فصل الرسائل ـ وكلّ ما كان يبتغيه معاوية ويحاوله هو استبعاد ابن عباس عن ساحة ولائه للإمام عليه السلام وضمه إلى جانب أعدائه ، ولكنه باء بالفشل ، إذ كان ابن عباس في كلّ محاوراته مع معاوية يُفشل جميع محاولاته ، ويكشف عن زيف ادعاءاته بتهمة دم عثمان.

مواقف فخر ونصرة

لنقرأ الآن ماذا قال ابن عباس في وصف الإمام عليّ عليه السلام وقد سأله

____________________

(١) أنفتل بكله عنه وأعرض إلى جهة غيره.

(٢) كشف الغمة ١ / ١٥٤.

٣٤١

معاوية عن ذلك مراراً ، لا لجهل منه بمعرفته الإمام عليه السلام ، ولكن من خبثه ودهائه ، يحاول زلزلة ابن عباس عن ولائه بعد توليّه الأمر واغداقه بعطائه ، لكن ابن عباس هو ابن عباس الذي كان في حبّه لإمامه عند حسن ظن أبيه العباس به من قبل ، حيث قال عنه في وصيته للإمام :

( أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ووجدت عنده من ذلك ظنّي به لك )(١) .

١ ـ قال الزمخشري في ( ربيع الأبرار ) : ( كان ابن عباس يقول في عليّ ابن أبي طالب : كان والله يشبه القمر الباهر ، والأسد الخادر ، والفرات الزاخر ، والربيع الباكر ، فأشبه من القمر ضوءه وبهاءه ، ومن الأسد شجاعته ومضاءه ، ومن الفرات جوده وسخاءه ، ومن الربيع خصبه ورخاءه )(٢) .

٢ ـ وروى البيهقي في ( المحاسن والمساويء ) ، قال :

( سأل معاوية يوماً ابن عباس ، فقال له : صف لي عليّاً؟

فقال : كأنّك لم تره؟

قال : بلى ولكن أحبّ أن أسمع منك فيه مقالاً.

فقال : كان أمير المؤمنين عليه السلام غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ، يدنينا إذا أتيناه ، ويجيبنا إذا دعوناه ،

____________________

(١) أنظر موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى / ج١ في ( وصية العباس عند موته ) ، والحلقة الثانية من الموسوعة ج١ في ( مواقف محنة واختبار ).

(٢) ربيع الأبرار ٤ / ١٦١ ط أوقاف بغداد.

٣٤٢

وكان مع تقريبه إيانا وقربه منّا لا نبدأه بالكلام حتى يتبسم ، فإذا هو تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، أما والله يا معاوية لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومُه ، وهو قابض على لحيته يبكي ويتململ تململ السليم ، وهو يقول : يا دنيا إياي تغرّين؟ أمثلي تشوقين؟ لا حان حينك ، بل زال زوالك ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها. فعيشك حقير ، وعمركِ قصير ، وخطركِ يسير ، آه آه من بُعد السفر ووحشة الطريق ، وقلّة الزاد.

فأجهش معاوية ومن معه بالبكاء )(١) .

ويبدو أنّ معاوية لم يحصل بغيته من ابن عباس التي كان يتوخاها ، بل كانت النتيجة معكوسة ، حيث كان ابن عباس بوصفه الإمام عليه السلام قد استحوذ على مشاعر السامعين بمن فيهم معاوية ومن معه ، حتى جعلهم يتأثرون فيجهشون بالبكاء لقوّة تأثير كلام ابن عباس فيهم.

وقد كرر معاوية الطلب ثانية وأدرك ابن عباس بثاقب فهمه ما يدور في خلد خصمه ، فأبعد هذه المرّة في مرماه وبلغ ما يتوخاه.

٣ ـ فقد روى الحنبلي في ( نهاية الطلب ) والفضل بن شاذان في كتابيه ( الروضة ، والفضائل ) عن ربعي بن خراش ، قال :

( سأل معاوية عبد الله بن عباس ، فقال : ما تقول في عليّ بن أبي طالب؟

____________________

(١) المحاسن والمساوي ١ / ٢٨.

٣٤٣

فقال : صلوات الله على أبي الحسن عليّ ، كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحل الحجى ، وبحر الندى ، وطود النهى ، وعلماً للورى ، ونوراً في ظلم الدّجى ، وداعياً إلى المحجة العظمى ، ومستمسكاً بالعروة الوثقى ، وسامياً إلى الغاية القصوى ، وعالماً بما في الصحف الأولى ، وعاملا ً بطاعة الملك الأعلى ، وعارفاً بالتأويل والذكرى ، ومتعلقاً بأسباب الهدى ، وحائداً عن طرقات الردى ، وسامياً إلى المجد والعلى ، وقائماً بالدين والتقوى ، وسيد من تقمص وارتدى بعد النبيّ المصطفى ، وأفضل من صام وصلى ، وأجل من ضحك وبكى ، صاحب القبلتين ، وهل يساويه مخلوق ، كان أو يكون ، كان والله للأُسد قاتلاً ، وللبهم في الحرب خاتلاً ، على مبغضيه لعنة الله ولعنة العبَاد إلى يوم التناد )(١) .

ولم يترك معاوية حيلة تبلغه حاجته في ابن عباس إلا أتاها ، لكن ابن عباس كان أوعى من أن تنطلي عليه أساليب خداع معاوية ، وتبقى نقطة الخلاف بينهما ساخنة ، ما دامت المواقف متباينة ، فمعاوية يمثل الحقد الأموي بجميع أبعاده ، وابن عباس يمثل عزّة آبائه وأجداده بقوّة إيمانه وإعتقاده ، وفي القمة ولاؤه للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وهذا ما كان يغيض معاوية فيتميز غيظاً عند سماع ابن عباس يتحدث عن الإمام عليه السلام ، فقد كان يجمل ويطنب كلّما دعت الحاجة إلى ذلك ، وكلّما بدت البغضاء من أفواه معانديه ، ولو جُمعت كلماته في هذا الشأن لكانت خير مدرسة ولائية.

____________________

(١) الدرجات الرفيعة / ١٢٣.

٣٤٤

وأطول وصف ورد عنه ، ما رواه الديلمي في ( غرر الأخبار ودرر الآثار ) ، وقد استغرق عدّة صفحات من ص ٣٢٤ إلى ٣٤٦ ، فلنقرأ ما رواه : قال الديلمي :

( روي أنّ معاوية سأل عبد الله بن عباس عن أمير المؤمنين؟

فقال له : عليّ سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، ووارث علم الأوّلين والآخرين ومن تعجّب بمساواته النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الروح الأمين ، وآخاه دون الخلق أجمعين ، وقصم ظهر المشركين والمنافقين ، وحملكم قهراً على الدخول في الدّين ، بعد قتل جدّك وأخيه وخالك وأخيك ، ولست تستطيع أبداً في ذلك أن تكون من المكذّبين ، وكان والله للقرآن تالياً ، وبه عالماً عاملاً ، وللسهو قالياً ، وعن الفحشاء نائياً ، وللشرك آبياً ، وللمعروف فاعلاً ، وعن المنكر ناهياً ، وبدِينه عارفاً ، ومِنَ الله خائفاً ، وعنَ الموبقات صادفاً ، وبالليل قائماً ، وبالنهار صائماً ، ومن دنياه سالماً ، وبعدل البريّة قائماً ، وعن المهلكات زاجراً ، وبنور الله ناظراً ، ولشهوته قاهراً ؛ فاق العالمين علماً ، وزهداً ، وورعاً وكفافاً ، وقناعة ، وبراعة ، وعفافاً ، وحلماً ، وكرماً ، وجهاداً ، وهجرة ، وشجاعة ، وقرابة ، وعبادة ، وإخلاصاً ؛ وأقدمهم إيماناً ، وسادهم زهداً وأمانة وبرّاً وحياطة.

كان والله حليف القرآن ، ومأوى الأنام ، ومولى الأيتام ، ومنتهى الإحسان ، وملاذ الفقراء والضعفاء ، ومعقل الخائف.

كان والله للخلق حصناً ، وللناس عوناً قويّاً ، وعلى الحقّ صابراً ، وفي

٣٤٥

ذات الله مجاهداً وفيه محتسباً ، حتّى عزّ الدِّين في الديار ، وعُبِدَ الله في الأقطار والضواحي في الليل والنهار ، وجميع النواحي والقلاع والتلاع ، والقفار والبقاع.

كان والله نوراً في الدجى ، شكوراً في البأساء والضرّاء ، صبوراً على المحنة والبلاء.

كان والله هجّاداً في الأسحار ، كثير الدمع عند ذكر النار ، دائم الذِّكْر والفكر بالليل والنهار ، نهّاضاً إلى كلّ خير ومكرمة ، سَعِيّاً إلى كلّ منجية ، فرّاراً من كلّ موبقة.

كان والله عَلَم الهدى ، وكهف التقى ، ومحلّ الحَجى ، وبحر الندى ، وطود النُّهى ، وزين الورى ، ومعدن العِلْم ، وواسع الحلم.

كان والله داعياً إلى المحجّة البيضاء والطريقة العظمى ، مستمسكاً بالعروة الوثقى ، عالماً بما في الكتب والصحف الأُولى ، عاملاً بطاعة الله الجليل الأعلى ، عارفاً بالتأويل والذكر ، متعلّقاً بأسباب الهدى ، حائداً عن طرقات الردى ، سامياً إلى المجد والعُلى ، قائماً بالحقّ والتقوى ، تاركاً للجور والأذى ، وخير مَنِ انتعل وتردّى ، وأوّل مَن آمن واتّقى ، وسيّد مَن تقمّص وارتدى ، وأصدق مَن تسربل واكتسى ، وأكرم مَن تنفّس وقرى ، وأفضل مَن صام وصلّى ، وأفضل مَن ضحك وبكى ، وأخطب مَن صعد ورقى ، وأفضل مَن مشى على الثرى ، وأبين مَن تعلّق في الورى بعد النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ؛ صلّى القبلتين ، وهاجر الهجرتَين ، فهل يساويه أحد في

٣٤٦

الخافقَين؟! زوج خير النسوان ، وولداه السبطان.

كان والله للأسد قتّالاً ، وللحرب سعّاراً ، وفي الهزاهز ختّالاً ، وعلى الأبطال صوّالاً ، وللخير قوّالاً أتنكر يا معاوية شيئاً من ذلك وقد سمعتُ ما كَتَبَ به إليك عن جوابك الذي أرسلته تفتخر فيه عليه؟ وأنا الآن ذاكره ومعيده عليك وهو :

( أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر اصطّفاء الله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه ، فقد خبّأ لنا الدهر منك عجباً ، إذ طفقت تخيرنا ببلاء الله فينا ونعمته علينا ، فكنت كناقل الثَمرة(١) إلى هَجَر ، وداعي مُسَدِّدِه إِلى النضال ، وزعمت أنّ أفضل الناس فلان وفلان فذكرت أمراً إن تمَّ اعْتَزَلَك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمته ، وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين والأنصار وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟! هيهات ، لقد حَنَّ قِدْحٌ ليس [منها] ، وطفق يحكم فيها من عليه الحُكم لها! ألا تَربَع أيّها الإنسان على ظَلعِكَ ، وتعرف قُصورَ [ذَرعِكَ] وتتأخّر حيث أخّرك القَدَر عليها ، [فما] عليك غَلَبةُ المغلوب ، ولا لك ظْفر الظافر ، فإنَك لَذَهَّابٌ في التَّيه ، رَوّاغٌ عن القصد ، لا ترى غير مخُبِرٍ لك ، ولكن بنعمة الله أُحدِّث إنّ قوماً استشهدوا [في سبيل الله ولكلٍّ فضل ، حتّى إذا استشهد](٢) شهيدنا ، قيل : سيّد الشهداء ، وخصّه رسول

____________________

(١) في نهج البلاغة : ( التمر ) بدل من : ( الثمرة ).

(٢) ما بين المعقوفتين من نهج البلاغة.

٣٤٧

الله سبعين تكبيرة من صلاته عليه(١) أوَلاً أنّ قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل حتّى إذا فُعِلَ بواحدٍ منّا كما فُعِلَ بهم. قيل : جعفر الطيّار ذو(٢) الجناحيَن ؛ ولولا نَهَى الله تعالى تزكية المرء لنفسه ، لَذَكَر ذاكِرٌ فضائل لست تنكرها(٣) ، تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجَّها أسماع السامعين.

فدع عنك ما أنت عنه معزول ومَن(٤) مالت به الرَّميّة ، فنحن صنائع ربّنا ، والناس صنائع لنا ؛ ثمّ لم يمنعنا قديمُ عزّنا وعاليُّ طَوْلَنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا ، فِعْل الأكفاء ، ولستم هناك.

وأنّى يكون ذلك كذلك ، ومنّا النبيّ ومنكم المُكذِّب ، ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ، ومنّا سيِّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صِبيَةُ النار ، ومنّا خيرة نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب ، في كثيرٍ ممّا لنا وعليكم؟!

فإسلامنا ما قد سُمِع وجاهليّتكم ما لا تدفع ، فكتاب الله يَجمَع لنا ما قد شذّ عنّا ، وهو قوله تعالى :( وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (٥) ، وقوله :( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (٦) ، فنحن مَن أولي الأرحام بالقرابة ،

____________________

(١) في نهج البلاغة : وخصّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند صلاته سبعين تكبيرة.

(٢) في نهج البلاغة : ( الطيّار في الجنّة وذو ) بدل من ( جعفر الطيّار ذو ).

(٣) في نهج البلاغة : ( فضائلَ جمّةً ) بدل من ( لست تنكرها ).

(٤) في ( م ) : ( وما ) ، والمثبت من نهج البلاغة.

(٥) الأنفال / ٧٥.

(٦) آل عمران / ٦٨.

٣٤٨

وتارة أولى بالطاعة ؛ ولمّا(١) احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففلجوا عليهم ، فإن يكن الفالج لنا به فالحقّ لنا دونهم ، وإن لم يكن نصرت الأنصار على دعواهم ، وزعمت أنّ لكلّ الخلق حسدت ، وعلى كلّهم بَغَيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك ، فيكون العُذر إليك.

وَتِلْكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عَنكَ عَارُها

وقلتَ : إنّي كنت أقاد كما يُقاد الجَمَل المَخشوش حتّى أَبايعَ ؛ ولَعَمْرُ اللهِ لقد أردتَ أن تذمّ فمدحتَ ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة أن يكون مظلوماً وأن يغتصب حقّه ما لم يكن شاكّاً في دينه ، ومرتاباً في يقينه ؛ وهذه حجّتي إلى غيرك قَصْدُها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح منها.

ثمّ ذكرتَ ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تُجاب عن هذا لرحمك منه ، فأيُّنا كان أعدى له ، أهدى إلى مقالته؟! أمَن بذلَ له نصرته فاستقعده واستكفّه ، أم مَنِ استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه حتّى أتى قَدَرُه عليه؟! كلاّ والله( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٢) ، وما كنتُ لإعتذر مِن أنّي كنتُ أنقِمُ عليه أحداثاً ، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له ، فَرُبَّ

____________________

(١) في ( م ) : ( وما ) ، والمثبت من نهج البلاغة.

(٢) الأحزاب / ١٨.

٣٤٩

مَلُومٍ لا ذنب له.

وقد يَستَفيدُ الظِّنَّة المُتنَصّح

وما أردتُ إلاّ الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

وذكرتَ أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السيف ، فلقد أضحكت بعد إستعبار! فمتى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين وبالسيوف مُهدَّدين؟!

فألَبَث قليلاً يَلحَق الهَيْجا حَمْلِ(١)

فسيطلبُكَ مَن تَطلُب ، ويَقرُب منك ما تستبعد ، وأنا مُرْقِل نحوك بجحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، زِحامهم شديد ، وساطع قَتامُهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحَبّ اللقاء إليهم لقاء ربهّم ، قد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة قد عَرفتَ مواقع نصولهم في أخيك وخالك وجدّك وأهلك :( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (٢) .

ثمّ قال له ابن عباس : فهذا كلام عليّ لك ، فهل تجد فيه حالاً تعيبه ، وقد قال الله :( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) والعهد الإمامة ، حَتَمَ الله حتماً أن

____________________

(١) تكملة البيت : لا بأس بالموت إذا الموت نزل. وهو مثل يضرب به للتهديد بالحرب.

(٢) هود / ٨٣.

(٣) البقرة / ١٢٨.

٣٥٠

لا ينالها ظالم ، فكيف بمن عَبَدَ الأصنام واستقسم بالأزلام وشاقّ الله ورسوله وحاربه هذا؟! مِن إين تطلب منازل النبييّن والوصييّن وأولياء ربّ العالمين؟! الذين لم يعصوه طرفة عين ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، فاقوا العالمين ، ومدحهم الله تعالى في كتابه المبين ، وشهد لهم أنّهم صالحو المؤمنين )(١) .

( المحاورة الثانية )

( دعني ممّا اكره أدعك من مثله )

( قال معاوية لابن عباس : كيف رأيت صنع الله بي وبأبي الحسن؟

فقال ابن عباس : صنعاً والله غير مختل ، عجّله إلى جنّة لن تنالها ، وأخرّك إلى دنيا كان عنه أزالها.

فقال : وإنّك لتحكم على الله؟

فقال : الله حكم بذلك على نفسه( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

قال : أما والله لو عاش أبو عمرو عثمان حتى يراني لرأى ابن العم.

____________________

(١) أخرج هذه المحاورة الديلمي في غرر الأخبار ودرر الآثار / ٣٤٢ ـ ٣٤٦ وأنظرها باختلاف في الألفاظ وفي ترتيب العبارات في : المسترشد للطبري الإمامي ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ١١٣ ، توصيف ابن عباس عليّاً لمّا سأله معاوية ، أمّا خطبة أمير المؤمنين عليه السلام الواردة في الخبر ، فأنظر : نهج البلاغة / ٣٨٥ ـ ٣٨٩ ، الرسالة ٢٨ ، من كتاب له عليه السلام إلى معاوية جواباً ؛ وقد عدّ السيّدالرضيّ هذا الكتاب من محاسن الكتب.

(٢) المائدة / ٤٥.

٣٥١

فقال : والله لو عاش لعلم أنّك خذلته حين كانت النصرة له ، ونصرته حينما كانت النصرة لك.

قال : وما دخولك بين العصا ولحائها؟

قال : والله ما دخولي بينهما إلاّ عليهما لا لهما. فدعني ممّا أكره أدعك من مثله ، لأن تحسن فأجازي أحبّ إلي من أن تسئ فأكافئ ، ثم نهض ، فاتبعه ـ معاوية ـ بصره وهو يقول :

حصيد اللسان ذليق الكلام

غير عيّي ولا مسهب

يبذ الجياد بتقريبه

ويأوى إلى حضر ملهب )(١)

( المحاورة الثالثة )

( تدع لي ابن عمي وادع لك ابن عمك )

روى البلاذري في ( أنساب الأشراف ) نقلاً عن المدائني ، قال :

( قال معاوية لابن عباس : ما حالت الفتنة بيني وبين أحد كان أعزّ عليَّ فقداً وأحبّ إليّ قرباً منك ، فالحمد لله الذي قتل عليّاً.

فقال ابن عباس : أو غير هذا ، تدع لي ابن عمي وأدع لك ابن عمك؟

قال : ذاك لك ، ثم قال : أخبرني عن أبي سفيان؟

قال : اللهمَّ إنّه تجر فأربح ، وأسلم فأفلح ، وكان رأس الشرك حتى انقض.

____________________

(١) أخبار الدولة العباسية / ٥٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٣٥٢

فقال : يابن عباس في علمك ما تسرّ به جليسك ، ولولا أن أقارضك الثناء لأخبرتك عن نفسك )(١) .

( المحاورة الرابعة )

( قد استعملت أنت رجالاً لهواك )

( اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية وفيهم عبد الله بن عباس ـ وكان جريئاً على معاوية حقّاراً له فبلغه عنه بعض ما يغمّه ـ.

فقال معاوية : رحم الله العباس وأبا سفيان كانا صفيين ( أخوين ـ خ ل­ـ ) دون الناس. فحفظتُ الميت في الحيّ والحيّ في الميت ، إستعملك عليّ يابن عباس على البصرة ، واستعمل عبيد الله أخاك على اليمن ، واستعمل أخاك قثم(٢) على المدينة ، فلمّا كان من الأمر ما كان. هنأتكم ما في أيديكم ، ولم أكشفكم عمّا وعته غرائركم ، وقلت أخذ اليوم مالاً واعطي غداً مثله ، وعلمت أن بدء اللؤم يضرّ بعاقبة الكرم لو شئت لأخذت بحناجركم وقيأتكم ما أكلتم. لا يزال يبلغني عنكم ما لا تبرك له الإبل ، وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم ، خذلتم عثمان بالمدينة. وقتلتم أنصاره يوم الجمل ، وحاربتموني بصفين. ولعمري بنو تيم وعدي أعظم ذنوباً منّا إليكم وأكبر جرماً عندكم ، إذ صرفوا عنكم هذا الأمر ، وسنّوا

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق٤ / ١٣٠ تح احسان عباس ط بيروت.

(٢) يبدو سقوط جملة ( على مكة وأخاك تمام ) لأن قثم ولاه الإمام عليه السلام على مكة وبقي عليها حتى سنة ( ٤٥ هـ ).

٣٥٣

فيكم هذه السنّة. فحتى متى أغض الجفون على القذى وأسحب الذيول على الأذى ، وأقول لعلّ الله وعسى ، ما تقول يابن عباس؟

قال : فتكلم ابن عباس ، فقال : رحم الله أبانا وأباك ، كانا صفيين أخوين متفاوضين ، لم يكن لأبي من مال إلاّ ما فضل لأبيك وكان أبوك كذلك لأبي. ولكن من هنّأ أباك بإخاء أبي أكثر ممن هنأ أبي بإخاء أبيكَ. نصر أبي أباك في الجاهلية وحقن دمه في الإسلام(١) .

وأمّا إستعمال عليّ إيانا فلدينه دون هواه ، قمنا له بالحق ونصحنا في الله الخلق(٢) ، وقد استعملت أنت رجالاً لهواك لا لدينك ، منهم ابن الحضرمي على البصرة فقتل ، وبسر بن أرطاة على اليمن فخان غزا الحجاز وأخاف الحرمين مكة والمدينة وقتل منهما رجالاً ، وغزا الطائف وقتل منه رجالاً ، وذبح ابني عبيد الله أخي كفراً وظلماً وعدواناً من غير ذنب ولا جريمة ولم يبلغا الحلم ، وحبيب بن مرة على الحجاز فرُدّ والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحصب ، واستعملت ابن عامر(٣) على الأنبار وما يليها فغزا أهلها ونهبوها كغزوا الروم والترك ، ونزعوا أقراط المرأة المسلمة من أذنيها واستحلوا سبيهم ، واستعملت زياد بن عبيد الدعيّ على العراق

____________________

(١) يشير إلى يوم جاء العباس بأبي سفيان وقد أردفه خلفه في فتح مكة فاستأمن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

(٢) ليت الذين اتخذوا تهمته : ببيت مال البصرة ذريعة للنيل من ابن عباس يقرءوا هذه المحاورة ويقفوا عند هذه الجملة يمعنوا النظر فيها ، فلو كان للتهمة نصيباً من الصحة لما سكت معاوية عن تعييره بها في هذا المقام وقد وافته الفرصة للرد عليه

(٣) في الكافي وشرح النهج ( أخو غامد ).

٣٥٤

فبسط الفساد ، وركب العناد ، وظلم العباد ، وحكم فيهم حكم الجاهلية ، لا يرعى لله حرمة ، ولا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ذمة ، ونصبت أنت الحرب للمسلمين وإمام المتقين وأمير المؤمنين عليه السلام ومَن بسيفه وحده قام الدين ، ولولديه الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، ومن معه من أصحابه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأردتَ قتلهم وتدميرهم ، وهم من تعرف أهل البيعتين ـ بيعة الشجرة وبيعة الرضوان ـ وقتلت منهم مَن قتلت ، وعمار جلدة ما بين عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن شهد أنه تقتله الفئة الباغية. قال : لا أنالها الله شفاعتي ، وأنت ومن كان معك الفئة الباغية(١) ، وقتلت أويس القرني الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنّه يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر )(٢) ، وقال لأصحابه :

____________________

(١) حديث ( عمار تقتله الفئه الباغية ) أخرجه مسلم في صحيحه في الفتن وأحمد في مسنده في عدة موارد ناهزت العشرة والطبراني في الكبير في موارد ثلاثة والخطيب والبيهقي وابن حجر والهيثمي في مجمع الزوائد وغيرهم ، راجع موسوعة اطراف الحديث النبوي الشريف تجد عشرات المصادر وموارد ذكر الحديث ٤ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤ وفيها ( تقتل عماراً الفئة الباغية وقاتله في النار ). وفيها ( تقتلك الفئة الباغية وأنت إذ ذاك مع الحق ) رواه الخطيب ١٣ / ١٨٧ ، وراجع الموسوعة المذكورة ١١ / ٢٠٥.

(٢) ذكره ابن حجر في الإصابة ١ / ١٣٣ ط مصطفى محمد فقال ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة وقال : كان ثقة ، وقال : قال ابن عدي ليس له رواية لكن هناك من ينكر وجوده ، إلا أن شهرته وشهرة أخباره لا تسع أحداً أن يشك فيه.

وقال عبد الغني بن سعيد : القرني ـ بفتح القاف والراء ـ هو أويس أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وجوده وشهد صفين مع علي وكان من خيار المسلمين. وروى عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول : ( إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر فمن لقيه منكم فمروه فليستغفر لكم ) ثم ذكر ابن حجر رواة وطرق هذا الحديث ثم ذكر بعض أخبار أو يس إلى أن قال : فاستشهد أويس وجماعة من أصحابه في الرجالة بين يدي علي ، ومن طريق الأصبغ بن نباتة قال شهدت علياً يوم صفين يقول : من يبايعني على الموت؟ فبايعه تسعة وتسعون رجلاً فقال : أين التمام؟ فجاءه رجل عليه أطمار صوف محلوق الرأس فبايعه على القتل فقيل هذا أويس القرني ، فما زال يحارب حتى قتل رحمه الله.

٣٥٥

( إنّكم تدركونه فمروه ليستغفر لكم ).

وقال أيضاً فيه تبجيلاً له وتفخيماً لأمره : ( إنّي لأشمّ نفس الرحمن من جانب اليمن ).

وأمّا طلبك ما وراء ظهورنا فلو طلبته بذلناه وقينا به أعراضنا ، وكان أحقر عندنا أن نمنعه ، وليس الذي يبلغك عنّا بأعظم من الذي يبلغنا عنك.

وأمّا ما يبلغك عنا ، فلو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسّنها ، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لقبّحها.

وأمّا خذلنا عثمان فلو لزمنا نصره لنصرناه ، وقد خذلته أنتَ وكنتَ قادراً على نصره ومعك أهل الشام ، ولو ضربت بهم البحر لخاضوه ، وإنما تربصت به ليقتل وتطلب الملك بسببه.

وأمّا قتلنا أنصاره يوم الجمل ، فعلى خروجهم ممّا دخلوا فيه.

وأمّا حربنا أياك بصفين ، فعلى إنكارك الحق ونصبك الباطل.

وأمّا إغراؤك إيانا بتيم وعدي ، فلو طلبنا الأمر يوم توفي نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ما غلبونا ، وكنّا بفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشغل من كلّ شيء ، علماً أنّهم كانوا يعرفون لنا فضلنا على غيرنا.

وأعلم يا معاوية أنّه سبق في علم الله تعالى أنّه يستباح في هذه الأمة الأموال الحرام ، وتسفك الدماء الحرام ، وتسبى الفروج الحرام ، فكره الله

٣٥٦

تعالى أن يكون ذلك على أيدينا ، فعدل بالأمر على غيرنا ، فإذا أراد الله ردّ الأمور إلى حقايقها إبتعثنا لها ، يختم بنا كما فتح.

فقال في ذلك ابن أبي لهب :

كان ابن حرب عظيم القدر في الناس

حتى رماه بما فيه ابن عباس

مازال يهبطه طوراً ويصعده

حتى استقاد وما بالحق من باس

لم يتركن خطة ممّا تذلّله

إلاّ كواه بها في فروة الرأس(١)

( المحاورة الخامسة )

( حجتكم فيها مشتبهة )

( حضر عبد الله بن عباس مجلس معاوية بن أبي سفيان وهناك جماعة من بني هاشم ، فأقبل معاوية على ابن عباس وعلى بني هاشم ، فقال : يابن عباس إنّكم تريدون أن تحرزوا الإمامة ( تستحقوا الخلافة ) كما إختصصتم ( استحققتم ) بالنبوة ، والله لا يجتمعان لأحد أبداً ، إنّ حجتكم في الخلافة مشتبهه ( شبهة ) على الناس ، إنّكم تقولون نحن أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فما بال خلافة النبوة ( النبيّ ) في غيرنا؟ وهذه شبهة لأنّها تشبه الحق ، وبها مسحة من العدل ، وليس الأمر كما تظنون ، إنّ الخلافة قد تنقلت في أحياء قريش برضى العامة وبشورى الخاصة. ولسنا نجد الناس يقولون : ليت بني هاشم ولونا ، ولو أنّ بني هاشم ولونا لكان خيراً لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا ، فلا هم حيث أجتمعوا على غيركم تمنوكم ، ولو كنتم أزهدتم فيها أمس كما

____________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٨ تح أحمد امين ورفيقيه ط لجنة التأليف والنشر ، نزهة السامع للحلواني.

٣٥٧

تقولون ما قاتلتم ( لم تقاتلوا ) عليها اليوم. وأمّا ما زعمتم أنّ لكم ملكاً هاشمياً ومهدياً قائماً ، فالمهدي عيسى بن مريم عليه السلام وهذا الأمر في أيدينا حتى نسلمه إليه ، ووالله ( ولعمري ) لو ملكتموها ( ملكتمونا ) يا بني هاشم لما كانت ريح عاد ولا صاعقة ثمود بأهلك للناس منكم ثم سكت.

فقال عبد الله بن عباس : أمّا قولك يا معاوية إنّا نحتج بالنبوة في إستحقاق الخلافة ، فهو والله كذلك ، فإذا لم نستحق الخلافة بالنبوة فبم نستحق؟

وأمّا قولك إنّ الخلافة والنبوة لا يجتمعان لأحد ، فأين قول الله عزّ وجلّ :( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (١) ، فالكتاب هو النبوة والحكمة هي السنة ، والملك هو الخلافة ، فنحن آل إبراهيم أمر الله فينا وفيهم واحد ، والسنة لنا ولهم جارية إلى يوم القيامة.

وأمّا دعواك على حجتنا أنّها مشتبهة ، فليس كذلك فهي ، والله أضوء من الشمس ، وأنور من القمر ، كتاب الله معنا وسنة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم فينا ، وإنّك لتعلم ذلك ، ولكن ثنى عطفّك وصعر خدك ، قتلنا أخاك وجدك وعمك وخالك ، فلا تبك على عظام حائلة وأرواح زائلة في الهاوية ، ولا نغضبن لدماء أراقها الشرك وأحلها الكفر ، ووضعها الإسلام.

وأمّا ترك تقديم الناس لنا فيما خلا ، وعدولهم عن الإجتماع أن

____________________

(١) النساء / ٥٤.

٣٥٨

يجتمعوا علينا ، فما حرموا منّا أعظم ممّا حرمنا منهم ، وكلّ أمر إذا حصل حصل حاصله ، ثبت حقه وزال باطله.

وأمّا إفتخارك بالملك الزائل ، الذي توصلت إليه بالمجال الباطل ، فقد ملك فرعون من قبلك.

وأمّا قولك إنّا زعمنا أنّ لنا ملكاً ومهدياً ، فالزعم في كتاب الله شك ، قال الله :( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ) (١) ، فكلّ يشهد أنّ لنا ملكاً ، ولو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لبعث الله لأمره من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، وما تملكون يوماً يا بني أمية إلاّ ملكنا يومين ، ولا شهراً إلاّ ملكنا شهرين ، ولا حولاً إلاّ ملكنا حولين.

وأمّا قولك أنّ المهدي عيسى بن مريم ، فإنّما ينزل عيسى على الدجال فإذا رآه ذاب كما تذوب الشحمة ، والإمام رجل منّا يصلي خلفه عيسى بن مريم لو شئت سميته.

وأمّا قولك : إنا لو ملكنا كان ملكنا أهلك للناس من ريح عاد وصاعقة ثمود فإنهما كانا عذاباً ، وملكنا والحمد لله رحمة ، فقول الله يكذبك في ذلك ، قال الله عزوجل :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٢) .

وسيكون من بعدك تملّك ولدك وولد أبيك ، أهلك للخلق من الريح

____________________

(١) التغابن / ٧.

(٢) الانبياء / ١٠٧.

٣٥٩

العقيم ، ثم ينتقم الله بأوليائه وتكون العاقبة للمتقين )(١) .

( المحاورة السادسة )

( فإنّ الباطل لا يغلب الحق )

( عن عبد الملك بن مروان ، قال : كنا عند معاوية ذات يوم وقد أجتمع عنده جماعة من قريش وفيهم عدّة من بني هاشم.

فقال معاوية : يا بني هاشم بم تفخرون علينا ، أليس الأب والأم واحداً والدار والمولد واحداً؟

فقال ابن عباس : نفخر عليكم بما أصبحت تفخر به على ساير قريش ، وتفخر به قريش على الأنصار ، وتفخر به الأنصار على ساير العرب ، وتفخر به العرب على العجم ( برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبما لا تستطيع له إنكاراً ولا منه فراراً ).

فقال معاوية : يابن عباس لقد أعطيت لساناً ذلقاً تكاد تغلب بباطلك حق سواك.

فقال ابن عباس : فإنّ الباطل لا يغلب الحق ، ودع عنك الحسد. فلبئس الشعار.

فقال معاوية. صدقت أما والله إنّي لأحبّك لخصال أربع مع مغفرتي لك خصالاً أربعاً. فأمّا ما أحبّك : فلقرابتك من رسول الله ، وأمّا الثانية فإنّك

____________________

(١) مجالس المفيد / ٧ ط النجف ، كشف الغمة / ١٢٧ ط حجرية ، بحار الأنوار ٨ / ٥٧٩ ط حجرية ، و ١٠ / ١٣٠ ط تبريز الحجرية ، الفتن والملاحم / ٨٠ نقلاً عن عيون أخبار بني هاشم لمحمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496