موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 87832
تحميل: 4043


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87832 / تحميل: 4043
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 9

مؤلف:
العربية

عباس ، ثم قال : أنا كنت أحق وأولى بالأمر من ابن عمك.

قال ابن عباس : وبمَ؟

قال : لأنّي ابن عم الخليفة المقتول ظلماً.

قال : هذا إذن ـ يعني ابن عمر ـ أولى بالأمر منك ، لأنّ أبا هذا قتل قبل ابن عمك.

قال : فانصاع(1) عن ابن عباس )(2) .

هذه نهاية الصور اللاتي عثرت عليها لمحاورة ابن عباس مع معاوية ، وجميعها مهما تكن اختلفت روايتها فقد دلّت على مدى تحقير ابن عباس لمعاوية ، وهو في أوج سلطانه ، كما دلّت على شموخ ابن عباس بقوّة إيمانه ، على أنّه ما زال متهماً عند معاوية بتهمة التحريض على عثمان أو التقصير في نصرته ، وقد سبق لمعاوية أن كتب إليه في ذلك كتاباً ، وقرأ منه جواباً ـ كما مرّ في الجزء الخامس من الحلقة الأولى ، وسيأتي أيضاً في فصل الرسائل ـ وكلّ ما كان يبتغيه معاوية ويحاوله هو استبعاد ابن عباس عن ساحة ولائه للإمام عليه السلام وضمه إلى جانب أعدائه ، ولكنه باء بالفشل ، إذ كان ابن عباس في كلّ محاوراته مع معاوية يُفشل جميع محاولاته ، ويكشف عن زيف ادعاءاته بتهمة دم عثمان.

مواقف فخر ونصرة

لنقرأ الآن ماذا قال ابن عباس في وصف الإمام عليّ عليه السلام وقد سأله

____________________

(1) أنفتل بكله عنه وأعرض إلى جهة غيره.

(2) كشف الغمة 1 / 154.

٣٤١

معاوية عن ذلك مراراً ، لا لجهل منه بمعرفته الإمام عليه السلام ، ولكن من خبثه ودهائه ، يحاول زلزلة ابن عباس عن ولائه بعد توليّه الأمر واغداقه بعطائه ، لكن ابن عباس هو ابن عباس الذي كان في حبّه لإمامه عند حسن ظن أبيه العباس به من قبل ، حيث قال عنه في وصيته للإمام :

( أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ووجدت عنده من ذلك ظنّي به لك )(1) .

1 ـ قال الزمخشري في ( ربيع الأبرار ) : ( كان ابن عباس يقول في عليّ ابن أبي طالب : كان والله يشبه القمر الباهر ، والأسد الخادر ، والفرات الزاخر ، والربيع الباكر ، فأشبه من القمر ضوءه وبهاءه ، ومن الأسد شجاعته ومضاءه ، ومن الفرات جوده وسخاءه ، ومن الربيع خصبه ورخاءه )(2) .

2 ـ وروى البيهقي في ( المحاسن والمساويء ) ، قال :

( سأل معاوية يوماً ابن عباس ، فقال له : صف لي عليّاً؟

فقال : كأنّك لم تره؟

قال : بلى ولكن أحبّ أن أسمع منك فيه مقالاً.

فقال : كان أمير المؤمنين عليه السلام غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ، يدنينا إذا أتيناه ، ويجيبنا إذا دعوناه ،

____________________

(1) أنظر موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى / ج1 في ( وصية العباس عند موته ) ، والحلقة الثانية من الموسوعة ج1 في ( مواقف محنة واختبار ).

(2) ربيع الأبرار 4 / 161 ط أوقاف بغداد.

٣٤٢

وكان مع تقريبه إيانا وقربه منّا لا نبدأه بالكلام حتى يتبسم ، فإذا هو تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، أما والله يا معاوية لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومُه ، وهو قابض على لحيته يبكي ويتململ تململ السليم ، وهو يقول : يا دنيا إياي تغرّين؟ أمثلي تشوقين؟ لا حان حينك ، بل زال زوالك ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها. فعيشك حقير ، وعمركِ قصير ، وخطركِ يسير ، آه آه من بُعد السفر ووحشة الطريق ، وقلّة الزاد.

فأجهش معاوية ومن معه بالبكاء )(1) .

ويبدو أنّ معاوية لم يحصل بغيته من ابن عباس التي كان يتوخاها ، بل كانت النتيجة معكوسة ، حيث كان ابن عباس بوصفه الإمام عليه السلام قد استحوذ على مشاعر السامعين بمن فيهم معاوية ومن معه ، حتى جعلهم يتأثرون فيجهشون بالبكاء لقوّة تأثير كلام ابن عباس فيهم.

وقد كرر معاوية الطلب ثانية وأدرك ابن عباس بثاقب فهمه ما يدور في خلد خصمه ، فأبعد هذه المرّة في مرماه وبلغ ما يتوخاه.

3 ـ فقد روى الحنبلي في ( نهاية الطلب ) والفضل بن شاذان في كتابيه ( الروضة ، والفضائل ) عن ربعي بن خراش ، قال :

( سأل معاوية عبد الله بن عباس ، فقال : ما تقول في عليّ بن أبي طالب؟

____________________

(1) المحاسن والمساوي 1 / 28.

٣٤٣

فقال : صلوات الله على أبي الحسن عليّ ، كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحل الحجى ، وبحر الندى ، وطود النهى ، وعلماً للورى ، ونوراً في ظلم الدّجى ، وداعياً إلى المحجة العظمى ، ومستمسكاً بالعروة الوثقى ، وسامياً إلى الغاية القصوى ، وعالماً بما في الصحف الأولى ، وعاملا ً بطاعة الملك الأعلى ، وعارفاً بالتأويل والذكرى ، ومتعلقاً بأسباب الهدى ، وحائداً عن طرقات الردى ، وسامياً إلى المجد والعلى ، وقائماً بالدين والتقوى ، وسيد من تقمص وارتدى بعد النبيّ المصطفى ، وأفضل من صام وصلى ، وأجل من ضحك وبكى ، صاحب القبلتين ، وهل يساويه مخلوق ، كان أو يكون ، كان والله للأُسد قاتلاً ، وللبهم في الحرب خاتلاً ، على مبغضيه لعنة الله ولعنة العبَاد إلى يوم التناد )(1) .

ولم يترك معاوية حيلة تبلغه حاجته في ابن عباس إلا أتاها ، لكن ابن عباس كان أوعى من أن تنطلي عليه أساليب خداع معاوية ، وتبقى نقطة الخلاف بينهما ساخنة ، ما دامت المواقف متباينة ، فمعاوية يمثل الحقد الأموي بجميع أبعاده ، وابن عباس يمثل عزّة آبائه وأجداده بقوّة إيمانه وإعتقاده ، وفي القمة ولاؤه للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وهذا ما كان يغيض معاوية فيتميز غيظاً عند سماع ابن عباس يتحدث عن الإمام عليه السلام ، فقد كان يجمل ويطنب كلّما دعت الحاجة إلى ذلك ، وكلّما بدت البغضاء من أفواه معانديه ، ولو جُمعت كلماته في هذا الشأن لكانت خير مدرسة ولائية.

____________________

(1) الدرجات الرفيعة / 123.

٣٤٤

وأطول وصف ورد عنه ، ما رواه الديلمي في ( غرر الأخبار ودرر الآثار ) ، وقد استغرق عدّة صفحات من ص 324 إلى 346 ، فلنقرأ ما رواه : قال الديلمي :

( روي أنّ معاوية سأل عبد الله بن عباس عن أمير المؤمنين؟

فقال له : عليّ سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، ووارث علم الأوّلين والآخرين ومن تعجّب بمساواته النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الروح الأمين ، وآخاه دون الخلق أجمعين ، وقصم ظهر المشركين والمنافقين ، وحملكم قهراً على الدخول في الدّين ، بعد قتل جدّك وأخيه وخالك وأخيك ، ولست تستطيع أبداً في ذلك أن تكون من المكذّبين ، وكان والله للقرآن تالياً ، وبه عالماً عاملاً ، وللسهو قالياً ، وعن الفحشاء نائياً ، وللشرك آبياً ، وللمعروف فاعلاً ، وعن المنكر ناهياً ، وبدِينه عارفاً ، ومِنَ الله خائفاً ، وعنَ الموبقات صادفاً ، وبالليل قائماً ، وبالنهار صائماً ، ومن دنياه سالماً ، وبعدل البريّة قائماً ، وعن المهلكات زاجراً ، وبنور الله ناظراً ، ولشهوته قاهراً ؛ فاق العالمين علماً ، وزهداً ، وورعاً وكفافاً ، وقناعة ، وبراعة ، وعفافاً ، وحلماً ، وكرماً ، وجهاداً ، وهجرة ، وشجاعة ، وقرابة ، وعبادة ، وإخلاصاً ؛ وأقدمهم إيماناً ، وسادهم زهداً وأمانة وبرّاً وحياطة.

كان والله حليف القرآن ، ومأوى الأنام ، ومولى الأيتام ، ومنتهى الإحسان ، وملاذ الفقراء والضعفاء ، ومعقل الخائف.

كان والله للخلق حصناً ، وللناس عوناً قويّاً ، وعلى الحقّ صابراً ، وفي

٣٤٥

ذات الله مجاهداً وفيه محتسباً ، حتّى عزّ الدِّين في الديار ، وعُبِدَ الله في الأقطار والضواحي في الليل والنهار ، وجميع النواحي والقلاع والتلاع ، والقفار والبقاع.

كان والله نوراً في الدجى ، شكوراً في البأساء والضرّاء ، صبوراً على المحنة والبلاء.

كان والله هجّاداً في الأسحار ، كثير الدمع عند ذكر النار ، دائم الذِّكْر والفكر بالليل والنهار ، نهّاضاً إلى كلّ خير ومكرمة ، سَعِيّاً إلى كلّ منجية ، فرّاراً من كلّ موبقة.

كان والله عَلَم الهدى ، وكهف التقى ، ومحلّ الحَجى ، وبحر الندى ، وطود النُّهى ، وزين الورى ، ومعدن العِلْم ، وواسع الحلم.

كان والله داعياً إلى المحجّة البيضاء والطريقة العظمى ، مستمسكاً بالعروة الوثقى ، عالماً بما في الكتب والصحف الأُولى ، عاملاً بطاعة الله الجليل الأعلى ، عارفاً بالتأويل والذكر ، متعلّقاً بأسباب الهدى ، حائداً عن طرقات الردى ، سامياً إلى المجد والعُلى ، قائماً بالحقّ والتقوى ، تاركاً للجور والأذى ، وخير مَنِ انتعل وتردّى ، وأوّل مَن آمن واتّقى ، وسيّد مَن تقمّص وارتدى ، وأصدق مَن تسربل واكتسى ، وأكرم مَن تنفّس وقرى ، وأفضل مَن صام وصلّى ، وأفضل مَن ضحك وبكى ، وأخطب مَن صعد ورقى ، وأفضل مَن مشى على الثرى ، وأبين مَن تعلّق في الورى بعد النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ؛ صلّى القبلتين ، وهاجر الهجرتَين ، فهل يساويه أحد في

٣٤٦

الخافقَين؟! زوج خير النسوان ، وولداه السبطان.

كان والله للأسد قتّالاً ، وللحرب سعّاراً ، وفي الهزاهز ختّالاً ، وعلى الأبطال صوّالاً ، وللخير قوّالاً أتنكر يا معاوية شيئاً من ذلك وقد سمعتُ ما كَتَبَ به إليك عن جوابك الذي أرسلته تفتخر فيه عليه؟ وأنا الآن ذاكره ومعيده عليك وهو :

( أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر اصطّفاء الله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه ، فقد خبّأ لنا الدهر منك عجباً ، إذ طفقت تخيرنا ببلاء الله فينا ونعمته علينا ، فكنت كناقل الثَمرة(1) إلى هَجَر ، وداعي مُسَدِّدِه إِلى النضال ، وزعمت أنّ أفضل الناس فلان وفلان فذكرت أمراً إن تمَّ اعْتَزَلَك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمته ، وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين والأنصار وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟! هيهات ، لقد حَنَّ قِدْحٌ ليس [منها] ، وطفق يحكم فيها من عليه الحُكم لها! ألا تَربَع أيّها الإنسان على ظَلعِكَ ، وتعرف قُصورَ [ذَرعِكَ] وتتأخّر حيث أخّرك القَدَر عليها ، [فما] عليك غَلَبةُ المغلوب ، ولا لك ظْفر الظافر ، فإنَك لَذَهَّابٌ في التَّيه ، رَوّاغٌ عن القصد ، لا ترى غير مخُبِرٍ لك ، ولكن بنعمة الله أُحدِّث إنّ قوماً استشهدوا [في سبيل الله ولكلٍّ فضل ، حتّى إذا استشهد](2) شهيدنا ، قيل : سيّد الشهداء ، وخصّه رسول

____________________

(1) في نهج البلاغة : ( التمر ) بدل من : ( الثمرة ).

(2) ما بين المعقوفتين من نهج البلاغة.

٣٤٧

الله سبعين تكبيرة من صلاته عليه(1) أوَلاً أنّ قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل حتّى إذا فُعِلَ بواحدٍ منّا كما فُعِلَ بهم. قيل : جعفر الطيّار ذو(2) الجناحيَن ؛ ولولا نَهَى الله تعالى تزكية المرء لنفسه ، لَذَكَر ذاكِرٌ فضائل لست تنكرها(3) ، تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجَّها أسماع السامعين.

فدع عنك ما أنت عنه معزول ومَن(4) مالت به الرَّميّة ، فنحن صنائع ربّنا ، والناس صنائع لنا ؛ ثمّ لم يمنعنا قديمُ عزّنا وعاليُّ طَوْلَنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا ، فِعْل الأكفاء ، ولستم هناك.

وأنّى يكون ذلك كذلك ، ومنّا النبيّ ومنكم المُكذِّب ، ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ، ومنّا سيِّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صِبيَةُ النار ، ومنّا خيرة نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب ، في كثيرٍ ممّا لنا وعليكم؟!

فإسلامنا ما قد سُمِع وجاهليّتكم ما لا تدفع ، فكتاب الله يَجمَع لنا ما قد شذّ عنّا ، وهو قوله تعالى :( وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (5) ، وقوله :( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (6) ، فنحن مَن أولي الأرحام بالقرابة ،

____________________

(1) في نهج البلاغة : وخصّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند صلاته سبعين تكبيرة.

(2) في نهج البلاغة : ( الطيّار في الجنّة وذو ) بدل من ( جعفر الطيّار ذو ).

(3) في نهج البلاغة : ( فضائلَ جمّةً ) بدل من ( لست تنكرها ).

(4) في ( م ) : ( وما ) ، والمثبت من نهج البلاغة.

(5) الأنفال / 75.

(6) آل عمران / 68.

٣٤٨

وتارة أولى بالطاعة ؛ ولمّا(1) احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففلجوا عليهم ، فإن يكن الفالج لنا به فالحقّ لنا دونهم ، وإن لم يكن نصرت الأنصار على دعواهم ، وزعمت أنّ لكلّ الخلق حسدت ، وعلى كلّهم بَغَيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك ، فيكون العُذر إليك.

وَتِلْكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عَنكَ عَارُها

وقلتَ : إنّي كنت أقاد كما يُقاد الجَمَل المَخشوش حتّى أَبايعَ ؛ ولَعَمْرُ اللهِ لقد أردتَ أن تذمّ فمدحتَ ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة أن يكون مظلوماً وأن يغتصب حقّه ما لم يكن شاكّاً في دينه ، ومرتاباً في يقينه ؛ وهذه حجّتي إلى غيرك قَصْدُها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح منها.

ثمّ ذكرتَ ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تُجاب عن هذا لرحمك منه ، فأيُّنا كان أعدى له ، أهدى إلى مقالته؟! أمَن بذلَ له نصرته فاستقعده واستكفّه ، أم مَنِ استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه حتّى أتى قَدَرُه عليه؟! كلاّ والله( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (2) ، وما كنتُ لإعتذر مِن أنّي كنتُ أنقِمُ عليه أحداثاً ، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له ، فَرُبَّ

____________________

(1) في ( م ) : ( وما ) ، والمثبت من نهج البلاغة.

(2) الأحزاب / 18.

٣٤٩

مَلُومٍ لا ذنب له.

وقد يَستَفيدُ الظِّنَّة المُتنَصّح

وما أردتُ إلاّ الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

وذكرتَ أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السيف ، فلقد أضحكت بعد إستعبار! فمتى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين وبالسيوف مُهدَّدين؟!

فألَبَث قليلاً يَلحَق الهَيْجا حَمْلِ(1)

فسيطلبُكَ مَن تَطلُب ، ويَقرُب منك ما تستبعد ، وأنا مُرْقِل نحوك بجحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، زِحامهم شديد ، وساطع قَتامُهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحَبّ اللقاء إليهم لقاء ربهّم ، قد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة قد عَرفتَ مواقع نصولهم في أخيك وخالك وجدّك وأهلك :( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (2) .

ثمّ قال له ابن عباس : فهذا كلام عليّ لك ، فهل تجد فيه حالاً تعيبه ، وقد قال الله :( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) والعهد الإمامة ، حَتَمَ الله حتماً أن

____________________

(1) تكملة البيت : لا بأس بالموت إذا الموت نزل. وهو مثل يضرب به للتهديد بالحرب.

(2) هود / 83.

(3) البقرة / 128.

٣٥٠

لا ينالها ظالم ، فكيف بمن عَبَدَ الأصنام واستقسم بالأزلام وشاقّ الله ورسوله وحاربه هذا؟! مِن إين تطلب منازل النبييّن والوصييّن وأولياء ربّ العالمين؟! الذين لم يعصوه طرفة عين ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، فاقوا العالمين ، ومدحهم الله تعالى في كتابه المبين ، وشهد لهم أنّهم صالحو المؤمنين )(1) .

( المحاورة الثانية )

( دعني ممّا اكره أدعك من مثله )

( قال معاوية لابن عباس : كيف رأيت صنع الله بي وبأبي الحسن؟

فقال ابن عباس : صنعاً والله غير مختل ، عجّله إلى جنّة لن تنالها ، وأخرّك إلى دنيا كان عنه أزالها.

فقال : وإنّك لتحكم على الله؟

فقال : الله حكم بذلك على نفسه( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2) .

قال : أما والله لو عاش أبو عمرو عثمان حتى يراني لرأى ابن العم.

____________________

(1) أخرج هذه المحاورة الديلمي في غرر الأخبار ودرر الآثار / 342 ـ 346 وأنظرها باختلاف في الألفاظ وفي ترتيب العبارات في : المسترشد للطبري الإمامي 306 ـ 307 / 113 ، توصيف ابن عباس عليّاً لمّا سأله معاوية ، أمّا خطبة أمير المؤمنين عليه السلام الواردة في الخبر ، فأنظر : نهج البلاغة / 385 ـ 389 ، الرسالة 28 ، من كتاب له عليه السلام إلى معاوية جواباً ؛ وقد عدّ السيّدالرضيّ هذا الكتاب من محاسن الكتب.

(2) المائدة / 45.

٣٥١

فقال : والله لو عاش لعلم أنّك خذلته حين كانت النصرة له ، ونصرته حينما كانت النصرة لك.

قال : وما دخولك بين العصا ولحائها؟

قال : والله ما دخولي بينهما إلاّ عليهما لا لهما. فدعني ممّا أكره أدعك من مثله ، لأن تحسن فأجازي أحبّ إلي من أن تسئ فأكافئ ، ثم نهض ، فاتبعه ـ معاوية ـ بصره وهو يقول :

حصيد اللسان ذليق الكلام

غير عيّي ولا مسهب

يبذ الجياد بتقريبه

ويأوى إلى حضر ملهب )(1)

( المحاورة الثالثة )

( تدع لي ابن عمي وادع لك ابن عمك )

روى البلاذري في ( أنساب الأشراف ) نقلاً عن المدائني ، قال :

( قال معاوية لابن عباس : ما حالت الفتنة بيني وبين أحد كان أعزّ عليَّ فقداً وأحبّ إليّ قرباً منك ، فالحمد لله الذي قتل عليّاً.

فقال ابن عباس : أو غير هذا ، تدع لي ابن عمي وأدع لك ابن عمك؟

قال : ذاك لك ، ثم قال : أخبرني عن أبي سفيان؟

قال : اللهمَّ إنّه تجر فأربح ، وأسلم فأفلح ، وكان رأس الشرك حتى انقض.

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 50 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 199 ـ 200.

٣٥٢

فقال : يابن عباس في علمك ما تسرّ به جليسك ، ولولا أن أقارضك الثناء لأخبرتك عن نفسك )(1) .

( المحاورة الرابعة )

( قد استعملت أنت رجالاً لهواك )

( اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية وفيهم عبد الله بن عباس ـ وكان جريئاً على معاوية حقّاراً له فبلغه عنه بعض ما يغمّه ـ.

فقال معاوية : رحم الله العباس وأبا سفيان كانا صفيين ( أخوين ـ خ ل­ـ ) دون الناس. فحفظتُ الميت في الحيّ والحيّ في الميت ، إستعملك عليّ يابن عباس على البصرة ، واستعمل عبيد الله أخاك على اليمن ، واستعمل أخاك قثم(2) على المدينة ، فلمّا كان من الأمر ما كان. هنأتكم ما في أيديكم ، ولم أكشفكم عمّا وعته غرائركم ، وقلت أخذ اليوم مالاً واعطي غداً مثله ، وعلمت أن بدء اللؤم يضرّ بعاقبة الكرم لو شئت لأخذت بحناجركم وقيأتكم ما أكلتم. لا يزال يبلغني عنكم ما لا تبرك له الإبل ، وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم ، خذلتم عثمان بالمدينة. وقتلتم أنصاره يوم الجمل ، وحاربتموني بصفين. ولعمري بنو تيم وعدي أعظم ذنوباً منّا إليكم وأكبر جرماً عندكم ، إذ صرفوا عنكم هذا الأمر ، وسنّوا

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق4 / 130 تح احسان عباس ط بيروت.

(2) يبدو سقوط جملة ( على مكة وأخاك تمام ) لأن قثم ولاه الإمام عليه السلام على مكة وبقي عليها حتى سنة ( 45 هـ ).

٣٥٣

فيكم هذه السنّة. فحتى متى أغض الجفون على القذى وأسحب الذيول على الأذى ، وأقول لعلّ الله وعسى ، ما تقول يابن عباس؟

قال : فتكلم ابن عباس ، فقال : رحم الله أبانا وأباك ، كانا صفيين أخوين متفاوضين ، لم يكن لأبي من مال إلاّ ما فضل لأبيك وكان أبوك كذلك لأبي. ولكن من هنّأ أباك بإخاء أبي أكثر ممن هنأ أبي بإخاء أبيكَ. نصر أبي أباك في الجاهلية وحقن دمه في الإسلام(1) .

وأمّا إستعمال عليّ إيانا فلدينه دون هواه ، قمنا له بالحق ونصحنا في الله الخلق(2) ، وقد استعملت أنت رجالاً لهواك لا لدينك ، منهم ابن الحضرمي على البصرة فقتل ، وبسر بن أرطاة على اليمن فخان غزا الحجاز وأخاف الحرمين مكة والمدينة وقتل منهما رجالاً ، وغزا الطائف وقتل منه رجالاً ، وذبح ابني عبيد الله أخي كفراً وظلماً وعدواناً من غير ذنب ولا جريمة ولم يبلغا الحلم ، وحبيب بن مرة على الحجاز فرُدّ والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحصب ، واستعملت ابن عامر(3) على الأنبار وما يليها فغزا أهلها ونهبوها كغزوا الروم والترك ، ونزعوا أقراط المرأة المسلمة من أذنيها واستحلوا سبيهم ، واستعملت زياد بن عبيد الدعيّ على العراق

____________________

(1) يشير إلى يوم جاء العباس بأبي سفيان وقد أردفه خلفه في فتح مكة فاستأمن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

(2) ليت الذين اتخذوا تهمته : ببيت مال البصرة ذريعة للنيل من ابن عباس يقرءوا هذه المحاورة ويقفوا عند هذه الجملة يمعنوا النظر فيها ، فلو كان للتهمة نصيباً من الصحة لما سكت معاوية عن تعييره بها في هذا المقام وقد وافته الفرصة للرد عليه

(3) في الكافي وشرح النهج ( أخو غامد ).

٣٥٤

فبسط الفساد ، وركب العناد ، وظلم العباد ، وحكم فيهم حكم الجاهلية ، لا يرعى لله حرمة ، ولا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ذمة ، ونصبت أنت الحرب للمسلمين وإمام المتقين وأمير المؤمنين عليه السلام ومَن بسيفه وحده قام الدين ، ولولديه الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، ومن معه من أصحابه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأردتَ قتلهم وتدميرهم ، وهم من تعرف أهل البيعتين ـ بيعة الشجرة وبيعة الرضوان ـ وقتلت منهم مَن قتلت ، وعمار جلدة ما بين عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن شهد أنه تقتله الفئة الباغية. قال : لا أنالها الله شفاعتي ، وأنت ومن كان معك الفئة الباغية(1) ، وقتلت أويس القرني الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنّه يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر )(2) ، وقال لأصحابه :

____________________

(1) حديث ( عمار تقتله الفئه الباغية ) أخرجه مسلم في صحيحه في الفتن وأحمد في مسنده في عدة موارد ناهزت العشرة والطبراني في الكبير في موارد ثلاثة والخطيب والبيهقي وابن حجر والهيثمي في مجمع الزوائد وغيرهم ، راجع موسوعة اطراف الحديث النبوي الشريف تجد عشرات المصادر وموارد ذكر الحديث 4 / 403 ـ 404 وفيها ( تقتل عماراً الفئة الباغية وقاتله في النار ). وفيها ( تقتلك الفئة الباغية وأنت إذ ذاك مع الحق ) رواه الخطيب 13 / 187 ، وراجع الموسوعة المذكورة 11 / 205.

(2) ذكره ابن حجر في الإصابة 1 / 133 ط مصطفى محمد فقال ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة وقال : كان ثقة ، وقال : قال ابن عدي ليس له رواية لكن هناك من ينكر وجوده ، إلا أن شهرته وشهرة أخباره لا تسع أحداً أن يشك فيه.

وقال عبد الغني بن سعيد : القرني ـ بفتح القاف والراء ـ هو أويس أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وجوده وشهد صفين مع علي وكان من خيار المسلمين. وروى عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول : ( إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر فمن لقيه منكم فمروه فليستغفر لكم ) ثم ذكر ابن حجر رواة وطرق هذا الحديث ثم ذكر بعض أخبار أو يس إلى أن قال : فاستشهد أويس وجماعة من أصحابه في الرجالة بين يدي علي ، ومن طريق الأصبغ بن نباتة قال شهدت علياً يوم صفين يقول : من يبايعني على الموت؟ فبايعه تسعة وتسعون رجلاً فقال : أين التمام؟ فجاءه رجل عليه أطمار صوف محلوق الرأس فبايعه على القتل فقيل هذا أويس القرني ، فما زال يحارب حتى قتل رحمه الله.

٣٥٥

( إنّكم تدركونه فمروه ليستغفر لكم ).

وقال أيضاً فيه تبجيلاً له وتفخيماً لأمره : ( إنّي لأشمّ نفس الرحمن من جانب اليمن ).

وأمّا طلبك ما وراء ظهورنا فلو طلبته بذلناه وقينا به أعراضنا ، وكان أحقر عندنا أن نمنعه ، وليس الذي يبلغك عنّا بأعظم من الذي يبلغنا عنك.

وأمّا ما يبلغك عنا ، فلو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسّنها ، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لقبّحها.

وأمّا خذلنا عثمان فلو لزمنا نصره لنصرناه ، وقد خذلته أنتَ وكنتَ قادراً على نصره ومعك أهل الشام ، ولو ضربت بهم البحر لخاضوه ، وإنما تربصت به ليقتل وتطلب الملك بسببه.

وأمّا قتلنا أنصاره يوم الجمل ، فعلى خروجهم ممّا دخلوا فيه.

وأمّا حربنا أياك بصفين ، فعلى إنكارك الحق ونصبك الباطل.

وأمّا إغراؤك إيانا بتيم وعدي ، فلو طلبنا الأمر يوم توفي نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ما غلبونا ، وكنّا بفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشغل من كلّ شيء ، علماً أنّهم كانوا يعرفون لنا فضلنا على غيرنا.

وأعلم يا معاوية أنّه سبق في علم الله تعالى أنّه يستباح في هذه الأمة الأموال الحرام ، وتسفك الدماء الحرام ، وتسبى الفروج الحرام ، فكره الله

٣٥٦

تعالى أن يكون ذلك على أيدينا ، فعدل بالأمر على غيرنا ، فإذا أراد الله ردّ الأمور إلى حقايقها إبتعثنا لها ، يختم بنا كما فتح.

فقال في ذلك ابن أبي لهب :

كان ابن حرب عظيم القدر في الناس

حتى رماه بما فيه ابن عباس

مازال يهبطه طوراً ويصعده

حتى استقاد وما بالحق من باس

لم يتركن خطة ممّا تذلّله

إلاّ كواه بها في فروة الرأس(1)

( المحاورة الخامسة )

( حجتكم فيها مشتبهة )

( حضر عبد الله بن عباس مجلس معاوية بن أبي سفيان وهناك جماعة من بني هاشم ، فأقبل معاوية على ابن عباس وعلى بني هاشم ، فقال : يابن عباس إنّكم تريدون أن تحرزوا الإمامة ( تستحقوا الخلافة ) كما إختصصتم ( استحققتم ) بالنبوة ، والله لا يجتمعان لأحد أبداً ، إنّ حجتكم في الخلافة مشتبهه ( شبهة ) على الناس ، إنّكم تقولون نحن أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فما بال خلافة النبوة ( النبيّ ) في غيرنا؟ وهذه شبهة لأنّها تشبه الحق ، وبها مسحة من العدل ، وليس الأمر كما تظنون ، إنّ الخلافة قد تنقلت في أحياء قريش برضى العامة وبشورى الخاصة. ولسنا نجد الناس يقولون : ليت بني هاشم ولونا ، ولو أنّ بني هاشم ولونا لكان خيراً لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا ، فلا هم حيث أجتمعوا على غيركم تمنوكم ، ولو كنتم أزهدتم فيها أمس كما

____________________

(1) العقد الفريد 4 / 8 تح أحمد امين ورفيقيه ط لجنة التأليف والنشر ، نزهة السامع للحلواني.

٣٥٧

تقولون ما قاتلتم ( لم تقاتلوا ) عليها اليوم. وأمّا ما زعمتم أنّ لكم ملكاً هاشمياً ومهدياً قائماً ، فالمهدي عيسى بن مريم عليه السلام وهذا الأمر في أيدينا حتى نسلمه إليه ، ووالله ( ولعمري ) لو ملكتموها ( ملكتمونا ) يا بني هاشم لما كانت ريح عاد ولا صاعقة ثمود بأهلك للناس منكم ثم سكت.

فقال عبد الله بن عباس : أمّا قولك يا معاوية إنّا نحتج بالنبوة في إستحقاق الخلافة ، فهو والله كذلك ، فإذا لم نستحق الخلافة بالنبوة فبم نستحق؟

وأمّا قولك إنّ الخلافة والنبوة لا يجتمعان لأحد ، فأين قول الله عزّ وجلّ :( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (1) ، فالكتاب هو النبوة والحكمة هي السنة ، والملك هو الخلافة ، فنحن آل إبراهيم أمر الله فينا وفيهم واحد ، والسنة لنا ولهم جارية إلى يوم القيامة.

وأمّا دعواك على حجتنا أنّها مشتبهة ، فليس كذلك فهي ، والله أضوء من الشمس ، وأنور من القمر ، كتاب الله معنا وسنة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم فينا ، وإنّك لتعلم ذلك ، ولكن ثنى عطفّك وصعر خدك ، قتلنا أخاك وجدك وعمك وخالك ، فلا تبك على عظام حائلة وأرواح زائلة في الهاوية ، ولا نغضبن لدماء أراقها الشرك وأحلها الكفر ، ووضعها الإسلام.

وأمّا ترك تقديم الناس لنا فيما خلا ، وعدولهم عن الإجتماع أن

____________________

(1) النساء / 54.

٣٥٨

يجتمعوا علينا ، فما حرموا منّا أعظم ممّا حرمنا منهم ، وكلّ أمر إذا حصل حصل حاصله ، ثبت حقه وزال باطله.

وأمّا إفتخارك بالملك الزائل ، الذي توصلت إليه بالمجال الباطل ، فقد ملك فرعون من قبلك.

وأمّا قولك إنّا زعمنا أنّ لنا ملكاً ومهدياً ، فالزعم في كتاب الله شك ، قال الله :( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ) (1) ، فكلّ يشهد أنّ لنا ملكاً ، ولو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لبعث الله لأمره من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، وما تملكون يوماً يا بني أمية إلاّ ملكنا يومين ، ولا شهراً إلاّ ملكنا شهرين ، ولا حولاً إلاّ ملكنا حولين.

وأمّا قولك أنّ المهدي عيسى بن مريم ، فإنّما ينزل عيسى على الدجال فإذا رآه ذاب كما تذوب الشحمة ، والإمام رجل منّا يصلي خلفه عيسى بن مريم لو شئت سميته.

وأمّا قولك : إنا لو ملكنا كان ملكنا أهلك للناس من ريح عاد وصاعقة ثمود فإنهما كانا عذاباً ، وملكنا والحمد لله رحمة ، فقول الله يكذبك في ذلك ، قال الله عزوجل :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (2) .

وسيكون من بعدك تملّك ولدك وولد أبيك ، أهلك للخلق من الريح

____________________

(1) التغابن / 7.

(2) الانبياء / 107.

٣٥٩

العقيم ، ثم ينتقم الله بأوليائه وتكون العاقبة للمتقين )(1) .

( المحاورة السادسة )

( فإنّ الباطل لا يغلب الحق )

( عن عبد الملك بن مروان ، قال : كنا عند معاوية ذات يوم وقد أجتمع عنده جماعة من قريش وفيهم عدّة من بني هاشم.

فقال معاوية : يا بني هاشم بم تفخرون علينا ، أليس الأب والأم واحداً والدار والمولد واحداً؟

فقال ابن عباس : نفخر عليكم بما أصبحت تفخر به على ساير قريش ، وتفخر به قريش على الأنصار ، وتفخر به الأنصار على ساير العرب ، وتفخر به العرب على العجم ( برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبما لا تستطيع له إنكاراً ولا منه فراراً ).

فقال معاوية : يابن عباس لقد أعطيت لساناً ذلقاً تكاد تغلب بباطلك حق سواك.

فقال ابن عباس : فإنّ الباطل لا يغلب الحق ، ودع عنك الحسد. فلبئس الشعار.

فقال معاوية. صدقت أما والله إنّي لأحبّك لخصال أربع مع مغفرتي لك خصالاً أربعاً. فأمّا ما أحبّك : فلقرابتك من رسول الله ، وأمّا الثانية فإنّك

____________________

(1) مجالس المفيد / 7 ط النجف ، كشف الغمة / 127 ط حجرية ، بحار الأنوار 8 / 579 ط حجرية ، و 10 / 130 ط تبريز الحجرية ، الفتن والملاحم / 80 نقلاً عن عيون أخبار بني هاشم لمحمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ.

٣٦٠