موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس8%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93297 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

عباس ، ثم قال : أنا كنت أحق وأولى بالأمر من ابن عمك.

قال ابن عباس : وبمَ؟

قال : لأنّي ابن عم الخليفة المقتول ظلماً.

قال : هذا إذن ـ يعني ابن عمر ـ أولى بالأمر منك ، لأنّ أبا هذا قتل قبل ابن عمك.

قال : فانصاع(١) عن ابن عباس )(٢) .

هذه نهاية الصور اللاتي عثرت عليها لمحاورة ابن عباس مع معاوية ، وجميعها مهما تكن اختلفت روايتها فقد دلّت على مدى تحقير ابن عباس لمعاوية ، وهو في أوج سلطانه ، كما دلّت على شموخ ابن عباس بقوّة إيمانه ، على أنّه ما زال متهماً عند معاوية بتهمة التحريض على عثمان أو التقصير في نصرته ، وقد سبق لمعاوية أن كتب إليه في ذلك كتاباً ، وقرأ منه جواباً ـ كما مرّ في الجزء الخامس من الحلقة الأولى ، وسيأتي أيضاً في فصل الرسائل ـ وكلّ ما كان يبتغيه معاوية ويحاوله هو استبعاد ابن عباس عن ساحة ولائه للإمام عليه السلام وضمه إلى جانب أعدائه ، ولكنه باء بالفشل ، إذ كان ابن عباس في كلّ محاوراته مع معاوية يُفشل جميع محاولاته ، ويكشف عن زيف ادعاءاته بتهمة دم عثمان.

مواقف فخر ونصرة

لنقرأ الآن ماذا قال ابن عباس في وصف الإمام عليّ عليه السلام وقد سأله

____________________

(١) أنفتل بكله عنه وأعرض إلى جهة غيره.

(٢) كشف الغمة ١ / ١٥٤.

٣٤١

معاوية عن ذلك مراراً ، لا لجهل منه بمعرفته الإمام عليه السلام ، ولكن من خبثه ودهائه ، يحاول زلزلة ابن عباس عن ولائه بعد توليّه الأمر واغداقه بعطائه ، لكن ابن عباس هو ابن عباس الذي كان في حبّه لإمامه عند حسن ظن أبيه العباس به من قبل ، حيث قال عنه في وصيته للإمام :

( أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ووجدت عنده من ذلك ظنّي به لك )(١) .

١ ـ قال الزمخشري في ( ربيع الأبرار ) : ( كان ابن عباس يقول في عليّ ابن أبي طالب : كان والله يشبه القمر الباهر ، والأسد الخادر ، والفرات الزاخر ، والربيع الباكر ، فأشبه من القمر ضوءه وبهاءه ، ومن الأسد شجاعته ومضاءه ، ومن الفرات جوده وسخاءه ، ومن الربيع خصبه ورخاءه )(٢) .

٢ ـ وروى البيهقي في ( المحاسن والمساويء ) ، قال :

( سأل معاوية يوماً ابن عباس ، فقال له : صف لي عليّاً؟

فقال : كأنّك لم تره؟

قال : بلى ولكن أحبّ أن أسمع منك فيه مقالاً.

فقال : كان أمير المؤمنين عليه السلام غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ، يدنينا إذا أتيناه ، ويجيبنا إذا دعوناه ،

____________________

(١) أنظر موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى / ج١ في ( وصية العباس عند موته ) ، والحلقة الثانية من الموسوعة ج١ في ( مواقف محنة واختبار ).

(٢) ربيع الأبرار ٤ / ١٦١ ط أوقاف بغداد.

٣٤٢

وكان مع تقريبه إيانا وقربه منّا لا نبدأه بالكلام حتى يتبسم ، فإذا هو تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، أما والله يا معاوية لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومُه ، وهو قابض على لحيته يبكي ويتململ تململ السليم ، وهو يقول : يا دنيا إياي تغرّين؟ أمثلي تشوقين؟ لا حان حينك ، بل زال زوالك ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها. فعيشك حقير ، وعمركِ قصير ، وخطركِ يسير ، آه آه من بُعد السفر ووحشة الطريق ، وقلّة الزاد.

فأجهش معاوية ومن معه بالبكاء )(١) .

ويبدو أنّ معاوية لم يحصل بغيته من ابن عباس التي كان يتوخاها ، بل كانت النتيجة معكوسة ، حيث كان ابن عباس بوصفه الإمام عليه السلام قد استحوذ على مشاعر السامعين بمن فيهم معاوية ومن معه ، حتى جعلهم يتأثرون فيجهشون بالبكاء لقوّة تأثير كلام ابن عباس فيهم.

وقد كرر معاوية الطلب ثانية وأدرك ابن عباس بثاقب فهمه ما يدور في خلد خصمه ، فأبعد هذه المرّة في مرماه وبلغ ما يتوخاه.

٣ ـ فقد روى الحنبلي في ( نهاية الطلب ) والفضل بن شاذان في كتابيه ( الروضة ، والفضائل ) عن ربعي بن خراش ، قال :

( سأل معاوية عبد الله بن عباس ، فقال : ما تقول في عليّ بن أبي طالب؟

____________________

(١) المحاسن والمساوي ١ / ٢٨.

٣٤٣

فقال : صلوات الله على أبي الحسن عليّ ، كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحل الحجى ، وبحر الندى ، وطود النهى ، وعلماً للورى ، ونوراً في ظلم الدّجى ، وداعياً إلى المحجة العظمى ، ومستمسكاً بالعروة الوثقى ، وسامياً إلى الغاية القصوى ، وعالماً بما في الصحف الأولى ، وعاملا ً بطاعة الملك الأعلى ، وعارفاً بالتأويل والذكرى ، ومتعلقاً بأسباب الهدى ، وحائداً عن طرقات الردى ، وسامياً إلى المجد والعلى ، وقائماً بالدين والتقوى ، وسيد من تقمص وارتدى بعد النبيّ المصطفى ، وأفضل من صام وصلى ، وأجل من ضحك وبكى ، صاحب القبلتين ، وهل يساويه مخلوق ، كان أو يكون ، كان والله للأُسد قاتلاً ، وللبهم في الحرب خاتلاً ، على مبغضيه لعنة الله ولعنة العبَاد إلى يوم التناد )(١) .

ولم يترك معاوية حيلة تبلغه حاجته في ابن عباس إلا أتاها ، لكن ابن عباس كان أوعى من أن تنطلي عليه أساليب خداع معاوية ، وتبقى نقطة الخلاف بينهما ساخنة ، ما دامت المواقف متباينة ، فمعاوية يمثل الحقد الأموي بجميع أبعاده ، وابن عباس يمثل عزّة آبائه وأجداده بقوّة إيمانه وإعتقاده ، وفي القمة ولاؤه للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وهذا ما كان يغيض معاوية فيتميز غيظاً عند سماع ابن عباس يتحدث عن الإمام عليه السلام ، فقد كان يجمل ويطنب كلّما دعت الحاجة إلى ذلك ، وكلّما بدت البغضاء من أفواه معانديه ، ولو جُمعت كلماته في هذا الشأن لكانت خير مدرسة ولائية.

____________________

(١) الدرجات الرفيعة / ١٢٣.

٣٤٤

وأطول وصف ورد عنه ، ما رواه الديلمي في ( غرر الأخبار ودرر الآثار ) ، وقد استغرق عدّة صفحات من ص ٣٢٤ إلى ٣٤٦ ، فلنقرأ ما رواه : قال الديلمي :

( روي أنّ معاوية سأل عبد الله بن عباس عن أمير المؤمنين؟

فقال له : عليّ سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، ووارث علم الأوّلين والآخرين ومن تعجّب بمساواته النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الروح الأمين ، وآخاه دون الخلق أجمعين ، وقصم ظهر المشركين والمنافقين ، وحملكم قهراً على الدخول في الدّين ، بعد قتل جدّك وأخيه وخالك وأخيك ، ولست تستطيع أبداً في ذلك أن تكون من المكذّبين ، وكان والله للقرآن تالياً ، وبه عالماً عاملاً ، وللسهو قالياً ، وعن الفحشاء نائياً ، وللشرك آبياً ، وللمعروف فاعلاً ، وعن المنكر ناهياً ، وبدِينه عارفاً ، ومِنَ الله خائفاً ، وعنَ الموبقات صادفاً ، وبالليل قائماً ، وبالنهار صائماً ، ومن دنياه سالماً ، وبعدل البريّة قائماً ، وعن المهلكات زاجراً ، وبنور الله ناظراً ، ولشهوته قاهراً ؛ فاق العالمين علماً ، وزهداً ، وورعاً وكفافاً ، وقناعة ، وبراعة ، وعفافاً ، وحلماً ، وكرماً ، وجهاداً ، وهجرة ، وشجاعة ، وقرابة ، وعبادة ، وإخلاصاً ؛ وأقدمهم إيماناً ، وسادهم زهداً وأمانة وبرّاً وحياطة.

كان والله حليف القرآن ، ومأوى الأنام ، ومولى الأيتام ، ومنتهى الإحسان ، وملاذ الفقراء والضعفاء ، ومعقل الخائف.

كان والله للخلق حصناً ، وللناس عوناً قويّاً ، وعلى الحقّ صابراً ، وفي

٣٤٥

ذات الله مجاهداً وفيه محتسباً ، حتّى عزّ الدِّين في الديار ، وعُبِدَ الله في الأقطار والضواحي في الليل والنهار ، وجميع النواحي والقلاع والتلاع ، والقفار والبقاع.

كان والله نوراً في الدجى ، شكوراً في البأساء والضرّاء ، صبوراً على المحنة والبلاء.

كان والله هجّاداً في الأسحار ، كثير الدمع عند ذكر النار ، دائم الذِّكْر والفكر بالليل والنهار ، نهّاضاً إلى كلّ خير ومكرمة ، سَعِيّاً إلى كلّ منجية ، فرّاراً من كلّ موبقة.

كان والله عَلَم الهدى ، وكهف التقى ، ومحلّ الحَجى ، وبحر الندى ، وطود النُّهى ، وزين الورى ، ومعدن العِلْم ، وواسع الحلم.

كان والله داعياً إلى المحجّة البيضاء والطريقة العظمى ، مستمسكاً بالعروة الوثقى ، عالماً بما في الكتب والصحف الأُولى ، عاملاً بطاعة الله الجليل الأعلى ، عارفاً بالتأويل والذكر ، متعلّقاً بأسباب الهدى ، حائداً عن طرقات الردى ، سامياً إلى المجد والعُلى ، قائماً بالحقّ والتقوى ، تاركاً للجور والأذى ، وخير مَنِ انتعل وتردّى ، وأوّل مَن آمن واتّقى ، وسيّد مَن تقمّص وارتدى ، وأصدق مَن تسربل واكتسى ، وأكرم مَن تنفّس وقرى ، وأفضل مَن صام وصلّى ، وأفضل مَن ضحك وبكى ، وأخطب مَن صعد ورقى ، وأفضل مَن مشى على الثرى ، وأبين مَن تعلّق في الورى بعد النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ؛ صلّى القبلتين ، وهاجر الهجرتَين ، فهل يساويه أحد في

٣٤٦

الخافقَين؟! زوج خير النسوان ، وولداه السبطان.

كان والله للأسد قتّالاً ، وللحرب سعّاراً ، وفي الهزاهز ختّالاً ، وعلى الأبطال صوّالاً ، وللخير قوّالاً أتنكر يا معاوية شيئاً من ذلك وقد سمعتُ ما كَتَبَ به إليك عن جوابك الذي أرسلته تفتخر فيه عليه؟ وأنا الآن ذاكره ومعيده عليك وهو :

( أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر اصطّفاء الله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه ، فقد خبّأ لنا الدهر منك عجباً ، إذ طفقت تخيرنا ببلاء الله فينا ونعمته علينا ، فكنت كناقل الثَمرة(١) إلى هَجَر ، وداعي مُسَدِّدِه إِلى النضال ، وزعمت أنّ أفضل الناس فلان وفلان فذكرت أمراً إن تمَّ اعْتَزَلَك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمته ، وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين والأنصار وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟! هيهات ، لقد حَنَّ قِدْحٌ ليس [منها] ، وطفق يحكم فيها من عليه الحُكم لها! ألا تَربَع أيّها الإنسان على ظَلعِكَ ، وتعرف قُصورَ [ذَرعِكَ] وتتأخّر حيث أخّرك القَدَر عليها ، [فما] عليك غَلَبةُ المغلوب ، ولا لك ظْفر الظافر ، فإنَك لَذَهَّابٌ في التَّيه ، رَوّاغٌ عن القصد ، لا ترى غير مخُبِرٍ لك ، ولكن بنعمة الله أُحدِّث إنّ قوماً استشهدوا [في سبيل الله ولكلٍّ فضل ، حتّى إذا استشهد](٢) شهيدنا ، قيل : سيّد الشهداء ، وخصّه رسول

____________________

(١) في نهج البلاغة : ( التمر ) بدل من : ( الثمرة ).

(٢) ما بين المعقوفتين من نهج البلاغة.

٣٤٧

الله سبعين تكبيرة من صلاته عليه(١) أوَلاً أنّ قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل حتّى إذا فُعِلَ بواحدٍ منّا كما فُعِلَ بهم. قيل : جعفر الطيّار ذو(٢) الجناحيَن ؛ ولولا نَهَى الله تعالى تزكية المرء لنفسه ، لَذَكَر ذاكِرٌ فضائل لست تنكرها(٣) ، تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجَّها أسماع السامعين.

فدع عنك ما أنت عنه معزول ومَن(٤) مالت به الرَّميّة ، فنحن صنائع ربّنا ، والناس صنائع لنا ؛ ثمّ لم يمنعنا قديمُ عزّنا وعاليُّ طَوْلَنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا ، فِعْل الأكفاء ، ولستم هناك.

وأنّى يكون ذلك كذلك ، ومنّا النبيّ ومنكم المُكذِّب ، ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ، ومنّا سيِّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صِبيَةُ النار ، ومنّا خيرة نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب ، في كثيرٍ ممّا لنا وعليكم؟!

فإسلامنا ما قد سُمِع وجاهليّتكم ما لا تدفع ، فكتاب الله يَجمَع لنا ما قد شذّ عنّا ، وهو قوله تعالى :( وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (٥) ، وقوله :( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (٦) ، فنحن مَن أولي الأرحام بالقرابة ،

____________________

(١) في نهج البلاغة : وخصّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند صلاته سبعين تكبيرة.

(٢) في نهج البلاغة : ( الطيّار في الجنّة وذو ) بدل من ( جعفر الطيّار ذو ).

(٣) في نهج البلاغة : ( فضائلَ جمّةً ) بدل من ( لست تنكرها ).

(٤) في ( م ) : ( وما ) ، والمثبت من نهج البلاغة.

(٥) الأنفال / ٧٥.

(٦) آل عمران / ٦٨.

٣٤٨

وتارة أولى بالطاعة ؛ ولمّا(١) احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففلجوا عليهم ، فإن يكن الفالج لنا به فالحقّ لنا دونهم ، وإن لم يكن نصرت الأنصار على دعواهم ، وزعمت أنّ لكلّ الخلق حسدت ، وعلى كلّهم بَغَيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك ، فيكون العُذر إليك.

وَتِلْكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عَنكَ عَارُها

وقلتَ : إنّي كنت أقاد كما يُقاد الجَمَل المَخشوش حتّى أَبايعَ ؛ ولَعَمْرُ اللهِ لقد أردتَ أن تذمّ فمدحتَ ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة أن يكون مظلوماً وأن يغتصب حقّه ما لم يكن شاكّاً في دينه ، ومرتاباً في يقينه ؛ وهذه حجّتي إلى غيرك قَصْدُها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح منها.

ثمّ ذكرتَ ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تُجاب عن هذا لرحمك منه ، فأيُّنا كان أعدى له ، أهدى إلى مقالته؟! أمَن بذلَ له نصرته فاستقعده واستكفّه ، أم مَنِ استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه حتّى أتى قَدَرُه عليه؟! كلاّ والله( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٢) ، وما كنتُ لإعتذر مِن أنّي كنتُ أنقِمُ عليه أحداثاً ، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له ، فَرُبَّ

____________________

(١) في ( م ) : ( وما ) ، والمثبت من نهج البلاغة.

(٢) الأحزاب / ١٨.

٣٤٩

مَلُومٍ لا ذنب له.

وقد يَستَفيدُ الظِّنَّة المُتنَصّح

وما أردتُ إلاّ الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

وذكرتَ أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السيف ، فلقد أضحكت بعد إستعبار! فمتى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين وبالسيوف مُهدَّدين؟!

فألَبَث قليلاً يَلحَق الهَيْجا حَمْلِ(١)

فسيطلبُكَ مَن تَطلُب ، ويَقرُب منك ما تستبعد ، وأنا مُرْقِل نحوك بجحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، زِحامهم شديد ، وساطع قَتامُهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحَبّ اللقاء إليهم لقاء ربهّم ، قد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة قد عَرفتَ مواقع نصولهم في أخيك وخالك وجدّك وأهلك :( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (٢) .

ثمّ قال له ابن عباس : فهذا كلام عليّ لك ، فهل تجد فيه حالاً تعيبه ، وقد قال الله :( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) والعهد الإمامة ، حَتَمَ الله حتماً أن

____________________

(١) تكملة البيت : لا بأس بالموت إذا الموت نزل. وهو مثل يضرب به للتهديد بالحرب.

(٢) هود / ٨٣.

(٣) البقرة / ١٢٨.

٣٥٠

لا ينالها ظالم ، فكيف بمن عَبَدَ الأصنام واستقسم بالأزلام وشاقّ الله ورسوله وحاربه هذا؟! مِن إين تطلب منازل النبييّن والوصييّن وأولياء ربّ العالمين؟! الذين لم يعصوه طرفة عين ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، فاقوا العالمين ، ومدحهم الله تعالى في كتابه المبين ، وشهد لهم أنّهم صالحو المؤمنين )(١) .

( المحاورة الثانية )

( دعني ممّا اكره أدعك من مثله )

( قال معاوية لابن عباس : كيف رأيت صنع الله بي وبأبي الحسن؟

فقال ابن عباس : صنعاً والله غير مختل ، عجّله إلى جنّة لن تنالها ، وأخرّك إلى دنيا كان عنه أزالها.

فقال : وإنّك لتحكم على الله؟

فقال : الله حكم بذلك على نفسه( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

قال : أما والله لو عاش أبو عمرو عثمان حتى يراني لرأى ابن العم.

____________________

(١) أخرج هذه المحاورة الديلمي في غرر الأخبار ودرر الآثار / ٣٤٢ ـ ٣٤٦ وأنظرها باختلاف في الألفاظ وفي ترتيب العبارات في : المسترشد للطبري الإمامي ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ١١٣ ، توصيف ابن عباس عليّاً لمّا سأله معاوية ، أمّا خطبة أمير المؤمنين عليه السلام الواردة في الخبر ، فأنظر : نهج البلاغة / ٣٨٥ ـ ٣٨٩ ، الرسالة ٢٨ ، من كتاب له عليه السلام إلى معاوية جواباً ؛ وقد عدّ السيّدالرضيّ هذا الكتاب من محاسن الكتب.

(٢) المائدة / ٤٥.

٣٥١

فقال : والله لو عاش لعلم أنّك خذلته حين كانت النصرة له ، ونصرته حينما كانت النصرة لك.

قال : وما دخولك بين العصا ولحائها؟

قال : والله ما دخولي بينهما إلاّ عليهما لا لهما. فدعني ممّا أكره أدعك من مثله ، لأن تحسن فأجازي أحبّ إلي من أن تسئ فأكافئ ، ثم نهض ، فاتبعه ـ معاوية ـ بصره وهو يقول :

حصيد اللسان ذليق الكلام

غير عيّي ولا مسهب

يبذ الجياد بتقريبه

ويأوى إلى حضر ملهب )(١)

( المحاورة الثالثة )

( تدع لي ابن عمي وادع لك ابن عمك )

روى البلاذري في ( أنساب الأشراف ) نقلاً عن المدائني ، قال :

( قال معاوية لابن عباس : ما حالت الفتنة بيني وبين أحد كان أعزّ عليَّ فقداً وأحبّ إليّ قرباً منك ، فالحمد لله الذي قتل عليّاً.

فقال ابن عباس : أو غير هذا ، تدع لي ابن عمي وأدع لك ابن عمك؟

قال : ذاك لك ، ثم قال : أخبرني عن أبي سفيان؟

قال : اللهمَّ إنّه تجر فأربح ، وأسلم فأفلح ، وكان رأس الشرك حتى انقض.

____________________

(١) أخبار الدولة العباسية / ٥٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٣٥٢

فقال : يابن عباس في علمك ما تسرّ به جليسك ، ولولا أن أقارضك الثناء لأخبرتك عن نفسك )(١) .

( المحاورة الرابعة )

( قد استعملت أنت رجالاً لهواك )

( اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية وفيهم عبد الله بن عباس ـ وكان جريئاً على معاوية حقّاراً له فبلغه عنه بعض ما يغمّه ـ.

فقال معاوية : رحم الله العباس وأبا سفيان كانا صفيين ( أخوين ـ خ ل­ـ ) دون الناس. فحفظتُ الميت في الحيّ والحيّ في الميت ، إستعملك عليّ يابن عباس على البصرة ، واستعمل عبيد الله أخاك على اليمن ، واستعمل أخاك قثم(٢) على المدينة ، فلمّا كان من الأمر ما كان. هنأتكم ما في أيديكم ، ولم أكشفكم عمّا وعته غرائركم ، وقلت أخذ اليوم مالاً واعطي غداً مثله ، وعلمت أن بدء اللؤم يضرّ بعاقبة الكرم لو شئت لأخذت بحناجركم وقيأتكم ما أكلتم. لا يزال يبلغني عنكم ما لا تبرك له الإبل ، وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم ، خذلتم عثمان بالمدينة. وقتلتم أنصاره يوم الجمل ، وحاربتموني بصفين. ولعمري بنو تيم وعدي أعظم ذنوباً منّا إليكم وأكبر جرماً عندكم ، إذ صرفوا عنكم هذا الأمر ، وسنّوا

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق٤ / ١٣٠ تح احسان عباس ط بيروت.

(٢) يبدو سقوط جملة ( على مكة وأخاك تمام ) لأن قثم ولاه الإمام عليه السلام على مكة وبقي عليها حتى سنة ( ٤٥ هـ ).

٣٥٣

فيكم هذه السنّة. فحتى متى أغض الجفون على القذى وأسحب الذيول على الأذى ، وأقول لعلّ الله وعسى ، ما تقول يابن عباس؟

قال : فتكلم ابن عباس ، فقال : رحم الله أبانا وأباك ، كانا صفيين أخوين متفاوضين ، لم يكن لأبي من مال إلاّ ما فضل لأبيك وكان أبوك كذلك لأبي. ولكن من هنّأ أباك بإخاء أبي أكثر ممن هنأ أبي بإخاء أبيكَ. نصر أبي أباك في الجاهلية وحقن دمه في الإسلام(١) .

وأمّا إستعمال عليّ إيانا فلدينه دون هواه ، قمنا له بالحق ونصحنا في الله الخلق(٢) ، وقد استعملت أنت رجالاً لهواك لا لدينك ، منهم ابن الحضرمي على البصرة فقتل ، وبسر بن أرطاة على اليمن فخان غزا الحجاز وأخاف الحرمين مكة والمدينة وقتل منهما رجالاً ، وغزا الطائف وقتل منه رجالاً ، وذبح ابني عبيد الله أخي كفراً وظلماً وعدواناً من غير ذنب ولا جريمة ولم يبلغا الحلم ، وحبيب بن مرة على الحجاز فرُدّ والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحصب ، واستعملت ابن عامر(٣) على الأنبار وما يليها فغزا أهلها ونهبوها كغزوا الروم والترك ، ونزعوا أقراط المرأة المسلمة من أذنيها واستحلوا سبيهم ، واستعملت زياد بن عبيد الدعيّ على العراق

____________________

(١) يشير إلى يوم جاء العباس بأبي سفيان وقد أردفه خلفه في فتح مكة فاستأمن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

(٢) ليت الذين اتخذوا تهمته : ببيت مال البصرة ذريعة للنيل من ابن عباس يقرءوا هذه المحاورة ويقفوا عند هذه الجملة يمعنوا النظر فيها ، فلو كان للتهمة نصيباً من الصحة لما سكت معاوية عن تعييره بها في هذا المقام وقد وافته الفرصة للرد عليه

(٣) في الكافي وشرح النهج ( أخو غامد ).

٣٥٤

فبسط الفساد ، وركب العناد ، وظلم العباد ، وحكم فيهم حكم الجاهلية ، لا يرعى لله حرمة ، ولا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ذمة ، ونصبت أنت الحرب للمسلمين وإمام المتقين وأمير المؤمنين عليه السلام ومَن بسيفه وحده قام الدين ، ولولديه الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، ومن معه من أصحابه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأردتَ قتلهم وتدميرهم ، وهم من تعرف أهل البيعتين ـ بيعة الشجرة وبيعة الرضوان ـ وقتلت منهم مَن قتلت ، وعمار جلدة ما بين عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن شهد أنه تقتله الفئة الباغية. قال : لا أنالها الله شفاعتي ، وأنت ومن كان معك الفئة الباغية(١) ، وقتلت أويس القرني الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنّه يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر )(٢) ، وقال لأصحابه :

____________________

(١) حديث ( عمار تقتله الفئه الباغية ) أخرجه مسلم في صحيحه في الفتن وأحمد في مسنده في عدة موارد ناهزت العشرة والطبراني في الكبير في موارد ثلاثة والخطيب والبيهقي وابن حجر والهيثمي في مجمع الزوائد وغيرهم ، راجع موسوعة اطراف الحديث النبوي الشريف تجد عشرات المصادر وموارد ذكر الحديث ٤ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤ وفيها ( تقتل عماراً الفئة الباغية وقاتله في النار ). وفيها ( تقتلك الفئة الباغية وأنت إذ ذاك مع الحق ) رواه الخطيب ١٣ / ١٨٧ ، وراجع الموسوعة المذكورة ١١ / ٢٠٥.

(٢) ذكره ابن حجر في الإصابة ١ / ١٣٣ ط مصطفى محمد فقال ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة وقال : كان ثقة ، وقال : قال ابن عدي ليس له رواية لكن هناك من ينكر وجوده ، إلا أن شهرته وشهرة أخباره لا تسع أحداً أن يشك فيه.

وقال عبد الغني بن سعيد : القرني ـ بفتح القاف والراء ـ هو أويس أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وجوده وشهد صفين مع علي وكان من خيار المسلمين. وروى عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول : ( إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر فمن لقيه منكم فمروه فليستغفر لكم ) ثم ذكر ابن حجر رواة وطرق هذا الحديث ثم ذكر بعض أخبار أو يس إلى أن قال : فاستشهد أويس وجماعة من أصحابه في الرجالة بين يدي علي ، ومن طريق الأصبغ بن نباتة قال شهدت علياً يوم صفين يقول : من يبايعني على الموت؟ فبايعه تسعة وتسعون رجلاً فقال : أين التمام؟ فجاءه رجل عليه أطمار صوف محلوق الرأس فبايعه على القتل فقيل هذا أويس القرني ، فما زال يحارب حتى قتل رحمه الله.

٣٥٥

( إنّكم تدركونه فمروه ليستغفر لكم ).

وقال أيضاً فيه تبجيلاً له وتفخيماً لأمره : ( إنّي لأشمّ نفس الرحمن من جانب اليمن ).

وأمّا طلبك ما وراء ظهورنا فلو طلبته بذلناه وقينا به أعراضنا ، وكان أحقر عندنا أن نمنعه ، وليس الذي يبلغك عنّا بأعظم من الذي يبلغنا عنك.

وأمّا ما يبلغك عنا ، فلو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسّنها ، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لقبّحها.

وأمّا خذلنا عثمان فلو لزمنا نصره لنصرناه ، وقد خذلته أنتَ وكنتَ قادراً على نصره ومعك أهل الشام ، ولو ضربت بهم البحر لخاضوه ، وإنما تربصت به ليقتل وتطلب الملك بسببه.

وأمّا قتلنا أنصاره يوم الجمل ، فعلى خروجهم ممّا دخلوا فيه.

وأمّا حربنا أياك بصفين ، فعلى إنكارك الحق ونصبك الباطل.

وأمّا إغراؤك إيانا بتيم وعدي ، فلو طلبنا الأمر يوم توفي نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ما غلبونا ، وكنّا بفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشغل من كلّ شيء ، علماً أنّهم كانوا يعرفون لنا فضلنا على غيرنا.

وأعلم يا معاوية أنّه سبق في علم الله تعالى أنّه يستباح في هذه الأمة الأموال الحرام ، وتسفك الدماء الحرام ، وتسبى الفروج الحرام ، فكره الله

٣٥٦

تعالى أن يكون ذلك على أيدينا ، فعدل بالأمر على غيرنا ، فإذا أراد الله ردّ الأمور إلى حقايقها إبتعثنا لها ، يختم بنا كما فتح.

فقال في ذلك ابن أبي لهب :

كان ابن حرب عظيم القدر في الناس

حتى رماه بما فيه ابن عباس

مازال يهبطه طوراً ويصعده

حتى استقاد وما بالحق من باس

لم يتركن خطة ممّا تذلّله

إلاّ كواه بها في فروة الرأس(١)

( المحاورة الخامسة )

( حجتكم فيها مشتبهة )

( حضر عبد الله بن عباس مجلس معاوية بن أبي سفيان وهناك جماعة من بني هاشم ، فأقبل معاوية على ابن عباس وعلى بني هاشم ، فقال : يابن عباس إنّكم تريدون أن تحرزوا الإمامة ( تستحقوا الخلافة ) كما إختصصتم ( استحققتم ) بالنبوة ، والله لا يجتمعان لأحد أبداً ، إنّ حجتكم في الخلافة مشتبهه ( شبهة ) على الناس ، إنّكم تقولون نحن أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فما بال خلافة النبوة ( النبيّ ) في غيرنا؟ وهذه شبهة لأنّها تشبه الحق ، وبها مسحة من العدل ، وليس الأمر كما تظنون ، إنّ الخلافة قد تنقلت في أحياء قريش برضى العامة وبشورى الخاصة. ولسنا نجد الناس يقولون : ليت بني هاشم ولونا ، ولو أنّ بني هاشم ولونا لكان خيراً لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا ، فلا هم حيث أجتمعوا على غيركم تمنوكم ، ولو كنتم أزهدتم فيها أمس كما

____________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٨ تح أحمد امين ورفيقيه ط لجنة التأليف والنشر ، نزهة السامع للحلواني.

٣٥٧

تقولون ما قاتلتم ( لم تقاتلوا ) عليها اليوم. وأمّا ما زعمتم أنّ لكم ملكاً هاشمياً ومهدياً قائماً ، فالمهدي عيسى بن مريم عليه السلام وهذا الأمر في أيدينا حتى نسلمه إليه ، ووالله ( ولعمري ) لو ملكتموها ( ملكتمونا ) يا بني هاشم لما كانت ريح عاد ولا صاعقة ثمود بأهلك للناس منكم ثم سكت.

فقال عبد الله بن عباس : أمّا قولك يا معاوية إنّا نحتج بالنبوة في إستحقاق الخلافة ، فهو والله كذلك ، فإذا لم نستحق الخلافة بالنبوة فبم نستحق؟

وأمّا قولك إنّ الخلافة والنبوة لا يجتمعان لأحد ، فأين قول الله عزّ وجلّ :( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (١) ، فالكتاب هو النبوة والحكمة هي السنة ، والملك هو الخلافة ، فنحن آل إبراهيم أمر الله فينا وفيهم واحد ، والسنة لنا ولهم جارية إلى يوم القيامة.

وأمّا دعواك على حجتنا أنّها مشتبهة ، فليس كذلك فهي ، والله أضوء من الشمس ، وأنور من القمر ، كتاب الله معنا وسنة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم فينا ، وإنّك لتعلم ذلك ، ولكن ثنى عطفّك وصعر خدك ، قتلنا أخاك وجدك وعمك وخالك ، فلا تبك على عظام حائلة وأرواح زائلة في الهاوية ، ولا نغضبن لدماء أراقها الشرك وأحلها الكفر ، ووضعها الإسلام.

وأمّا ترك تقديم الناس لنا فيما خلا ، وعدولهم عن الإجتماع أن

____________________

(١) النساء / ٥٤.

٣٥٨

يجتمعوا علينا ، فما حرموا منّا أعظم ممّا حرمنا منهم ، وكلّ أمر إذا حصل حصل حاصله ، ثبت حقه وزال باطله.

وأمّا إفتخارك بالملك الزائل ، الذي توصلت إليه بالمجال الباطل ، فقد ملك فرعون من قبلك.

وأمّا قولك إنّا زعمنا أنّ لنا ملكاً ومهدياً ، فالزعم في كتاب الله شك ، قال الله :( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ) (١) ، فكلّ يشهد أنّ لنا ملكاً ، ولو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لبعث الله لأمره من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، وما تملكون يوماً يا بني أمية إلاّ ملكنا يومين ، ولا شهراً إلاّ ملكنا شهرين ، ولا حولاً إلاّ ملكنا حولين.

وأمّا قولك أنّ المهدي عيسى بن مريم ، فإنّما ينزل عيسى على الدجال فإذا رآه ذاب كما تذوب الشحمة ، والإمام رجل منّا يصلي خلفه عيسى بن مريم لو شئت سميته.

وأمّا قولك : إنا لو ملكنا كان ملكنا أهلك للناس من ريح عاد وصاعقة ثمود فإنهما كانا عذاباً ، وملكنا والحمد لله رحمة ، فقول الله يكذبك في ذلك ، قال الله عزوجل :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٢) .

وسيكون من بعدك تملّك ولدك وولد أبيك ، أهلك للخلق من الريح

____________________

(١) التغابن / ٧.

(٢) الانبياء / ١٠٧.

٣٥٩

العقيم ، ثم ينتقم الله بأوليائه وتكون العاقبة للمتقين )(١) .

( المحاورة السادسة )

( فإنّ الباطل لا يغلب الحق )

( عن عبد الملك بن مروان ، قال : كنا عند معاوية ذات يوم وقد أجتمع عنده جماعة من قريش وفيهم عدّة من بني هاشم.

فقال معاوية : يا بني هاشم بم تفخرون علينا ، أليس الأب والأم واحداً والدار والمولد واحداً؟

فقال ابن عباس : نفخر عليكم بما أصبحت تفخر به على ساير قريش ، وتفخر به قريش على الأنصار ، وتفخر به الأنصار على ساير العرب ، وتفخر به العرب على العجم ( برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبما لا تستطيع له إنكاراً ولا منه فراراً ).

فقال معاوية : يابن عباس لقد أعطيت لساناً ذلقاً تكاد تغلب بباطلك حق سواك.

فقال ابن عباس : فإنّ الباطل لا يغلب الحق ، ودع عنك الحسد. فلبئس الشعار.

فقال معاوية. صدقت أما والله إنّي لأحبّك لخصال أربع مع مغفرتي لك خصالاً أربعاً. فأمّا ما أحبّك : فلقرابتك من رسول الله ، وأمّا الثانية فإنّك

____________________

(١) مجالس المفيد / ٧ ط النجف ، كشف الغمة / ١٢٧ ط حجرية ، بحار الأنوار ٨ / ٥٧٩ ط حجرية ، و ١٠ / ١٣٠ ط تبريز الحجرية ، الفتن والملاحم / ٨٠ نقلاً عن عيون أخبار بني هاشم لمحمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ.

٣٦٠

رجل من أسرتي وأهل بيتي ومن مصاص عبد مناف ، وأمّا الثالثة فإنّ أبي كان خلاً لأبيك ، وأمّا الرابعة فإنّك لسان قريش وزعيمها وفقيهها.

وأمّا الأربع التي غفرت لك : فعدوك عليَّ بصفين فيمن عدا ، واساءتك في خذلان عثمان فيمن أساء ، وسعيك على عائشة أم المؤمنين فيمن سعى ، ونفيك عني زياداً فيمن نفى. فضربت أنف هذا الأمر عينه حتى استخرجت عذرك من كتاب الله عزوجل وقول الشعراء.

وأمّا ما وافق كتاب الله عزوجل فقوله :( خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) (1) .

وأمّا ما قالت الشعراء. فقول أخي بني ذبيان :

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

فأعلم أني قد قبلت فيك الأربع الأولى وغفرت لك الأربع الأخرى ، وكنت في ذلك كما قال الأوّل :

سأقبل ممن قد أحب جميله

وأغفر ما قد كان من غير ذلكا

ثم أنصت.

فتكلم ابن عباس ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا ما ذكرت أنّك تحبّني لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذلك الواجب عليك وعلى كلّ مسلم آمن بالله ورسوله ، لأنّه الأجر الذي سألكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما آتاكم به من الضياء والبرهان المبين ، فقال عزّ وجلّ :( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا

____________________

(1) التوبة / 102.

٣٦١

الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) ، فمن لم يجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما سأله ، خاب وخزي وكبا في جهنم.

وأمّا ما ذكرت أنّي رجل من أسرتك وأهل بيتك ، فذلك كذلك ، وإنّما أردت به صلة الرحم ، ولعمري إنّك اليوم وصول ممّا قد كان ( مع ما كان ) منك ممّا ( فيما ) لا تثريب عليك فيه اليوم.

وأمّا قولك إنّ أبي كان خلاً لأبيك ، فقد كان كذلك ، وقد علمت ما كان من أبي إليه يوم فتح مكة وكان شاكراً كريماً ، وقد سبق فيه قول الأوّل :

سأحفظ من آخى أبي في حياته

وأحفظه من بعده في الأقارب

ولست لمن لا يحفظ العهد وامقاً

ولا هو عند النائبات بصاحبي

وأمّا ما ذكرت أنّي لسان قريش وزعيمها وفقيهها ، فإنّي لم أعط من ذلك شيئاً إلاّ وقد أوتيته ، غير أنّك قد أبيت بشرفك وكرمك إلاّ أن تفضلني ، وقد سبق في ذلك قول الأوّل :

وكلّ كريم للكرام مفضل

يراه له أهلاً وإن كان فاضلا

وأمّا ما ذكرتَ من عدوي عليك بصفين ، فوالله لو لم أفعل ذلك لكنت من الأم العالمين ، أكانت نفسك تحدثك يا معاوية أنّي كنت أخذل سيدي وابن عمي أمير المؤمنين وسيد المسلمين ، وقد حشد له المهاجرون والأنصار

____________________

(1) الانبياء / 107.

٣٦٢

والمصطفون الأخيار ، ولِمَ يا معاوية أشكاً في ديني ؛ أم جبناً ( حيرة ) في سجيتي؟ أم ضناً بنفسي؟ والله أن لو فعلت ذلك لأختبأته فيّ وعاتبتني عليه.

وأمّا ما ذكرت من خذلان عثمان ، فقد خذله مَن كان أمسّ رحماً به مني وأبعد رحماً مني ، ولي في الأقربين والأبعدين أسوة ، وإنّي لم أعد عليه فيمن عدا بل كففتُ عنه كما كفّ أهل المروآت والحجى.

وأمّا ما ذكرت من سعيي على عائشة ، فإنّ الله تبارك وتعالى أمرها أن تقرّ في بيتها وتحتجب بسترها ، فلمّا كشفت جلباب الحياء ( عصت ربها ) وخالفت نبيّها صلى الله عليه وآله وسلم وسعنا ما كان منا إليها.

وأمّا ما ذكرت من نفيي زياداً ، فإنّي لم أنفه ، بل نفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) ، وإنّي من بعد هذا لأحبّ ما يسرك في جميع أمورك(1) .

فتكلم عمرو بن العاص ، فقال : يا أمير المؤمنين والله ما أحبّك ساعة قط ، غير أنّه أعطي لساناً ذرباً يقلبّه كيف شاء ، وإن مثلك ومثله كما قال الأوّل وذكر بيت شعر.

____________________

(1) روى الطيالسي في مسنده / 300 ط حيدر آباد بسنده عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أدعي إلى غير أبيه فلن يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة سبعين عاماً ، فلما رأى ذلك جنادة بن أبي أمية وكان معاوية أراد أن يدعيه ، قال جنادة : إنما أنا سهم من كنانتك فارم بي حيث شئت.

ومن هذا يعلم أن نسب جنادة كنسب زياد ، لذلك أراد معاوية أن يدعيه ، ويعلم أيضاً أن الجميع لا يريحون ريح الجنة ، ولتسخن أعين النواصب الكواذب حين يروون هذا ويروون ما يناقضه.

٣٦٣

فقال ابن عباس : إنّ عمرواً داخل بين العظم واللحم ، والعصا واللحا ، وقد تكلم فليستمع ، فقد وافق قرناً. أما والله يا عمرو ، إنّي لأبغضك في الله وما أعتذر منه ، إنّك قمت خطيباً فقلت أنا شانئ محمد فأنزل الله عزّوجلّ :( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) (1) ، فأنت أبتر الدين والدنيا ، وأنت شانئ محمد في الجاهلية والإسلام ، وقد قال الله تبارك وتعالى :( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (2) ، وقد حاددتَ الله ورسوله قديماً وحديثاً ، ولقد جهدت على رسول الله جهدك ، وأجلبت عليه بخيلك ورجلك ، حتى إذا غلبك الله على أمرك وردّ كيدك في نحرك وأوهن قوتك ، وأكذب أحدوثتك ، نزعت وأنت حسير ، ثم كدت بجهدك لعداوة أهل بيت نبيّه من بعده ، ليس بك في ذلك حبّ معاوية ولا آل معاوية ، إلاّ العداوة لله عزّوجلّ ولرسوله مع بغضك وحسدك القديم لأبناء عبد مناف ، ومثلك في ذلك كما قال الأوّل :

تعرض لي عمرو وعمرو خزاية

تعرض ضبع القفر للأسد الورد

فما هو لي ندٌّ فأشتم عرضه

ولا هو لي عبدٌ فأبطش بالعبد

فتكلم عمرو بن العاص ، فقطع عليه معاوية.

وقال : أما والله ياعمرو ما أنت من رجاله فإن شئت فقل وإن شئت فدع. فأغتنمها عمرو وسكت.

____________________

(1) الكوثر / 3.

(2) المجادلة / 21.

٣٦٤

فقال ابن عباس : دعه يا معاوية فوالله لأسمّنه بميسم يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة تتحدث به الإماء والعبيد ، ويتغنى به في المجالس ويتحدث به في المحافل.

ثم قال ابن عباس : ياعمرو وابتدأ في الكلام.

فمدّ معاوية يده فوضعها على فيّ ابن عباس ، وقال له : أقسمت عليك يابن عباس إلاّ أمسكت ، وكره أن يسمع أهل الشام ما يقول ابن عباس.

وكان آخر كلامه : أخسأ أيّها العبد وأنت مذموم. وافترقوا )(1) .

( المحاورة السابعة )

( ما تكشف الأيام منك إلا عن سيف صقيل )

روى المدائني ، قال :

( وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرّة ، فقال معاوية لابنه يزيد ، ولزياد بن سمية ، وعتبة بن أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن أم الحكم :

____________________

(1) الخصال للشيخ الصدوق / 192 ـ 193 ط الحيدرية بتقديمي ، بحار الأنوار 10 / 129 ط تبريز حجرية.

وذكر ما جرى بين ابن عباس ومعاوية من محاورة صاحب مختصر تاريخ الخلفاء ( طبع موسكو 1967 من ورقة 240 بـ إلى ورقة 241 ) وقال : ( وإنما أوردنا هذه الحكاية على وجهها لأن فيها مسائل يقع الشك فيها لكل من تأملها ويشتهى المخرج منها والمظنون أن من جعل عبد الله بن العباس قدوة في ذلك مع علمه وقرباه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكونه في الفتن واختياره لنفسه ، وسار بسيرته وحكم بمثل حكمه كان من الفائزين )

٣٦٥

إنّه قد طال العهد بعبد الله بن عباس ما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه ، ولقد كان نَصَبه للتحكيم فدُفع عنه ، فحركّوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته ، ونقف على كنه معرفته ، ونعرف ما صُرف عنّا من شبا حدّه ، ووُري عَنا من دهاء رأيه ، فربّما وصف المرء بغير ما هو فيه وأعطي من النعت والإسم ما لا يستحقه.

ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس ، فلمّا دخل عليه وأستقرّ به المجلس ، ابتدأه عتبة بن أبي سفيان ، فقال : يا ابن عباس ما منع عليّاً أن يوجّه بك حَكَمَاً؟

فقال : أما والله لو فعل لقرن عمرواً بصعبة من الإبل ، يوجع كتفيه مراسها ، ولأذهلت عقله وأجرضته بريقه ، وقدحت في سويداء قلبه ، فلم يبرم أمراً ولم ينفض تراباً ، إلاّ كنت منه بمرأى ومسمع ، فإن نكثه أرمت قواه ، وإن أرمّه فصمت عراه ، بغرب مقولٍ لا يفل حدّه ، وأصالة رأي كمتاح الأجل ، لا وزر منه ، أصدع به أديمه ، وأفلّ به شبا حدّه ، وأشحذ به عزائم المتقين ، وأزيح به شُبه الشاكين.

فقال عمرو بن العاص : هذا والله يا أمير المؤمنين نجوم أوّل الشر ، وأفول آخر الخير ، وفي حسمه قطع مادته ، فبادره بالحملة وأنتهز منه الفرصة ، وأردع بالتنكيل به غيره ، وشرّد به مَن خلفه.

فقال ابن عباس : يا ابن النابغة ضلّ والله عقلك ، وسفه حلمك ، ونطق الشيطان على لسانك. هلاّ توليت ذلك بنفسك يوم صفين حين دعيت نزال ،

٣٦٦

وتكافح الأبطال ، وكثرت الجراح ، وتقصفت الرماح ، وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولاً ، فانكفأ نحوك بالسيف حاملاً ، فلمّا رأيت الكواثر من الموت ، أعددت حيلة السلامة قبل لقائه ، والإنكفاء عنه بعد أجابة دعائه ، فمنحته رجاء النجاة عورتك ، وكشفت له خوف بأسه سوأتك ، حذراً أن يصطلمك بسطوته ، أو يلتهمك بحملته ، ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته وحسّنت له التعرض لمكافحته ، رجاء أن تُكفى مؤنته ، وتعدم صورته ، فعلم غلّ صدرك وما أنحنت عليه من النفاق أضلعك ، وعرف مقر سهمك في غرضك ، فأكفف غرب لسانك ، وأقمع عوراء لفظك ، فإنّك بين أسد خادر وبحرٍ زاخر ، إن تبرّزت للأسد أفترسك ، وإن عمت في البحر قمسك.

فقال مروان بن الحكم : يا ابن عباس إنّك لتصرّف بنابك ، وتوري نارك ، كأنّك ترجو الغلبة ، وتؤمّل العافية ، ولو لا حلم أمير المؤمنين عنك ، لتناولكم بأقصر أنامله ، فأوردكم منهلاً بعيداً صدرهُ ، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذنّ بعض حقه منكم ، ولئن عفا عنكم جرائركم ، فقديماً ما نُسب إلى ذلك.

فقال ابن عباس : وإنّك لتقول يا عدو الله وطريد رسول الله ، والمباح دمه ، والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه وركوب أثباجه ، أما والله لو طلب معاوية ثاره لأخذك به ، ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوّله وآخره. وأمّا قولك لي إنّك لتصرّف بنابك وتوري نارك ،

٣٦٧

فسل معاوية وعمراً يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلات ، واستخفافنا بالمعضلات ، وصدق جلادنا عند المصاولة ، وصبرنا على اللأواء والمطاولة ، ومصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة ، ومباشرتنا بنحورنا حدّ الأسنة ، هل خمنا عن كرائم تلك المواقف ، أم لم نبذل مهجنا للمتالف ، وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود ، ولا يوم مشهود ، ولا أثر معدود. وإنّهما شهدا ما لو شهدت لأقلقك ، فاربع على ظلعك ، ولا تتعرض لما ليس لك ، فإنّك كالمغروز في صفد لا يهبط برجل ولا يرقى بيد.

فقال زياد : يا ابن عباس إنّي لأعلم ما منع حسناً وحسيناً من الوفود معك على أمير المؤمنين ، إلاّ ما سولّت لهما أنفسهما ، وغرّهما به مَن هو عند البأساء يسلمهما ، وأيم الله لو وليتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ، ولقلّ بمكانهما لبثهما.

فقال ابن عباس : إذن والله يقصر دونهما باعك ، ويضيق بهما ذراعك ، ولو رمتَ ذلك لوجدتَ من دونهما فئة صدقاً صبراً على البلاء ، لا يخيمون عن اللقاء ، فلعركوك بكلاكلهم ، ووطؤك بمناسمهم ، وأوجروك مشق رماحهم ، وشفار سيوفهم ، ووخز أسنتهم ، حتى تشهد بسوء ما أتيت ، وتتبين ضياع الحزم فيما جنيت ، فحذار حذار من سوء النية ، فإنّها ترد الأمنية ، وتكون سبباً لفساد هذين الحيين بعد صلاحهما ، وسعياً في إختلافهما بعد أئتلافهما ، حيث لا يضرّهما إبساسك ، ولا يغني عنهما إيناسك.

٣٦٨

فقال عبد الرحمن بن أم الحكم : لله در ابن ملجم فقد بلغ الأمل وآمن الوجل ، وأحدّ الشفرة وألان المهرة ، وأدرك الثار ، ونفى العار ، وفاز بالمنزلة العليا ، ورقى الدرجة القصوى.

فقال ابن عباس : أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده ، وعجّل الله إلى النار بروحه ، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته ، لخالطه الفحل القطم(1) ، والسيف الخذم(2) ، ولألعقه صاباً وسقاه سماماً ، وألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة ، فكلّهم كان أشدّ منه شكيمة وأمضى عزيمة ، ففرى بالسيف هامهم ، ورملهمّ بدمائهم ، وقرى الذياب أشلاءهم ، وفرّق بينهم وبين أحبائهم ، أولئك حَصُب جهنم هم لها واردون ، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ، ولا غرو أن ختل ، ولا وصم إن قتل ، فأنّا لكما ، قال دريد بن الصمة :

فإنّا للحم السيف غير مكرّه

ونلحمه طوراً وليس بذى نكر

يغار علينا واترين فيشتفى

بنا إن أصبنا أو نغير على وتر

فقال المغيرة بن شعبة : أما والله لقد أشرت على عليّ بالنصيحة فآثر رأيه ، ومضى على غلوائه ، فكانت العاقبة عليه لا له ، وإنّي لأحسب أنّ خَلفَه يقتدون بمنهجه.

فقال ابن عباس : كان والله أمير المؤمنين عليه السلام أعلم بوجوه الرأي ،

____________________

(1) قطِم الفحل ، بالكسر أي اهتاج وأراد الضراب ( الصحاح ـ قطم ).

(2) السيف الخذم ، القاطع ( الصحاح ـ خذم ).

٣٦٩

ومعاقد الحزم ، وتصريف الأمور ، من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنف عليه ، قال سبحانه :( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (1) . إلى آخر الآية ، ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوة ، قوله تعالى :( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) (2) ، وهل كان يسوغ له أن يحكّم في دماء المسلمين وفيء المؤمنين مَن ليس بمأمون عنده ، ولا موثوق به في نفسه ، هيهات هيهات هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله ، أن يبطن خلاف ما يظهر إلاّ للتقية ، لات حين تقية ، مع وضوح الحق وثبوت الجنان ، وكثرة الأنصار ، يمضي كالسيف المصلت في أمر الله ، مؤثراً لطاعة ربّه ، والتقوى على آراء أهل الدنيا.

فقال يزيد بن معاوية : يا ابن عباس إنّك لتنطق بلسان طلق ، تنبئ عن مكنون قلب حرق ، فاطو ما أنت عليه كشحاً ، فقد محا ضوء حقنا ظلمةَ باطلكم.

فقال ابن عباس : مهلا يزيد ، فو الله ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم ، ولا دنت بالمحبّة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم ، ولا رضيت اليوم منكم ما سخطت الأمس من أفعالكم ، وإن تدلّ الأيام نستقضي ما شذّ عنّا ، ونسترجع ما ابتزّ منّا ، كيلاً بكيل ووزناً بوزن ، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليّاً لنا ، ووكيلاً على المعتدين علينا.

____________________

(1) المجادلة / 22.

(2) الكهف / 51.

٣٧٠

فقال معاوية : إنّ في نفسي منكم لحزازاتُ يا بني هاشمٌ ، وإنّي لخليق أن أدرك فيكم الثأر ، وأنفي العار ، فإنّ دماءنا قبلكم ، وظلامتنا فيكم.

فقال ابن عباس : والله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أُسداً مخدّرة ، وأفاعي مطرّقة ، لا يفثؤها كثرة السلاح ، ولا تعضها نكاية الجراح ، يضعون أسيافهم على عواتقهم ، يضربون قدماً قدماً من ناواهم ، يهون عليهم نباح الكلاب ، وعواء الذّئاب ، لا يفاتون بوتر ، ولا يسبقون إلى كريم ذكر ، قد وطّنوا على الموت أنفسهم ، وسمت بهم إلى العلياء هممهم ، كما قالت الأزدية.

قوم إذا شهدوا الهياج فلا

ضرب ينهنههم ولا زجر

وكأنّهم آساد غيلة قد

غرثت وبلّ متونها القطر

فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك ، وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك ، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم ، وبذلوا دونك مهجهم ، حتى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلول الدمار ، رفعوا المصاحف مستجيرين بها وعائذين بعصمتها ، لكنت شلواً مطروحاً بالعراء ، تسفي عليك رياحها ، ويعتورك ذبابها ، وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك ، ولا أزالتك عن معقود نيتك ، لكن الرحم التي تعطف عليك ، والأواصر التي توجب صرف النصيحة إليك.

فقال معاوية : لله درك يا ابن عباس ، ما تكشف الأيام منك إلاّ عن سيف صقيل ، ورأي أصيل ، وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم ،

٣٧١

ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قدكثرهم.

ثم نهض. فقام ابن عباس وأنصرف )(1) .

( المحاورة الثامنة )

( إنّما المعيب من يطلب ما ليس له )

( أقبل معاوية ذات يوم على بني هاشم ، فقال : يا بني هاشم ألا تحدثوني عن إدعائكم الخلافة دون قريش بم تكون لكم؟ أبالرضا بكم؟ أم بالإجتماع عليكم دون القرابة؟ أم بالقرابة دون الجماعة؟ أم بهما جميعاً؟ فإن كان هذا الأمر بالرضا والجماعة دون القرابة فلا أرى القرابة أثبتت حقاً ولا أسسّت ملكاً ، وإن كان بالقرابة دون الجماعة والرضا ، فما منع العباس عم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ووارثه وساقي الحجيج وضامن الأيتام أن يطلبها وقد ضمن له أبو سفيان بن عبد مناف ، وإن كانت الخلافة بالرضا والجماعة والقرابة جميعاً ، فإنّ القرابة خصلة من خصال الإمامة لا تكون الإمامة بها وحدها ، وأنتم تدّعون بها وحدها. ولكنّا نقول أحق قريش بها من بسط الناس أيديهم إليه بالبيعة عليها ، ونقلوا أقدامهم إليه للرغبة ، وطارت إليه أهواؤهم للثقة ، وقاتل عنها ( عليها ـ خ ل ـ ) بحقها فأدركها من وجهها ، إنّ أمركم لأمر تضيق به الصدور إذا سئلتم عمن إجتمع عليه من غيركم ، قلتم حق ، فإن كانوا اجتمعوا على حق فقد أخرجكم الحق من

____________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 295.

٣٧٢

دعواكم ، أنظروا فإن كان القوم أخذوا حقكم فاطلبوهم ، وإن كانوا أخذوا حقهم فسلّموا إليهم ، فإنّه لا ينفعكم أن تروا لأنفسكم ما لا يراه الناس لكم. ثم سكت.

فالتفت إليه حبر الأمة ابن عباس لسان قريش وترجمان القرآن قائلاً : ندّعي هذا الأمر بحق مَن لولا حقّه لم تقعد مقعدك هذا ، ونقول كان ترك الناس أن يرضوا بنا ، ويجتمعوا علينا حقاً ضيّعوه وحظاً حرموه ، وقد إجتمعوا على ذي فضل لم يخطئ الورد والصدر ، ولا ينقص فضل ذي فضل فضل غيره عليه ، قال الله عزوجل :( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) (1) .

فأمّا الذي منعنا من طلب هذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعهدٌ منه إلينا قبلنا فيه قوله ، ودِنّا بتأويله ، ولو أمرنا أن نأخذه على الوجه الذي نهانا عنه لأخذناه أو أعذرنا فيه ، ولا يعاب أحد على ترك حقه ( إنّما المعيب من يطلب ما ليس له ).

وكلّ صواب نافع وليس كلّ خطأ ضاراً. انتهت القضية إلى داود وسليمان فلم يفهمها داود وفُهِمّها سليمان ولم يضّر داود.

فأمّا القرابة فقد نفعتْ المشرك وهي للمؤمن أنفع. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنت عمي ـ العباس ـ وصنو أبي ، ومن أبغض العباس فقد أبغضني ، وهجرتك آخر الهجرة ، كما أن نبؤتي آخر النبوة ) ، وقال لأبي طالب عند موته : ( يا عم قل لا إله إلاّ الله أشفع لك بها غداً ، وليس ذاك لأحد من

____________________

(1) هود / 4.

٣٧٣

الناس ) ، قال الله تعالى :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (1) (2) .

( المحاورة التاسعة )

( أرحني من شخصك شهراً )

روى الجاحظ في ( المحاسن والأضداد ) ، والبيهقي في ( المحاسن والمساوئ ) وهذا لفظه ، قال :

( وروي عن ابن عباس أنّه قال : قدمت على معاوية وقد قعد على سريره وجمع أصحابه ، ووفود العرب عنده ، فدخلت فسلمتُ وقعدت.

فقال : مَن الناس يا بن عباس؟

فقلت : نحن.

قال : فإذا غبتم؟

قلت : فلا أحد.

____________________

(1) النساء / 18.

(2) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 / 5 ط دار الكتب ، ولم أقف فعلاً على المحاورة في مصدر آخر يوثق به ، ولما كان ابن قتيبة متهما بالنصب ففي النفس ـ ريب من صحة جميع ما ذكر في نفع القرابة بقول ابن عباس : ( فقد نفعت المشرك وهي للمومن أنفع ) وما ذكره من قول النبي لعميه العباس وأبي طالب هو مبعث الشك في صحة المروي ، وذلك أن ابن عباس هو ممن يدافع عن إيمان أبي طالب عليه السلام وكان أبوه قبله يشهد بذلك. فكيف يعقل ويقبل ما ذكره ابن قتيبة في المقام ، ولعله ممّا تزيّده الرواة فصادف هوىً في نفس ابن قتيبة والله أعلم.

٣٧٤

قال : ترى أني قعدتَ هذا المقعد بكم؟

قلت : نعم ، فبمن قعدت؟

قال : بمن كان مثل حرب بن أمية.

قلت : بل بمن أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه.

قال : فغضب ، وقال : وار شخصك عنّي شهراً ، فقد أمرت لك بصلتك وأضعفتها لك.

فلما خرج ابن عباس قال لخاصته : ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية؟ إنّه لم يلتق أحد من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق مع حرب إلاّ لم يتقدمه أحد حتى يجوزه ، فالتقى حرب بن أمية مع رجل من بني تميم في عقبة فتقدّمه التميمي ، فقال حرب : أنا حرب بن أمية ، فلم يلتفت إليه وجاز ، فقال : موعدك مكة ، فبقي التميمي يهزأ دهراً ثم أراد دخول مكة ، فقال : من يجيرني من حرب بن أمية؟ فقالوا : عبد المطلب ، قال : عبد المطلب أجل قدراً دهراً من أن يجير على حرب ، فأتى ليلاً دار الزبير بن عبد المطلب ، فدّق عليه ، فقال الزبير لعبده : قد جاءنا رجل إمّا طالب حاجة ، وإمّا طالب قرى ، وإمّا مستجير ، وقد أعطيناه ما أراد ، قال : فخرج إليه الزبير ، فقال :

لاقيت حرباً في الثنية مقبلاً

والصبح أبلج ضوءه للساري

فدعا بصوت وأكتنى ليرو عني

ودعا بدعوته يريد فخاري

فتركته كالكلب ينبح وحده

وأتيت أهل معالم وبخار

٣٧٥

ليثا هزبراً يستجار بقربه

رحبّ المباءة مكرما للجار

ولقد حلفت بزمزمٍ وبمكةٍ

والبيت ذي الأحجار والأستار

إنّ الزبير لما نعي من خوفه

ما كبّر الحُجّاج في الأمصار

فقال : تقدم فإنّا لا نتقدم من نجيره ، فتقدم التميمي ، فدخل المسجد فرآه حرب ، فقام إليه فلطمه فحمل عليه الزبير بالسيف ، فعدا حتى دخل دار عبد المطلب ، فقال : أجرني من الزبير ، فأكفأ عليه جفنة كان هاشم يطعم فيها الناس ، فبقي هناك ساعة ، ثم قال له : أخرج ، فقال : كيف أخرج وتسعة من ولدك قد احتبوا بسيوفهم على الباب ، فألقى عليه رداءاً كان كساه سيف بن ذي يزن له طرتان خضراوان ، فخرج عليهم ، فعلموا أنّه قد أجاره فتفرقوا عنه )(1) .

( المحاورة العاشرة )

( لا منكر أعظم من ذبحك الإسلام بشفرة الشرك )

جاء في كتاب ( أخبار الدولة العباسية ) لمؤلف مجهول ، ذكر محاورة شديدة اللهجة ، قوية الحجة جرت بين ابن عباس ومعاوية ، ولم أقف عليها ، في مصدر آخر ، ولا تخلو من إثارة بعض علامات الإستفهام حول بعض ما جاء فيها ، من تنميق لفظي ، وسجع متكلف أحياناً فيما يبدو ،

____________________

(1) المحاسن والمساوئ 1 / 66 ـ 67 ط السعادة بمصر 1325 ، المحاسن والأضداد / 116 ط المعاهد بمصر 1350 هـ.

٣٧٦

وكأنّه كلام مصنوع ، ولعلّه من نسج بعض أدباء ذلك العصر الذي عاشه الجاحظ ، أو أبو حيان التوحيدي ، أو أبو العيناء ، ممن قيل فيهم إنّهم يتهمون بمثل هذا ، ولا أريد أن أتهمهم به ، غير أنّ معناه يتفق مع مبناه ، ويتسق مع ما قرأناه ونقرأه من محاورات ابن عباس مع معاوية ، لذلك فلا مانع عندي من إحتمال صحة روايته وإليك حديثه ، قال :

( دخل ابن عباس على معاوية وعنده جماعة من قريش فيهم عبد الله ابن عمر. فلمّا جلس قال له معاوية : إنّك يا بن عباس لترمقني شرراً كأنّي خالفت الحق أو أتيت منكراً.

قال ابن عباس : لا منكر أعظم من ذبحك الإسلام بشفرة الشرك ، واغتصابك ما ليس لك بحق اعتداءً وظلماً.

فقال معاوية : إنّما ذبح الإسلام من قتل إمام الأمّة ونقض العهد ، وخفر الذمة ، وقطع الرحم ولم يرع الحرمة ، وترك الناس حيارى في الظلمة.

قال ابن عباس : كان الإمام من سبق الناس إلى الإسلام طراً ، وضرب خيشوم الشرك بسيف الله جهراً ، حتى انقاد له جماهير الشرك قهراً ، وأدخلك وأباك فيه قسراً ، فكان ذلك الإمام حقاً ، لا من خالف الحق حمقاً ، ومزّق الدين فصار محقا.

فقال معاوية : رفقا يابن عباس رفقاً ، قد أتيت جهلاً وخرقاً ، فوالله ما قلت حقاً ، ولا تحريت في مقالك صدقاً فمهلاً مهلاً. لقد كان من ذكرته إماماً عادلاً ، وراعياً فاضلاً ، يسلك سبيلاً ، مليء حلماً وفهماً ، فوثبتم عليه

٣٧٧

حسداً ، وقتلتموه عدواناً وظلماً.

قال ابن عباس : إنّه اكتسب بجهده الآثام ، وكايد بشكه الإسلام ، وخالف السنة والأحكام ، وجار على الأنام ، وسلّط عليهم أولاد الطغام ، فأخذه الله أخذ عزيز ذي انتقام.

قال معاوية : يابن عباس يحملك شدّة الغضب على سوء الأدب ، حتى لتخلّ في الجواب ، وتحيد عن الصواب ، تقعد في مجلسنا ، تشتم فيه أسلافنا ، وتعيب فيه كبراءنا وخيار أهلنا ، ما ذنب معاوية إن كان عليّ فاته زمانه ، وخذله أعوانه ، وأخذوا سلطانه ، وقعدوا مكانه ، أمّا معاوية فأعطي الدنيا فأمكنكم من خيرها ، وباعدكم من شرّها ، كان لكم صفوها وحلوها ، ولي كدرها ومُرّها.

قال ابن عباس : ذنب معاوية ركوبه الآثام ، وإستحلاله الحرام ، وقصده لظلم آل خير الأنام ، ما رعى معاوية للنبوة حقها ، ولا عرف لهاشم فضلها وقوتها ، وبنا أكرم الله معاوية فأهاننا ، وبنا أعزه الله فأهاننا ، ثم ها هو ذا يصول بعزّنا ، ويسطو بسلطاننا ويأكل فيئنا ، ويرتع في ثروتنا ، ثم يمتنّ علينا في إعلامنا إيانا بأنّه لا يعتذر إلى الله من ظلمنا.

قال معاوية : يا بن عباس إنّ افتخارك علينا بما لا نقر لك به إفك وزور ، وتبجحك بما لا نشهد لك به هباء منثور ، واتكال أبناء السوء على سيادة الأباء ضعف وغرور ، ونحن للورى أنجم وبحور ، نفي بالنذور ، ونصل بالبدور ، وبساحتنا رحى السماحة تدور.

٣٧٨

قال ابن عباس : لئن قلت ذلك يا معاوية ، لطالما أنكرتم ضوء البدور ، وشعاع النور ، وسميتم كتاب الله بيننا أسطوراً ، ومحمداً صلى الله عليه وآله وسلم ساحراً وصنبوراً(1) ، ولقول القائل : تلقفّوها يا بني أمية تلقف الكرة لا بعث ولا نشور ، وتنسموا نسيم هذا الروح فما بعده أو بَة ولا كرور ، وكان لعمر الله القطب الذي عليه رحى الضلالة تدور.

فغضب معاوية وقال : يابن عباس أربع على نفسك ، ولا تقس يومك بأمسك ، هيهات ، صرّح الحق عن محضه ، وزهق الباطل عن دحضه ، أمّا إذا أبيت فأنا كنت أحق بالأمر من ابن عمك.

قال ابن عباس : ولم ذاك؟ وعليّ كان مؤمناً وكنتَ كافراً؟ وكان مهاجراً وكنت طليقاً؟

قال : لا ، ولكني ابن عم عثمان.

قال : فإنّ ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير من ابن عم عثمان.

قال : إنّ عثمان كان خيراً من عليّ وأطيب.

قال ابن عباس : كلا ، عليّ أزكى منه وأطهر ، وأعرف في ملكوت السماوات وأشهر ، أتقرن يا معاوية رجلاً غاب عن بدر ولم يشهد بيعة الرضوان ، وفرّ يوم التقى الجمعان ، ابن مخنث قريش ، الذي لم يسلّ سيفاً ، ولم يدفع عن نفسه ضيماً إلى قريع العرب وفارسها ، وسيف النبوة

____________________

(1) صنبور : الرجل الضعيف الذليل بلا أهل ولا عقب ولا ناصر ، وكان كفار قريش يقولون محمد صنبور ، انظر اللسان وتاج العروس مادة صنبر.

٣٧٩

وحارسها ، أكثرها علماً ، وأقدمها سلماً ، إذن قسمة ضيزى أبا عبد الرحمن.

قال معاوية : إنّ عثمان قتل مظلوماً.

قال ابن عباس : فكان ماذا؟ فهذا إذن أحق بها منك ، قتل أبوه قبل عثمان ـ يعني ابن عمر ـ.

قال معاوية : إنّ هذا قتله مشرك ، وعثمان قتله المؤمنون.

قال ابن عباس : فذلك أضعف لقولك وأدحض لحجتك ، ليس من قتله المشركون كمن نحره المؤمنون.

فقال معاوية : ترى يا بن عباس أن تصرف غرب لسانك وحدّة نبالك إلى من دفعكم عن سلطان النبوة وألبسكم ثوب المذلّة ، وابتزكم سربال الكرامة ، وصيّركم تبعاً للأذناب بعد ما كنتم عزّ هامات السادات ، وتدع أمية ، فإنّ خيرها لك حاضر ، وشرها عنك غائب.

قال ابن عباس : أمّا تيم وعدي فقد سلبونا سلطان نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ، عدوا علينا فظلمونا ، وشفوا صدور أعداء النبّوة منّا ، وأمّا بنو أمية فإنّهم شتموا أحياءنا ولعنوا موتانا ، وجاوزوا حقوقنا واجتمعوا على إخماد ذكرنا وإطفاء نورنا ، فيأبى الله إلاّ علوّا ، ولنورنا إلاّ ضياءاً والله للفريقين بالمرصاد.

قال معاوية : ما نرى لكم علينا من فضل ، ألسنا فروع دوحة يجمعنا عبد مناف؟

قال ابن عباس : هيهات يا معاوية ، حدت عن الصواب ، وتركت

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496