موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس16%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93258 / تحميل: 4730
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

رجل من أسرتي وأهل بيتي ومن مصاص عبد مناف ، وأمّا الثالثة فإنّ أبي كان خلاً لأبيك ، وأمّا الرابعة فإنّك لسان قريش وزعيمها وفقيهها.

وأمّا الأربع التي غفرت لك : فعدوك عليَّ بصفين فيمن عدا ، واساءتك في خذلان عثمان فيمن أساء ، وسعيك على عائشة أم المؤمنين فيمن سعى ، ونفيك عني زياداً فيمن نفى. فضربت أنف هذا الأمر عينه حتى استخرجت عذرك من كتاب الله عزوجل وقول الشعراء.

وأمّا ما وافق كتاب الله عزوجل فقوله :( خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) (١) .

وأمّا ما قالت الشعراء. فقول أخي بني ذبيان :

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

فأعلم أني قد قبلت فيك الأربع الأولى وغفرت لك الأربع الأخرى ، وكنت في ذلك كما قال الأوّل :

سأقبل ممن قد أحب جميله

وأغفر ما قد كان من غير ذلكا

ثم أنصت.

فتكلم ابن عباس ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا ما ذكرت أنّك تحبّني لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذلك الواجب عليك وعلى كلّ مسلم آمن بالله ورسوله ، لأنّه الأجر الذي سألكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما آتاكم به من الضياء والبرهان المبين ، فقال عزّ وجلّ :( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا

____________________

(١) التوبة / ١٠٢.

٣٦١

الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) ، فمن لم يجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما سأله ، خاب وخزي وكبا في جهنم.

وأمّا ما ذكرت أنّي رجل من أسرتك وأهل بيتك ، فذلك كذلك ، وإنّما أردت به صلة الرحم ، ولعمري إنّك اليوم وصول ممّا قد كان ( مع ما كان ) منك ممّا ( فيما ) لا تثريب عليك فيه اليوم.

وأمّا قولك إنّ أبي كان خلاً لأبيك ، فقد كان كذلك ، وقد علمت ما كان من أبي إليه يوم فتح مكة وكان شاكراً كريماً ، وقد سبق فيه قول الأوّل :

سأحفظ من آخى أبي في حياته

وأحفظه من بعده في الأقارب

ولست لمن لا يحفظ العهد وامقاً

ولا هو عند النائبات بصاحبي

وأمّا ما ذكرت أنّي لسان قريش وزعيمها وفقيهها ، فإنّي لم أعط من ذلك شيئاً إلاّ وقد أوتيته ، غير أنّك قد أبيت بشرفك وكرمك إلاّ أن تفضلني ، وقد سبق في ذلك قول الأوّل :

وكلّ كريم للكرام مفضل

يراه له أهلاً وإن كان فاضلا

وأمّا ما ذكرتَ من عدوي عليك بصفين ، فوالله لو لم أفعل ذلك لكنت من الأم العالمين ، أكانت نفسك تحدثك يا معاوية أنّي كنت أخذل سيدي وابن عمي أمير المؤمنين وسيد المسلمين ، وقد حشد له المهاجرون والأنصار

____________________

(١) الانبياء / ١٠٧.

٣٦٢

والمصطفون الأخيار ، ولِمَ يا معاوية أشكاً في ديني ؛ أم جبناً ( حيرة ) في سجيتي؟ أم ضناً بنفسي؟ والله أن لو فعلت ذلك لأختبأته فيّ وعاتبتني عليه.

وأمّا ما ذكرت من خذلان عثمان ، فقد خذله مَن كان أمسّ رحماً به مني وأبعد رحماً مني ، ولي في الأقربين والأبعدين أسوة ، وإنّي لم أعد عليه فيمن عدا بل كففتُ عنه كما كفّ أهل المروآت والحجى.

وأمّا ما ذكرت من سعيي على عائشة ، فإنّ الله تبارك وتعالى أمرها أن تقرّ في بيتها وتحتجب بسترها ، فلمّا كشفت جلباب الحياء ( عصت ربها ) وخالفت نبيّها صلى الله عليه وآله وسلم وسعنا ما كان منا إليها.

وأمّا ما ذكرت من نفيي زياداً ، فإنّي لم أنفه ، بل نفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) ، وإنّي من بعد هذا لأحبّ ما يسرك في جميع أمورك(١) .

فتكلم عمرو بن العاص ، فقال : يا أمير المؤمنين والله ما أحبّك ساعة قط ، غير أنّه أعطي لساناً ذرباً يقلبّه كيف شاء ، وإن مثلك ومثله كما قال الأوّل وذكر بيت شعر.

____________________

(١) روى الطيالسي في مسنده / ٣٠٠ ط حيدر آباد بسنده عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أدعي إلى غير أبيه فلن يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة سبعين عاماً ، فلما رأى ذلك جنادة بن أبي أمية وكان معاوية أراد أن يدعيه ، قال جنادة : إنما أنا سهم من كنانتك فارم بي حيث شئت.

ومن هذا يعلم أن نسب جنادة كنسب زياد ، لذلك أراد معاوية أن يدعيه ، ويعلم أيضاً أن الجميع لا يريحون ريح الجنة ، ولتسخن أعين النواصب الكواذب حين يروون هذا ويروون ما يناقضه.

٣٦٣

فقال ابن عباس : إنّ عمرواً داخل بين العظم واللحم ، والعصا واللحا ، وقد تكلم فليستمع ، فقد وافق قرناً. أما والله يا عمرو ، إنّي لأبغضك في الله وما أعتذر منه ، إنّك قمت خطيباً فقلت أنا شانئ محمد فأنزل الله عزّوجلّ :( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) (١) ، فأنت أبتر الدين والدنيا ، وأنت شانئ محمد في الجاهلية والإسلام ، وقد قال الله تبارك وتعالى :( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (٢) ، وقد حاددتَ الله ورسوله قديماً وحديثاً ، ولقد جهدت على رسول الله جهدك ، وأجلبت عليه بخيلك ورجلك ، حتى إذا غلبك الله على أمرك وردّ كيدك في نحرك وأوهن قوتك ، وأكذب أحدوثتك ، نزعت وأنت حسير ، ثم كدت بجهدك لعداوة أهل بيت نبيّه من بعده ، ليس بك في ذلك حبّ معاوية ولا آل معاوية ، إلاّ العداوة لله عزّوجلّ ولرسوله مع بغضك وحسدك القديم لأبناء عبد مناف ، ومثلك في ذلك كما قال الأوّل :

تعرض لي عمرو وعمرو خزاية

تعرض ضبع القفر للأسد الورد

فما هو لي ندٌّ فأشتم عرضه

ولا هو لي عبدٌ فأبطش بالعبد

فتكلم عمرو بن العاص ، فقطع عليه معاوية.

وقال : أما والله ياعمرو ما أنت من رجاله فإن شئت فقل وإن شئت فدع. فأغتنمها عمرو وسكت.

____________________

(١) الكوثر / ٣.

(٢) المجادلة / ٢١.

٣٦٤

فقال ابن عباس : دعه يا معاوية فوالله لأسمّنه بميسم يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة تتحدث به الإماء والعبيد ، ويتغنى به في المجالس ويتحدث به في المحافل.

ثم قال ابن عباس : ياعمرو وابتدأ في الكلام.

فمدّ معاوية يده فوضعها على فيّ ابن عباس ، وقال له : أقسمت عليك يابن عباس إلاّ أمسكت ، وكره أن يسمع أهل الشام ما يقول ابن عباس.

وكان آخر كلامه : أخسأ أيّها العبد وأنت مذموم. وافترقوا )(١) .

( المحاورة السابعة )

( ما تكشف الأيام منك إلا عن سيف صقيل )

روى المدائني ، قال :

( وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرّة ، فقال معاوية لابنه يزيد ، ولزياد بن سمية ، وعتبة بن أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن أم الحكم :

____________________

(١) الخصال للشيخ الصدوق / ١٩٢ ـ ١٩٣ ط الحيدرية بتقديمي ، بحار الأنوار ١٠ / ١٢٩ ط تبريز حجرية.

وذكر ما جرى بين ابن عباس ومعاوية من محاورة صاحب مختصر تاريخ الخلفاء ( طبع موسكو ١٩٦٧ من ورقة ٢٤٠ بـ إلى ورقة ٢٤١ ) وقال : ( وإنما أوردنا هذه الحكاية على وجهها لأن فيها مسائل يقع الشك فيها لكل من تأملها ويشتهى المخرج منها والمظنون أن من جعل عبد الله بن العباس قدوة في ذلك مع علمه وقرباه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكونه في الفتن واختياره لنفسه ، وسار بسيرته وحكم بمثل حكمه كان من الفائزين )

٣٦٥

إنّه قد طال العهد بعبد الله بن عباس ما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه ، ولقد كان نَصَبه للتحكيم فدُفع عنه ، فحركّوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته ، ونقف على كنه معرفته ، ونعرف ما صُرف عنّا من شبا حدّه ، ووُري عَنا من دهاء رأيه ، فربّما وصف المرء بغير ما هو فيه وأعطي من النعت والإسم ما لا يستحقه.

ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس ، فلمّا دخل عليه وأستقرّ به المجلس ، ابتدأه عتبة بن أبي سفيان ، فقال : يا ابن عباس ما منع عليّاً أن يوجّه بك حَكَمَاً؟

فقال : أما والله لو فعل لقرن عمرواً بصعبة من الإبل ، يوجع كتفيه مراسها ، ولأذهلت عقله وأجرضته بريقه ، وقدحت في سويداء قلبه ، فلم يبرم أمراً ولم ينفض تراباً ، إلاّ كنت منه بمرأى ومسمع ، فإن نكثه أرمت قواه ، وإن أرمّه فصمت عراه ، بغرب مقولٍ لا يفل حدّه ، وأصالة رأي كمتاح الأجل ، لا وزر منه ، أصدع به أديمه ، وأفلّ به شبا حدّه ، وأشحذ به عزائم المتقين ، وأزيح به شُبه الشاكين.

فقال عمرو بن العاص : هذا والله يا أمير المؤمنين نجوم أوّل الشر ، وأفول آخر الخير ، وفي حسمه قطع مادته ، فبادره بالحملة وأنتهز منه الفرصة ، وأردع بالتنكيل به غيره ، وشرّد به مَن خلفه.

فقال ابن عباس : يا ابن النابغة ضلّ والله عقلك ، وسفه حلمك ، ونطق الشيطان على لسانك. هلاّ توليت ذلك بنفسك يوم صفين حين دعيت نزال ،

٣٦٦

وتكافح الأبطال ، وكثرت الجراح ، وتقصفت الرماح ، وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولاً ، فانكفأ نحوك بالسيف حاملاً ، فلمّا رأيت الكواثر من الموت ، أعددت حيلة السلامة قبل لقائه ، والإنكفاء عنه بعد أجابة دعائه ، فمنحته رجاء النجاة عورتك ، وكشفت له خوف بأسه سوأتك ، حذراً أن يصطلمك بسطوته ، أو يلتهمك بحملته ، ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته وحسّنت له التعرض لمكافحته ، رجاء أن تُكفى مؤنته ، وتعدم صورته ، فعلم غلّ صدرك وما أنحنت عليه من النفاق أضلعك ، وعرف مقر سهمك في غرضك ، فأكفف غرب لسانك ، وأقمع عوراء لفظك ، فإنّك بين أسد خادر وبحرٍ زاخر ، إن تبرّزت للأسد أفترسك ، وإن عمت في البحر قمسك.

فقال مروان بن الحكم : يا ابن عباس إنّك لتصرّف بنابك ، وتوري نارك ، كأنّك ترجو الغلبة ، وتؤمّل العافية ، ولو لا حلم أمير المؤمنين عنك ، لتناولكم بأقصر أنامله ، فأوردكم منهلاً بعيداً صدرهُ ، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذنّ بعض حقه منكم ، ولئن عفا عنكم جرائركم ، فقديماً ما نُسب إلى ذلك.

فقال ابن عباس : وإنّك لتقول يا عدو الله وطريد رسول الله ، والمباح دمه ، والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه وركوب أثباجه ، أما والله لو طلب معاوية ثاره لأخذك به ، ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوّله وآخره. وأمّا قولك لي إنّك لتصرّف بنابك وتوري نارك ،

٣٦٧

فسل معاوية وعمراً يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلات ، واستخفافنا بالمعضلات ، وصدق جلادنا عند المصاولة ، وصبرنا على اللأواء والمطاولة ، ومصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة ، ومباشرتنا بنحورنا حدّ الأسنة ، هل خمنا عن كرائم تلك المواقف ، أم لم نبذل مهجنا للمتالف ، وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود ، ولا يوم مشهود ، ولا أثر معدود. وإنّهما شهدا ما لو شهدت لأقلقك ، فاربع على ظلعك ، ولا تتعرض لما ليس لك ، فإنّك كالمغروز في صفد لا يهبط برجل ولا يرقى بيد.

فقال زياد : يا ابن عباس إنّي لأعلم ما منع حسناً وحسيناً من الوفود معك على أمير المؤمنين ، إلاّ ما سولّت لهما أنفسهما ، وغرّهما به مَن هو عند البأساء يسلمهما ، وأيم الله لو وليتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ، ولقلّ بمكانهما لبثهما.

فقال ابن عباس : إذن والله يقصر دونهما باعك ، ويضيق بهما ذراعك ، ولو رمتَ ذلك لوجدتَ من دونهما فئة صدقاً صبراً على البلاء ، لا يخيمون عن اللقاء ، فلعركوك بكلاكلهم ، ووطؤك بمناسمهم ، وأوجروك مشق رماحهم ، وشفار سيوفهم ، ووخز أسنتهم ، حتى تشهد بسوء ما أتيت ، وتتبين ضياع الحزم فيما جنيت ، فحذار حذار من سوء النية ، فإنّها ترد الأمنية ، وتكون سبباً لفساد هذين الحيين بعد صلاحهما ، وسعياً في إختلافهما بعد أئتلافهما ، حيث لا يضرّهما إبساسك ، ولا يغني عنهما إيناسك.

٣٦٨

فقال عبد الرحمن بن أم الحكم : لله در ابن ملجم فقد بلغ الأمل وآمن الوجل ، وأحدّ الشفرة وألان المهرة ، وأدرك الثار ، ونفى العار ، وفاز بالمنزلة العليا ، ورقى الدرجة القصوى.

فقال ابن عباس : أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده ، وعجّل الله إلى النار بروحه ، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته ، لخالطه الفحل القطم(١) ، والسيف الخذم(٢) ، ولألعقه صاباً وسقاه سماماً ، وألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة ، فكلّهم كان أشدّ منه شكيمة وأمضى عزيمة ، ففرى بالسيف هامهم ، ورملهمّ بدمائهم ، وقرى الذياب أشلاءهم ، وفرّق بينهم وبين أحبائهم ، أولئك حَصُب جهنم هم لها واردون ، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ، ولا غرو أن ختل ، ولا وصم إن قتل ، فأنّا لكما ، قال دريد بن الصمة :

فإنّا للحم السيف غير مكرّه

ونلحمه طوراً وليس بذى نكر

يغار علينا واترين فيشتفى

بنا إن أصبنا أو نغير على وتر

فقال المغيرة بن شعبة : أما والله لقد أشرت على عليّ بالنصيحة فآثر رأيه ، ومضى على غلوائه ، فكانت العاقبة عليه لا له ، وإنّي لأحسب أنّ خَلفَه يقتدون بمنهجه.

فقال ابن عباس : كان والله أمير المؤمنين عليه السلام أعلم بوجوه الرأي ،

____________________

(١) قطِم الفحل ، بالكسر أي اهتاج وأراد الضراب ( الصحاح ـ قطم ).

(٢) السيف الخذم ، القاطع ( الصحاح ـ خذم ).

٣٦٩

ومعاقد الحزم ، وتصريف الأمور ، من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنف عليه ، قال سبحانه :( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (١) . إلى آخر الآية ، ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوة ، قوله تعالى :( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) (٢) ، وهل كان يسوغ له أن يحكّم في دماء المسلمين وفيء المؤمنين مَن ليس بمأمون عنده ، ولا موثوق به في نفسه ، هيهات هيهات هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله ، أن يبطن خلاف ما يظهر إلاّ للتقية ، لات حين تقية ، مع وضوح الحق وثبوت الجنان ، وكثرة الأنصار ، يمضي كالسيف المصلت في أمر الله ، مؤثراً لطاعة ربّه ، والتقوى على آراء أهل الدنيا.

فقال يزيد بن معاوية : يا ابن عباس إنّك لتنطق بلسان طلق ، تنبئ عن مكنون قلب حرق ، فاطو ما أنت عليه كشحاً ، فقد محا ضوء حقنا ظلمةَ باطلكم.

فقال ابن عباس : مهلا يزيد ، فو الله ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم ، ولا دنت بالمحبّة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم ، ولا رضيت اليوم منكم ما سخطت الأمس من أفعالكم ، وإن تدلّ الأيام نستقضي ما شذّ عنّا ، ونسترجع ما ابتزّ منّا ، كيلاً بكيل ووزناً بوزن ، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليّاً لنا ، ووكيلاً على المعتدين علينا.

____________________

(١) المجادلة / ٢٢.

(٢) الكهف / ٥١.

٣٧٠

فقال معاوية : إنّ في نفسي منكم لحزازاتُ يا بني هاشمٌ ، وإنّي لخليق أن أدرك فيكم الثأر ، وأنفي العار ، فإنّ دماءنا قبلكم ، وظلامتنا فيكم.

فقال ابن عباس : والله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أُسداً مخدّرة ، وأفاعي مطرّقة ، لا يفثؤها كثرة السلاح ، ولا تعضها نكاية الجراح ، يضعون أسيافهم على عواتقهم ، يضربون قدماً قدماً من ناواهم ، يهون عليهم نباح الكلاب ، وعواء الذّئاب ، لا يفاتون بوتر ، ولا يسبقون إلى كريم ذكر ، قد وطّنوا على الموت أنفسهم ، وسمت بهم إلى العلياء هممهم ، كما قالت الأزدية.

قوم إذا شهدوا الهياج فلا

ضرب ينهنههم ولا زجر

وكأنّهم آساد غيلة قد

غرثت وبلّ متونها القطر

فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك ، وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك ، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم ، وبذلوا دونك مهجهم ، حتى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلول الدمار ، رفعوا المصاحف مستجيرين بها وعائذين بعصمتها ، لكنت شلواً مطروحاً بالعراء ، تسفي عليك رياحها ، ويعتورك ذبابها ، وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك ، ولا أزالتك عن معقود نيتك ، لكن الرحم التي تعطف عليك ، والأواصر التي توجب صرف النصيحة إليك.

فقال معاوية : لله درك يا ابن عباس ، ما تكشف الأيام منك إلاّ عن سيف صقيل ، ورأي أصيل ، وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم ،

٣٧١

ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قدكثرهم.

ثم نهض. فقام ابن عباس وأنصرف )(١) .

( المحاورة الثامنة )

( إنّما المعيب من يطلب ما ليس له )

( أقبل معاوية ذات يوم على بني هاشم ، فقال : يا بني هاشم ألا تحدثوني عن إدعائكم الخلافة دون قريش بم تكون لكم؟ أبالرضا بكم؟ أم بالإجتماع عليكم دون القرابة؟ أم بالقرابة دون الجماعة؟ أم بهما جميعاً؟ فإن كان هذا الأمر بالرضا والجماعة دون القرابة فلا أرى القرابة أثبتت حقاً ولا أسسّت ملكاً ، وإن كان بالقرابة دون الجماعة والرضا ، فما منع العباس عم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ووارثه وساقي الحجيج وضامن الأيتام أن يطلبها وقد ضمن له أبو سفيان بن عبد مناف ، وإن كانت الخلافة بالرضا والجماعة والقرابة جميعاً ، فإنّ القرابة خصلة من خصال الإمامة لا تكون الإمامة بها وحدها ، وأنتم تدّعون بها وحدها. ولكنّا نقول أحق قريش بها من بسط الناس أيديهم إليه بالبيعة عليها ، ونقلوا أقدامهم إليه للرغبة ، وطارت إليه أهواؤهم للثقة ، وقاتل عنها ( عليها ـ خ ل ـ ) بحقها فأدركها من وجهها ، إنّ أمركم لأمر تضيق به الصدور إذا سئلتم عمن إجتمع عليه من غيركم ، قلتم حق ، فإن كانوا اجتمعوا على حق فقد أخرجكم الحق من

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ / ٢٩٥.

٣٧٢

دعواكم ، أنظروا فإن كان القوم أخذوا حقكم فاطلبوهم ، وإن كانوا أخذوا حقهم فسلّموا إليهم ، فإنّه لا ينفعكم أن تروا لأنفسكم ما لا يراه الناس لكم. ثم سكت.

فالتفت إليه حبر الأمة ابن عباس لسان قريش وترجمان القرآن قائلاً : ندّعي هذا الأمر بحق مَن لولا حقّه لم تقعد مقعدك هذا ، ونقول كان ترك الناس أن يرضوا بنا ، ويجتمعوا علينا حقاً ضيّعوه وحظاً حرموه ، وقد إجتمعوا على ذي فضل لم يخطئ الورد والصدر ، ولا ينقص فضل ذي فضل فضل غيره عليه ، قال الله عزوجل :( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) (١) .

فأمّا الذي منعنا من طلب هذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعهدٌ منه إلينا قبلنا فيه قوله ، ودِنّا بتأويله ، ولو أمرنا أن نأخذه على الوجه الذي نهانا عنه لأخذناه أو أعذرنا فيه ، ولا يعاب أحد على ترك حقه ( إنّما المعيب من يطلب ما ليس له ).

وكلّ صواب نافع وليس كلّ خطأ ضاراً. انتهت القضية إلى داود وسليمان فلم يفهمها داود وفُهِمّها سليمان ولم يضّر داود.

فأمّا القرابة فقد نفعتْ المشرك وهي للمؤمن أنفع. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنت عمي ـ العباس ـ وصنو أبي ، ومن أبغض العباس فقد أبغضني ، وهجرتك آخر الهجرة ، كما أن نبؤتي آخر النبوة ) ، وقال لأبي طالب عند موته : ( يا عم قل لا إله إلاّ الله أشفع لك بها غداً ، وليس ذاك لأحد من

____________________

(١) هود / ٤.

٣٧٣

الناس ) ، قال الله تعالى :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (١) (٢) .

( المحاورة التاسعة )

( أرحني من شخصك شهراً )

روى الجاحظ في ( المحاسن والأضداد ) ، والبيهقي في ( المحاسن والمساوئ ) وهذا لفظه ، قال :

( وروي عن ابن عباس أنّه قال : قدمت على معاوية وقد قعد على سريره وجمع أصحابه ، ووفود العرب عنده ، فدخلت فسلمتُ وقعدت.

فقال : مَن الناس يا بن عباس؟

فقلت : نحن.

قال : فإذا غبتم؟

قلت : فلا أحد.

____________________

(١) النساء / ١٨.

(٢) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ / ٥ ط دار الكتب ، ولم أقف فعلاً على المحاورة في مصدر آخر يوثق به ، ولما كان ابن قتيبة متهما بالنصب ففي النفس ـ ريب من صحة جميع ما ذكر في نفع القرابة بقول ابن عباس : ( فقد نفعت المشرك وهي للمومن أنفع ) وما ذكره من قول النبي لعميه العباس وأبي طالب هو مبعث الشك في صحة المروي ، وذلك أن ابن عباس هو ممن يدافع عن إيمان أبي طالب عليه السلام وكان أبوه قبله يشهد بذلك. فكيف يعقل ويقبل ما ذكره ابن قتيبة في المقام ، ولعله ممّا تزيّده الرواة فصادف هوىً في نفس ابن قتيبة والله أعلم.

٣٧٤

قال : ترى أني قعدتَ هذا المقعد بكم؟

قلت : نعم ، فبمن قعدت؟

قال : بمن كان مثل حرب بن أمية.

قلت : بل بمن أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه.

قال : فغضب ، وقال : وار شخصك عنّي شهراً ، فقد أمرت لك بصلتك وأضعفتها لك.

فلما خرج ابن عباس قال لخاصته : ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية؟ إنّه لم يلتق أحد من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق مع حرب إلاّ لم يتقدمه أحد حتى يجوزه ، فالتقى حرب بن أمية مع رجل من بني تميم في عقبة فتقدّمه التميمي ، فقال حرب : أنا حرب بن أمية ، فلم يلتفت إليه وجاز ، فقال : موعدك مكة ، فبقي التميمي يهزأ دهراً ثم أراد دخول مكة ، فقال : من يجيرني من حرب بن أمية؟ فقالوا : عبد المطلب ، قال : عبد المطلب أجل قدراً دهراً من أن يجير على حرب ، فأتى ليلاً دار الزبير بن عبد المطلب ، فدّق عليه ، فقال الزبير لعبده : قد جاءنا رجل إمّا طالب حاجة ، وإمّا طالب قرى ، وإمّا مستجير ، وقد أعطيناه ما أراد ، قال : فخرج إليه الزبير ، فقال :

لاقيت حرباً في الثنية مقبلاً

والصبح أبلج ضوءه للساري

فدعا بصوت وأكتنى ليرو عني

ودعا بدعوته يريد فخاري

فتركته كالكلب ينبح وحده

وأتيت أهل معالم وبخار

٣٧٥

ليثا هزبراً يستجار بقربه

رحبّ المباءة مكرما للجار

ولقد حلفت بزمزمٍ وبمكةٍ

والبيت ذي الأحجار والأستار

إنّ الزبير لما نعي من خوفه

ما كبّر الحُجّاج في الأمصار

فقال : تقدم فإنّا لا نتقدم من نجيره ، فتقدم التميمي ، فدخل المسجد فرآه حرب ، فقام إليه فلطمه فحمل عليه الزبير بالسيف ، فعدا حتى دخل دار عبد المطلب ، فقال : أجرني من الزبير ، فأكفأ عليه جفنة كان هاشم يطعم فيها الناس ، فبقي هناك ساعة ، ثم قال له : أخرج ، فقال : كيف أخرج وتسعة من ولدك قد احتبوا بسيوفهم على الباب ، فألقى عليه رداءاً كان كساه سيف بن ذي يزن له طرتان خضراوان ، فخرج عليهم ، فعلموا أنّه قد أجاره فتفرقوا عنه )(١) .

( المحاورة العاشرة )

( لا منكر أعظم من ذبحك الإسلام بشفرة الشرك )

جاء في كتاب ( أخبار الدولة العباسية ) لمؤلف مجهول ، ذكر محاورة شديدة اللهجة ، قوية الحجة جرت بين ابن عباس ومعاوية ، ولم أقف عليها ، في مصدر آخر ، ولا تخلو من إثارة بعض علامات الإستفهام حول بعض ما جاء فيها ، من تنميق لفظي ، وسجع متكلف أحياناً فيما يبدو ،

____________________

(١) المحاسن والمساوئ ١ / ٦٦ ـ ٦٧ ط السعادة بمصر ١٣٢٥ ، المحاسن والأضداد / ١١٦ ط المعاهد بمصر ١٣٥٠ هـ.

٣٧٦

وكأنّه كلام مصنوع ، ولعلّه من نسج بعض أدباء ذلك العصر الذي عاشه الجاحظ ، أو أبو حيان التوحيدي ، أو أبو العيناء ، ممن قيل فيهم إنّهم يتهمون بمثل هذا ، ولا أريد أن أتهمهم به ، غير أنّ معناه يتفق مع مبناه ، ويتسق مع ما قرأناه ونقرأه من محاورات ابن عباس مع معاوية ، لذلك فلا مانع عندي من إحتمال صحة روايته وإليك حديثه ، قال :

( دخل ابن عباس على معاوية وعنده جماعة من قريش فيهم عبد الله ابن عمر. فلمّا جلس قال له معاوية : إنّك يا بن عباس لترمقني شرراً كأنّي خالفت الحق أو أتيت منكراً.

قال ابن عباس : لا منكر أعظم من ذبحك الإسلام بشفرة الشرك ، واغتصابك ما ليس لك بحق اعتداءً وظلماً.

فقال معاوية : إنّما ذبح الإسلام من قتل إمام الأمّة ونقض العهد ، وخفر الذمة ، وقطع الرحم ولم يرع الحرمة ، وترك الناس حيارى في الظلمة.

قال ابن عباس : كان الإمام من سبق الناس إلى الإسلام طراً ، وضرب خيشوم الشرك بسيف الله جهراً ، حتى انقاد له جماهير الشرك قهراً ، وأدخلك وأباك فيه قسراً ، فكان ذلك الإمام حقاً ، لا من خالف الحق حمقاً ، ومزّق الدين فصار محقا.

فقال معاوية : رفقا يابن عباس رفقاً ، قد أتيت جهلاً وخرقاً ، فوالله ما قلت حقاً ، ولا تحريت في مقالك صدقاً فمهلاً مهلاً. لقد كان من ذكرته إماماً عادلاً ، وراعياً فاضلاً ، يسلك سبيلاً ، مليء حلماً وفهماً ، فوثبتم عليه

٣٧٧

حسداً ، وقتلتموه عدواناً وظلماً.

قال ابن عباس : إنّه اكتسب بجهده الآثام ، وكايد بشكه الإسلام ، وخالف السنة والأحكام ، وجار على الأنام ، وسلّط عليهم أولاد الطغام ، فأخذه الله أخذ عزيز ذي انتقام.

قال معاوية : يابن عباس يحملك شدّة الغضب على سوء الأدب ، حتى لتخلّ في الجواب ، وتحيد عن الصواب ، تقعد في مجلسنا ، تشتم فيه أسلافنا ، وتعيب فيه كبراءنا وخيار أهلنا ، ما ذنب معاوية إن كان عليّ فاته زمانه ، وخذله أعوانه ، وأخذوا سلطانه ، وقعدوا مكانه ، أمّا معاوية فأعطي الدنيا فأمكنكم من خيرها ، وباعدكم من شرّها ، كان لكم صفوها وحلوها ، ولي كدرها ومُرّها.

قال ابن عباس : ذنب معاوية ركوبه الآثام ، وإستحلاله الحرام ، وقصده لظلم آل خير الأنام ، ما رعى معاوية للنبوة حقها ، ولا عرف لهاشم فضلها وقوتها ، وبنا أكرم الله معاوية فأهاننا ، وبنا أعزه الله فأهاننا ، ثم ها هو ذا يصول بعزّنا ، ويسطو بسلطاننا ويأكل فيئنا ، ويرتع في ثروتنا ، ثم يمتنّ علينا في إعلامنا إيانا بأنّه لا يعتذر إلى الله من ظلمنا.

قال معاوية : يا بن عباس إنّ افتخارك علينا بما لا نقر لك به إفك وزور ، وتبجحك بما لا نشهد لك به هباء منثور ، واتكال أبناء السوء على سيادة الأباء ضعف وغرور ، ونحن للورى أنجم وبحور ، نفي بالنذور ، ونصل بالبدور ، وبساحتنا رحى السماحة تدور.

٣٧٨

قال ابن عباس : لئن قلت ذلك يا معاوية ، لطالما أنكرتم ضوء البدور ، وشعاع النور ، وسميتم كتاب الله بيننا أسطوراً ، ومحمداً صلى الله عليه وآله وسلم ساحراً وصنبوراً(١) ، ولقول القائل : تلقفّوها يا بني أمية تلقف الكرة لا بعث ولا نشور ، وتنسموا نسيم هذا الروح فما بعده أو بَة ولا كرور ، وكان لعمر الله القطب الذي عليه رحى الضلالة تدور.

فغضب معاوية وقال : يابن عباس أربع على نفسك ، ولا تقس يومك بأمسك ، هيهات ، صرّح الحق عن محضه ، وزهق الباطل عن دحضه ، أمّا إذا أبيت فأنا كنت أحق بالأمر من ابن عمك.

قال ابن عباس : ولم ذاك؟ وعليّ كان مؤمناً وكنتَ كافراً؟ وكان مهاجراً وكنت طليقاً؟

قال : لا ، ولكني ابن عم عثمان.

قال : فإنّ ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير من ابن عم عثمان.

قال : إنّ عثمان كان خيراً من عليّ وأطيب.

قال ابن عباس : كلا ، عليّ أزكى منه وأطهر ، وأعرف في ملكوت السماوات وأشهر ، أتقرن يا معاوية رجلاً غاب عن بدر ولم يشهد بيعة الرضوان ، وفرّ يوم التقى الجمعان ، ابن مخنث قريش ، الذي لم يسلّ سيفاً ، ولم يدفع عن نفسه ضيماً إلى قريع العرب وفارسها ، وسيف النبوة

____________________

(١) صنبور : الرجل الضعيف الذليل بلا أهل ولا عقب ولا ناصر ، وكان كفار قريش يقولون محمد صنبور ، انظر اللسان وتاج العروس مادة صنبر.

٣٧٩

وحارسها ، أكثرها علماً ، وأقدمها سلماً ، إذن قسمة ضيزى أبا عبد الرحمن.

قال معاوية : إنّ عثمان قتل مظلوماً.

قال ابن عباس : فكان ماذا؟ فهذا إذن أحق بها منك ، قتل أبوه قبل عثمان ـ يعني ابن عمر ـ.

قال معاوية : إنّ هذا قتله مشرك ، وعثمان قتله المؤمنون.

قال ابن عباس : فذلك أضعف لقولك وأدحض لحجتك ، ليس من قتله المشركون كمن نحره المؤمنون.

فقال معاوية : ترى يا بن عباس أن تصرف غرب لسانك وحدّة نبالك إلى من دفعكم عن سلطان النبوة وألبسكم ثوب المذلّة ، وابتزكم سربال الكرامة ، وصيّركم تبعاً للأذناب بعد ما كنتم عزّ هامات السادات ، وتدع أمية ، فإنّ خيرها لك حاضر ، وشرها عنك غائب.

قال ابن عباس : أمّا تيم وعدي فقد سلبونا سلطان نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ، عدوا علينا فظلمونا ، وشفوا صدور أعداء النبّوة منّا ، وأمّا بنو أمية فإنّهم شتموا أحياءنا ولعنوا موتانا ، وجاوزوا حقوقنا واجتمعوا على إخماد ذكرنا وإطفاء نورنا ، فيأبى الله إلاّ علوّا ، ولنورنا إلاّ ضياءاً والله للفريقين بالمرصاد.

قال معاوية : ما نرى لكم علينا من فضل ، ألسنا فروع دوحة يجمعنا عبد مناف؟

قال ابن عباس : هيهات يا معاوية ، حدت عن الصواب ، وتركت

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496