موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93247 / تحميل: 4729
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إن كان حسناً ، ولا يوحشك إلاّ هو إن كان قبيحاً .

واعلم أنّك إن تنصر الله ينصرك ويثبّت أقدامك ، فإنّ الله تعالى ضمن إعزاز مَن يعزّه ، ونصر مَن ينصره ، وقال سبحانه :( إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم ) (١) .

وقال سبحانه :( ولينصرنّ الله مَن ينصره ) (٢) .

وقال : كيف أنتم إذا ظهر فيكم البدع حتّى يربوا فيها الصغير ، ويهرم الكبير ، ويسلم عليها الأعاجم ، فإذا ظهرت البدع قيل سنّة ، وإذا عمل بالسنّة قيل بدعة ، قيل : ومتى يكون ذلك ؟ قال : إذا ابتعتم الدنيا بعمل الآخرة .

وقال ابن عباس : لا يأتي على الناس زمان إلاّ أماتوا فيه سنّة ، وأحيوا فيه بدعة حتّى تموت السنن ، وتحيى البدع ، وبعد فو الله ما أهلك الناس وأزالهم عن المحجّة قديماً وحديثاً إلاّ علماء السوء ، قعدوا على طريق الآخرة فمنعوا الناس سلوكها والوصول إليها ، وشكّكوهم فيها .

مثال ذلك مثل رجل كان عطشاناً فرأى جرّة مملوءة فيها ماء ، فأراد أن يشرب منها فقال له الرجل : لا تدخل يدك فيها فإنّ فيها أفعى يلسعك وقد ملأها سمّاً ، فامتنع الرجل من ذلك ، ثم إنّ المخبر بذلك أخذ يدخل يده فيها ، فقال العطشان : لو كان فيها سّماً لما أدخل يده .

وكذلك حال الناس مع علماء السوء ، زهّدوا الناس في الدنيا ورغبوا هم فيها ، ومنعوا الناس من الدخول إلى الولاة والتعظيم لهم ودخلوا هم إليهم ، وعظّموهم ومدحوهم ، وحسّنوا إليهم أفعالهم ، ووعدوهم بالسلامة ، لا بل قالوا لهم : قد رأينا لكم المنامات بعظيم المنازل والقبول ، ففتنوهم وغرّوهم ، ونسوا قول

____________

(١) محمد : ٧ .

(٢) الحج : ٤٠ .

١٤١

الله تعالى :( إنّ الأبرار لفي نعيم * وإنّ الفجّار لفي جحيم ) (١) .

وقوله تعالى :( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (٢) .

وقوله تعالى :( يوم يعضّ الظالم على يديه ) (٣) .

وقوله تعالى :( يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً ) (٤) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :الجنّة محرّمة على جسد غذّي بالحرام (٥) .

وقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :ليس من شيعتي مَن أكل مال امرء حرام (٦) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا يشمّ ريح الجنّة جسد نبت على الحرام .

وقالعليه‌السلام :إنّ أحدكم ليرفع يده إلى السماء فيقول : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، فأيّ دعاء يُستجاب له ؟! وأيّ عمل يُقبل منه ؟! وهو ينفق من غير حلٍّ ، إن حجّ حجّ بحرام ، وإن تزوّج تزوّج بحرام ، وإن صام أفطر على حرام ، فيا ويحه ، أما علم أنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطيّب ، وقد قال في كتابه : ( إنّما يتقبّل الله من المتقين ) (٧) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليكون عليكم أُمراء سوء ، فمَن صدّقهم في قولهم ، وأعانهم على ظلمهم ، وغشى أبوابهم ، فليس منّي ولست منه ، ولن يرد عليّ الحوض .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحذيفة :كيف أنت يا حذيفة إذا كانت أُمراء إن

____________

(١) الإنفطار : ١٣ ـ ١٤ .

(٢) غافر : ١٨ .

(٣) الفرقان : ٢٧ .

(٤) الدخان : ٤١ .

(٥) كنز العمال ٤ : ١٤ ح٩٢٦١ .

(٦) البحار ١٠٤ : ٢٩٦ ح١٧; عن مجموعة ورام .

(٧) المائدة : ٢٧ .

١٤٢

أطعتموهم أكفروكم ، وإن عصيتموهم قتلوكم ؟! ، فقال حذيفة : كيف أصنع يا رسول الله ؟ قال :جاهدهم إن قويت ، واهرب عنهم إن ضعفت .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلح الناس ، وإذا فسدا فسد الناس : الأُمراء والعلماء (١) .

وقال الله تعالى :( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار ) (٢) .

وقال :( ولا تطغوا فيحلّ عليكم غضبي ) (٣) ، والله ما فسدت أمور الناس إلاّ بفساد هذين الصنفين ، وخصوصاً الجائر في قضائه ، والقابل الرشا في الحكم .

ولقد أحسن أبو نواس في قوله :

إذا خان الأمير وكاتباه

وقاضي الأمر داهن في القضاءِ

فويل ثمّ ويلٌ ثمّ ويل

لقاضي الأرض من قاضي السماءِ

وجاء في تفسير قوله تعالى :( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ . ) (٤) الآية ، نزلت فيمن يخالط السلاطين والظلمة .

وقالعليه‌السلام :الإسلام علانية باللسان ، والإيمان سرّ بالقلب ، والتقوى عمل بالجوارح ، كيف تكون مسلماً ولا تسلم الناس منك ؟ وكيف تكون مؤمناً ولا تأمنك الناس ؟ وكيف تكون تقيّاً والناس يتّقون من شرّك وأذاك ؟ .

وقال :إنّ مَن ادعى حبّنا وهو لا يعمل [عملنا ولا يقول] (٥) بقولنا ، فليس منّا ولا نحن منه ، أما سمعوا قول الله تعالى يقول مخبراً عن نبيّه : ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (٦) .

____________

(١) الخصال : ٣٦ ح١٢ باب الاثنين ، عنه البحار ٢ : ٤٩ ح١٠ .

(٢) هود : ١١٣ .

(٣) طه : ٨١ .

(٤) المجادلة : ٢٢ .

(٥) أثبتناه من ( ب ) .

(٦) آل عمران : ٣١ .

١٤٣

ولمّا بايع أصحابه أخذ عليهم العهد والميثاق بالسمع لله تعالى وله بالطاعة في العسر واليسر ، وعلى أن يقولوا الحق أينما كانوا ، وأن لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وقال : إنّ الله تعالى ليحصي على العبد كل شيء حتّى أنينه في مرضه ، والشاهد على ذلك قوله تعالى :

( ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) (١) .

وقوله تعالى :( إنّ عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون ) (٢) .

وقوله تعالى :( إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) (٣) .

____________

(١) ق : ١٨ .

(٢) الانفطار : ١٠ ـ ١٢ .

(٣) البقرة : ٢٨٤ .

١٤٤

الباب الثامن عشر : في عقاب الزّنا والربا

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ لأهل النار صرخة من نتن فروج الزناة ، فإيّاكم والزنا فإنّ فيه ست خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأمّا التي في الدنيا : فإنّه يذهب ببهاء الوجه ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأمّا التي في الآخرة : يوجب سخط الله ، وسوء الحساب ، وعظم العذاب ، إنّ الزناة يأتون يوم القيامة تشتعل فروجهم ناراً ، يعرفون بنتن فروجهم (١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ الله مستخلفكم في الدنيا فانظروا كيف تعملون ، فاتقوا الزنا والربا والرياء (٢) .

قيل : قالت المعتزلة يوماً في مجلس الرضاعليه‌السلام :إنّ أعظم الكبائر القتل ، لقوله تعالى : ( ومَن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها . ) (٣) .

____________

(١) الكافي ٥ : ٥٤١ ح٣ ، مَن لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٣ ح٤٩٦٠ باختلاف ، وفي معالم الزلفى : ٣٣٧ .

(٢) الرياء ، لم يرد في ( ب ) و ( ج ) .

(٣) النساء : ٩٣ .

١٤٥

قال الرضاعليه‌السلام :أعظم من القتل عندي إثماً ، وأقبح منه بلاءً الزنا وأدوم ؛ لأنّ القاتل لم يفسد بضرب المقتول غيره ، ولا بعده فساد ، والزاني قد أفسد النسل إلى يوم القيامة ، وأحلّ المحارم فلم يبق في المجلس فقيه إلاّ قبّل يده وأقرّ بما قال .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا كانت خمس منكم رميتم بخمس : إذا أكلتم الربا رميتم بالخسف ، وإذا ظهر فيكم الزنا أُخذتم بالموت ، وإذا جارت الحكّام ماتت البهائم ، وإذا ظلم أهل الملّة ذهبت الدولة ، وإذا تركتم السنّة ظهرت البدعة .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما نقض قوم عهدهم إلاّ سلّط عليهم عدوّهم ، وما جار قوم إلاّ كثر القتل بينهم ، وما منع قوم الزكاة إلاّ حبس القطر عنهم ، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ نشأ فيهم الموت ، وما بخس قوم المكيال والميزان إلاّ أُخذوا بالسنين .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا عملت أُمّتي خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء : إذا كان الفيء دولاً ، والأمانة مغنماً ، والصدقة مغرماً ، وأطاع الرجل امرأته ، وعصى أُمّه ، وبرّ صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد وأُكرم الرجل مخافة شرّه ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، ولبسوا الحرير ، واتخذوا القينات والمعازف (١) ، وشربوا الخمور ، وكثر الزنا ، فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء ، وخسفاً ومسخاً ، وظهور العدو عليكم ثم لا تنصرون (٢) .

____________

(١) في ( ج ) : المغنّيات .

(٢) عنه الوسائل ١٢ : ٢٣١ ح٣١ .

١٤٦

الباب التاسع عشر : [ وصايا وحكم بليغة ]

وصيّة لقمان لابنه بعلوم وحكمة ، قال : يا بني ! لا يكن الديك أكيس منك وأكثر محافظة على الصلوات ، ألا تراه عند كلّ صلاة يؤذّن لها ، وبالأسحار يعلن بصوته وأنت نائم .

وقال : يا بني ! مَن لا يملك لسانه يندم ، ومَن يكثر المراء يشتم ، ومَن يدخل مداخل السوء يُتّهم ، ومَن يُصاحب صاحب السوء لا يسلم ، ومَن يجالس العلماء يغنم ، يا بني ! لا تؤخّر التوبة فإنّ الموت يأتي بغتة ، يا بني ! اجعل غناك في قلبك ، وإذا افتقرت فلا تحدّث الناس بفقرك فتهون عليهم ، ولكن اسأل الله من فضله .

يا بني ! كذب مَن يقول : الشرّ يقطع بالشرّ ، ألا ترى إنّ النار لا تطفئ بالنار ولكن بالماء ، وكذلك الشرّ لا يطفئ إلاّ بالخير ، يا بني ! لا تشمت بالمصائب ، ولا تعيّر المبتلي ، ولا تمنع المعروف فإنّه ذخيرة لك في الدنيا والآخرة .

يا بني ! ثلاثة تجب مداراتهم : المريض والسلطان والمرأة ، وكن قنعاً تعش غنيّاً ، وكن متّقياً تكن عزيزاً ، يا بني ! إنّك من حين سقطت من بطن أُمّك استدبرت

١٤٧

الدنيا واستقبلت الآخرة ، وأنت كل يوم إلى ما استقبلت أقرب منك ممّا استدبرت ، فتزوّد لدار أنت مستقبلها ، وعليك بالتقوى فإنّه أربح التجارات ، وإذا أحدثت ذنباً فأتبعه بالاستغفار والندم والعزم على ترك العود لمثله .

واجعل الموت نصب عينيك ، والوقوف بين يدي خالقك ، وتمثّل شهادة جوارحك عليك بعملك ، والملائكة الموكّلين بك تستحي(١) منهم ومن ربّك الذي هو مشاهدك ، وعليك بالموعظة فاعمل بها ، فإنّها عند العاقل أحلى من العسل الشهد ، وهي في السفيه أشقّ من صعود الدرجة على الشيخ الكبير ، ولا تسمع الملاهي فإنّها تنسك الآخرة ، ولكن احضر الجنائز ، و زُر المقابر ، وتذكّر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك .

يا بني استعذ بالله من شرار النساء ، وكن من خيارهنّ على حذر ، يا بني لا تفرح بظلم أحد بل احزن على ظلم من ظلمته ، يا بني الظلم ظلمات ويوم القيامة حسرات ، وإذا دعتك القدرة إلى ظلم من هو دونك فاذكر قدرة الله عليك .

يا بني تعلّم من العلماء ما جهلت ، وعلّم الناس ممّا علمت تذكر بذلك في الملكوت ، يا بني أغنى الناس مَن قنع بما في يديه ، وأفقرهم مَن مد عينيه إلى ما في أيدي الناس ، وعليك يا بني باليأس ممّا في أيدي الناس ، والوثوق بوعد الله ، واسع فيما فرض عليك ، ودع السعي فيما ضمن لك ، وتوكّل على الله في كل أُمورك يكفيك ، وإذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع تظنّ أن لا تبقى بعدها أبداً .

وإيّاك وما يُعتذر منه فإنّه لا يُعتذر من خير ، وأحبب للناس ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكرهه لنفسك ، ولا تقل ما لا تعلم ، واجهد أن يكون اليوم خيراً لك من أمس ، وغداً خيراً لك من اليوم ، فإنّه مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومَن كان يومه شرّاً من أمسه فهو ملعون ، وارض بما قسّم الله لك فإنّه سبحانه يقول : أعظم عبادي

____________

(١) في ( ب ) : لم لا تستحي منهم .

١٤٨

ذنباً مَن لم يرض بقضائي ، ولم يشكر نعمائي ، ولم يصبر على بلائي .

وأوصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذ بن جبل ، فقال له : أوصيك باتقاء الله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وخفض الجناح ، والوفاء بالعهد ، وترك الخيانة ، وحسن الجوار ، وصلة الأرحام ، ورحمة اليتيم ، ولين الكلام ، وبذل السلام وحسن العمل ، وقصر الأمل ، وتوكيد الإيمان ، والتفقّه في الدين ، وتدبّر القرآن ، وذكر الآخرة ، والجزع من الحساب ، وكثرة ذكر الموت ، ولا تسب مسلماً ، ولا تطع آثماً ، ولا تقطع رحماً ، ولا ترض بقبيح تكن كفاعله ، واذكر الله عند كل شجر ومدر وبالأسحار وعلى كل حال يذكرك ، فإنّ الله تعالى ذاكر مَن ذكره ، وشاكر مَن شكره ، وجدّد لكل ذنب توبة ، السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية .

واعلم أنّ أصدق الحديث كتاب الله(١) ، وأوثق العرى التقوى ، وأشرف الذكر ذكر الله تعالى ، وأحسن القصص القرآن ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف الموت الشهادة ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير العلم ما نفع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى .

وشرّ المعذرة عند الموت ، وشرّ الندامة يوم القيامة ، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله تعالى في السر والعلانية ، وخير ما أُلقي في القلب اليقين ، وأنّ جماع الإثم الكذب والارتياب ، والنساء حبائل الشيطان ، والشباب شعبة من الجنون ، وشرّ الكسب كسب الربا ، وشرّ المأثم أكل مال اليتيم .

السعيد مَن وُعظ بغيره ، وليس لجسم نبت على الحرام إلاّ النار ، ومَن تغذّى بالحرام فالنار أولى به ، ولا يستجاب له دعاء ، والصلاة نور ، والصدقة حرز ،

____________

(١) في ( ب ) : كلام الله .

١٤٩

والصوم جُنّة حصينة ، والسكينة مغنم وتركها مغرم ، وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يتفكّر فيها في صنع الله ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتخلّى فيها لحاجته من حلال .

وعلى العاقل أن لا يكون ضاعناً(١) إلاّ في ثلاث(٢) : تزوّد لمعاد ، ومرمّة لمعاش ، لذّة في غير محرّم ، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه .

وفي توراة موسىعليه‌السلام : عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمَن أيقن بالحساب كيف يذنب ، ولمَن أيقن بالقدر كيف يحزن ، ولمَن أيقن بالنار كيف يضحك ، ولمَن رأى تقلّب الدنيا بأهلها كيف يطمئنّ إليها ، ولمَن أيقن بالجزاء كيف لا يعمل ، لا عقل كالدين ، ولا ورع كالكف ، ولا حسب كحسن الخلق .

وقال أبو ذر : أوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [ بسبع خصال ](٣) : حب المساكين والدنو منهم ، وهجران الأغنياء ، وأن أصل رحمي ، وأن لا أتكلّم بغير الحق ، ولا أخاف في الله لومة لائم ، وأن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي ، وأن أكثر من قول : ( سبحان الله والحمد الله ولا اله إلاّ الله والله اكبر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ) فهنّ الباقيات الصالحات .

وقال بعضهم : مَن سلك الجدد أمن العثار ، والصبر مطيّة السلامة ، والجزع مطيّة الندامة ، ومرارة الحلم أعذب من مرارة(٤) الانتقام ، وثمرة الحقد الندامة ، ومَن صبر على ما يكره أدرك ما يحب ، والصبر على المصيبة مصيبة للشامت بها ، والجزع عليها مصيبة ثانية لفوات الثواب وهي أعظم المصائب .

____________

(١) ضعن : سار (القاموس) .

(٢) في ( ج ) : أن يكون ساعياً في ثلاث .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٤) في ( ج ) : حلاوة .

١٥٠

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :خير الرزق ما يكفي ، وخير الذكر ما يخفى ، وإنّي أوصيكم بتقوى الله ، وبحسن النظر لأنفسكم ، وقلّة الغفلة عن معادكم ، وابتياع ما يبقى بما يفنى .

واعلموا أنّها أيّام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، وآجال معلومة ، والآخرة أبد لا أمد له ، وأجل لا منتهى له ، ونعيم لا زوال له ، فاعرفوا ما تريدون وما يُراد بكم ، واتركوا من الدنيا ما يشغلكم عن الآخرة ، واحذروا حسرة المفرطين ، وندامة المغترّين ، واستدركوا فيما بقي ما فات ، وتأهّبوا للرحيل من دار البوار إلى دار القرار ، واحذروا الموت أن يفجأكم على غرّة ويعجلكم عن التأهّب والاستعداد ، إنّ الله تعالى قال : ( فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) (١) .

فربّ ذي عقل شغله هواه عمّا خُلق له حتّى صار كمن لا عقل له ، ولا تعذروا أنفسكم في خطائها ، ولا تجادلوا بالباطل فيما يوافق هواكم ، واجعلوا همّكم نصر الحق من جهتكم أو من جهة مَن يجادلكم ، فإنّ الله تعالى يقول :( يا أيّها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ) (٢) . فلا تكونوا أنصاراً لهواكم والشيطان .

واعلموا أنّه ما هدم الدين مثل إمام ضلالة وضلّ وأضلّ ، وجدالِ منافق بالباطل ، والدنيا قطعت رقاب طالبيها والراغبين إليها ، واعلموا أنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار ، فمهّدوه بالعمل الصالح ، فمثل أحدكم يعمل الخير كمثل الرجل ينفذ كلامه يمهّد له ، قال الله تعالى : ( فلأنفسهم يمهدون ) (٣) .

وإذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على المعصية ، فاعلموا أنّ ذلك استدراج له ، قال الله تعالى : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) (٤) .

____________

(١) يس : ٥٠ .

(٢) الصف : ١٤ .

(٣) الروم : ٤٤ .

(٤) الأعراف : ١٨٢ .

١٥١

وسئل ابن عباس عن صفة الذين صدقوا الله المخافة ، فقال : هم قوم قلوبهم من الخوف قرحة ، وأعينهم باكية ، ودموعهم على خدودهم جارية ، يقولون : كيف نفرح والموت من ورائنا ، والقبر موردنا ، والقيامة موعدنا ، وعلى الله عرضنا ، وشهودنا جوارحنا ، والصراط على جهنّم طريقنا ، وعلى الله حسابنا .

فسبحان الله وتعالى ، فإنّا نعوذ به من ألسن واصفة ، وأعمال مخالفة مع قلوب عارفة ، فإنّ العمل ثمرة العلم ، والخشية والخوف ثمرة العمل ، والرجاء ثمرة اليقين ، ومَن اشتاق إلى الجنّة اجتهد في أسباب الوصول إليها ، ومَن حذر النار تباعد ممّا يدني إليها ، ومَن أحبّ لقاء الله استعدّ للقائه .

وروي أنّ الله تعالى يقول في بعض كتبه :يا ابن آدم أنا حيٌّ لا أموت ، أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت ، يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون ، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون (١) .

ولذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز :( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلاً من غفور رحيم ) (٢) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ثلاث مهلكات وثلاث منجيات ، فأمّا المهلكات : فشحٌّ مطاع ، وهوىً متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، وأمّا المنجيات : فخشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الرضا والغضب (٣) .

وقال الحسنعليه‌السلام :لقد أصحبت (٤) أقواماً كأنّهم كانوا ينظرون إلى الجنّة ونعيمها ، والنار وجحيمها ، يحسبهم الجاهل مرضى وما بهم من مرض ، أو قد خولطوا وإنّما خالطهم أمر عظيم ، خوف الله ومهابته في قلوبهم .

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٢٥٨ ح١٢٩٢٨ .

(٢) فصلت : ٣١ـ٣٢ .

(٣) الخصال : ٨٤ ح١١ باب٣ ، عنه البحار ٧٠ : ٦ ح٢ .

(٤) في ( ألف ) و ( ج ) : أصبحت .

١٥٢

كانوا يقولون ليس لنا في الدنيا من حاجة ، ليس لها خُلقنا ولا بالسعي لها أُمرنا ، أنفقوا أموالهم ، وبذلوا دماءهم ، اشتروا بذلك رضى خالقهم ، علموا أنّ الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنّة فباعوه ، ربحت تجارتهم ، وعظمت سعادتهم ، أفلحوا وأنجحوا ، فاقتفوا آثارهم رحمكم الله ، واقتدوا بهم فإنّ الله تعالى وصف لنبيّه صفة آبائه إبراهيم وإسماعيل وذرّيتهما ، وقال : ( فبهداهم اقتده ) (١) .

واعلموا عباد الله أنّكم مأخوذون بالإقتداء بهم والإتباع لهم ، فجدّوا واجتهدوا واحذروا أن تكونوا أعواناً للظالم ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مَن مشى (٢) مع ظالم ليعينه على ظلمه فقد خرج من ربقة الإسلام ، ومَن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد حادّ الله ورسوله ، ومَن أعان ظالماً ليبطل حقّاً لمسلم فقد برئ من ذمّة الإسلام ومن ذمّة الله ومن ذمّة رسوله .

ومَن دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله ، ومَن ظُلم بحضرته مؤمن أو اغتيب وكان قادراً على نصره ولم ينصره فقد باء بغضب من الله ورسوله ، ومَن نصره فقد استوجب الجنّة من الله تعالى .

وإنّ الله أوحى إلى داودعليه‌السلام :قل لفلان الجبّار : إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا على الدنيا ، ولكن لترد عنّي دعوة المظلوم وتنصره ، فإنّي آليت على نفسي أن أنصره وأنتصر له ممّن ظُلم بحضرته ولم ينصره (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن آذى مؤمناً ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيساً من رحمة الله ، وكان كمَن هدم الكعبة والبيت المقدس ، وقتل عشرة آلاف من الملائكة .

____________

(١) الأنعام : ٩٠ .

(٢) في ( ج ) : مضى .

(٣) عنه البحار ١٤ : ٤٠ ح٢٤ .

١٥٣

وقال رفاعة بن أعين : قال لي الصادقعليه‌السلام :ألا أخبرك بأشد الناس عذاباً يوم القيامة ؟ قلت : بلى يا مولاي ، قال : أشد الناس عذاباً يوم القيامة مَن أعان على مؤمن بشطر كلمة ، ثم قال : ألا أخبرك بأشد من ذلك ؟ فقلت : بلى يا سيّدي ، فقال : مَن أعاب على شيء من قوله أو فعله .

ثم قال :اُدن منّي أزدك أحرفاً أُخر ، ما آمن بالله ولا برسوله ولا بولايتنا أهل البيت من أتاه المؤمن في حاجة لم يضحك في وجهه ، فإن كان عنده قضاها له ، وإن لم تكن عنده تكلّفها له حتّى يقضيها له ، فإن لم يكن كذلك فلا ولاية بيننا وبينه ولو علم الناس ما للمؤمن عند الله لخضعت له الرقاب ، وإنّ الله تعالى اشتق للمؤمن اسماً من أسمائه ، فالله تعالى هو المؤمن سبحانه وسمّى عبده مؤمناً تشريفاً له وتكريماً ، وأنّه يوم القيامة يؤمن على الله تعالى فيجيز إيمانه (١) .

وقال الله تعالى :ليأذن بحرب منّي مَن آذى مؤمناً وأخافه .

وكان عيسىعليه‌السلام يقول :يا معشر الحواريين تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي ، وتقرّبوا إلى الله بالبعد عنهم ، والتمسوا رضاه في غضبهم ، وإذا جلستم فجالسوا مَن يزيد في عملكم منطقه ، ويذكركم الله رؤيته ، ويرغبكم في الآخرة عمله (٢) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام لأبي ذر :ألزم قلبك الفكر ، ولسانك الذكر ، وجسدك العبادة ، وعينيك البكاء من خشية الله ، ولا تهتم برزق غد ، والزم المساجد فإنّ عمّارها هم أهل الله ، وخاصّته قرّاء كتابه والعاملون به .

وقالعليه‌السلام :المروءة ست ، ثلاث في السفر وثلاث في الحضر : فالذي في الحضر تلاوة القرآن ، وعمارة المساجد ، واتخاذ الإخوان في الله ، وأمّا الذي في

____________

(١) البحار ٧٥ : ١٧٦ ح١٢ باختلاف .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٣٥ ، عنه البحار ١٤ : ٢٣٠ ح٦٥ باختصار .

١٥٤

السفر : بذل الزاد ، وحسن الخلق ، والمعاشرة بالمعروف (١) .

وكان الحسنعليه‌السلام يقول :يا ابن آدم مَن مثلك وقد خلّى ربّك بينه وبينك ، متى شئت أن تدخل عليه توضّأت وقمت بين يديه ، ولم يجعل بينك وبينه حجّاباً ولا بوّاباً ، تشكو إليه همومك وفاقتك ، وتطلب منه حوائجك ، وتستعينه على أمورك ، وكان يقول :أهل المسجد زوّار الله ، وحق على المزور التحفة لزائره .

وروي : إنّ المتنخّم في المسجد يجد بها خزياً في وجهه يوم القيامة .

وكان الناس في المساجد ثلاثة أصناف : صنف في الصلاة ، وصنف في تلاوة القرآن ، وصنف في تعليم العلوم ، فأصبحوا صنف في البيع والشراء ، وصنف في غيبة الناس ، وصنف في الخصومات وأقوال الباطل .

وقالعليه‌السلام :ليعلم الذي يتنخّم في القبلة أنّه يُبعث وهي في وجهه .

وقال : يقول الله تعالى :المصلّي يناجيني ، والمنفق يقرضني [ في الغنى ] (٢) ، والصائم يتقرّب إليّ .

وقال :إنّ الرجلين يكونان في صلاة واحدة وبينهما مثل ما بين السماء والأرض من فضل الثواب .

____________

(١) الخصال : ٣٢٤ ح١١ باب ٦ ، عنه البحار ٧٦ : ٣١١ ح٢ .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

١٥٥

الباب العشرون : في قراءة القرآن المجيد

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إن هذه القلوب لتصدئ كما يصدئ الحديد ، وأنّ جلاءها قراءة القرآن (١) .

وقال ابن عباس : قارئ القرآن التابع له لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .

وقال : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس غافلون ، وببكائه إذا الناس ضاحكون ، وبورعه إذا الناس يطمعون ، وبخشوعه إذا الناس يمزحون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وبصمته إذا الناس يخوضون .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :القرآن على خمسة أوجه ، حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال ، وما آمن بالقرآن مَن استحلّ محارمه ، وشرّ الناس

____________

(١) كنز العمّال ١ : ٥٤٥ ح٢٤٤١ .

١٥٦

مَن يقرأ القرآن ولا يرعوي عن شيء به .

وقال جعفر بن محمدعليهما‌السلام في قوله تعالى :( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) (١) قال : يرتلون آياته ، ويتفقّهون فيه ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، ويتناهون عن نواهيه .

ما هو والله حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وانّما هو تدبّر آياته ، والعمل بأحكامه ، قال الله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) (٢) .

واعلموا رحمكم الله أنّ سبيل الله سبيل واحدة وجماعها الهدى ، ومصير العامل بها الجنّة والمخالف لها النار ، وإنّما الإيمان ليس بالتمنّي ولكن ما ثبت بالقلب ، وعملت به الجوارح ، وصدّقته الأعمال الصالحة ، واليوم فقد ظهر الجفاء ، وقلّ الوفاء ، وتركت السنّة ، وظهرت البدعة ، وتواخا الناس على الفجور ، وذهب منهم الحياء ، وزالت المعرفة ، وبقيت الجهالة ، ما ترى إلاّ مترفاً صاحب دنيا ، لها يرضى ولها يغضب وعليها يقاتل ، ذهب الصالحون وبقيت تفالة كتفالة الشعير وحثالة التمر .

وقال الحسنعليه‌السلام :ما بقي في الدنيا بقيّة غير هذا القرآن ، فاتخذوه إماماً يدلّكم على هداكم ، وإنّ أحق الناس بالقرآن مَن عمل به وإن لم يحفظه ، وأبعدهم منه مَن لم يعمل به وإن كان يقرأه .

وقال :مَن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ .

وقال :إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً ، يقود قوماً إلى الجنّة ، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا بمتشابهه ، ويسوق قوماً إلى النار ، ضيّعوا

____________

(١) البقرة : ١٢١ .

(٢) ص : ٢٩ .

١٥٧

حدوده وأحكامه واستحلّوا محارمه .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :رتلوا القرآن ولا تنثروه نثراً ، ولا تهذوه هذّ الشعر (١) ، قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .

وخطبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :لا خير في العيش إلاّ لعالم ناطق أو مستمع واع ، أيّها الناس إنّكم في زمن هدنة وإنّ السير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد ، ويقرّبان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود .

فقال له المقداد : يا نبي الله وما الهدنة ؟ فقال :دار بلاء وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وشاهد مصدّق ، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه قاده (٢) إلى النار ، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، ظاهره حكم وباطنه علم ، لا تحصى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم ، مَن قال به صدق ، ومَن حكم به عدل ، ومَن عمل به فاز ، فإنّ المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيّب وريحها طيّب ، وإنّ الكافر كالحنظلة طعمها مرّ ورائحتها كريهة (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ألا أدلّكم على أكسل الناس وأبخل الناس وأسرق الناس وأجفى الناس وأعجز الناس ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله .

فقال :أكسل الناس عبد صحيح فارغ لا يذكر الله بشفة ولا لسان ، وأبخل الناس رجل اجتاز على مسلم فلم يسلّم عليه ، وأمّا أسرق الناس فرجل يسرق من صلاته ، تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيضرب به وجهه (٤) ، وأجفى الناس رجل ذكرت بين يديه فلم يصلّ عليّ ، وأعجز الناس مَن عجز عن الدعاء (٥) .

____________

(١) تهدروه هدر الشعر ، (خل) .

(٢) في ( ج ) : ساقه .

(٣) أورده المصنف في أعلام الدين : ٣٣٣ ، عنه البحار ٧٧ : ١٧٧ .

(٤) في ( ب ) : وجه صاحبها .

(٥) راجع البحار ٨٤ : ٢٥٧ ح٥٥ ، عن عدة الداعي .

١٥٨

الباب الحادي والعشرون: يتضمّن خطبة بليغة على سورة

قال : أيّها الناس تدبّروا القرآن المجيد ، فقد دلّكم على الأمر الرشيد ، وسلّموا لله أمره فإنّه فعّال لما يُريد ، واحذروا يوم الوعيد ، واعملوا بطاعته فهذا شأن العبيد ، واحذروا غضبه فكم قصم من جبّار عنيد ،( ق والقرآن المجيد ) (١) .

أين مَن بنى وشاد وطول ، وتأمّر على الناس وساد في الأوّل ، وظنّ جهالة منه وجرأة أنّه لا يتحوّل ، عاد الزمان عليه سالباً ما خُوّل ، فسقوا إذ فسقوا كأساً على هلاكهم عوّل ،( أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد ) .

فيا مَن أنذره يومه وأمسه ، وحادثه بالعبر قمره وشمسه ، واستلب منه ولده وأخوه وعرسه ، وهو يسعى في الخطايا مستتر(٢) وقد دنا حبسه ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) .

أما علمت أنّك مسؤول عن الزمان ، مشهود عليك يوم تنطق عليك

____________

(١) الآيات الواردة في هذا الباب كلّها من سورة ( ق ) .

(٢) في ( ج ) : مشمّراً .

١٥٩

الأركان ، محفوظ عليك ما عملت في زمان الإمكان ،( إذ يتلقّى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) .

وكأنّك بالموت وقد اختطفك اختطاف البرق ، ولم تقدر على دفعه بملك الغرب والشرق ، وندمت على تفريطك بعد اتساع الخرق ، وتأسفت على ترك الأولى والأخرى أحق ،( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) .

ثم ترحّلت من القصور إلى القبور ، وبقيت وحيداً على ممرّ الدهور كالأسير المحصور ،( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ) ، فحينئذ أعاد الأجسام من صنعها ، وألّف أشتاتها بقدرته ، وجمعها وناداها بنفخة الصور فأسمعها ،( وجآءت كل نفس معها سائق وشهيد ) .

فهرب منك الأخ وتنسى أخاك ، ويعرض عنك الصديق ويرفضك ولاءك(١) ، ويتجافاك صاحبك ويجحد الآءك ، وتلقى من الأهوال كلّما أعجزك وساءك ، وتنسى أولادك وتنسى نساءك ،( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) .

وتجري دموع الأسف وابلاً ورذاذاً ، وتسقط الأكباد من الحسرات أفلاذاً ، ولهب لهيب النار إلى الكفّار فجعلهم جذاذاً ، ولا يجد العاصي من النار لنفسه ملجأً ولا معاذاً ،( وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد ) .

يوم تقوم الزبانية إلى الكفّار ، ويبادر مَن يسوقهم سوقاً عنيفاً والدموع تتحادر ، وتثب النار [ إلى الكفار ](٢) كوثوب الليث إذا استاخر(٣) ، فيذلّ زفيرها كل مَن عزّ وفاخر ،( الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد ) .

____________

(١) في ( ج ) : يرفض ولاءك .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

(٣) في ( ج ) : شاخر .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الجواب ، بيننا وبينكم برزخ وحجاب ، أنتم الحثالة ونحن اللباب ، ولشتان ما بين العبيد والأرباب ، أتجعل أمية كهاشم؟ إنّ هاشماً كان صميماً كريماً ، ولم يكن لئيماً ولا زنيما ، أوّل من هشم الثريد وسنّ الرحلتين ، وله يقول القائل :

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

سفرين سنهما له ولقومه

سفر الشتاء ورحلة الأصياف )(١)

( المحاورة الحادية عشرة )

( لو ولينا أحسنا المواساة )

أخرج المعافى بن زكريا الجريري في كتاب ( الجليس الصالح ) ، وابن عساكر في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، وابن عبد ربه الأندلسي في ( العقد الفريد ) ، واللفظ للأوّل ، بسنده عن هشام الكلبي ، عن أبيه ، قال :

( لم يكن أحد من بني هاشم أكثر غشياناً لمعاوية من عبد الله بن العباس ، فوفد إليه مرّة وعنده وفود العرب ، فأقعده عن يمينه ، ثم أقبل عليه ، فقال : نشدتك بالله يابن عباس أن لو وليتمونا أتيتم إلينا ما أتينا لكم من الترحيب والتقريب ، وإعطائكم الجزيل ، وإكرامكم عن القليل ، وصبرتم على ما صبرت عليه منكم ، إنّي لا أريد أمراً إلاّ أظمأتم صدره ، ولا آتي معروفاً إلاّ صغرتم قدره ، وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم ،

____________________

(١) أخبار الدولة العباسية / ٤٧ ـ ٥٠ تح الدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور عبد الجبار المطلبي ط دار الطليعة بيروت ١٩٧١ م.

٣٨١

فتأخذوها متكارهين عليها ، تقولون : قد نقص الحق ، وليس هذا تأميلنا ، فأيّ أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم ، أكون أسرّ بإعطائها منه بأخذها ، والله لئن انخدعت لكم في مالي ، وذللت لكم في عرضي ، أرى انخداعي تكرماً وذلي حلماً ، ولو وليتمونا رضينا منكم بالإنصاف ، ثم لا نسألكم أموالكم ، لعلمنا بحالنا وحالكم ، ويكون أبغض الأمور إلينا أحبّها إليكم أن نعفيكم ، قل يابن عباس؟

فقال ابن عباس : ولو ولينا منكم مثل الذي وليتم منّا أحسنا المواساة ، وامتننّا بالإثرة ، ثم لم نغشم الحي ، ولم نشتم الميت ، ولم ينبش الميت بعداوة الحي ، ولأعطينا كلّ ذي حق حقه ، فأمّا أعطاؤكم الرجل منّا ألف ألف ، فلستم بأجود منّا كفّاً ، ولا أكرم منّا أنفساً ، ولا أصون لأعراض المرؤات وأهداف الكرم ، ونحن والله أعطى للآخرة منكم للدنيا ، وأعطى في الحق منكم على الباطل ، وأعطى على التقوى منكم على الهوى ، والقسم بالسوية ، والعدل في الرعية ، يأتيان على المنى ، فأمّا رضاكم منّا بالكفاف ، فلو رضيتم منّا لم نرض بأنفسنا به لكم ، والكفاف رضا من لاحق له ، فلو رضيتم به منا اليوم ما قتلتمونا عليه أمس ، فلا تبخلونا حتى تسألونا ولا تلفضونا حتى تذوقونا(١) .

فقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :

____________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٣١٧ ط مصر الأولى بن زكريا الحريري ٣ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ٤ / ٨ ط مصر تحقيق أحمد أمين ورفيقيه. تاريخ مدينة دمشق ٤٨ / ٣٣٧ ـ ٣٤٠ ط دار الفكر بيروت.

٣٨٢

وقال ابن حرب قولة أموية

يريد بما قد قال تفتيش هاشم

أجب يا بن عباس تراكم لو أنّكم

ملكتم رقاب الأكرمين الأكارم

أتيتم إلينا ما أتينا إليكم

من الكف عنكم واجتباء الدراهم

فقال ابن عباس مقالاً أمضّه

ولم يكن عن ردّ الجواب بنائم

نعم لو وليناكم عدلنا عليكم

ولم تشتكوا منا انتهاك المحارم

ولم يعتمد للحي والميت غمة

تحدّثها الركبان أهل المواسم

ولم نعطكم إلاّ الحقوق التي لكم

وليس الذي يعطي الحقوق بظالم

وما ألف ألف تستميل ابن جعفر

بها يابن حرب عند حزّ الغلاصم

فأصبح يرمي من رماكم ببعضه

عدو المعادي سالماً للمسالم

فأعظم بما أعطاك من نصح جيبه

ومن أمر عيب ليس فيه بنادم )(١)

( المحاورة الثانّية عشرة )

( بنا فتح الأمر وبنا يختم )

( قال يوماً معاوية وعنده ابن عباس : إذا جاءت هاشم بقديمها وحديثها ، وبنو أمية بأحلامها وسياستها ، وبنو أسد بن عبد العزي بوافدها ودياتها ، وبنو عبد الدار بحجابتها ولوائها ، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها ، وبنو تيم بصدّيقها وجوادها ، وبنو عدي بفاروقها ومتذكرها ، وبنو سهم

____________________

(١) الجليس الصالح ٣ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٨ / ٣٣٧ ـ ٣٤٠ ط دار الفكر ، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور ٢ / ٢٨٢ ـ ٢٨٤ ، العقد الفريد ٢ / ٣١٧ ط مصر الأولى ١٤ / ٨ تحقيق أحمد امين ورفيقيه.

٣٨٣

بآرائها ودهائها ، وبنو جمح بشرفها وأنوفها ، وبنو عامر بن لوي بفارسها وقريعها ، فمن ذا يحمل مضمارها ، ويجري إلى غايتها. ما تقول يابن عباس؟

قال : أقول : ليس حي من قريش يفخرون بأمر إلاّ وإلى جنبهم مَن يشركوهم فيه إلاّ بني هاشم ، فإنّهم يفتخرون بالنبوة التي لا يشاركون فيها ، ولا يسُاوَون بها ، ولا يدفعون عنها ، وأشهد أن الله تعالى لم يجعل محمّداً من قريش إلاّ وقريش خير البرية ، ولم يجعله في بني هاشم إلاّ وهاشم خير قريش ، ولم يجعله في بني عبد المطلب إلاّ وهم خير بني هاشم ، ولسنا نريد أن نفخر عليكم إلاّ بما تفخرون به على العرب ، وهذه أمّة مرحومة ، فمنها نبيّها ومهديها ومهدي آخرها ، لأنّ بنا فتح الأمر وبنا يختم ، ولك ملك معجّل ، ولنا ملك مؤجّل ، فإن يكن ملككم قبل ملكنا ، فليس بعد ملكنا ملك ، لأنّا أهل العاقبة ، والعاقبة للمتقين )(١) .

( المحاورة الثالثة عشرة )

( أكفاك أم أزيدك )

أخرج البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، وابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) ، وابن منظور في ( مختصر تاريخ دمشق ) ، واللفظة منهم جميعاً بتلفيق :

( قال : معاوية يوماً وعنده عبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عباس ،

____________________

(١) الملاحم والفتن للسيد ابن طاووس / ٨١ ـ ٨٢ ، العقد الفريد ٢ / ٣١٨ ط مصر الأولى تح أحمد أمين ورفيقيه.

٣٨٤

والفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب ، وذكروا أنّ معاوية أقبل على بني هاشم ، فقال : يا بني هاشم إنّ خيري لكم ممنوح ، وبابي مفتوح ، فلا تقطعوا خيري عنكم ، ولا تغلقوا بابي دونكم ، وقد رأيت أمري وأمركم متفاوتاً ، فرأيت أمراً مختلفاً ، إنّكم ترون أنّكم أحق بهذا الأمر منّي بما في يدي منّي ، وأنا أرى أنّي أحق به منكم ، فإذا أعطيتكم العطية فيها قضاء حقوقكم قلتم : أعطانا دون حقنا ، وقصر بنا عن قدرنا دون منزلتنا ، فصرت كالمسلوب لا يحمد على ما أخذ منه ، فبئست المنزلة نزلت بها منكم ، أعطي فلا أشُكر ، وأمنع فلا أعذر ، ونعمت المنزلة نزلتم بها منّي ، إنصاف قائلكم ، وإعطاء سائلكم.

فقال له عبد الله بن عباس : ما ههنا سلوب غيرنا ، إذ كان الحق حقنا دون الناس ، ووالله ما منحتنا شيئاً حتى سألناه خيرك حتى طلبناه ، ولا فتحت لنا بابك حتى قرعناه ، ولئن قطعت عنا خيرك فخير الله لنا أوسع منك إنّ الله عزّ وجلّ لأرحم بنا منك ، ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفنّ أنفسنا عنك ، فوالله ما سألنا قط عن خلّة ولا أحفيناك في مسألة ، ولا سألناك باهظة ، وإنّ من ضعة الدين وعظيم الفتنة في المسلمين قرعنا بابك ، وطلبنا ما في يدك.

فأمّا هذا المال الفيئ فليس لك منه إلاّ ما لرجل من المسلمين ، ولنا في كتاب الله حقان : حق خمس الغنيمة وحق الفيئ ، فخمس الغنيمة ما غُلبنا عليه ، والفيئ ما اجتبيناه ، فعلى أيّ الوجوه خرج ذلك منك أخذنا ، وحمدنا

٣٨٥

الله عليه ، ثم لم نخلك من شكر خير جرى على يدك ، ولولا حقنا في هذا المال ما أتاك منّا زائر يحمله خفّ ولا حافر ، أكفاك أم أزيدك؟

فقال معاوية : حسبك يابن عباس كفاك كفاك فإنّك تكوي ولا تغوي.

فقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :

ألا أبلغ معاوية بن صخر

فإنّ المرء يعلم ما يقول

لنا حقان حق الخمس وافٍ

وحق الفيئ جاء به الرسول

فكلّ عطية وصلت إلينا

وإن سحبت لخدعتها الذيول

ففي حكم القرآن لنا مزيد

على ما كان لا قال ولا قيل

أنأخذ حقنا وتريد حمدا

له هذاك تأباه العقول

فقال له ابن عباس مجيبا

فإنّ جوابه صدع أصيل

فأدركه الحياء فصدّ عنه

وخطبهما إذا ذكرا جليل )(١)

( المحاورة الرابعة عشرة )

( حسبك يرحمك الله )

أخرج البلاذري في ( أنساب الأشراف ) بسنده عن جويرية :

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق٤ / ١١١ ـ ١١٣ برقم ٣٣٣ ط بيروت ١٤٠٠ هـ بتحقيق الدكتور أحسان عباس ، العقد الفريد ٢ / ٣١٧ ط مصر الأولى ، أمل الآمل للجاحظ / ٢٨ ـ ٢٩ تحقيق الدكتور رمضان شش ط دار الكتاب الجديد بيروت سة ١٣٨٧ هـ ، المستطرف للإبشيهي ١ / ٥٨ ، ثمرات الأوراق لابن حجة بهامش المستطرف ١ / ١٣٥ ، وأخبار العباس ـ الدولة العباسية ـ / ٥٤ ـ ٥٦ تحقيق الدكتور الدوري وعبد الجبار المطلبي بيروت سنة ١٩٧١ م.

٣٨٦

( أنّ عمرو بن العاص قال لعبد الله بن عباس : يا بني هاشم ، أما والله لقد تقلدتم من دم عثمان كفرم الإماء العوارك ، وأطعتم فُسآق أهل العراق في عيبه ، وأجزرتموه مراّق أهل مصر ، وآويتم قتلته ، وإنّما نظر الناس إلى قريش ، ونظرت قريش إلى بني عبد مناف ، ونظر بنو عبد مناف إلى بني هاشم.

فقال ابن عباس لمعاوية : ما تكلّم عمرو إلاّ عن رأيك ، وإنّ أحق الناس أن لا يتكلم في قتل عثمان لأنتما ، أمّا أنت يا معاوية فزيّنت له ما صنع ، حتى إذا حُصِر طلب نصرك ، فأبطأت عنه وتثاقلت وأحببت قتله ، وتربصت لتنال ما نلت. وأمّا أنت يا عمرو فأضرمتَ المدينة عليه ناراً ، ثم هربتَ إلى فلسطين ، فأقبلت تحرض عليه الوارد والصادر ، فلمّا بلغك قتله ، دعتك عداوة عليّ إلى أن لحقت بمعاوية ، فبعت دينك منه بمصر.

فقال معاوية : حسبك يرحمك الله ، عرّضني لك ونفسه فلا جزي خيراً )(١) .

( المحاورة الخامسة عشرة )

( فاتق الله يا معاوية )

روى صاحب كتاب ( نزهة السامع ) ، والديلمى في ( غرر الأخبار ودرر الآثار ) ، عن ابن عباس :

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق٤ / ٩٤ برقم ٣٠٠ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٢ / ٢٣٨ ، سير اعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢٥٢ ط دار الفكر بيروت ، مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر ١٣ / ٢٦٣.

٣٨٧

( أنّه دخل على معاوية يوماً وكان مريضاً ، فرآه معاوية على تلك الحال فطمع فيه. فقال : يا بن عباس الله أعلم حيث يجعل رسالته.

فقال له ابن عباس : الحمد لله الذي أنطقك حقّنا ، وعرّفك فضلنا ، والحمد لله الذي جعل الخير منّا ، والنبّوة فينا ، وجعلنا أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

قال : وكان معاوية متكئاً فجلس ، وقال : كيف رأيتم الله حرمكم هذا الأمر الذي عرضتم له مناكبكم؟

فقال له ابن عباس : يا معاوية إنّ الله لم يزل يذود أولياءه عن الدنيا ذياد الراعي أبله عن موارد الهلكة ، وقد قال سبحانه :( قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (١) . وأيم الله لولا حق النبوّة وحرمة الإسلام ووصية النبيّ بهما عند عدم الناصر ، وغلبة العدو ، لعلمت أنّه يقصر باعك ويضيق منكبك أن تقذف دلواً في طوى(٢) شدّ عليها هاشمي رشاءً(٣) .

فقال له معاوية : يابن عباس لا أزال أمازحك ولم تحلم.

فقال ابن عباس : إنّ الحلم عمّن يرى له الفضل عليك صعب ، فاتق الله يا معاوية وأعرف الحق لأهله ، ولعمري إنّك لتعرفه ولكنك تنكره )(٤) .

____________________

(١) إبراهيم / ٣٠.

(٢) الطوى : البئر المبنية بالحجارة.

(٣) الرشاء : الحبل الذي يشدّ به الدلو.

(٤) غرر الأخبار ودرر الآثار / ٢٧٠ ، والصوارم المهرقة / ٦ ط ١ بتحقيق جلال الدين الحسيني.

٣٨٨

( المحاورة السادسة عشرة )

( من عذيري من معاوية )

( كان معاوية بن أبي سفيان يلبس الحرير ، فدخل عليه ابن عباس فنهاه فلم ينته ، فقال له : إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إنّه محرم على رجال أمتي ).

قال معاوية : وأنا لا أرى به بأساً.

فقال ابن عباس : من عذيري من معاوية بن أبي سفيان ، أنا أقول له : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو يقول : وأنا لا أرى به بأساً )(١) .

( المحاورة السابعة عشرة )

( أّيهاً يابن عباس حديثاً في غير هذا )

( استأذن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على معاوية وعنده بطون قريش ، فلمّا نظر معاوية إلى ابن عباس مقبلاً التفت إلى سعيد بن العاص وكان جالساً عن يمينه ، وقال : لألقين على ابن عباس مسائل يعي بجوابها.

فقال له سعيد : ليس ابن عباس ممن يعي بجواب مسائلك.

فلمّا جلس ابن عباس ، قال له معاوية : يابن عباس إنّي أريد أن أسألك عن مسائل.

قال : سل عما بدا لك.

قال : ما تقول في أبي بكر؟

____________________

(١) كذا جاء في رسالة في ترجمة رقية وزينب وأم كلثوم المزوجتين من عثمان / ٢٤ الملحقة بالطبع بكتاب مكارم الأخلاق للطبرسي وفرحة الغري لابن طاووس ط حجرية بإيران.

٣٨٩

قال : رحم الله أبا بكر ، كان والله للقرآن تالياً ، وعن المنكر ناهياً ، وبذنبه عارفاً ، ومن الله خائفاً ، وعن الشبهات زاجراً ، وبالمعروف آمراً ، وبالليل قائماً ، وبالنهار صائماً ، فاق أصحابه ورعاً وكفافاً(١) ، وسادهم زهداً وعفافاً ، فغضب الله على من أبغضه وطعن عليه.

قال معاوية : أيهاً(٢) يابن عباس فما تقول في عمر بن الخطاب؟

قال : رحم الله عمر ، كان والله حليف الإسلام ، ومأوى الأيتام ، ومنتهى الإحسان ، ومنهل الإيمان ، وكهف(٣) الضعفاء ، ومعقل الحنفاء(٤) ، قام بحق الله عزّوجلّ صابراً محتسباً(٥) ، حتى أوضح الدين وفتح البلاد ، وآمن العباد ، فأعقب الله على من ينقصه اللعنة إلى يوم الدين.

قال : فما تقول في عثمان؟

قال : رحم الله أبا عمرو كان والله أكرم الجعدة ، وأفضل البررة ، هجاداً بالأسحار ، كثير الدموع عند ذكر النار ، نهّاضاً عند كلّ مكرمة ، سبّاقاً إلى كلّ منحة ، حيّياً أبياً وفياً ، صاحب جيش العسرة ، وختن(٦) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأعقب الله على من لعنه لعنة اللاعنين إلى يوم الدين.

____________________

(١) أي رضي بالكفاف ، والكفاف من الرزق ما كفّ عن الناس وأغنى.

(٢) أي حسبك وهو أمر بالسكوت عن الإسترسال في الكلام.

(٣) الكهف : اللجأ وكذلك المعقل.

(٤) الحنفاء : جمع حنيف وهم النسآك.

(٥) أحتسب أجراً عند الله بفعله كذا طلب الأجر منه تعالى.

(٦) ختن الرجال ـ عند العامة ـ زوج ابنته.

٣٩٠

قال : فما تقول في عليّ؟

قال : صلوات الله على أبي الحسن ـ خ ل رضي الله عن أبي الحسن ـ كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحل الحجى(١) ، وبحر غيث الندى ، وطود(٢) النهى ، ومنتهى العلم للورى ، وكهف العلى ، ونوراً أسفر في الدجى ، وداعياً إلى المحجة العظمى(٣) ، ومستمسكاً بالعروة الوثقى ، وعالماً بما في الصحف الأولى ، قائماً بالتأويل والذكرى ، متعلقاً بالأسباب الحسنى ، تاركاً الجور والأذى ، حايداً عن طرقات الردى ، خير من آمن وأتقى ، وأفضل ( سيد ـ خ ل ) من تقمصّ وارتدى ، وأبر ( أفضل ـ ح ل ـ ) من أنتعل وسعى ( حج وسعى ـ خ ل ـ ) ، وأكرم من شهد النجوى ، وأفصح من تنفس وقرأ ، وأكثر من شهد النجوى(٤) ، وأخطب أهل الدنيا سوى

____________________

(١) بالكسر والقصر : العقل.

(٢) الطود : الجبل. النهي : جمه النهيّة وهي العقل. مثل هدَية وقّدى أي جبل العقل.

(٣) المحجة : السبيل والطريق الواضح.

(٤) إشارة إلى قوله عليه السلام في حديث المناشدة يوم الشورى حين قال : ( فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ناجى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر مرات يقدم بين يدي نجواه صدقة قبلي؟ قالوا : اللهم لا ).

وانما استنشد مشيخة الشورى عن خصوص هذه الفضيلة لأن فيهم من كان له الثراء الطويل العريض ، وزعم له أشياعه أنه كان ينفق كذا ، أو أعطى كذا ( بينما أثبت الإمام عليه السلام انهم على خلاف ما يزعمون بتحدّيهم بآية النجوى في سورة المجادلة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المجادلة / ١٢ ـ ١٣ ).

٣٩١

الأنبياء والنبيّ المصطفى ، صاحب القبلتين ، فهل يوازيه أحد في الورى ، الزاهد في الدنيا ، أنيس المصطفى ، وأبو السبطين(١) ، فهل يقارنه بشر ، وزوج خير النسوان(٢) ، فهل يفوقه قاطن بلد ، للأسُوْد قتّال ، وفي الحروب ختّال ، لم تر عين مثله ، ولن ترى أحدٌ حتى القيامة ، ولم أسمع بمثله ، فعلى من أنتقصه لعنة الله ولعنة العباد إلى يوم القيامة والتناد(٣) .

____________________

قال الطبري في تفسيره وساق حديثاً بإسناده عن مجاهد قال : نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يصدّقوا فلم يناجي إلا علي بن أبي طالب قدّم ديناراً فتصدّق به ، ثم أنزلت الرخصة في ذلك ، ( تفسير الطبري ٢٨ / ١٩ ).

وقال الحبري في تفسيره بسنده عن مجاهد قال : قال علي : آية من القرآن لم يعمل بها أحد قبلي ولم يعمل بها أحد بعدي : أنزلت آية النجوى فكان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت إذا أردتُ أن أناجي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تصدقت بدرهم حتى فنيت ، ثم نسخته الآية التي بعدها.

وهذا الخبر رواه الطبري في تفسيره والنسائي في الخصائص ، والترمذي في صحيحه في أبواب تفسير القرآن والكنجي الشافعي في كفاية الطالب ، والنسفي الحنفي في تفسيره مدارك التنزيل بهامش تفسير الخازن ، والمتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ٢ / ٢١ ، نقلاً عن ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وأبي يعلى وابن المنذر والدورقي وابن حبان وابن مردويه والترمذي. وله مصادر أخرى كثيرة من التراث السني فضلاً عن التراث الشيعي ، وهذا وحده يكفي في تزييف مزاعم الكاذبين بأن في الصحابة من كان يوازي فضل علي عليه السلام ، فضلاً عن تفضيلهم عليه ، كما هو مذهب أصحاب المفاضلة. وجميع ما ذكره ابن عباس في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فهو من مميزّاته التي لا يوازيه أحد فيها.

(١) هما الحسن والحسين عليهم السلام.

(٢) هي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السلام.

(٣) هو يوم القيامة.

٣٩٢

قال : أيهاً يابن عباس لقد أكثرتَ في ابن عمك ، فما تقول في أبيك العباس؟

قال : رحَم الله العباس ، أبا الفضل ، كان صنو(١) نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقرة عين صفي الله ، سيد الأعمام ، له أخلاق آبائه الأجواد ، وأحلام أجداده الأمجاد ، تباعدت الأسباب في فضيلته ، صاحب البيت والسقاية والمشاعر(٢) والتلاوة. ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دبّ.

فقال معاوية : أنا أعلم أنّك كلمانّي أهل بيتك.

قال : ولم لا أكون كذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اللهمَّ فقهه في الدين وعلّمه التاويل ).

ثم قال : يا معاوية إنّ الله جلّ شأنه وتقدست أسماؤه ، خص نبيّه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال ، وبذلوا النفوس دونه في كلّ حال ، ووصفهم الله في كتابه فقال :( رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (٣) ، قاموا بمعالم الدين ،

____________________

(١) الصنو : هو النخلتان أو الثلاث من أصل واحد ، فكل واحدة منهن صنو. وفي الحديث ( عم الرجل صنو أبيه ) ( الصحاح ).

(٢) المشاعر في الحج المواقف ، ومنها المشعر الحرام بالمزدلفة.

(٣) الفتح / ٢٩.

٣٩٣

وناصحوا الاجتهاد للمسلمين ، حتى تهذّبت طرقه ، وقويت أسبابه ، وظهرت آلآء الله واستقرّ دينه ووضحت أعلامه ، وأذلّ الله بهم الشرك ، وأزال رؤوسه ، ومحا دعائمه ، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية ، والأرواح الطاهرة العالية ، فقد كانوا في الحياة لله أولياء ، وكانوا بعد الموت أحياء ، وكانوا لعباد الله نصحاء ، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها ، وخرجوا من الدنيا وهم بعدُ فيها.

فقطع عليه معاوية الكلام ، وقال : أيهاً يا بن عباس حديثاً في غير هذا ).

تنبيه : ذكر هذا الحديث بطوله أبو الحسن المسعودي في مروجه(١) ، ولكن المحب الطبري ذكر في ( ذخائر العقبى )(٢) ما قاله حبر الأمة في صفة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقط ، ولم يذكر ما قاله في الخلفاء ولا ما قاله في أبيه العباس إلى آخر الحديث ، ويبدو أن تزّيداً طرأ على الخبر من قِبل رواة السوء الضالعين في ركاب الأمويين ، فذكروا أسماء الشيوخ الثلاثة!

ولو كان الخبر صحيحاً بجميع فصوله ، لأورده المحبّ الطبري في ذخائره ، وكان هو أولى بذكره من المسعودي لو صح الخبر. على أنّ ثمّة ما يشير إلى سطو غير مغتفر قد جرى على فصول من كلام ابن عباس في

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي ٢ / ٨٢.

(٢) ذخائر العقبى / ٧٨.

٣٩٤

حق الإمام عليه السلام فوزع منها على الشيوخ ، فقارن ما يأتي في رواية ابن جرير الطبري الإمامي مع ما مرّ في رواية المسعودي.

وقد ذكر أبو الحسن الفتوني في ( ضياء العالمين )(١) ما يتعلق بأمير المؤمنين عليه السلام نقلاً عن أبي بكر الجعابي ، وأبي علي الحداد ، وابن السري ، كلٌ بإسناده عن ربعي بن خراش ، وكذلك روى ابن معصوم المدني في ( الدرجات الرفيعة )(٢) نقلاً عن ( نهاية الطلب ) للحنبلي ، وفي ( الدر النظيم ) أيضاً ، ولم يرووا سوى وصف الإمام عليه السلام.

على أنّ للحديث صورة أخرى ذكرها محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي في كتابه ( المسترشد في الإمامة ) ، فكشف كذب ما مرّ في وصف الشيوخ وإليك لفظه ، قال محمد بن جرير :

( وقد وصفه ربّاني هذه الأمّة عبد الله بن عباس ، حيث سأله عنه معاوية ، فقال : كان والله للقرآن تالياً ، وللشر قالياً ، وعن المين نائياً ، وعن المنكرات ناهياً ، وعن الفحشاء ساهياً ، وبدينه عارفاً ، ومن الله خائفاً ، وعن الموبقات صارفاً ، وبالليل قائماً ، وبالنهار صائماً ، ومن دنياه سالماً ، وعلى عدل البرية عازماً ، وبالمعروف آمراً ، وعن المهلكات زاجراً ، وبنور الله ناظراً ، ولشهوته قاهراً ، فاق العالمين ورعاً وكفافاً ، وقناعة وعفافاً ، وسادهم زهداً وأمانة وبراً وحياطة.

كان والله حليف الإسلام ومأوى الأيتام ، ومحل الإيمان ، ومنتهى

____________________

(١) ضياء العالمين ج ٢ ( مخطوط ).

(٢) الدرجات الرفيعة / ١٢٣.

٣٩٥

الإحسان ، وملاذ الضعفاء ، ومعقل الحنفاء ، كان للحق حصناً حصيناً ، وللناس عزيزاً قوياً.

كان قايماً بحق الله ، صابراً محتسباً في عز الدين في الديار ، وعبد الله في الأقطار وفي الضواحي والبقاع والقلاع والرباع ، وقوراً في الرخاء ، شكوراً في اللأواء.

كان والله هجّاداً بالأسحار ، كثير الدموع عند ذكر النار ، دايم الفكرة بالليل والنهار ، نهّاضاً إلى كلّ مكرمة ، سعّاءاً إلى كلّ منجية ، فرّاراً من كلّ موبقة.

كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحل الحجى ، وبحر الندى ، وطود النهى ، وكنف العلم للورى ، ونوراً أسفر في ظلم الدجى.

كان داعياً إلى المحجة العظمى ، ومستمسكاً بالعروة الوثقى ، وعالماً بما في الصحف الأولى ، وعلاّماً ( عاملاً ـ ظ ـ ) بطاعة الملك الأعلى ، وعارفاً بالتأويل والذكرى ، متعلقاً بأسباب الهدى ، وحايداً عن طرقات الردى ، وسامياً إلى المجد والعلى ، وقايما بالدين والتقوى ، وتاركاً للجور والردى ، وخير من آمن وأتقى ، وسيد من تقمّص وارتدى ، وأبرّ من انتعل وسعى ، وأصدق من تسربل واكتسى ، وأكرم من تنفّس وقرأ ، وأفضل من صام وصلى ، وأفخر من ضحك وبكى ، وأخطب من مشى على الثرى ، وأفصح من نطق في الورى بعد النبيّ المصطفى ، صلّى القبلتين ، فهل يساويه أحد ، وزوج خير النسوان ، فهل يوازيه أحدٌ ، وأبو السبطين ، فهل

٣٩٦

يدانيه مخلوق.

كان والله للأسد قتّالاً ، وفي الحرب شغّالاً ، وفي الهزاهز جبالاً ( ختالا ـ ظ ـ ) ، فعلى من لعنه وانتقصه وغصبه حقه لعنة الله والملائكة إلى يوم التناد )(١) .

( المحاورة الثامنة عشرة )

( وأنتم تصابون في بصائركم )

قال ابن قتيبة في ( المعارف ) :

( ثلاثة مكافيف في نسق : عبد الله بن عباس ، وأبوه العباس بن عبد المطلب ، وأبوه عبد المطلب بن هاشم.

قال : ولذلك قال معاوية لابن عباس : أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم.

فقال ابن عباس : وأنتم يابني أمية تصابون في بصائركم )(٢) .

وهذه المُلحة ذكرها أيضاً جماعة من الأدباء في كتبهم ، أذكر منهم :

١ ـ ابن قتيبة أيضاً في كتابه ( عيون الأخبار )(٣) .

٢ ـ ابن رستة في ( الأعلاق النفيسة )(٤) .

____________________

(١) المسترشد في الإمامة / ٦٢ نسخة مخطوطة بمكتبة المرحوم السيد الوالد قد سره وبخطه.

(٢) المعارف لابن قتيبة / ٢٨٧ ط ليدن ، ٥٨٩ ط بمصر بتحقيق عكاشة.

(٣) عيون الأخبار ٣ / ٢١٠ ط دار بمصر.

(٤) الأعلاق النفيسة / ٢٢٧ ط ليدن ١٨٩١.

٣٩٧

٣ ـ أبو هلال العسكري في ( كتاب الصناعتين )(١) .

٤ ـ القاضي التنوخي في ( المستجاد من فعلات الأجواد )(٢) ، وفيه : ( أنّه قال له ذلك بعد ما عمي ).

٥ ـ الخطيب التبريزي في ( شرح ديوان الحماسة )(٣) .

٦ ـ الزمخشري في ( ربيع الأبرار )(٤) .

وممّا يلحق ممّا يستظرف ذكره من المزح الذي دار بينهما :

( قال معاوية : ما أبين الشبق في رجالكم؟

فقال ابن عباس : هو في نسائكم أبين )(٥) .

( المحاورة التاسعة عشرة )

( كلّ ما قلت لنا يا معاوية من شر بين دفتيك )

قال اليعقوبي في تاريخه :

( وحج معاوية سنة ( ٤٤ هـ ) ، وقدم معه من الشام بمنبر فوضعه عند البيت الحرام ، فكان أوّل من وضع المنبر في المسجد الحرام.

ولمّا صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم وكلّموه في

____________________

(١) كتاب الصناعتين / ٣١٣ ط ٢ محمد علي صبيح بمصر.

(٢) المستجاد في فعلات الأجواد / ٢٤٧.

(٣) شرح ديوان الحماسة ٢ / ٢٦٣ مطبعة حجازي بالقاهرة.

(٤) ربيع الأبرار ٢ / ٢٥٧.

(٥) عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ / ٢١٠.

٣٩٨

أمورهم ، فقال : أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم وقد قتلتم عثمان حتى تقولوا ما تقولون ، فو الله لأنتم أحلّ دماً من كذا وكذا ، وأعظم القول.

فقال له ابن عباس : كلّ ما قلت لنا يا معاوية من شرّ بين دفتيك ، وأنت والله أولى بذلك منّا ، أنت قتلتَ عثمان ، ثم قمتَ تغمض على الناس أنّك تطلب بدمه.

فانكسر معاوية.

فقال ابن عباس : والله ما رأيتك صدقتُ إلاّ فزعتَ وانكسرتَ.

قال : فضحك معاوية ، وقال : والله ما أحبّ أنّكم لم تكونوا كلمتموني )(١) .

أقول : يبدو ممّا ذكر المقدسي في ( البدء والتاريخ ) ، أنّ الجماعة الذين كلّموا معاوية هم الحسن والحسين وابن عباس.

فقد قال : ( فلمّا حج معاوية جاءه الحسن والحسين وابن عباس رضي الله عنه ) وسألوه أن يفي لهم بما ضمن.

فقال : أما ترضون يا بني هاشم أن نوفّر عليكم دماءكم وأنتم قتلتم عثمان ، ولم يعطهم ممّا في الصحيفة شيئاً )(٢) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٨ط الغري.

(٢) البدء والتاريخ ٦ / ٥.

٣٩٩

( المحاورة العشرون )

( بدايات قطيعة وهجران )

لقد بدأ تنمر معاوية ينمو ويتزايد ، كما توالت مواقف ابن عباس المغاضبة تتصاعد في حجتّها ، وتبدي للناس سيئات معاوية ، وبلغت الذروة حين توترت العلاقات بين ابن عباس ومعاوية من بعد إستشهاد الإمام الحسن عليه السلام وإظهار معاوية الشماتة بموته ، وقد مرّ في الجزء الخامس من الحلقة الأولى حول هذا الموضوع ما يُحسن مراجعته.

وإنّا في المقام نستعيد ما ذكره الزبير بن بكار ( ت ٢٥٦ هـ ) في ( الموفقيات ) فيما حكاه عنه الأربلي ( ت ٦٩٢ هـ ) في ( كشف الغمة ) ، قال :

( وحدّث الزبير ـ بن بكار ـ عن رجاله ، قال : قدم ابن عباس على معاوية ، وكان يلبس أدنى ثيابه ويخفض من شأنه ، لمعرفته أنّ معاوية كان يكره إظهاره لشأنه ، وجاء الخبر إلى معاوية بموت الحسن بن عليّ عليه السلام فسجد شكراً لله تعالى ، وبان السرور في وجهه ـ في حديث طويل ذكره الزبير وذكرت منه موضع الحاجة إليه ـ وأذن للناس وأذن لابن عباس بعدهم ، فدخل فاستدناه وكان قد عرف بسجدته.

فقال له : أتدري ما حدث بأهلك؟

قال : لا.

قال : فإنّ أبا محمّد توفي رحمه الله فعظّم الله لك الأجر.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496