موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس16%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93334 / تحميل: 4734
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الجواب ، بيننا وبينكم برزخ وحجاب ، أنتم الحثالة ونحن اللباب ، ولشتان ما بين العبيد والأرباب ، أتجعل أمية كهاشم؟ إنّ هاشماً كان صميماً كريماً ، ولم يكن لئيماً ولا زنيما ، أوّل من هشم الثريد وسنّ الرحلتين ، وله يقول القائل :

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

سفرين سنهما له ولقومه

سفر الشتاء ورحلة الأصياف )(١)

( المحاورة الحادية عشرة )

( لو ولينا أحسنا المواساة )

أخرج المعافى بن زكريا الجريري في كتاب ( الجليس الصالح ) ، وابن عساكر في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، وابن عبد ربه الأندلسي في ( العقد الفريد ) ، واللفظ للأوّل ، بسنده عن هشام الكلبي ، عن أبيه ، قال :

( لم يكن أحد من بني هاشم أكثر غشياناً لمعاوية من عبد الله بن العباس ، فوفد إليه مرّة وعنده وفود العرب ، فأقعده عن يمينه ، ثم أقبل عليه ، فقال : نشدتك بالله يابن عباس أن لو وليتمونا أتيتم إلينا ما أتينا لكم من الترحيب والتقريب ، وإعطائكم الجزيل ، وإكرامكم عن القليل ، وصبرتم على ما صبرت عليه منكم ، إنّي لا أريد أمراً إلاّ أظمأتم صدره ، ولا آتي معروفاً إلاّ صغرتم قدره ، وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم ،

____________________

(١) أخبار الدولة العباسية / ٤٧ ـ ٥٠ تح الدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور عبد الجبار المطلبي ط دار الطليعة بيروت ١٩٧١ م.

٣٨١

فتأخذوها متكارهين عليها ، تقولون : قد نقص الحق ، وليس هذا تأميلنا ، فأيّ أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم ، أكون أسرّ بإعطائها منه بأخذها ، والله لئن انخدعت لكم في مالي ، وذللت لكم في عرضي ، أرى انخداعي تكرماً وذلي حلماً ، ولو وليتمونا رضينا منكم بالإنصاف ، ثم لا نسألكم أموالكم ، لعلمنا بحالنا وحالكم ، ويكون أبغض الأمور إلينا أحبّها إليكم أن نعفيكم ، قل يابن عباس؟

فقال ابن عباس : ولو ولينا منكم مثل الذي وليتم منّا أحسنا المواساة ، وامتننّا بالإثرة ، ثم لم نغشم الحي ، ولم نشتم الميت ، ولم ينبش الميت بعداوة الحي ، ولأعطينا كلّ ذي حق حقه ، فأمّا أعطاؤكم الرجل منّا ألف ألف ، فلستم بأجود منّا كفّاً ، ولا أكرم منّا أنفساً ، ولا أصون لأعراض المرؤات وأهداف الكرم ، ونحن والله أعطى للآخرة منكم للدنيا ، وأعطى في الحق منكم على الباطل ، وأعطى على التقوى منكم على الهوى ، والقسم بالسوية ، والعدل في الرعية ، يأتيان على المنى ، فأمّا رضاكم منّا بالكفاف ، فلو رضيتم منّا لم نرض بأنفسنا به لكم ، والكفاف رضا من لاحق له ، فلو رضيتم به منا اليوم ما قتلتمونا عليه أمس ، فلا تبخلونا حتى تسألونا ولا تلفضونا حتى تذوقونا(١) .

فقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :

____________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٣١٧ ط مصر الأولى بن زكريا الحريري ٣ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ٤ / ٨ ط مصر تحقيق أحمد أمين ورفيقيه. تاريخ مدينة دمشق ٤٨ / ٣٣٧ ـ ٣٤٠ ط دار الفكر بيروت.

٣٨٢

وقال ابن حرب قولة أموية

يريد بما قد قال تفتيش هاشم

أجب يا بن عباس تراكم لو أنّكم

ملكتم رقاب الأكرمين الأكارم

أتيتم إلينا ما أتينا إليكم

من الكف عنكم واجتباء الدراهم

فقال ابن عباس مقالاً أمضّه

ولم يكن عن ردّ الجواب بنائم

نعم لو وليناكم عدلنا عليكم

ولم تشتكوا منا انتهاك المحارم

ولم يعتمد للحي والميت غمة

تحدّثها الركبان أهل المواسم

ولم نعطكم إلاّ الحقوق التي لكم

وليس الذي يعطي الحقوق بظالم

وما ألف ألف تستميل ابن جعفر

بها يابن حرب عند حزّ الغلاصم

فأصبح يرمي من رماكم ببعضه

عدو المعادي سالماً للمسالم

فأعظم بما أعطاك من نصح جيبه

ومن أمر عيب ليس فيه بنادم )(١)

( المحاورة الثانّية عشرة )

( بنا فتح الأمر وبنا يختم )

( قال يوماً معاوية وعنده ابن عباس : إذا جاءت هاشم بقديمها وحديثها ، وبنو أمية بأحلامها وسياستها ، وبنو أسد بن عبد العزي بوافدها ودياتها ، وبنو عبد الدار بحجابتها ولوائها ، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها ، وبنو تيم بصدّيقها وجوادها ، وبنو عدي بفاروقها ومتذكرها ، وبنو سهم

____________________

(١) الجليس الصالح ٣ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٨ / ٣٣٧ ـ ٣٤٠ ط دار الفكر ، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور ٢ / ٢٨٢ ـ ٢٨٤ ، العقد الفريد ٢ / ٣١٧ ط مصر الأولى ١٤ / ٨ تحقيق أحمد امين ورفيقيه.

٣٨٣

بآرائها ودهائها ، وبنو جمح بشرفها وأنوفها ، وبنو عامر بن لوي بفارسها وقريعها ، فمن ذا يحمل مضمارها ، ويجري إلى غايتها. ما تقول يابن عباس؟

قال : أقول : ليس حي من قريش يفخرون بأمر إلاّ وإلى جنبهم مَن يشركوهم فيه إلاّ بني هاشم ، فإنّهم يفتخرون بالنبوة التي لا يشاركون فيها ، ولا يسُاوَون بها ، ولا يدفعون عنها ، وأشهد أن الله تعالى لم يجعل محمّداً من قريش إلاّ وقريش خير البرية ، ولم يجعله في بني هاشم إلاّ وهاشم خير قريش ، ولم يجعله في بني عبد المطلب إلاّ وهم خير بني هاشم ، ولسنا نريد أن نفخر عليكم إلاّ بما تفخرون به على العرب ، وهذه أمّة مرحومة ، فمنها نبيّها ومهديها ومهدي آخرها ، لأنّ بنا فتح الأمر وبنا يختم ، ولك ملك معجّل ، ولنا ملك مؤجّل ، فإن يكن ملككم قبل ملكنا ، فليس بعد ملكنا ملك ، لأنّا أهل العاقبة ، والعاقبة للمتقين )(١) .

( المحاورة الثالثة عشرة )

( أكفاك أم أزيدك )

أخرج البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، وابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) ، وابن منظور في ( مختصر تاريخ دمشق ) ، واللفظة منهم جميعاً بتلفيق :

( قال : معاوية يوماً وعنده عبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عباس ،

____________________

(١) الملاحم والفتن للسيد ابن طاووس / ٨١ ـ ٨٢ ، العقد الفريد ٢ / ٣١٨ ط مصر الأولى تح أحمد أمين ورفيقيه.

٣٨٤

والفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب ، وذكروا أنّ معاوية أقبل على بني هاشم ، فقال : يا بني هاشم إنّ خيري لكم ممنوح ، وبابي مفتوح ، فلا تقطعوا خيري عنكم ، ولا تغلقوا بابي دونكم ، وقد رأيت أمري وأمركم متفاوتاً ، فرأيت أمراً مختلفاً ، إنّكم ترون أنّكم أحق بهذا الأمر منّي بما في يدي منّي ، وأنا أرى أنّي أحق به منكم ، فإذا أعطيتكم العطية فيها قضاء حقوقكم قلتم : أعطانا دون حقنا ، وقصر بنا عن قدرنا دون منزلتنا ، فصرت كالمسلوب لا يحمد على ما أخذ منه ، فبئست المنزلة نزلت بها منكم ، أعطي فلا أشُكر ، وأمنع فلا أعذر ، ونعمت المنزلة نزلتم بها منّي ، إنصاف قائلكم ، وإعطاء سائلكم.

فقال له عبد الله بن عباس : ما ههنا سلوب غيرنا ، إذ كان الحق حقنا دون الناس ، ووالله ما منحتنا شيئاً حتى سألناه خيرك حتى طلبناه ، ولا فتحت لنا بابك حتى قرعناه ، ولئن قطعت عنا خيرك فخير الله لنا أوسع منك إنّ الله عزّ وجلّ لأرحم بنا منك ، ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفنّ أنفسنا عنك ، فوالله ما سألنا قط عن خلّة ولا أحفيناك في مسألة ، ولا سألناك باهظة ، وإنّ من ضعة الدين وعظيم الفتنة في المسلمين قرعنا بابك ، وطلبنا ما في يدك.

فأمّا هذا المال الفيئ فليس لك منه إلاّ ما لرجل من المسلمين ، ولنا في كتاب الله حقان : حق خمس الغنيمة وحق الفيئ ، فخمس الغنيمة ما غُلبنا عليه ، والفيئ ما اجتبيناه ، فعلى أيّ الوجوه خرج ذلك منك أخذنا ، وحمدنا

٣٨٥

الله عليه ، ثم لم نخلك من شكر خير جرى على يدك ، ولولا حقنا في هذا المال ما أتاك منّا زائر يحمله خفّ ولا حافر ، أكفاك أم أزيدك؟

فقال معاوية : حسبك يابن عباس كفاك كفاك فإنّك تكوي ولا تغوي.

فقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :

ألا أبلغ معاوية بن صخر

فإنّ المرء يعلم ما يقول

لنا حقان حق الخمس وافٍ

وحق الفيئ جاء به الرسول

فكلّ عطية وصلت إلينا

وإن سحبت لخدعتها الذيول

ففي حكم القرآن لنا مزيد

على ما كان لا قال ولا قيل

أنأخذ حقنا وتريد حمدا

له هذاك تأباه العقول

فقال له ابن عباس مجيبا

فإنّ جوابه صدع أصيل

فأدركه الحياء فصدّ عنه

وخطبهما إذا ذكرا جليل )(١)

( المحاورة الرابعة عشرة )

( حسبك يرحمك الله )

أخرج البلاذري في ( أنساب الأشراف ) بسنده عن جويرية :

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق٤ / ١١١ ـ ١١٣ برقم ٣٣٣ ط بيروت ١٤٠٠ هـ بتحقيق الدكتور أحسان عباس ، العقد الفريد ٢ / ٣١٧ ط مصر الأولى ، أمل الآمل للجاحظ / ٢٨ ـ ٢٩ تحقيق الدكتور رمضان شش ط دار الكتاب الجديد بيروت سة ١٣٨٧ هـ ، المستطرف للإبشيهي ١ / ٥٨ ، ثمرات الأوراق لابن حجة بهامش المستطرف ١ / ١٣٥ ، وأخبار العباس ـ الدولة العباسية ـ / ٥٤ ـ ٥٦ تحقيق الدكتور الدوري وعبد الجبار المطلبي بيروت سنة ١٩٧١ م.

٣٨٦

( أنّ عمرو بن العاص قال لعبد الله بن عباس : يا بني هاشم ، أما والله لقد تقلدتم من دم عثمان كفرم الإماء العوارك ، وأطعتم فُسآق أهل العراق في عيبه ، وأجزرتموه مراّق أهل مصر ، وآويتم قتلته ، وإنّما نظر الناس إلى قريش ، ونظرت قريش إلى بني عبد مناف ، ونظر بنو عبد مناف إلى بني هاشم.

فقال ابن عباس لمعاوية : ما تكلّم عمرو إلاّ عن رأيك ، وإنّ أحق الناس أن لا يتكلم في قتل عثمان لأنتما ، أمّا أنت يا معاوية فزيّنت له ما صنع ، حتى إذا حُصِر طلب نصرك ، فأبطأت عنه وتثاقلت وأحببت قتله ، وتربصت لتنال ما نلت. وأمّا أنت يا عمرو فأضرمتَ المدينة عليه ناراً ، ثم هربتَ إلى فلسطين ، فأقبلت تحرض عليه الوارد والصادر ، فلمّا بلغك قتله ، دعتك عداوة عليّ إلى أن لحقت بمعاوية ، فبعت دينك منه بمصر.

فقال معاوية : حسبك يرحمك الله ، عرّضني لك ونفسه فلا جزي خيراً )(١) .

( المحاورة الخامسة عشرة )

( فاتق الله يا معاوية )

روى صاحب كتاب ( نزهة السامع ) ، والديلمى في ( غرر الأخبار ودرر الآثار ) ، عن ابن عباس :

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق٤ / ٩٤ برقم ٣٠٠ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٢ / ٢٣٨ ، سير اعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢٥٢ ط دار الفكر بيروت ، مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر ١٣ / ٢٦٣.

٣٨٧

( أنّه دخل على معاوية يوماً وكان مريضاً ، فرآه معاوية على تلك الحال فطمع فيه. فقال : يا بن عباس الله أعلم حيث يجعل رسالته.

فقال له ابن عباس : الحمد لله الذي أنطقك حقّنا ، وعرّفك فضلنا ، والحمد لله الذي جعل الخير منّا ، والنبّوة فينا ، وجعلنا أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

قال : وكان معاوية متكئاً فجلس ، وقال : كيف رأيتم الله حرمكم هذا الأمر الذي عرضتم له مناكبكم؟

فقال له ابن عباس : يا معاوية إنّ الله لم يزل يذود أولياءه عن الدنيا ذياد الراعي أبله عن موارد الهلكة ، وقد قال سبحانه :( قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (١) . وأيم الله لولا حق النبوّة وحرمة الإسلام ووصية النبيّ بهما عند عدم الناصر ، وغلبة العدو ، لعلمت أنّه يقصر باعك ويضيق منكبك أن تقذف دلواً في طوى(٢) شدّ عليها هاشمي رشاءً(٣) .

فقال له معاوية : يابن عباس لا أزال أمازحك ولم تحلم.

فقال ابن عباس : إنّ الحلم عمّن يرى له الفضل عليك صعب ، فاتق الله يا معاوية وأعرف الحق لأهله ، ولعمري إنّك لتعرفه ولكنك تنكره )(٤) .

____________________

(١) إبراهيم / ٣٠.

(٢) الطوى : البئر المبنية بالحجارة.

(٣) الرشاء : الحبل الذي يشدّ به الدلو.

(٤) غرر الأخبار ودرر الآثار / ٢٧٠ ، والصوارم المهرقة / ٦ ط ١ بتحقيق جلال الدين الحسيني.

٣٨٨

( المحاورة السادسة عشرة )

( من عذيري من معاوية )

( كان معاوية بن أبي سفيان يلبس الحرير ، فدخل عليه ابن عباس فنهاه فلم ينته ، فقال له : إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إنّه محرم على رجال أمتي ).

قال معاوية : وأنا لا أرى به بأساً.

فقال ابن عباس : من عذيري من معاوية بن أبي سفيان ، أنا أقول له : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو يقول : وأنا لا أرى به بأساً )(١) .

( المحاورة السابعة عشرة )

( أّيهاً يابن عباس حديثاً في غير هذا )

( استأذن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على معاوية وعنده بطون قريش ، فلمّا نظر معاوية إلى ابن عباس مقبلاً التفت إلى سعيد بن العاص وكان جالساً عن يمينه ، وقال : لألقين على ابن عباس مسائل يعي بجوابها.

فقال له سعيد : ليس ابن عباس ممن يعي بجواب مسائلك.

فلمّا جلس ابن عباس ، قال له معاوية : يابن عباس إنّي أريد أن أسألك عن مسائل.

قال : سل عما بدا لك.

قال : ما تقول في أبي بكر؟

____________________

(١) كذا جاء في رسالة في ترجمة رقية وزينب وأم كلثوم المزوجتين من عثمان / ٢٤ الملحقة بالطبع بكتاب مكارم الأخلاق للطبرسي وفرحة الغري لابن طاووس ط حجرية بإيران.

٣٨٩

قال : رحم الله أبا بكر ، كان والله للقرآن تالياً ، وعن المنكر ناهياً ، وبذنبه عارفاً ، ومن الله خائفاً ، وعن الشبهات زاجراً ، وبالمعروف آمراً ، وبالليل قائماً ، وبالنهار صائماً ، فاق أصحابه ورعاً وكفافاً(١) ، وسادهم زهداً وعفافاً ، فغضب الله على من أبغضه وطعن عليه.

قال معاوية : أيهاً(٢) يابن عباس فما تقول في عمر بن الخطاب؟

قال : رحم الله عمر ، كان والله حليف الإسلام ، ومأوى الأيتام ، ومنتهى الإحسان ، ومنهل الإيمان ، وكهف(٣) الضعفاء ، ومعقل الحنفاء(٤) ، قام بحق الله عزّوجلّ صابراً محتسباً(٥) ، حتى أوضح الدين وفتح البلاد ، وآمن العباد ، فأعقب الله على من ينقصه اللعنة إلى يوم الدين.

قال : فما تقول في عثمان؟

قال : رحم الله أبا عمرو كان والله أكرم الجعدة ، وأفضل البررة ، هجاداً بالأسحار ، كثير الدموع عند ذكر النار ، نهّاضاً عند كلّ مكرمة ، سبّاقاً إلى كلّ منحة ، حيّياً أبياً وفياً ، صاحب جيش العسرة ، وختن(٦) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأعقب الله على من لعنه لعنة اللاعنين إلى يوم الدين.

____________________

(١) أي رضي بالكفاف ، والكفاف من الرزق ما كفّ عن الناس وأغنى.

(٢) أي حسبك وهو أمر بالسكوت عن الإسترسال في الكلام.

(٣) الكهف : اللجأ وكذلك المعقل.

(٤) الحنفاء : جمع حنيف وهم النسآك.

(٥) أحتسب أجراً عند الله بفعله كذا طلب الأجر منه تعالى.

(٦) ختن الرجال ـ عند العامة ـ زوج ابنته.

٣٩٠

قال : فما تقول في عليّ؟

قال : صلوات الله على أبي الحسن ـ خ ل رضي الله عن أبي الحسن ـ كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحل الحجى(١) ، وبحر غيث الندى ، وطود(٢) النهى ، ومنتهى العلم للورى ، وكهف العلى ، ونوراً أسفر في الدجى ، وداعياً إلى المحجة العظمى(٣) ، ومستمسكاً بالعروة الوثقى ، وعالماً بما في الصحف الأولى ، قائماً بالتأويل والذكرى ، متعلقاً بالأسباب الحسنى ، تاركاً الجور والأذى ، حايداً عن طرقات الردى ، خير من آمن وأتقى ، وأفضل ( سيد ـ خ ل ) من تقمصّ وارتدى ، وأبر ( أفضل ـ ح ل ـ ) من أنتعل وسعى ( حج وسعى ـ خ ل ـ ) ، وأكرم من شهد النجوى ، وأفصح من تنفس وقرأ ، وأكثر من شهد النجوى(٤) ، وأخطب أهل الدنيا سوى

____________________

(١) بالكسر والقصر : العقل.

(٢) الطود : الجبل. النهي : جمه النهيّة وهي العقل. مثل هدَية وقّدى أي جبل العقل.

(٣) المحجة : السبيل والطريق الواضح.

(٤) إشارة إلى قوله عليه السلام في حديث المناشدة يوم الشورى حين قال : ( فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ناجى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر مرات يقدم بين يدي نجواه صدقة قبلي؟ قالوا : اللهم لا ).

وانما استنشد مشيخة الشورى عن خصوص هذه الفضيلة لأن فيهم من كان له الثراء الطويل العريض ، وزعم له أشياعه أنه كان ينفق كذا ، أو أعطى كذا ( بينما أثبت الإمام عليه السلام انهم على خلاف ما يزعمون بتحدّيهم بآية النجوى في سورة المجادلة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المجادلة / ١٢ ـ ١٣ ).

٣٩١

الأنبياء والنبيّ المصطفى ، صاحب القبلتين ، فهل يوازيه أحد في الورى ، الزاهد في الدنيا ، أنيس المصطفى ، وأبو السبطين(١) ، فهل يقارنه بشر ، وزوج خير النسوان(٢) ، فهل يفوقه قاطن بلد ، للأسُوْد قتّال ، وفي الحروب ختّال ، لم تر عين مثله ، ولن ترى أحدٌ حتى القيامة ، ولم أسمع بمثله ، فعلى من أنتقصه لعنة الله ولعنة العباد إلى يوم القيامة والتناد(٣) .

____________________

قال الطبري في تفسيره وساق حديثاً بإسناده عن مجاهد قال : نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يصدّقوا فلم يناجي إلا علي بن أبي طالب قدّم ديناراً فتصدّق به ، ثم أنزلت الرخصة في ذلك ، ( تفسير الطبري ٢٨ / ١٩ ).

وقال الحبري في تفسيره بسنده عن مجاهد قال : قال علي : آية من القرآن لم يعمل بها أحد قبلي ولم يعمل بها أحد بعدي : أنزلت آية النجوى فكان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت إذا أردتُ أن أناجي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تصدقت بدرهم حتى فنيت ، ثم نسخته الآية التي بعدها.

وهذا الخبر رواه الطبري في تفسيره والنسائي في الخصائص ، والترمذي في صحيحه في أبواب تفسير القرآن والكنجي الشافعي في كفاية الطالب ، والنسفي الحنفي في تفسيره مدارك التنزيل بهامش تفسير الخازن ، والمتقي الهندي في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ٢ / ٢١ ، نقلاً عن ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وأبي يعلى وابن المنذر والدورقي وابن حبان وابن مردويه والترمذي. وله مصادر أخرى كثيرة من التراث السني فضلاً عن التراث الشيعي ، وهذا وحده يكفي في تزييف مزاعم الكاذبين بأن في الصحابة من كان يوازي فضل علي عليه السلام ، فضلاً عن تفضيلهم عليه ، كما هو مذهب أصحاب المفاضلة. وجميع ما ذكره ابن عباس في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فهو من مميزّاته التي لا يوازيه أحد فيها.

(١) هما الحسن والحسين عليهم السلام.

(٢) هي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السلام.

(٣) هو يوم القيامة.

٣٩٢

قال : أيهاً يابن عباس لقد أكثرتَ في ابن عمك ، فما تقول في أبيك العباس؟

قال : رحَم الله العباس ، أبا الفضل ، كان صنو(١) نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقرة عين صفي الله ، سيد الأعمام ، له أخلاق آبائه الأجواد ، وأحلام أجداده الأمجاد ، تباعدت الأسباب في فضيلته ، صاحب البيت والسقاية والمشاعر(٢) والتلاوة. ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دبّ.

فقال معاوية : أنا أعلم أنّك كلمانّي أهل بيتك.

قال : ولم لا أكون كذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اللهمَّ فقهه في الدين وعلّمه التاويل ).

ثم قال : يا معاوية إنّ الله جلّ شأنه وتقدست أسماؤه ، خص نبيّه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال ، وبذلوا النفوس دونه في كلّ حال ، ووصفهم الله في كتابه فقال :( رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (٣) ، قاموا بمعالم الدين ،

____________________

(١) الصنو : هو النخلتان أو الثلاث من أصل واحد ، فكل واحدة منهن صنو. وفي الحديث ( عم الرجل صنو أبيه ) ( الصحاح ).

(٢) المشاعر في الحج المواقف ، ومنها المشعر الحرام بالمزدلفة.

(٣) الفتح / ٢٩.

٣٩٣

وناصحوا الاجتهاد للمسلمين ، حتى تهذّبت طرقه ، وقويت أسبابه ، وظهرت آلآء الله واستقرّ دينه ووضحت أعلامه ، وأذلّ الله بهم الشرك ، وأزال رؤوسه ، ومحا دعائمه ، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية ، والأرواح الطاهرة العالية ، فقد كانوا في الحياة لله أولياء ، وكانوا بعد الموت أحياء ، وكانوا لعباد الله نصحاء ، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها ، وخرجوا من الدنيا وهم بعدُ فيها.

فقطع عليه معاوية الكلام ، وقال : أيهاً يا بن عباس حديثاً في غير هذا ).

تنبيه : ذكر هذا الحديث بطوله أبو الحسن المسعودي في مروجه(١) ، ولكن المحب الطبري ذكر في ( ذخائر العقبى )(٢) ما قاله حبر الأمة في صفة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقط ، ولم يذكر ما قاله في الخلفاء ولا ما قاله في أبيه العباس إلى آخر الحديث ، ويبدو أن تزّيداً طرأ على الخبر من قِبل رواة السوء الضالعين في ركاب الأمويين ، فذكروا أسماء الشيوخ الثلاثة!

ولو كان الخبر صحيحاً بجميع فصوله ، لأورده المحبّ الطبري في ذخائره ، وكان هو أولى بذكره من المسعودي لو صح الخبر. على أنّ ثمّة ما يشير إلى سطو غير مغتفر قد جرى على فصول من كلام ابن عباس في

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي ٢ / ٨٢.

(٢) ذخائر العقبى / ٧٨.

٣٩٤

حق الإمام عليه السلام فوزع منها على الشيوخ ، فقارن ما يأتي في رواية ابن جرير الطبري الإمامي مع ما مرّ في رواية المسعودي.

وقد ذكر أبو الحسن الفتوني في ( ضياء العالمين )(١) ما يتعلق بأمير المؤمنين عليه السلام نقلاً عن أبي بكر الجعابي ، وأبي علي الحداد ، وابن السري ، كلٌ بإسناده عن ربعي بن خراش ، وكذلك روى ابن معصوم المدني في ( الدرجات الرفيعة )(٢) نقلاً عن ( نهاية الطلب ) للحنبلي ، وفي ( الدر النظيم ) أيضاً ، ولم يرووا سوى وصف الإمام عليه السلام.

على أنّ للحديث صورة أخرى ذكرها محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي في كتابه ( المسترشد في الإمامة ) ، فكشف كذب ما مرّ في وصف الشيوخ وإليك لفظه ، قال محمد بن جرير :

( وقد وصفه ربّاني هذه الأمّة عبد الله بن عباس ، حيث سأله عنه معاوية ، فقال : كان والله للقرآن تالياً ، وللشر قالياً ، وعن المين نائياً ، وعن المنكرات ناهياً ، وعن الفحشاء ساهياً ، وبدينه عارفاً ، ومن الله خائفاً ، وعن الموبقات صارفاً ، وبالليل قائماً ، وبالنهار صائماً ، ومن دنياه سالماً ، وعلى عدل البرية عازماً ، وبالمعروف آمراً ، وعن المهلكات زاجراً ، وبنور الله ناظراً ، ولشهوته قاهراً ، فاق العالمين ورعاً وكفافاً ، وقناعة وعفافاً ، وسادهم زهداً وأمانة وبراً وحياطة.

كان والله حليف الإسلام ومأوى الأيتام ، ومحل الإيمان ، ومنتهى

____________________

(١) ضياء العالمين ج ٢ ( مخطوط ).

(٢) الدرجات الرفيعة / ١٢٣.

٣٩٥

الإحسان ، وملاذ الضعفاء ، ومعقل الحنفاء ، كان للحق حصناً حصيناً ، وللناس عزيزاً قوياً.

كان قايماً بحق الله ، صابراً محتسباً في عز الدين في الديار ، وعبد الله في الأقطار وفي الضواحي والبقاع والقلاع والرباع ، وقوراً في الرخاء ، شكوراً في اللأواء.

كان والله هجّاداً بالأسحار ، كثير الدموع عند ذكر النار ، دايم الفكرة بالليل والنهار ، نهّاضاً إلى كلّ مكرمة ، سعّاءاً إلى كلّ منجية ، فرّاراً من كلّ موبقة.

كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحل الحجى ، وبحر الندى ، وطود النهى ، وكنف العلم للورى ، ونوراً أسفر في ظلم الدجى.

كان داعياً إلى المحجة العظمى ، ومستمسكاً بالعروة الوثقى ، وعالماً بما في الصحف الأولى ، وعلاّماً ( عاملاً ـ ظ ـ ) بطاعة الملك الأعلى ، وعارفاً بالتأويل والذكرى ، متعلقاً بأسباب الهدى ، وحايداً عن طرقات الردى ، وسامياً إلى المجد والعلى ، وقايما بالدين والتقوى ، وتاركاً للجور والردى ، وخير من آمن وأتقى ، وسيد من تقمّص وارتدى ، وأبرّ من انتعل وسعى ، وأصدق من تسربل واكتسى ، وأكرم من تنفّس وقرأ ، وأفضل من صام وصلى ، وأفخر من ضحك وبكى ، وأخطب من مشى على الثرى ، وأفصح من نطق في الورى بعد النبيّ المصطفى ، صلّى القبلتين ، فهل يساويه أحد ، وزوج خير النسوان ، فهل يوازيه أحدٌ ، وأبو السبطين ، فهل

٣٩٦

يدانيه مخلوق.

كان والله للأسد قتّالاً ، وفي الحرب شغّالاً ، وفي الهزاهز جبالاً ( ختالا ـ ظ ـ ) ، فعلى من لعنه وانتقصه وغصبه حقه لعنة الله والملائكة إلى يوم التناد )(١) .

( المحاورة الثامنة عشرة )

( وأنتم تصابون في بصائركم )

قال ابن قتيبة في ( المعارف ) :

( ثلاثة مكافيف في نسق : عبد الله بن عباس ، وأبوه العباس بن عبد المطلب ، وأبوه عبد المطلب بن هاشم.

قال : ولذلك قال معاوية لابن عباس : أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم.

فقال ابن عباس : وأنتم يابني أمية تصابون في بصائركم )(٢) .

وهذه المُلحة ذكرها أيضاً جماعة من الأدباء في كتبهم ، أذكر منهم :

١ ـ ابن قتيبة أيضاً في كتابه ( عيون الأخبار )(٣) .

٢ ـ ابن رستة في ( الأعلاق النفيسة )(٤) .

____________________

(١) المسترشد في الإمامة / ٦٢ نسخة مخطوطة بمكتبة المرحوم السيد الوالد قد سره وبخطه.

(٢) المعارف لابن قتيبة / ٢٨٧ ط ليدن ، ٥٨٩ ط بمصر بتحقيق عكاشة.

(٣) عيون الأخبار ٣ / ٢١٠ ط دار بمصر.

(٤) الأعلاق النفيسة / ٢٢٧ ط ليدن ١٨٩١.

٣٩٧

٣ ـ أبو هلال العسكري في ( كتاب الصناعتين )(١) .

٤ ـ القاضي التنوخي في ( المستجاد من فعلات الأجواد )(٢) ، وفيه : ( أنّه قال له ذلك بعد ما عمي ).

٥ ـ الخطيب التبريزي في ( شرح ديوان الحماسة )(٣) .

٦ ـ الزمخشري في ( ربيع الأبرار )(٤) .

وممّا يلحق ممّا يستظرف ذكره من المزح الذي دار بينهما :

( قال معاوية : ما أبين الشبق في رجالكم؟

فقال ابن عباس : هو في نسائكم أبين )(٥) .

( المحاورة التاسعة عشرة )

( كلّ ما قلت لنا يا معاوية من شر بين دفتيك )

قال اليعقوبي في تاريخه :

( وحج معاوية سنة ( ٤٤ هـ ) ، وقدم معه من الشام بمنبر فوضعه عند البيت الحرام ، فكان أوّل من وضع المنبر في المسجد الحرام.

ولمّا صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم وكلّموه في

____________________

(١) كتاب الصناعتين / ٣١٣ ط ٢ محمد علي صبيح بمصر.

(٢) المستجاد في فعلات الأجواد / ٢٤٧.

(٣) شرح ديوان الحماسة ٢ / ٢٦٣ مطبعة حجازي بالقاهرة.

(٤) ربيع الأبرار ٢ / ٢٥٧.

(٥) عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ / ٢١٠.

٣٩٨

أمورهم ، فقال : أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم وقد قتلتم عثمان حتى تقولوا ما تقولون ، فو الله لأنتم أحلّ دماً من كذا وكذا ، وأعظم القول.

فقال له ابن عباس : كلّ ما قلت لنا يا معاوية من شرّ بين دفتيك ، وأنت والله أولى بذلك منّا ، أنت قتلتَ عثمان ، ثم قمتَ تغمض على الناس أنّك تطلب بدمه.

فانكسر معاوية.

فقال ابن عباس : والله ما رأيتك صدقتُ إلاّ فزعتَ وانكسرتَ.

قال : فضحك معاوية ، وقال : والله ما أحبّ أنّكم لم تكونوا كلمتموني )(١) .

أقول : يبدو ممّا ذكر المقدسي في ( البدء والتاريخ ) ، أنّ الجماعة الذين كلّموا معاوية هم الحسن والحسين وابن عباس.

فقد قال : ( فلمّا حج معاوية جاءه الحسن والحسين وابن عباس رضي الله عنه ) وسألوه أن يفي لهم بما ضمن.

فقال : أما ترضون يا بني هاشم أن نوفّر عليكم دماءكم وأنتم قتلتم عثمان ، ولم يعطهم ممّا في الصحيفة شيئاً )(٢) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٨ط الغري.

(٢) البدء والتاريخ ٦ / ٥.

٣٩٩

( المحاورة العشرون )

( بدايات قطيعة وهجران )

لقد بدأ تنمر معاوية ينمو ويتزايد ، كما توالت مواقف ابن عباس المغاضبة تتصاعد في حجتّها ، وتبدي للناس سيئات معاوية ، وبلغت الذروة حين توترت العلاقات بين ابن عباس ومعاوية من بعد إستشهاد الإمام الحسن عليه السلام وإظهار معاوية الشماتة بموته ، وقد مرّ في الجزء الخامس من الحلقة الأولى حول هذا الموضوع ما يُحسن مراجعته.

وإنّا في المقام نستعيد ما ذكره الزبير بن بكار ( ت ٢٥٦ هـ ) في ( الموفقيات ) فيما حكاه عنه الأربلي ( ت ٦٩٢ هـ ) في ( كشف الغمة ) ، قال :

( وحدّث الزبير ـ بن بكار ـ عن رجاله ، قال : قدم ابن عباس على معاوية ، وكان يلبس أدنى ثيابه ويخفض من شأنه ، لمعرفته أنّ معاوية كان يكره إظهاره لشأنه ، وجاء الخبر إلى معاوية بموت الحسن بن عليّ عليه السلام فسجد شكراً لله تعالى ، وبان السرور في وجهه ـ في حديث طويل ذكره الزبير وذكرت منه موضع الحاجة إليه ـ وأذن للناس وأذن لابن عباس بعدهم ، فدخل فاستدناه وكان قد عرف بسجدته.

فقال له : أتدري ما حدث بأهلك؟

قال : لا.

قال : فإنّ أبا محمّد توفي رحمه الله فعظّم الله لك الأجر.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496