موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس0%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

موسوعة عبد الله بن عبّاس

مؤلف: السيد حسن الموسوي الخرسان
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 87830
تحميل: 4043


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87830 / تحميل: 4043
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء 9

مؤلف:
العربية

فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، عند الله نحتسب المصيبة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعند الله نحتسب مصيبتنا بالحسن بن عليّ رحمه الله ، إنّه قد بلغتني سجدتك ، فلا أظن ذلك إلاّ لوفاته ، والله لا يسدّ جسدُه حفرتك ، ولا يزيد انقضاءُ أجله في عمرك ، ولطال ما رُزينا بأعظم من الحسن ثمّ جبر الله.

قال معاوية : كم كان أتى له من العمر؟

قال : شأنه أعظم من أن يُجهل مولده.

قال : أحسبه ترك صبية صغاراً.

قال : كلّنا كان صغيراً فكبر.

قال : أصبحت سيّد أهلك.

قال : أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن عليّ فلا. ثمّ قام وعينه تدمع.

فقال معاوية : لله درّه لا والله ما هيّجناه قط إلاّ وجدناه سيّداً.

ودخل على معاوية بعد انقضاء العزاء ، فقال : يا أبا العباس أما تدري ما حدث في أهلك؟

قال : لا.

قال : هلك أسامة بن زيد فعظّم الله لك الأجر.

قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، رحم الله أسامة ، وخرج.

وأتاه بعد أيام وقد عزم على محاقته(1) فصلّى في الجامع يوم

____________________

(1) المحاقّة : المخاصمة واثبات حقه وانه أولى به.

٤٠١

الجمعة ، واجتمع الناس عليه يسألونه عن الحلال والحرام والفقه والتفسير وأحوال الإسلام والجاهلية وهو يجيب ، وافتقد معاوية الناس فقيل : إنّهم مشغولون بابن عباس ، ولو شاء أن يضربوا معه بمائة ألف سيف قبل الليل لفعل.

فقال : نحن أظلم منه حبسناه عن أهله ، ومنعناه حاجته ، ونعينا إليه أحبّته ، انطلقوا فادعوه ، فأتاه الحاجب فدعاه.

فقال : إنّا بني عبد مناف إذا حضرت الصلاة لم نقم حتى نصلي ، أصلي إن شاء الله وآتيه. فرجع ، وصلّى العصر وأتاه.

فقال : ما حاجتك؟

فما سأله حاجة إلاّ قضاها.

وقال : أقسمت عليك لما دخلتَ بيت المال فأخذت حاجتك ـ وإنّما أراد أن يعرف أهل الشام ميل ابن عباس إلى الدنيا فعرف ما يريده ـ.

فقال : إنّ ذلك ليس لي ولا لك ، فإن أذنت أن أعطي كلّ ذي حقّ حقّه فعلت.

قال : أقسمت عليك إلاّ دخلت فأخذت حاجتك.

فدخل فأخذ برنس(1) خزّ أحمر يقال أنّه كان لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ثمّ خرج ، فقال : يا أمير المؤمنين بقيت لي حاجة؟

____________________

(1) البرنس ثوب يغطي الرأس والبدن كما هو لباس المغاربة في عصرنا.

٤٠٢

فقال : ما هي؟

قال : عليّ بن أبي طالب قد عرفت فضله وسابقته وقرابته ، وقد كفاكه الموت ، أحبّ أن لا يشتم على منابركم.

قال : هيهات يا بن عباس هذا أمر دَين أليس أليس؟ وفعل وفعل؟ فعدّد ما بينه وبين عليّ كرّم الله وجهه.

فقال ابن عباس : أولى لك يا معاوية والموعد القيامة ، و( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (1) .

وتوجه إلى المدينة اهـ )(2) .

وقال لمعاوية : أيُشتم عليّ على منبر الإٍسلام وهو بناه بسيفه(3) .

وقد روى حُميد الشهيد في الحدائق الوردية المحاورة بطولها مع تفاوت في بعض ألفاظها وختمها بقوله : ( فقال له ابن عباس : الله حسبك فيما قلت ، ثم خرج فلم يلتقيا )(4) .

ولمّا كانت رواية حُميد الشهيد فيها بعض الإضافات خلت منها رواية الأربلي ، حيث قال كما مر : ( وحدث الزبير عن رجاله في حديث طويل ذكره الزبير ، وذكرت منه موضع الحاجة إليه ).

فرأيت من الخير ذكر رواية حُميد الشهيد ، لأنّها تسلّط الضوء على

____________________

(1) الأنعام / 67.

(2) كشف الغمة / 127 ط حجرية سنة 1294 و 1 / 403 منشورات الشريف الرضي.

(3) نثر الدر للآبي 1 / 288 ط دار الكتب العلمية بيروت.

(4) الحدائق الوردية 1 / 186.

٤٠٣

انفصام العلاقات لحدْ القطيعة ، فلنقرأ ما رواه حُميد الشهيد ، قال :

( ولمّا نُعِيَ الحسن عليه السلام إلى معاوية ، وعبد الله بن العباس بباب معاوية ، فحُجب ابن عباس حتى أخذ الناس مجالسهم ، ثم أذن له ، فقال : أعظم ألله أجرك يا بن عباس.

قال : فيمن؟

قال : في الحسن بن عليّ.

قال : إذاً لا يزيد موته في عمرك ، ولا يدخل عمله عليك في قبرك ، فقد فقدنا من هو أعظم منهُ قدراًَ وأجل منه أمراً ، فأعقب الله عقبى صالحةٌ.

فخرج ابن عباس وهو يقول :

أصبح اليوم ابن هند شامتّا

ظاهر النخوة أن مات الحسنْ

ولقد كان عليه عمره

مثل رضوى وثبير وحضَنْ

فارتع اليوم ابن هند آمنّا

إنما يقمص(1) بالعير السمَنْ

واتق الله وأظهر توبةً

إنّما كان كشيءٍ لم يكنْ

وروينا عن الزهري من طريق السيد الإمام المرشد بالله يحيى ابن الإمام الموفق بالله أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل الحسني الجرجاني عليهم السلام ، رواه بإسنادهِ مع ما تقدم آنفّا ، قال :

قدم ابن عباس على معاوية ، فمكث أيامّا لا يؤذن له ، ثم أذن له ذات

____________________

(1) القمص : هو أن يرفع رجليه وينكس رأسه.

٤٠٤

يوم فدخل فإذا معاوية مستبشراً ومن يطيف به.

فقال : يا بن عباس أتدري ما حدث في أهل بيتك؟

فقال : والله لا أدري ما حدث أهل بيتي غير أنّي أراك مستبشراً ومن يطيف بك.

قال : مات الحسن بن عليّ.

قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، يكررها مراراً.

ثم قال : أما والله يا معاوية لا يزيد موته في عمرك ، ولا تسد حفرتُه حفرتك ، ولقد أصبنا بمن كان أعظم منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكفانا الله. ثم خرج من عنده.

قال : فمكث أيامّاً لا يصل إليه ، ثم وصل إليه ذات يومٍ فقال معاوية : يا ابن عباس أتدري ما حدث في أهل بيتك؟

قال : وما حدث في أهل بيتي؟

قال : مات أسامة بن زيد.

قال ابن عباس : إنا لله وإنا إليه راجعون ، رحم الله أسامة بن زيد. ثم خرج من عنده.

وقد كان ابن عباس تقشّف وكره أن يتزيَّا بزيَّه ، فيشهّره أهل الشام فيضرُّ به ذلك عند معاوية ، فلمّا رجع إلى منزله ، قال : يا غلام هات ثيابي فو الله لئن جلست أنا لهذا المنافق ينعي إليَّ أهل بيتي(1) واحداً واحداً إنّي إذاً أحمق.

____________________

(1) في ( أ ) : أصحابي.

٤٠٥

قال : فقال عليَّ بالمقطّعات فلبسها. قال : ثم قال : عليَّ بعمامة له أسمها : تجوبية(1) فلبسها. وكان من أجمل الناس ، أمدَّهم جسمّاً وأحسنهم شَعَّراً ، وأحسنهم وجهّاً.

قال : ثم أتى مسجد دمشق فدخل ، فلمّا نظر إليه أهل الشام ، قالوا : من هذا؟ ما يشبه هذا إلاّ الملائكة ، ما رأينا مثل هذا! قالوا : هذا ابن عباس ، هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجلس إلى سارية ، وتقوّض إليه الخلق ، فما سُئل عن شيء إلاّ أجابهم به من تفسير من كتاب الله ، ولا حلال ولا حرام ، ولا وقعة كانت في جاهلية ولا إسلام ، ولا شعر كان في جاهلية ولا إسلام إلاّ أجابهم به.

قال : ومعاوية لا يشعر بشيءٍ من هذا ، فانتبه ، فقال للآذن : أئذن لمن بالباب.

قال : أو بالباب أحد؟!

قال : فأين الناس؟

قال : ذهبوا إلى ابن عباس.

قال : هاه قد فعلوها! نحن والله أظلم منه ، وأقطع للرحم ، اذهب يا غلام ، وقل له : أجب أمير المؤمنين. فأتاه الرسول.

قال : فقال ابن عباس : إنّا بنو عبد مناف لا نقوم عن جليسنا حتى يكون هو الذي يقوم ، لكن قد تقاربت الصلاة فإذا صلينا أتينا أمير المؤمنين.

قال : فأتاه الرسول فأخبره. فقال : صدق ، دعه حتى يصلي.

____________________

(1) نسبة إلى تجوب وهي : قبيلة من حمير. القاموس / 90.

٤٠٦

قال : فلمَّا صلى جآء ابن عباس حتى دخل عليه ، فقال له معاوية : ما حاجتك يا ابن عباس؟

قال : دينّ عليَّ.

قال : قد أداه الله عنك.

قال : وما أستعين به على الزمان.

قال : وذلك لك. أبقيت لك حاجة؟

قال : لا.

قال : أدخل بيت المال ، فاحمل ما بدا لك.

قال : إنّا بنو عبد المطلب لا نأخذ من مال المسلمين إلاّ ما أحتجنا إليه.

قال : عزمتُ عليك إلاّ ما فعلتَ(1) .

قال : فدخل ابن عباس بيت المال ، فتلفّت يمينّا وشمالاً فرأى برنساً من خزَّ أدكن فتدرّعه ثم خرج به.

قال : قد أخذت حاجتك؟

قال : نعم.

قال : الحق ببلادك.

قال : يا أمير المؤمنين إنّك حيث نعيت إليَّ الحسن بن عليّ آليت على نفسي أن لا أسكن المدينة بعده أبداً ، ولا أجد مكانّاً أجلّ من جوار أمير المؤمنين.

____________________

(1) فليقرأ هذا الذاهبون في التيه وراء تهمة ابن عباس ببيت مال البصرة ، ولو كان لها ظل من الحقيقة لردّ بها عليه معاوية.

٤٠٧

قال : هيهات ليس إلى ذلك سبيل.

قال : فبقيت لي حاجة هي أهم الحوائج إلي ، وهي لك دوني.

قال : فأي حاجة لك هي لنا دونك؟ إنا نخاف أن نسارع إليها.

قال : عليّ بن أبي طالب قد كفاك الله مؤنته ، ومضى لسبيله ، وقد عرفت منزلته وقرابته ، فكفّ عن شتمه على المنابر.

قال : هيهات ليس إلى ذلك سبيل يا بن عباس ، هذا موضع دين ، إنّه غشّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسمَّ أبا بكر ، وذمّ عمر ، وقتل عثمان ، فليس إلى الكف عن سبيل.

فقال له ابن عباس : الله حسبك فيما قلت. ثم خرج فلم يلتقيا(1) ، أي لم يلتقيا بالشام ، وإلاّ فقد التقيا بالحرمين كما سيأتي.

وفي إحدى المرات التي وفد عليه بالشام صادف وفود جابر بن عبد الله ، استأذن على معاوية فلم يؤذن له أياماً ، ثم دخل فمثل بين يديه ، فقال : يا معاوية أشهد أنّي سمعت المبارك صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من أمير احتجب عن الفقراء إلاّ احتجب الله عنه يوم يفتقر إليه.

فغضب معاوية ، وقال : يا جابر ألست ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : ( يا معشر الأنصار سيصيبكم بعدي أثََرةً فاصبروا حتى تلقوني على

____________________

(1) الحدائق الوردية في مناقب آئمة الزيدية ، لحُمّيد الشهيد ( ت 652 هـ ) 1 / 184 ـ 186 ، تحقيق د المرتضى بن زيد المحظوري الحسني مطبوعات مكتبة مركز بدر العلمي والثقافي صنعاء ط الأولى 1423 هـ.

٤٠٨

الحوض؟ ).

قال : قد سمعت الطيب المبارك صلى الله عليه وآله وسلم يقول.

قال معاوية : فألاّ صبرت؟

قال : إذن والله أصبر كما صبرتَ حين ضربتُ أنفّك وأنف أبيك حتى دخلتما في الإسلام كارهيَن. ثم أنصرف وهو يقول :

إنّي لأختار البلاء على الغنى

وأجزأ بالماء القراح عن المخض

وأدّرع الإملاق صبراً وقد أرى

مكان الغنى كي لا أهينُ له عرضي

فناشده معاوية أن يأخذ صلته ، وبعث في أثره يزيد بن معاوية ، فقال : والله لا يجمعني وإياه بلد أبداً.

فلمّا خرج لقي عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن سابط ، فقال له ابن عباس : قد بلغني ما كان من ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، ورأس الأحزاب ، هلّم أشاطرك مالي كما قاسمتني مالك ، ولك نصف داري كما أسكنتني دارك.

فقال جابر : ثّمر الله مالك ، وبارك لك في دارك ، فقد أثبت ما أنت أهله ، وقال معاوية ما كان يشبهه )(1) .

( أوّل ذلّ دخل العرب موت الحسن بن عليّ عليه السلام )

كلمة قالها ابن عباس رضي الله عنه وهو يستشعر المرارة بفقده ، والإحباط

____________________

(1) التذكرة الحمدونية 4 / 301 ـ 302 ط صادر.

٤٠٩

لجهوده مع معاوية الشانئ الشامت ، إذ ازداد البلاء كما قال المدائني وهو يتحدث عن جرائم معاوية ممّا قد مرّ ذكره في الجزء الخامس من الحلقة الأولى ، فراجع ، وستجد قول المدائني : ( فلم يزل كذلك حتى مات الحسن ابن عليّ عليه السلام فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض )(1) .

ماذا كان موقف ابن عباس من السلطة بعد موت الحسن عليه السلام؟

والآن فلننظر إلى حال ابن عباس من بعد موت الإمام الحسن عليه السلام ، وهو الذي قد استشعر دخول الذلّ على العرب بموته ، فماذا لحقه من هوان وهو من سادات العرب؟ وماذا كان موقف معاوية منه في تلك الفترة؟

روى ابن قتيبة في ( الإمامة والسياسة ) : ( لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله إلاّ يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام وكتب ببيعته إلى الآفاق ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد ويأمره بجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة ثمّ يبايعوا ليزيد.

فلمّا قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش وكتب إلى معاوية في ذلك.

قال : فعزله وولى سعيد بن العاص. وكتب إليه في ذلك وأن يكتب

____________________

(1) شرح النهج للمعتزلي 3 / 16 ط مصر الأولى.

٤١٠

إليه بمن يسارع ومن لم يسارع. فلمّا أتاه الكتاب دعا الناس إلى البيعة وأظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة ، وسطا بكلّ من أبطأ عن ذلك.

قال : فأبطأ الناس عنها إلاّ اليسير ، لا سيما بني هاشم فإنّه لم يجبه منهم أحد

فكتب سعيد إلى معاوية يعلمه بتباطوء الناس عن البيعة لا سيما أهل البيت من بني هاشم فإنّه لم يجبني منهم أحد ، وبلغني عنهم ما أكره

فكتب معاوية إلى عبد الله بن عباس وإلى عبد الله بن الزبير وإلى عبد الله بن جعفر وإلى الحسين بن عليّ رضي الله عنهم كتباً وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث بجواباتها

وكتب إلى ابن عباس : أمّا بعد فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد بن أمير المؤمنين ، وإنّي لو قتلتك بعثمان لكان ذلك إليَّ ، لأنّك ممّن ألّب عليه وأجلب ، وما معك من أمان فتطمئن به ، ولا عهد فتسكن إليه ، فإذا أتاك كتابي هذا فأخرج إلى المسجد ، والعن قتلة عثمان وبايع عاملي ، فقد أعذر من أنذر ، وأنت بنفسك أبصر والسلام )(1) .

قال ابن قتيبة في ( الإمامة والسياسة ) : ( فكان أوّل من أجابه عبد الله بن عباس ، فكتب إليه :

أمّا بعد فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت ، وأن ليس معي منك أمان ، وأنّه والله ما منك يطلب الأمان يا معاوية ، وإنّما يطلب الأمان من

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 145 ـ 147 ط سنة 1328.

٤١١

الله ربّ العالمين ، وأمّا قولك في قتلي ، فوالله لو فعلتَ للقيتَ الله ومحمّداً صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم خصمك ، فما أخاله أفلح ولا أنجح من كان رسول الله خصمه ، وأمّا ما ذكرت من أنّي ممّن ألّب على عثمان وأجلب ، فذلك أمر غبتَ عنه ، ولو حضرتَه ما نسبتَ إليَّ شيئاً من التأليب عليه ، وأيم الله ما أرى أحداً غضب لعثمان غضبي ، ولا أعظم أحد قتله إعظامي ، ولو شهدتُه لنصرتُه أو أموت دونه ، ولقد قلت وتمنيت يوم قتل عثمان ليت الذي قتل عثمان لقيني فقتلني معه ولا أبقى بعده ، وأمّا قولك لي العن قتلة عثمان ، فلعثمان ولد وخاصة وقرابة هم أحق بلعنهم مني ، فإن شاؤا أن يلعنوا فليلعنوا ، وإن شاؤا أن يمسكوا فليمسكوا والسلام )(1) .

والذي يلفت النظر أنّ معاوية ما زالت حجته المزعومة لإستباحة دماء بني هاشم هي قتل عثمان ، وكأنّهم هم الذين قتلوه ، مع أنّهم أبعد الناس عن تلك التهمة وهم برءاء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، لكن معاوية لا يمنعه من الافتراء مانع ، فليس له من الدين وازع ، وقد مرّ أن كتب لابن عباس يوم كان في البصرة كتاباً ضمّنه نفس تلك التهمة ، وردّ عليه ابن عباس بجواب مرّ ذكره وقد رد التهمة عليه.

أمّا جوابه في هذه المرّة فلا يخلو من ملاحظة تجعلنا في شك ممّا تزيّد فيه الرواة! في غضبه لعثمان غضباً لم يغضبه لأحد إلى آخر ما فيه من

____________________

(1) نفس المصدر 1 / 148.

٤١٢

دسّ. تفضحه مواقفه في الجمل وصفين ضدّ المطالبين بدم عثمان فيما يزعمون ، ثمّ محاوراته مع معاوية وعمرو بن العاص وقد مرّت بما فيها في جرأة وشجاعة ، فراجع.

معاوية في المدينة

لمّا فشل ولاة معاوية ـ مروان وسعيد بن العاص ـ في حمل الناس بالمدينة على بيعة يزيد ، رغم الترهيب والترغيب ، والذي أقلق معاوية إمتناع النفر الذين ينظر الناس إليهم على أنّهم أهل الحلّ والعقد ، وهم أولى بالبيعة لهم من يزيد ، وفي مقدمتهم بنو هاشم وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام ، ثمّ العبادلة وفي مقدمتهم عبد الله بن عباس.

ولمّا وافته جوابات الكتب تحمل النذير بخلاف شرّ مستطير ، قرّر أن يذهب بنفسه إلى المدينة ، ويأخذ البيعة لابنه قهراً وقسراً ، ويبدو من حديث ابن قتيبة وابن أعثم أنّه هيّأ الأجواء لاستقباله عن طريق واليه ورجاله ، قال : ( فقدم معاوية المدينة حاجاً ، فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه ما بين راكب وماشي

قال : حتى إذا كان بالجرف ـ موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام ـ لقيه الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس.

فقال معاوية : مرحباً بابن بنت رسول الله وابن صنو نبيّه ، ثمّ انحرف إلى الناس ، فقال : هذان شيخا بني عبد مناف ، وأقبل عليهما بوجهه وحديثه ، فرحّب وقرّب ، فجعل يواجه هذا مرّة ويضاحك هذا أخرى ، حتى

٤١٣

ورد المدينة ، فلمّا خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل. فانصرفا عنه ، فمال الحسين إلى منزله ومضى ابن عباس إلى المسجد فدخله )(1) . هذا ما رواه ابن قتيبة.

إلاّ أنّ ابن الأثير ، قال : ( سار ـ معاوية ـ إلى الحجاز في ألف فارس ، فلمّا دنا من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوّل الناس ، فلمّا نظر إليه ، قال : لا مرحباً ولا أهلاً ، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه.

قال : مهلاً فإنّي والله لست بأهل لهذه المقالة.

قال : بلى ولشرّ منها.

ولقيه ابن الزبير ، فقال : لا مرحباً ولا أهلاً ، خبّ ضبّ تلعة ، يدخل رأسه ويضرب بذنبه ، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدقّ ظهره ، نحيّاه عنّي ، فضُرب وجه راحلته.

ثمّ لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له معاوية : لا أهلاً ولا مرحباً ، شيخ قد خرف وذهب عقله ، ثمّ أمر فضرب وجه راحلته.

ثمّ فعل بابن عمر نحو ذلك ، فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة ، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبّون ، فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها ).

ثمّ ذكر خطبة معاوية يتهدد الممتنع عن البيعة وخصوصاً أولئك النفر بالقتل بما فيهم الحسين ، وذكر دخوله على عائشة وجرى ذكر إمتناع

____________________

(1) نفس المصدر.

٤١٤

أولئك النفر وتهديده بقتلهم ، فقالت له : ( فارفق بهم فإنّهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله )(1) .

وهذا الذي ذكره ابن الأثير لعلّه أشبه بسيرة معاوية الرعناء في تلك الفترة ، وقد ذكر ابن كثير أيضاً في تاريخه في حوادث سنة ( 56 هـ ) أخذ البيعة ليزيد ، فقال : ( فبايع له الناس في الأقاليم إلاّ عبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، والحسين بن عليّ ، وعبد الله بن الزبير ، وابن عباس ، فركب معاوية إلى مكة معتمراً ، فلمّا اجتاز بالمدينة ـ مرجعه من مكة ـ استدعى كلّ واحد من هؤلاء الخمسة فأوعده وتهدده بانفراده )(2) .

وأحسب أنّ ما ذكره ابن الأثير وابن كثير أخذاه من الطبري بصورة مخففة ، ففي تاريخه ذكر إمتناع النفر الخمسة ، ثمّ ذكر كلام معاوية مع كلّ واحد من الأربعة على انفراد ، ولم يذكر ابن عباس(3) ، وهذا ممّا يلفت النظر! لماذا لم يذكره؟ وهل ساءت العلاقة لحد القطيعة؟ أم أنّه رضي بالبيعة فلم يرسل عليه فيتهدده؟ أم أنّ معاوية أراد أن لا يقطع الشعرة بحدّ الشفرة؟ لابدّ لنا من البحث في ذلك!

( المحاورة الحادية والعشرون )

( لعمر الله إنّها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر )

____________________

(1) الكامل في التاريخ 3 / 216 ـ 217 ط بولاق.

(2) البداية والنهاية 8 / 79.

(3) أنظر تاريخ الطبري 5 / 303 ـ 304 ط محققة.

٤١٥

ذكر ابن قتيبة في ( الإمامة والسياسة ) كلام معاوية مع النفر مهدداً ومتوعداً بالقتل كما مرّ ، ثمّ قال : ( فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش فوضع له وسوّيت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله ، ثمّ خرج وعليه حلّة يمانية وعمامة دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه ، وقد تغلّف وتعطّر فقعد على سريره ، وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب ، ثمّ أرسل إلى الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس ، فسبق ابن عباس ، فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليّاً.

ثمّ قال : يا بن عباس لقد وفّر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه السلام.

فقال ابن عباس : نعم أصلح الله أمير المؤمنين وحظنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ ، أوفر.

فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجادلة ، ويعدل إلى ذكر الأعمال على اختلاف الغرائز والطباع. حتى أقبل الحسين بن عليّ ، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه ، فدخل الحسين وسلّم ، فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة ، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم ، فأخبره ثمّ سكت.

قال : ثمّ ابتدأ معاوية ، فقال : فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم ، وأشهد

٤١٦

أن لا إله إلاّ الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علواً كبيراً ، وأنّ محمداً عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، فأدى عن الله وصدع بأمره ، وصبر على الأذى في جنبه ، حتى أوضح دين الله وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بُذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له ، زهادة واختياراً لله وأنفة واقتداراً على الصبر ، بغياً لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرسول صلى اله عليه وآله وسلم ، ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك ، وبين ذلك خوض طال ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعاً ، وما أعلم منه فوق ما تعلمان. وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل ولمّ الصدع بولاية يزيد بما أيقظ العين وأحمد الفعل ، هذا معناي في يزيد ، وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المرؤة ، وقد أصبت من ذلك في يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن ، والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب ، وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ، ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنة مذكورة ، فقادهم الرجل بأمره ، وجمع بهم صلاتهم وحفظ عليهم فيأهم ، وقال ولم يقل معه ، وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة ، فمهلاً بني عبد المطلب فإنّا وأنتم شعبا نفع

٤١٧

وجد ، وما زلت أرجو الإنصاف في إجتماعكما ، فما يقول القائل إلاّ بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال : فتيسّر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة ، فأشار إليه الحسين وقال : على رسلك ، فأنا المراد ونصيبي في التهمة أوفر ، فأمسك ابن عباس.

فقام الحسين فحمد الله وصلّى على الرسول ثمّ قال : ( أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبّستَ به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة ، والتنكّب عن إستبلاغ البيعة ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُرج ، ولقد فضّلتَ حتى أفرطتَ ، واستأثرتَ حتى أجحفتَ ، ومنعتَ حتى بخلتَ ، وجرت حتى جاوزتَ ، ما بذلت لذي حقّ من أتم حقّه بنصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل ، وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من إكتماله وسياسته لأمّة محمّد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السّبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر

٤١٨

ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدم باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم ، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص ، ورأيتك عرّضت بنا هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثنا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولادة ، وجئتَ لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النَصَف ، فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم كان ويكون ، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم أمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ) ، فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً ، وحولك من يؤمن في صحبته ، ويعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه وتشقى بها في آخرتك ، وإنّ هذا لهو الخسران المبين وأستغفر الله لي ولكم ).

قال : نظر معاوية إلى ابن عباس ، فقال : ما هذا يا بن عباس ولما عندك أدهى وأمرّ.

٤١٩

فقال ابن عباس : لعمر الله إنّها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر ، فاله عمّا تريد فإن لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.

فقال معاوية : أعود الحلم التحلم ، وخيره التحلم عن الأهل انصرفا في حفظ الله )(1) .

( المحاورة الثانية والعشرون )

( وعيد وتهديد لمن لم يبايع يزيد )

روى ابن أعثم الكوفي ( ت 314 هـ ) في ( الفتوح ) ، قال :

( وخرج معاوية من منزله إلى المسجد الأعظم فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر ابنه يزيد في خطبته ، وقال : من أحق بالخلافة من ابني يزيد في فضله وهديه ومذهبه وموضعه من قريش؟ والله أنّي لأرى قوماً يعيبونه ، وما أظنهم بمقلعين ولا منتهين حتى يصيبهم مني بوائق تجتث أصولهم ، فليربع أولئك على ضلعهم من قبل أن تصيبهم منّي فاقرة لا يقومون لها ، فقد أنذرت إن نفع الإنذار ، وبينت إن نفع البيان ، ثمّ جعل يتمثل بهذه الأبيات ويقول :

قد كنتُ حذّرتك آل المصطلق

وقلت يا عامر ذرني وانطلق

إنّك إن كلفتني ما لم أطق

ساءك ما سرّك مني من خُلق

دونك ما استسقيته فاحس وذق

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 152.

٤٢٠