موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93293 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (1) .

فهنالك الناس ذُهول، وعُميِّت عليهم الأنباء، ولا يسألُ حميمٌ حميماً، ولا يَتساءلون فيما بينهم، وهكذا لا يسأل أحدٌ أحداً عن ذنبه وعن شأنه الذي هو فيه.

أمّا وبعد أن أَخرجت الأرضُ أثقالَها، وَوضَعت الزلزلةُ أوزارها، وعاد الناس على حالتهم العادية وتفرّغوا للحساب فهناك السؤال والمـُؤاخذة، والتساؤل والتعارف، فاختلف الموقفان.

وهناك بعد انقضاء الحساب ودخول أهل الجنّة الجنّة ودخول أهل النار النار، يقع التساؤل والتعارف بينهم.

يقول تعالى عن المجرمين: ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) (2) .

ويقول عن الصالحين: ( ...إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ..... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ... ) (3) .

( إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (4) .

____________________

(1) الحج 22: 2.

(2) الصافّات 37: 22 - 34.

(3) الصافّات 37: 40 - 50.

(4) المدّثّر 74: 39 - 48.

٢٦١

( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)

سؤال:

قال تعالى ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (1) ، والبَلد هو البَلد الأمين مكّة المكرّمة، وقد أقسم به في سورة التين: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) (2) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

قالوا بزيادة (لا) هنا ليكون معنى الكلام إثباتاً لا نفياً، وأن العرب قد تُدخل (لا) في أثناء كلامها وتُلغي معناها، وأنشدوا في ذلك أبياتاً، ونحن قد فنّدنا ذلك وذَكَرنا أنْ لا شاهد عليه في كلام العرب، فراجع (3) .

والصحيح أنْ يُقال: إنّ مورد الآيتَين مُختلف، فمرّة لا يُقسم ومرّة يُقسم باختلاف الموارد... إذ ليس المعنى في سورة البلد أنّه تعالى لا يُقسم أبداً بهذا البلد، بل لا يُقسم في موردٍ خاصّ - لوضوحه - وهو أنّ الإنسان خُلق في كَبَد... أمّا المعنى في سورة البلد فهو على القسم حيث أهمّية المورد (المـُقسم عليه) وهو أنّ الإنسان خُلق؛ ليكون رفيعاً لكنّه بيديه حطّ من شأن نفسه فارتدّ أسفل سافلين بسوء تدبيره وسوء عمله.

وهنا جواب آخر لعلّه أدقّ وهو: أنْ ليس المراد (في آية البلد) نفي الإقسام على الإطلاق، ليكون متنافياً مع الآية الأُخرى (في سورة التين)، بل هو نوع من القسم على الشكل السلبي، حيث عدم الحاجة إليه بعد وضوح الأمر وظهوره، وهو آكد في إثبات المطلوب بشكلٍ أدبيّ رائع.

والمعنى: إنّي لا أحلف، إذ لا حاجة إليه بعد وضوح الأمر، وهذا يعني أنّ الأمر مُتأكّد الثبوت بذاته واضحاً جليّاً من غير حاجة إلى إقامة حجّة ودليل.

فهو في حقيقته قسم، لكن بصورة سلبية هي آكد من صورة الإيجاب.

____________________

(1) البلد 90: 1 - 2.

(2) التين 95: 1 - 3.

(3) وللعلاّمة البلاغي تحقيق مستوف في ذلك: تفسير آلاء الرحمان، ج1، ص38 - 41.

٢٦٢

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (1) .

ضَمِنَ تعالى أنْ لا يُعذّب العرب على قيد أحد شرطَين: حضور النبيّ بين أظهُرهم، أو استغفارهم هم؛ ومِن ثَمّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان في الأرض أمانان مِن عذاب اللّه، وقد رُفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار)، ثمّ تلا الآية (2) .

لكن يَتعقّب الآية ما يُنافي ذلك ظاهراً، وقوله: ( وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ ) (3) ، فكيف التوفيق؟

جواب:

إنّ سياق الآيتَين يَدلّنا على اتصالِهما ونزولِهما معاً إحداهما تلو الأُخرى مباشرةً، الأمر الذي يستدعي وِئامَهما طبعاً وعدم تنافيهما؛ حيث المتكلّم النابه - فضلاً عن الحكيم - لا يتناقض في كلامه قيد تكلّمه، فزاعم التناقض واهمٌ في حَدسِه البتة.

على أنّه لا تهافت بين الآيتين حتّى بحسب الظاهر أيضاً، حيث الآية الأُولى إنّما تنفي فعلية العذاب وأنّه لا يقع لوجود المانع، أمّا الآية الثانية فناظرة إلى جهة الاقتضاء وأصل الاستحقاق، فهم مستحقّون للعذاب لتوفّر المقتضي فيهم، بصدّهم عن المسجد الحرام، وليسوا بأوليائه، وإنْ كانوا لا يُعذَّبون فعلاً مادام وجود المانع وهما الشرطان أو أحدهما، فلا مُنافاة بين وجود المقتضي ونفي الفعلية لمكان المانع، كما لا يخفى.

وقد ذكر الطبرسي في جواب المسألة وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد بالأَوّل (نفي التعذيب) عذاب الاستئصال والاصطلام، كما وقع

____________________

(1) الأنفال 8: 33.

(2) نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 88، ص483.

(3) الأنفال 8: 34.

٢٦٣

بشأن الأُمَم الماضية، وبالثاني (وقوع التعذيب) عذاب القتل بالسيف والأسر بأيدي المؤمنين - كما في يوم بدر وغيره وأخيراً يوم الفتح - ولكن بعد خروج المؤمنين من بين أظهُرهم.

ثانيها: أنّه أراد: وما لهم أنْ لا يُعذّبهم اللّه في الآخرة، ويُريد بالأَوّل عذاب الدنيا، قاله الجبائي.

ثالثها: أنّ الأَوّل استدعاءٌ للاستغفار، يُريد أنّه لا يُعذّبهم بعذابٍ دُنياً ولا آخرةً إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عُذّبوا - وفي ذلك ترغيبٌ لهم في التوبة والإنابة - ثمّ إنّه بيّن وجه استحقاقهم للعذاب بصدّ الناس عن المسجد الحرام (1) .

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)

سؤال:

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (2) .

وقال: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (3) .

وقال: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (4) .

وقال: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) (5) .

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين: ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (6) .

____________________

(1) مجمع البيان، ج4، ص540.

(2) الأنبياء 21: 47.

(3) الأعراف 7: 8 و9.

(4) الإنشقاق 84: 7 و8.

(5) البقرة 2: 284.

(6) غافر 40: 40.

٢٦٤

وقوله: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) .

وقوله بشأن الكافرين: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (2) .

فكيف التوفيق؟

جواب:

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المـُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي - عند قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (3) -: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن (4) .

وقال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ

____________________

(1) الزّمر 39: 10.

(2) الكهف 18: 105.

(3) البقرة 2: 212.

(4) مجمع البيان، ج2، ص305 - 306.

٢٦٥

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) -: (1) (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار (2) .

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) (3) .

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال - في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) (4) -: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله (5) .

مواطن القيامة متفاوتة

سؤال:

هناك آيات تنصّ على أنّهم لا يَتكلّمون إلاّ صواباً (6) ونهوا أن يتخاصموا (7) بل وختم

____________________

(1) الكهف 18: 103 - 106.

(2) الكشّاف، ج2، ص749.

(3) مجمع البيان، ج6، ص497.

(4) الأعراف 7: 8.

(5) الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 - 9.

(6) وهو قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) النبأ 78: 38.

(7) وهو قوله تعالى: ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) ق 50: 28.

٢٦٦

على أفواههم لتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما كانوا يكسبون (1) .

الأمر الّذي يتنافى وقوله تعالى فيهم بأنّهم قالوا واللّه ما كنّا مشركين (2) فإنّه قول كَذِب بل ويمين كاذبة وقد أُذنوا بالتكلّم به!

وكذا مع قوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3) وقوله: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (4) ، فقد تخاصموا لديه تعالى رُغم منعه سبحانه من ذلك! ثُمّ كيف يلتئم ذلك مع الختم على الأفواه؟!

جواب:

أولاً: إنّ مَن يتكلّم بالصواب في الآية الأُولى هم الملائكة أو المؤمنون، والكلام الصواب هنا هي الشفاعة بالحقّ على ما ذَكَره المفسّرون، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عن هذه الآية قال: (نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صواباً: نُمجّد ربّنا ونُصلّي على نبيّنا ونَشفع لشيعتنا) (5) .

وثانياً: مواطن القيامة متفاوتة ومواقفها متنوّعة، فقوله ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) (6) خطاب إلى الكَفّار العنيد وقرينه الشيطان الذي أغواه، حيث يقول الشيطان: ( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) (7) ، ويحاول الكافر أنْ يَجعل اللّوم على الّذي أغواه، فكان النهي موجّهاً إليهم: لا تختصموا لديَّ بل اجعلوا بأسَكم بينكم فليس منعاً عن التخاصم على الإطلاق.

غير أنّ هذا التخاصم والتشاجر والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وفي أثنائه حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، يس 36: 65.

(2) وهو قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، الأنعام 6: 22 - 23.

(3) ص 38: 64.

(4) العنكبوت 29: 25.

(5) رواه العيّاشي حسبما ذكره الطبرسي في مجمع البيان، ج10، ص427.

(6) ق 50: 28.

(7) ق 50: 27.

٢٦٧

اقترفوه، فالمـَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة:

فالموطن الأَوّل: موطن المـُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).

والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).

والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).

ولكلِّ موطن مناسبتُه وشأنُه.

هكذا يُحمل على اختلاف المواطن ما وَرَد من قوله ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (1) ، مع قوله:) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) (2) ، وقوله ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) (3) .

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)

سؤال:

قال تعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (4) .

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) (5) .

وقال: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (6) .

وقال: ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (7) .

وقال: ( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) (8) .

جواب:

اللّه خالق الموت والحياة، ومَلَك الموت هو الآمر الأَوّل، والملائكة أعوانه المباشرون (9) .

____________________

(1) المرسلات 77: 36.

(2) غافر 40: 52.

(3) الروم 30: 57.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

(6) السجدة 32: 11.

(7) الأنعام 6: 61.

(8) النحل 16: 28.

(9) راجع: البرهان، ج2، ص64.

٢٦٨

( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)

سؤال:

قال تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) (1) .

فقد أخبر تعالى عنهم بأنّهم لا يَكتمون لديه حديثاً... وهذا يتنافى ظاهراً وقوله في موضع آخر: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) فقد كتموا إشراكَهم!

الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ قوله ( لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ) داخل في التمنّي، أي يَودّون لو كانوا لم يَكتموا حديثاً في الدنيا بشأن الرسالة والإسلام، أو لم يَكتموا في الآخرة كفرَهم في الدنيا، حيث قولهم: ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُـشْرِكِينَ ) ، وذلك باختلاف الموقف، ففي الوَهلة الأُولى كَتموا، وفي الثانية تمنّوا لو لم يكتموا...

الثاني: أنّهم لا يَستطيعون الكتمان؛ حيث تشهد عليهم أرجُلُهم وأيديهم بما كانوا يَكسبون.

مضاعفة العذاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) (3) .

لكنّه في موضع آخر قال: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) (4) ...؟!

جواب:

المـُجازاة بالمِثل خاصّة بالدنيا في مثل القِصاص والعقوبات الجزائيّة، والآية الأُولى واردة بهذا الشأن.

____________________

(1) النساء 4: 42.

(2) الأنعام 6: 23.

(3) الشورى 42: 40.

(4) هود 11: 20.

٢٦٩

أمّا مُضاعفة العذاب ففي الآخرة على حسب مراتب الكبيرة التي ارتكبَها أهلُ الكبائر، والآثار التي خلّفتها تلك الكبيرة المـُوبقة في الأوساط الاجتماعيّة حين الارتكاب وبعدها، ومورد الآية هم الذين كانوا يَصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عِوجاً وهم بالآخرة هم كافرون؛ ومِن ثَمّ يُضاعف لهم العذاب.

التكليم من وراء حجاب

سؤال:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) (1) .

كيف يلتئم وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (2) ، وقوله: ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ) (3) حيث وقع التكليم مباشرةً؟!

جواب:

لم تنفِ الآية الأُولى التكليم رأساً، وإنّما نَفَته على الطريقة المعهودة بين الناس حيث يقع مشافهةً، نعم تكليمه تعالى يقع على طرائق ثلاث:

1 - إمّا وحياً وهو النَفث في الرَوع، فيتلقّى النبيّ بشخصيّته الباطنة ما يُلقيه إليه وحي السماء، وهو نوع مِن الإلهام خاصّ بالأنبياء والرسل.

2 - أو بإسماع الصوت من غير أن يُرى شخص المتكلّم، كأنّه يتكلّم من وراء حجاب، وهذا بِخَلقِ التموّج الصوتي في الهواء ليَقرع مسامع النبيّ فيستمع إليه، ولكنّه لا يُرى المتكلّم وإن كان يسمع صوته؛ ومِن ثَمّ وقع التشبيه من وراء حجاب. وهذا هو الذي وقع مع موسى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله).

3 - أو بإرسال رسول - ملك الوحي - وهو جبرائيل (عليه السلام)، فيُلقي ما تلقّاه وحياً على

____________________

(1) الشورى 42: 51.

(2) النساء 4: 164.

(3) الأعراف 7: 22.

٢٧٠

النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، والأكثر ولعلّه الشامل من الوحي القرآني هذا النوع الأخير.

والتكليم والنداء في الآيتَين هُما من النوع الثاني أي التكليم من وراء حجاب، إذن فلا منافاة.

نظرة أو انتظار؟

سؤال:

قال تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، وقال: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) (2) .

قالوا: كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) (3) . ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (4) ، في حين أنّ مَن رأى الشيء وحَدّق النظر إليه فقد أَدركه ببصره وأحاط به علمه؟!

جواب:

هناك فَرق بين نظر رؤية ونظر انتظار وتوقّع، فيومئذٍ تكون الأنظار إليه سبحانه لكنّها نظرة توقّع وانتظار عَميم رحمته، ولا نظر إلاّ إليه (عظمت آلاؤه)، فالنظر إنّما هو إلى ربّهم كيف يُثيبهم؟ وإلى ما وَعَدهم مِن المثوبة في جنّة عدن.

قال الزمخشري: و(الناظرة) مِن نضرة النعيم، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) تنظر إلى ربّها خاصّة ولا تنظر إلى غيره، والمراد: نظر توقّع ورجاء، كقولك: أنا إلى فلان ما يَصنع بي، تُريد معنى التوقّع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِكٍ

والبحرُ دونك زدتني نِعَماً

قال: وسمعت سَرَويَّة مُستجدية بمكّة وقت الظهيرة حين يُغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيَينَتي نُوَيظرة إلى اللّه وإليكم، أي رجائي إلى اللّه وإليكم.

فمعنى الآية: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربّهم، كما كانوا في الدّنيا لا يَخشون ولا يرجون إلاّ إيّاه (5) .

____________________

(1) القيامة 75: 22 و23.

(2) النجم 53: 13 و14.

(3) الأنعام 6: 103.

(4) طه 20: 110.

(5) الكشّاف، ج4، ص662 بتصرّف.

٢٧١

وأمّا الآية من سورة النَّجم فالمـُراد: رؤية جبرائيل على صورته الأصليّة؛ حيث وقعت لمـُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرّتَين، مرّة عند التبشير بنبوّته، ومرّة أُخرى في المعراج عند سورة المنتهى.

التناسي أو النسيان

سؤال:

قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) (1) ، وقال: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2) .

كيف يلتئم ذلك مع قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (3) ، وقوله: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) ؟! (4) .

جواب:

النسيان في الآيتَين الأَوّليتَين هو التناسي والتغافل، أمّا المنفّي في الآيتَين الأخيريتَين فهي الغفلة والنسيان حقيقة.

والنسيان - بمعنى التناسي - في القرآن، كما في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (5) أي تناسى العهد ولم يأخذ بجدٍّ؛ إذ لو كان نَسيَ حقيقةً لكان معذوراً، إذ لا مؤاخذة على التناسي عقلاً ولا لوم عليه.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (6) أي تَغافلوا حضورَه تعالى في الحياة؛ ومِن ثَمَّ تغافلوا ولم يأخذوا كرامة الإنسان بجدّ.

فقوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) (7) يعني نَبَذتَ آياتنا وراء ظهرك ولم تأخذها بجدٍّ، فكذلك اليوم تُنسى ولا تَشملك العناية الإلهيّة.

كما في قوله تعالى: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (8) أي استهانوا بشأن الكتاب واستعاضوا به مَتاع الحياة الدنيا القليل، وهو مِن التغافل في الأمر والتساهل فيه وليست حقيقة الغفلة.

____________________

(1) الأعراف 7: 51.                                   (2) التوبة 9: 67.

(3) مريم 19: 64.                                      (4) طه 20: 52.

(5) طه 20: 115.                                    (6) الحشر 59: 19.

(7) طه 20: 126.                                     (8) آل عمران 3: 187.

٢٧٢

وهكذا جاء في الجواب فيما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

(أمّا قوله: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) فإنّما يعني: نَسوا الله في دار الدنيا، لم يَعملوا بطاعته، فنَسَيهم في الآخرة أي لم يَجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيّينَ من الخير، وقد يقول العرب: قد نَسيَنا فلان فلا يَذكُرُنا، أي إنّه لا يَأمر لنا بخير ولا يَذكُرُنا به، وأمّا قوله: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) فإنّ ربّنا تبارك و تعالى ليس بالذي يَنسى ولا يَغفل بل هو الحفيظ العليم) (1) .

كسب التأنيث والتذكير

سؤال:

قال تعالى: ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (2) .

وقال: ( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (3) .

كيف جاء الوصف وكذا الضمير في الآية الأُولى مُذَكّراً، وفي الآية الثانية مُؤنّثاً في حين وحدة السياق؟!

جواب:

المضاف إلى مؤنّث إن كان يجوز حذفه ولا يُخلّ حذفُه بمَفاد الكلام يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال ابن مالك:

وربّما أكسبَ ثانٍ أَوَّلاً

تأنيثاً إن كانِ لحذف مُوهَلاَ

فإنّ المضاف المـُذَكّر قد يَكتسب التأنيث من المضاف إليه المؤنّث بشرط جواز حذفه من غير إخلال بمَفاد الكلام، كما قال الأعشى:

وَتَشرِقُ بالقول الذي قد أَذعتَه

كما شَرِقَت صدرُ القناة مِن الدمِ

فتأنيث الفعل (شرقت) المسند إلى (صدر) إنّما هو باعتبار كسبه التأنيث من

____________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص259 - 260.

(2) السجدة 32: 20.

(3) سبأ 34: 42.

٢٧٣

المضاف إليه، فلو قُدّر حذفه لم يختلّ مَفاد الكلام.

وجاء عكسه في قول الآخر:

رؤية الفكرِ ما يؤولُ له الأمرُ

مُعينٌ على اجتناب التَواني

وقال غيره:

إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ هوىً

وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويراً

فالضمائر الراجعة إلى المضاف - وهو مؤنّث - في البيتَين، إنّما رُوعي فيها جانب المضاف إليه المـُذَكّر، باعتبار أنّ حذف المضاف في مثل هذا الكلام غير مُخلّ بمفاده.

وهكذا في الآية الكريمة يَجوز في وصف العذاب المضاف إلى النار مُراعاة التذكير على الأصل، كما في الآية من سورة السجدة، وكذا مراعاة التأنيث باعتبار إضافته إلى النار، كما في الآية من سورة سبأ.

وكِلا الأمرَين جائز، كما قال ابن مالك: (وربّما أكسب ثانٍ أوَّلاً تأنيثاً...)، وليس دائماً ولا ضرورة.

* * *

هذا بناءً على كون الوصف نعتاً للمضاف في كلتا الآيتَين؛ نظراً لوحدة السياق فيهما.

وربما فرّقوا بين الآيتَين فجعلوا الوصف نعتاً للمضاف في الآية الأُولى، وللمضاف إليه في الآية الثانية، وعلّلوا ذلك باختلاف الموجب:

قال الزركشي: جاء في سورة السجدة بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سورة سبأ بلفظ (التي) على وصف النار. وذلك لوقوع (النار) في سورة السجدة موقع الضمير الذي لا يُوصف، وإنّما وقعت موقع الضمير لتقدّم إضمارها في قوله: ( أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ) (1) .

____________________

(1) السجدة 32: 20.

٢٧٤

فحقّ الكلام أنْ يُقال: (وقيل لهم ذوقوا عذابها...) فلمـّا وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف عَدَل إلى وصف العذاب.

وأمّا في (سبأ) فوَصَفَها لعدم المانع مِن وصفِها (1) .

* * *

وربّما ذهبوا إلى أنّه وصفٌ للنار في كلتا الآيتَين، وجاء التذكير في سورة السجدة على معنى (الجحيم) أو (الحريق) (2) .

وهنا وجوه استحسانيّة لا نُطيل بذِكرها فليراجع مظانّها (3) .

فرعون يُقتّل أبناء إسرائيل قبل بعثة موسى أم بعدها؟

جاء في آيات من سورة غافر (4) وسورة الأعراف (5) ما يَدلّ على أنّ فرعون هَمَّ بقتل أبناء إسرائيل واستحياء نسائهم بعد أنْ بُعث موسى (عليه السلام) ودعاه إلى الإيمان.

وفي سورة القصص (6) وسورة طه (7) وإبراهيم (8) والأعراف (9) والبقرة (10) ما يدلّ على أنّ ذبح الأبناء واستحياء النساء كان قد وقع من قبل.

كان فرعون قد أَمر بقتل الذُكور من مواليد بني إسرائيل مِن قبل؛ خوفاً من ظهور نبيّهم موسى (عليه السلام) وقد خاب ظنّه، لكنّه بعد أنْ ظهرت نبوّته وقام في وجهه مُهدّداً له

____________________

(1) البرهان، ج2، ص63 - 64.

(2) إملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء العكبري، ج2، ص190.

(3) ذكر الزركشي وجوهاً أربعة، وقد ذَكَرنا اثنين منها، راجع: البرهان، ج2، ص63 - 64.

(4) ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) . غافر 40: 23 - 25.

(5) ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) . الأعراف 7: 127.

(6) ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) . القصص 28: 4.

(7) ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ) . طه 20: 39.

(8) ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) .إبراهيم 14: 6.

(9) ( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . الأعراف 7: 141.

(10) ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) . البقرة 2: 49.

٢٧٥

- ولا سيّما بعد أنْ آمن السَحَرة - خاف ازدياد قوّة موسى وقومه والنجدة بالأبناء، فحاول كسر شوكتِهم بالقتل في الأبناء واستعباد النساء، لكنّه لم يُساعده الحظّ؛ حيث أَهلَكَهم اللّه.

قال الطبرسي عند تفسير الآيات من سورة غافر: أُمروا بقتل الذُكور من قوم موسى؛ لئلاّ يكثر قومه ولا يتقوّى بهم، وباستبقاء نسائهم للخِدمَة، وهذا غير القتل الأَوّل؛ لأنّه أمر بالقتل أَوّلاً لئلاّ ينشأ منهم مَن يزول مُلكُه على يده، ثُمَّ ترك ذلك لمـّا أنْ تيقّن ولادة موسى، ولا فائدة في ذبح الأبناء، لكنّه بعد أن ظهرت نبوّة موسى وقام في وجهه مهدِّداً له حاول العَودَ إلى القتل ثانياً؛ حتّى لا تكون فيهم نجدة وقوّة، لكنه تعالى حال دون بلوغ أُمنيّته وأَخذهم بالبلاء والعذاب (1) .

التقدير أَزلاً أم في ليلة القَدر؟

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (3) .

قلت: ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام. يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمـَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم، دون علم اللّه المحيط الشامل (4) .

____________________

(1) راجع: مجمع البيان، ج4، ص465، وج 8، ص520.

(2) الحديد 57: 22.

(3) الدخان 44: 4، راجع: هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص384 - 385.

(4) راجع: الكافي، ج1، ص242 - 253.

٢٧٦

والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق، وليس أصل التقدير، فتدبّر جيّداً.

فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض.

متى وقع التقدير؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟

جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (1) . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر.

هذا، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (2) ، ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ ) (3) .

على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل، وهذا يتنافى وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) (4) .

أمّا المسألة الأُولى: فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى، وهي السُنَن الساطية على الكون ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (5) .

وهذه السُنَن ليست حتميّة، في حين كونها هي الغالبة، حيث احتمال مفاجئة أُمور

____________________

(1) الدخان 44: 4.

(2) الحديد 57: 22.

(3) فاطر 35: 11.

(4) الإسراء 17: 13.

(5) القمر 54: 49.

٢٧٧

طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ) (1) .

فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق، وهذا ليس بحتم، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى، ( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) .

فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء) (4) ، أي: من الأمور ما هي موقوفة - في جريانها حسب العادة الطبيعيّة - على شرائط، إنْ وُجدت جرت، وإلاّ تخلّفت، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه.

فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المـُصطَفون من عباد اللّه المـُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للّه عِلمـَينِ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو، من

____________________

(1) الأنعام 6: 2.

(2) الرعد 13: 38 - 39.

(3) كتاب التوحيد للصدوق، ص333، رقم 4.

(4) بحار الأنوار، ج4، ص116 - 117، رقم 44.

٢٧٨

ذلك يكون البداء، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه، فنحن نعلمه) (1) ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة، والتي يُمكن التخلّف فيها؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ) (2) .

* * *

وأمّا المسألة الثانية: هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار (الحيوان والإنسان) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها.

فإذا كان اللّه يعلم - أَزلاً - ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده.

والتقدير السابق، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات - كما هي - ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة.

( إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا)

قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) (3) ، والخطاب عامّ يشمل

____________________

(1) الكافي للكليني، ج1، ص147، رقم 8.

(2) بحار الأنوار، ج4، ص97، رقم 4 و5، والآية 38 من سورة الرعد.

(3) مريم 19: 71.

٢٧٩

المؤمن والكافر، وبدليل ما بعد الآية: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (1) ، حيث قوله: ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا ) ، أي الجميع يَرِدُونها فيخرج المؤمن ويُترك الظالم بحاله.

الأمر الذي يتنافى وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) (2) ، فيكف الوئام؟!

وقد ذَكَر المفسّرون هنا وجوهاً، أوجهُها - ما عن ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبو مسلم - أنّه بمعنى الإشراف عليها ليَشهدوا ذلك العرض الرهيب، فالمؤمنون يَجوزونها ويَدنون منها ويَمرّون بها وهي تتأجّج وتتميّز وتتلمـّظ، ويَرَون العتاة ينزعون فيقذفون فيها.

قال تعالى: ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) لن يكونوا لوحدِهم بل ( وَالشَّيَاطِينَ ) الذين هم قادتُهم، وبينهما صلة التابع والمتبوع والقائد والمـَقود، ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) جاثين على رُكَبِهم في ذلّ وفَزَع، ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ) ، فلا يُؤخذ أحدٌ جُزافاً من تلك الجُموع المتكاثفة، ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ) ليكونوا طليعةَ المقذوفينَ فيها.

وبعد، فيأتي دور المؤمنينَ الذين سَبَقت لهم مِن اللّه الحُسنى، فيأتي زَرَافات منهم، يَمرّون بهذا المشهد الرهيب، فيُزَحزَحون عنها وفي منجاةٍ منها يَجوزونه ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) أي نجعلهم في منجاةٍ منه ( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) (3) أي نَدعهم جاثمين على رُكَبِهم على شفا جُرُفٍ هارٍ؛ لينهار بهم في نار جهنّم.

فقد كان المـُراد بالورود هنا هو الإشراف عليها، كما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) (4) ، وقوله: ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) (5) ، إذ ليس المـُراد من الورود هنا الدخول، بل الدنوّ والاقتراب، قال الراغب: الورود، أصله قَصْدُ الماء، ثُمّ يُستعمل في غيره (6) قوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) أي قَصَدَه واقترب منه. والوارد: الذي

____________________

(1) مريم 19: 72.

(2) الأنبياء 21: 101 - 102.

(3) مريم 19: 68 - 72.

(4) القصص 28: 23.

(5) يوسف 12: 19.

(6) المفردات، ص519.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، عند الله نحتسب المصيبة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعند الله نحتسب مصيبتنا بالحسن بن عليّ رحمه الله ، إنّه قد بلغتني سجدتك ، فلا أظن ذلك إلاّ لوفاته ، والله لا يسدّ جسدُه حفرتك ، ولا يزيد انقضاءُ أجله في عمرك ، ولطال ما رُزينا بأعظم من الحسن ثمّ جبر الله.

قال معاوية : كم كان أتى له من العمر؟

قال : شأنه أعظم من أن يُجهل مولده.

قال : أحسبه ترك صبية صغاراً.

قال : كلّنا كان صغيراً فكبر.

قال : أصبحت سيّد أهلك.

قال : أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن عليّ فلا. ثمّ قام وعينه تدمع.

فقال معاوية : لله درّه لا والله ما هيّجناه قط إلاّ وجدناه سيّداً.

ودخل على معاوية بعد انقضاء العزاء ، فقال : يا أبا العباس أما تدري ما حدث في أهلك؟

قال : لا.

قال : هلك أسامة بن زيد فعظّم الله لك الأجر.

قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، رحم الله أسامة ، وخرج.

وأتاه بعد أيام وقد عزم على محاقته(١) فصلّى في الجامع يوم

____________________

(١) المحاقّة : المخاصمة واثبات حقه وانه أولى به.

٤٠١

الجمعة ، واجتمع الناس عليه يسألونه عن الحلال والحرام والفقه والتفسير وأحوال الإسلام والجاهلية وهو يجيب ، وافتقد معاوية الناس فقيل : إنّهم مشغولون بابن عباس ، ولو شاء أن يضربوا معه بمائة ألف سيف قبل الليل لفعل.

فقال : نحن أظلم منه حبسناه عن أهله ، ومنعناه حاجته ، ونعينا إليه أحبّته ، انطلقوا فادعوه ، فأتاه الحاجب فدعاه.

فقال : إنّا بني عبد مناف إذا حضرت الصلاة لم نقم حتى نصلي ، أصلي إن شاء الله وآتيه. فرجع ، وصلّى العصر وأتاه.

فقال : ما حاجتك؟

فما سأله حاجة إلاّ قضاها.

وقال : أقسمت عليك لما دخلتَ بيت المال فأخذت حاجتك ـ وإنّما أراد أن يعرف أهل الشام ميل ابن عباس إلى الدنيا فعرف ما يريده ـ.

فقال : إنّ ذلك ليس لي ولا لك ، فإن أذنت أن أعطي كلّ ذي حقّ حقّه فعلت.

قال : أقسمت عليك إلاّ دخلت فأخذت حاجتك.

فدخل فأخذ برنس(١) خزّ أحمر يقال أنّه كان لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ثمّ خرج ، فقال : يا أمير المؤمنين بقيت لي حاجة؟

____________________

(١) البرنس ثوب يغطي الرأس والبدن كما هو لباس المغاربة في عصرنا.

٤٠٢

فقال : ما هي؟

قال : عليّ بن أبي طالب قد عرفت فضله وسابقته وقرابته ، وقد كفاكه الموت ، أحبّ أن لا يشتم على منابركم.

قال : هيهات يا بن عباس هذا أمر دَين أليس أليس؟ وفعل وفعل؟ فعدّد ما بينه وبين عليّ كرّم الله وجهه.

فقال ابن عباس : أولى لك يا معاوية والموعد القيامة ، و( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (١) .

وتوجه إلى المدينة اهـ )(٢) .

وقال لمعاوية : أيُشتم عليّ على منبر الإٍسلام وهو بناه بسيفه(٣) .

وقد روى حُميد الشهيد في الحدائق الوردية المحاورة بطولها مع تفاوت في بعض ألفاظها وختمها بقوله : ( فقال له ابن عباس : الله حسبك فيما قلت ، ثم خرج فلم يلتقيا )(٤) .

ولمّا كانت رواية حُميد الشهيد فيها بعض الإضافات خلت منها رواية الأربلي ، حيث قال كما مر : ( وحدث الزبير عن رجاله في حديث طويل ذكره الزبير ، وذكرت منه موضع الحاجة إليه ).

فرأيت من الخير ذكر رواية حُميد الشهيد ، لأنّها تسلّط الضوء على

____________________

(١) الأنعام / ٦٧.

(٢) كشف الغمة / ١٢٧ ط حجرية سنة ١٢٩٤ و ١ / ٤٠٣ منشورات الشريف الرضي.

(٣) نثر الدر للآبي ١ / ٢٨٨ ط دار الكتب العلمية بيروت.

(٤) الحدائق الوردية ١ / ١٨٦.

٤٠٣

انفصام العلاقات لحدْ القطيعة ، فلنقرأ ما رواه حُميد الشهيد ، قال :

( ولمّا نُعِيَ الحسن عليه السلام إلى معاوية ، وعبد الله بن العباس بباب معاوية ، فحُجب ابن عباس حتى أخذ الناس مجالسهم ، ثم أذن له ، فقال : أعظم ألله أجرك يا بن عباس.

قال : فيمن؟

قال : في الحسن بن عليّ.

قال : إذاً لا يزيد موته في عمرك ، ولا يدخل عمله عليك في قبرك ، فقد فقدنا من هو أعظم منهُ قدراًَ وأجل منه أمراً ، فأعقب الله عقبى صالحةٌ.

فخرج ابن عباس وهو يقول :

أصبح اليوم ابن هند شامتّا

ظاهر النخوة أن مات الحسنْ

ولقد كان عليه عمره

مثل رضوى وثبير وحضَنْ

فارتع اليوم ابن هند آمنّا

إنما يقمص(١) بالعير السمَنْ

واتق الله وأظهر توبةً

إنّما كان كشيءٍ لم يكنْ

وروينا عن الزهري من طريق السيد الإمام المرشد بالله يحيى ابن الإمام الموفق بالله أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل الحسني الجرجاني عليهم السلام ، رواه بإسنادهِ مع ما تقدم آنفّا ، قال :

قدم ابن عباس على معاوية ، فمكث أيامّا لا يؤذن له ، ثم أذن له ذات

____________________

(١) القمص : هو أن يرفع رجليه وينكس رأسه.

٤٠٤

يوم فدخل فإذا معاوية مستبشراً ومن يطيف به.

فقال : يا بن عباس أتدري ما حدث في أهل بيتك؟

فقال : والله لا أدري ما حدث أهل بيتي غير أنّي أراك مستبشراً ومن يطيف بك.

قال : مات الحسن بن عليّ.

قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، يكررها مراراً.

ثم قال : أما والله يا معاوية لا يزيد موته في عمرك ، ولا تسد حفرتُه حفرتك ، ولقد أصبنا بمن كان أعظم منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكفانا الله. ثم خرج من عنده.

قال : فمكث أيامّاً لا يصل إليه ، ثم وصل إليه ذات يومٍ فقال معاوية : يا ابن عباس أتدري ما حدث في أهل بيتك؟

قال : وما حدث في أهل بيتي؟

قال : مات أسامة بن زيد.

قال ابن عباس : إنا لله وإنا إليه راجعون ، رحم الله أسامة بن زيد. ثم خرج من عنده.

وقد كان ابن عباس تقشّف وكره أن يتزيَّا بزيَّه ، فيشهّره أهل الشام فيضرُّ به ذلك عند معاوية ، فلمّا رجع إلى منزله ، قال : يا غلام هات ثيابي فو الله لئن جلست أنا لهذا المنافق ينعي إليَّ أهل بيتي(١) واحداً واحداً إنّي إذاً أحمق.

____________________

(١) في ( أ ) : أصحابي.

٤٠٥

قال : فقال عليَّ بالمقطّعات فلبسها. قال : ثم قال : عليَّ بعمامة له أسمها : تجوبية(١) فلبسها. وكان من أجمل الناس ، أمدَّهم جسمّاً وأحسنهم شَعَّراً ، وأحسنهم وجهّاً.

قال : ثم أتى مسجد دمشق فدخل ، فلمّا نظر إليه أهل الشام ، قالوا : من هذا؟ ما يشبه هذا إلاّ الملائكة ، ما رأينا مثل هذا! قالوا : هذا ابن عباس ، هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجلس إلى سارية ، وتقوّض إليه الخلق ، فما سُئل عن شيء إلاّ أجابهم به من تفسير من كتاب الله ، ولا حلال ولا حرام ، ولا وقعة كانت في جاهلية ولا إسلام ، ولا شعر كان في جاهلية ولا إسلام إلاّ أجابهم به.

قال : ومعاوية لا يشعر بشيءٍ من هذا ، فانتبه ، فقال للآذن : أئذن لمن بالباب.

قال : أو بالباب أحد؟!

قال : فأين الناس؟

قال : ذهبوا إلى ابن عباس.

قال : هاه قد فعلوها! نحن والله أظلم منه ، وأقطع للرحم ، اذهب يا غلام ، وقل له : أجب أمير المؤمنين. فأتاه الرسول.

قال : فقال ابن عباس : إنّا بنو عبد مناف لا نقوم عن جليسنا حتى يكون هو الذي يقوم ، لكن قد تقاربت الصلاة فإذا صلينا أتينا أمير المؤمنين.

قال : فأتاه الرسول فأخبره. فقال : صدق ، دعه حتى يصلي.

____________________

(١) نسبة إلى تجوب وهي : قبيلة من حمير. القاموس / ٩٠.

٤٠٦

قال : فلمَّا صلى جآء ابن عباس حتى دخل عليه ، فقال له معاوية : ما حاجتك يا ابن عباس؟

قال : دينّ عليَّ.

قال : قد أداه الله عنك.

قال : وما أستعين به على الزمان.

قال : وذلك لك. أبقيت لك حاجة؟

قال : لا.

قال : أدخل بيت المال ، فاحمل ما بدا لك.

قال : إنّا بنو عبد المطلب لا نأخذ من مال المسلمين إلاّ ما أحتجنا إليه.

قال : عزمتُ عليك إلاّ ما فعلتَ(١) .

قال : فدخل ابن عباس بيت المال ، فتلفّت يمينّا وشمالاً فرأى برنساً من خزَّ أدكن فتدرّعه ثم خرج به.

قال : قد أخذت حاجتك؟

قال : نعم.

قال : الحق ببلادك.

قال : يا أمير المؤمنين إنّك حيث نعيت إليَّ الحسن بن عليّ آليت على نفسي أن لا أسكن المدينة بعده أبداً ، ولا أجد مكانّاً أجلّ من جوار أمير المؤمنين.

____________________

(١) فليقرأ هذا الذاهبون في التيه وراء تهمة ابن عباس ببيت مال البصرة ، ولو كان لها ظل من الحقيقة لردّ بها عليه معاوية.

٤٠٧

قال : هيهات ليس إلى ذلك سبيل.

قال : فبقيت لي حاجة هي أهم الحوائج إلي ، وهي لك دوني.

قال : فأي حاجة لك هي لنا دونك؟ إنا نخاف أن نسارع إليها.

قال : عليّ بن أبي طالب قد كفاك الله مؤنته ، ومضى لسبيله ، وقد عرفت منزلته وقرابته ، فكفّ عن شتمه على المنابر.

قال : هيهات ليس إلى ذلك سبيل يا بن عباس ، هذا موضع دين ، إنّه غشّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسمَّ أبا بكر ، وذمّ عمر ، وقتل عثمان ، فليس إلى الكف عن سبيل.

فقال له ابن عباس : الله حسبك فيما قلت. ثم خرج فلم يلتقيا(١) ، أي لم يلتقيا بالشام ، وإلاّ فقد التقيا بالحرمين كما سيأتي.

وفي إحدى المرات التي وفد عليه بالشام صادف وفود جابر بن عبد الله ، استأذن على معاوية فلم يؤذن له أياماً ، ثم دخل فمثل بين يديه ، فقال : يا معاوية أشهد أنّي سمعت المبارك صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من أمير احتجب عن الفقراء إلاّ احتجب الله عنه يوم يفتقر إليه.

فغضب معاوية ، وقال : يا جابر ألست ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : ( يا معشر الأنصار سيصيبكم بعدي أثََرةً فاصبروا حتى تلقوني على

____________________

(١) الحدائق الوردية في مناقب آئمة الزيدية ، لحُمّيد الشهيد ( ت ٦٥٢ هـ ) ١ / ١٨٤ ـ ١٨٦ ، تحقيق د المرتضى بن زيد المحظوري الحسني مطبوعات مكتبة مركز بدر العلمي والثقافي صنعاء ط الأولى ١٤٢٣ هـ.

٤٠٨

الحوض؟ ).

قال : قد سمعت الطيب المبارك صلى الله عليه وآله وسلم يقول.

قال معاوية : فألاّ صبرت؟

قال : إذن والله أصبر كما صبرتَ حين ضربتُ أنفّك وأنف أبيك حتى دخلتما في الإسلام كارهيَن. ثم أنصرف وهو يقول :

إنّي لأختار البلاء على الغنى

وأجزأ بالماء القراح عن المخض

وأدّرع الإملاق صبراً وقد أرى

مكان الغنى كي لا أهينُ له عرضي

فناشده معاوية أن يأخذ صلته ، وبعث في أثره يزيد بن معاوية ، فقال : والله لا يجمعني وإياه بلد أبداً.

فلمّا خرج لقي عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن سابط ، فقال له ابن عباس : قد بلغني ما كان من ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، ورأس الأحزاب ، هلّم أشاطرك مالي كما قاسمتني مالك ، ولك نصف داري كما أسكنتني دارك.

فقال جابر : ثّمر الله مالك ، وبارك لك في دارك ، فقد أثبت ما أنت أهله ، وقال معاوية ما كان يشبهه )(١) .

( أوّل ذلّ دخل العرب موت الحسن بن عليّ عليه السلام )

كلمة قالها ابن عباس رضي الله عنه وهو يستشعر المرارة بفقده ، والإحباط

____________________

(١) التذكرة الحمدونية ٤ / ٣٠١ ـ ٣٠٢ ط صادر.

٤٠٩

لجهوده مع معاوية الشانئ الشامت ، إذ ازداد البلاء كما قال المدائني وهو يتحدث عن جرائم معاوية ممّا قد مرّ ذكره في الجزء الخامس من الحلقة الأولى ، فراجع ، وستجد قول المدائني : ( فلم يزل كذلك حتى مات الحسن ابن عليّ عليه السلام فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض )(١) .

ماذا كان موقف ابن عباس من السلطة بعد موت الحسن عليه السلام؟

والآن فلننظر إلى حال ابن عباس من بعد موت الإمام الحسن عليه السلام ، وهو الذي قد استشعر دخول الذلّ على العرب بموته ، فماذا لحقه من هوان وهو من سادات العرب؟ وماذا كان موقف معاوية منه في تلك الفترة؟

روى ابن قتيبة في ( الإمامة والسياسة ) : ( لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله إلاّ يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام وكتب ببيعته إلى الآفاق ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد ويأمره بجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة ثمّ يبايعوا ليزيد.

فلمّا قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش وكتب إلى معاوية في ذلك.

قال : فعزله وولى سعيد بن العاص. وكتب إليه في ذلك وأن يكتب

____________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٣ / ١٦ ط مصر الأولى.

٤١٠

إليه بمن يسارع ومن لم يسارع. فلمّا أتاه الكتاب دعا الناس إلى البيعة وأظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة ، وسطا بكلّ من أبطأ عن ذلك.

قال : فأبطأ الناس عنها إلاّ اليسير ، لا سيما بني هاشم فإنّه لم يجبه منهم أحد

فكتب سعيد إلى معاوية يعلمه بتباطوء الناس عن البيعة لا سيما أهل البيت من بني هاشم فإنّه لم يجبني منهم أحد ، وبلغني عنهم ما أكره

فكتب معاوية إلى عبد الله بن عباس وإلى عبد الله بن الزبير وإلى عبد الله بن جعفر وإلى الحسين بن عليّ رضي الله عنهم كتباً وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث بجواباتها

وكتب إلى ابن عباس : أمّا بعد فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد بن أمير المؤمنين ، وإنّي لو قتلتك بعثمان لكان ذلك إليَّ ، لأنّك ممّن ألّب عليه وأجلب ، وما معك من أمان فتطمئن به ، ولا عهد فتسكن إليه ، فإذا أتاك كتابي هذا فأخرج إلى المسجد ، والعن قتلة عثمان وبايع عاملي ، فقد أعذر من أنذر ، وأنت بنفسك أبصر والسلام )(١) .

قال ابن قتيبة في ( الإمامة والسياسة ) : ( فكان أوّل من أجابه عبد الله بن عباس ، فكتب إليه :

أمّا بعد فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت ، وأن ليس معي منك أمان ، وأنّه والله ما منك يطلب الأمان يا معاوية ، وإنّما يطلب الأمان من

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٤٥ ـ ١٤٧ ط سنة ١٣٢٨.

٤١١

الله ربّ العالمين ، وأمّا قولك في قتلي ، فوالله لو فعلتَ للقيتَ الله ومحمّداً صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم خصمك ، فما أخاله أفلح ولا أنجح من كان رسول الله خصمه ، وأمّا ما ذكرت من أنّي ممّن ألّب على عثمان وأجلب ، فذلك أمر غبتَ عنه ، ولو حضرتَه ما نسبتَ إليَّ شيئاً من التأليب عليه ، وأيم الله ما أرى أحداً غضب لعثمان غضبي ، ولا أعظم أحد قتله إعظامي ، ولو شهدتُه لنصرتُه أو أموت دونه ، ولقد قلت وتمنيت يوم قتل عثمان ليت الذي قتل عثمان لقيني فقتلني معه ولا أبقى بعده ، وأمّا قولك لي العن قتلة عثمان ، فلعثمان ولد وخاصة وقرابة هم أحق بلعنهم مني ، فإن شاؤا أن يلعنوا فليلعنوا ، وإن شاؤا أن يمسكوا فليمسكوا والسلام )(١) .

والذي يلفت النظر أنّ معاوية ما زالت حجته المزعومة لإستباحة دماء بني هاشم هي قتل عثمان ، وكأنّهم هم الذين قتلوه ، مع أنّهم أبعد الناس عن تلك التهمة وهم برءاء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، لكن معاوية لا يمنعه من الافتراء مانع ، فليس له من الدين وازع ، وقد مرّ أن كتب لابن عباس يوم كان في البصرة كتاباً ضمّنه نفس تلك التهمة ، وردّ عليه ابن عباس بجواب مرّ ذكره وقد رد التهمة عليه.

أمّا جوابه في هذه المرّة فلا يخلو من ملاحظة تجعلنا في شك ممّا تزيّد فيه الرواة! في غضبه لعثمان غضباً لم يغضبه لأحد إلى آخر ما فيه من

____________________

(١) نفس المصدر ١ / ١٤٨.

٤١٢

دسّ. تفضحه مواقفه في الجمل وصفين ضدّ المطالبين بدم عثمان فيما يزعمون ، ثمّ محاوراته مع معاوية وعمرو بن العاص وقد مرّت بما فيها في جرأة وشجاعة ، فراجع.

معاوية في المدينة

لمّا فشل ولاة معاوية ـ مروان وسعيد بن العاص ـ في حمل الناس بالمدينة على بيعة يزيد ، رغم الترهيب والترغيب ، والذي أقلق معاوية إمتناع النفر الذين ينظر الناس إليهم على أنّهم أهل الحلّ والعقد ، وهم أولى بالبيعة لهم من يزيد ، وفي مقدمتهم بنو هاشم وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام ، ثمّ العبادلة وفي مقدمتهم عبد الله بن عباس.

ولمّا وافته جوابات الكتب تحمل النذير بخلاف شرّ مستطير ، قرّر أن يذهب بنفسه إلى المدينة ، ويأخذ البيعة لابنه قهراً وقسراً ، ويبدو من حديث ابن قتيبة وابن أعثم أنّه هيّأ الأجواء لاستقباله عن طريق واليه ورجاله ، قال : ( فقدم معاوية المدينة حاجاً ، فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه ما بين راكب وماشي

قال : حتى إذا كان بالجرف ـ موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام ـ لقيه الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس.

فقال معاوية : مرحباً بابن بنت رسول الله وابن صنو نبيّه ، ثمّ انحرف إلى الناس ، فقال : هذان شيخا بني عبد مناف ، وأقبل عليهما بوجهه وحديثه ، فرحّب وقرّب ، فجعل يواجه هذا مرّة ويضاحك هذا أخرى ، حتى

٤١٣

ورد المدينة ، فلمّا خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل. فانصرفا عنه ، فمال الحسين إلى منزله ومضى ابن عباس إلى المسجد فدخله )(١) . هذا ما رواه ابن قتيبة.

إلاّ أنّ ابن الأثير ، قال : ( سار ـ معاوية ـ إلى الحجاز في ألف فارس ، فلمّا دنا من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوّل الناس ، فلمّا نظر إليه ، قال : لا مرحباً ولا أهلاً ، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه.

قال : مهلاً فإنّي والله لست بأهل لهذه المقالة.

قال : بلى ولشرّ منها.

ولقيه ابن الزبير ، فقال : لا مرحباً ولا أهلاً ، خبّ ضبّ تلعة ، يدخل رأسه ويضرب بذنبه ، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدقّ ظهره ، نحيّاه عنّي ، فضُرب وجه راحلته.

ثمّ لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له معاوية : لا أهلاً ولا مرحباً ، شيخ قد خرف وذهب عقله ، ثمّ أمر فضرب وجه راحلته.

ثمّ فعل بابن عمر نحو ذلك ، فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة ، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبّون ، فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها ).

ثمّ ذكر خطبة معاوية يتهدد الممتنع عن البيعة وخصوصاً أولئك النفر بالقتل بما فيهم الحسين ، وذكر دخوله على عائشة وجرى ذكر إمتناع

____________________

(١) نفس المصدر.

٤١٤

أولئك النفر وتهديده بقتلهم ، فقالت له : ( فارفق بهم فإنّهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله )(١) .

وهذا الذي ذكره ابن الأثير لعلّه أشبه بسيرة معاوية الرعناء في تلك الفترة ، وقد ذكر ابن كثير أيضاً في تاريخه في حوادث سنة ( ٥٦ هـ ) أخذ البيعة ليزيد ، فقال : ( فبايع له الناس في الأقاليم إلاّ عبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، والحسين بن عليّ ، وعبد الله بن الزبير ، وابن عباس ، فركب معاوية إلى مكة معتمراً ، فلمّا اجتاز بالمدينة ـ مرجعه من مكة ـ استدعى كلّ واحد من هؤلاء الخمسة فأوعده وتهدده بانفراده )(٢) .

وأحسب أنّ ما ذكره ابن الأثير وابن كثير أخذاه من الطبري بصورة مخففة ، ففي تاريخه ذكر إمتناع النفر الخمسة ، ثمّ ذكر كلام معاوية مع كلّ واحد من الأربعة على انفراد ، ولم يذكر ابن عباس(٣) ، وهذا ممّا يلفت النظر! لماذا لم يذكره؟ وهل ساءت العلاقة لحد القطيعة؟ أم أنّه رضي بالبيعة فلم يرسل عليه فيتهدده؟ أم أنّ معاوية أراد أن لا يقطع الشعرة بحدّ الشفرة؟ لابدّ لنا من البحث في ذلك!

( المحاورة الحادية والعشرون )

( لعمر الله إنّها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر )

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ / ٢١٦ ـ ٢١٧ ط بولاق.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ٧٩.

(٣) أنظر تاريخ الطبري ٥ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ط محققة.

٤١٥

ذكر ابن قتيبة في ( الإمامة والسياسة ) كلام معاوية مع النفر مهدداً ومتوعداً بالقتل كما مرّ ، ثمّ قال : ( فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش فوضع له وسوّيت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله ، ثمّ خرج وعليه حلّة يمانية وعمامة دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه ، وقد تغلّف وتعطّر فقعد على سريره ، وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب ، ثمّ أرسل إلى الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس ، فسبق ابن عباس ، فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليّاً.

ثمّ قال : يا بن عباس لقد وفّر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه السلام.

فقال ابن عباس : نعم أصلح الله أمير المؤمنين وحظنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ ، أوفر.

فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجادلة ، ويعدل إلى ذكر الأعمال على اختلاف الغرائز والطباع. حتى أقبل الحسين بن عليّ ، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه ، فدخل الحسين وسلّم ، فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة ، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم ، فأخبره ثمّ سكت.

قال : ثمّ ابتدأ معاوية ، فقال : فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم ، وأشهد

٤١٦

أن لا إله إلاّ الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علواً كبيراً ، وأنّ محمداً عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، فأدى عن الله وصدع بأمره ، وصبر على الأذى في جنبه ، حتى أوضح دين الله وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بُذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له ، زهادة واختياراً لله وأنفة واقتداراً على الصبر ، بغياً لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرسول صلى اله عليه وآله وسلم ، ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك ، وبين ذلك خوض طال ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعاً ، وما أعلم منه فوق ما تعلمان. وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل ولمّ الصدع بولاية يزيد بما أيقظ العين وأحمد الفعل ، هذا معناي في يزيد ، وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المرؤة ، وقد أصبت من ذلك في يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن ، والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب ، وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ، ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنة مذكورة ، فقادهم الرجل بأمره ، وجمع بهم صلاتهم وحفظ عليهم فيأهم ، وقال ولم يقل معه ، وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة ، فمهلاً بني عبد المطلب فإنّا وأنتم شعبا نفع

٤١٧

وجد ، وما زلت أرجو الإنصاف في إجتماعكما ، فما يقول القائل إلاّ بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال : فتيسّر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة ، فأشار إليه الحسين وقال : على رسلك ، فأنا المراد ونصيبي في التهمة أوفر ، فأمسك ابن عباس.

فقام الحسين فحمد الله وصلّى على الرسول ثمّ قال : ( أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبّستَ به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة ، والتنكّب عن إستبلاغ البيعة ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُرج ، ولقد فضّلتَ حتى أفرطتَ ، واستأثرتَ حتى أجحفتَ ، ومنعتَ حتى بخلتَ ، وجرت حتى جاوزتَ ، ما بذلت لذي حقّ من أتم حقّه بنصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل ، وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من إكتماله وسياسته لأمّة محمّد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السّبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر

٤١٨

ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدم باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم ، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص ، ورأيتك عرّضت بنا هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثنا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولادة ، وجئتَ لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النَصَف ، فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم كان ويكون ، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم أمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ) ، فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً ، وحولك من يؤمن في صحبته ، ويعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه وتشقى بها في آخرتك ، وإنّ هذا لهو الخسران المبين وأستغفر الله لي ولكم ).

قال : نظر معاوية إلى ابن عباس ، فقال : ما هذا يا بن عباس ولما عندك أدهى وأمرّ.

٤١٩

فقال ابن عباس : لعمر الله إنّها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر ، فاله عمّا تريد فإن لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.

فقال معاوية : أعود الحلم التحلم ، وخيره التحلم عن الأهل انصرفا في حفظ الله )(١) .

( المحاورة الثانية والعشرون )

( وعيد وتهديد لمن لم يبايع يزيد )

روى ابن أعثم الكوفي ( ت ٣١٤ هـ ) في ( الفتوح ) ، قال :

( وخرج معاوية من منزله إلى المسجد الأعظم فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر ابنه يزيد في خطبته ، وقال : من أحق بالخلافة من ابني يزيد في فضله وهديه ومذهبه وموضعه من قريش؟ والله أنّي لأرى قوماً يعيبونه ، وما أظنهم بمقلعين ولا منتهين حتى يصيبهم مني بوائق تجتث أصولهم ، فليربع أولئك على ضلعهم من قبل أن تصيبهم منّي فاقرة لا يقومون لها ، فقد أنذرت إن نفع الإنذار ، وبينت إن نفع البيان ، ثمّ جعل يتمثل بهذه الأبيات ويقول :

قد كنتُ حذّرتك آل المصطلق

وقلت يا عامر ذرني وانطلق

إنّك إن كلفتني ما لم أطق

ساءك ما سرّك مني من خُلق

دونك ما استسقيته فاحس وذق

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٥٢.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496