موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس8%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93281 / تحميل: 4731
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

فلقد قارب وجنح إلى السلم ).

قال ابن أعثم في ( الفتوح ) : ( فلمّا وصل الكتاب والشعر إلى عمرو فأتى به معاوية فأقرأه إياه ، ثمّ قال : ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب.

فقال معاوية : صدقت أبا عبد الله ، ولكنك قد علمت ما مرّ علينا بالأمس من القتل والهلاك ، وأظن عليّاً سيباكرنا الحرب غداً ويعمل على المناجزة ، وقد رأيت أن أشغله أنا غداً عن الحرب بكتاب أكتبه إلى ابن عباس ، فإن هو أجابني إلى ما أريد فذلك ، وإلاّ كتبت إلى عليّ وتحمّلت عليه بجميع مَن في عسكره فإن أجاب ، وإلاّ صادمته وجعلتها واحدة لي أم عليَّ ، فهذا رأيي وإنّما أريد بذلك أن أجمّ الحرب أياماً ، فقد تعلم ما نزل بنا في هذه الأيام وإن كان عندك رأي غير هذا فهاته؟

فقال عمرو : أمّا أنا فأقول إنّ رجاءك لا يقوم رجاءه ، ولست بمثله ، وهو رجل يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، وهو يريد الفناء وأنت تريد البقاء ، وليس يخاف أهل الشام من عليّ إن ظفر بهم ما يخاف أهل العراق إن ظفرت بهم ، وأظنك تريد مخادعة عليّ ، وأين أنت من خديعته.

فقال معاوية : فكيف ذلك؟ ألسنا ببني عبد مناف؟

فضحك عمرو ، ثمّ قال : بلى لعمري أنت وهو من بني عبد مناف كما تقول ولكن لهم النبوة من دونك ، فإن شئت فاكتب )(١) .

____________________

(١) الفتوح ٣ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

٤٤١

كتاب معاوية إلى ابن عباس :

قال نصر : ( وإنّ معاوية كان يكاتب ابن عباس ، وكان يجيبه بقول ليّن ، وذلك قبل أن يعظم الحرب )(١) .

أقول : ولم أقف على شيء من تلك المكاتبات سوى ما ذكره ابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) ونقله المتقي الهندي ، قال :

( عن عبد الملك بن حميد ، قال : كنّا مع عبد الملك بن صالح بدمشق فأصاب كتاباً في ديوان دمشق :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله بن عباس إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك ، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو ، عصمنا الله وإياك بالتقوى ، أمّا بعد فقد جاءني كتابك فلم أسمع منه إلاّ خيراً ، وذكرت شأن المودة بيننا ، وإنّك لعمر الله لودود في صدري من أهل المودة الخالصة والخاصة ، وإنّي للخلّة التي بيننا لراع ، ولصالحها لحافظ ولا قوّة إلاّ بالله.

أمّا بعد فإنّك من ذوي النهى من قريش وأهل الحلم والخلق الجميل منها ، فليصدر رأيك بما فيه النظر لنفسك والتقية ( البقية ظ ) على دينك ، والشفقة على الإسلام وأهله ، فإنّه خير لك وأوفر لحظك في دنياك وآخرتك ، وقد سمعتك تذكر شأن عثمان بن عفان ، فاعلم إنّ انبعاثك في

____________________

(١) وقعة صفين / ٤٧١.

٤٤٢

الطلب بدمه فرقة وسفك للدماء ، وانتهاك للمحارم ، وهذا لعمر الله ضرر على الإسلام وأهله ، وإنّ الله سيكفيك أمر سافكي دم عثمان ، فتأنّ في أمرك ، واتق الله ربّك ، فقد يقال لك : إنّك تريد الإمارة ، وتقول : إنّ معك وصية من النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم بذلك ، فقول نبيّ الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم الحقّ ، فتأن في أمرك ، ولقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول للعباس : ( إنّ الله يستعمل من ولدك اثني عشر رجلاً منهم السفاح والمنصور والمهدي والأمين والمؤتمن وأمير العصب ) ، أفتراني استعجل الوقت أو أنتظر قول رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم؟ وقوله الحقّ ، وما يرد الله من أمر يكن ولو كره العالم ذلك ، وأيم الله لو أشاء لوجدت متقدماً وأعواناً وأنصاراً ولكني أكره لنفسي ما أنهاك عنه فراقب الله ربّك ، وأخلف محمداً في أمته خلافة صالحة ، فأمّا شأن ابن عمك عليّ بن أبي طالب فقد استقامت له عشيرته وله سابقته وحقه ، وبحوله على الحقّ أعوان ونصحاء لك وله ولجماعة المسلمين ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وكتب عكرمة ليلة البدر من صفر سنة ست وثلاثين اهـ )(١) .

فهذا الكتاب نموذج من تلك الأجوبة الليّنة والتي لم تجد الأرض الصالحة لتثمر نفعاً وقد استمر معاوية في خداعه ، وهو الآخر لم يجد الأذن الصاغية لاستماعه ، حتى إذا عظم الخطب ، واشتعلت نار الحرب ، تغيّرت اللهجة ، وتقارعت

____________________

(١) كنز العمال ١١ / ٣٣٣ ـ ٣٣٥ ط حيدر آباد الثانية برقم ١٣٢٦.

٤٤٣

الحجة بالحجة وصار إلى المخادعة والمخاتلة بطريقة إيقاع الفرقة بين الهاشميين ، وإغراء بعضهم على بعض ، وليس ذلك ببدع منه فقد كان ـ على حدّ قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ـ : ( يودّ ما ترك من بني هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه )(١) .

وهل في الهاشميين بعد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مثل ابن عباس في فهمه وعلمه ، وعقله وفضله ، فليجهد معاوية نفسه فيما يفرّق به بين المرء وإمامه ، وذلك بخديعة ابن عباس وإنّه الرأس بعد الإمام عليه السلام.

وهذه الفكرة لم تبارح معاوية طيلة حكمه ، فسيأتي من الشواهد عليها بعد موت الإمام الحسن عليه السلام وقوله لابن عباس : ( أصبحت سيّد أهلك ) ، ولكن ابن عباس الذكي الألمعي لا ينخدع بزبرج الألفاظ فرد عليه قائلاً : ( أمّا ما بقي أبو عبد الله الحسين بن عليّ فلا ).

والآن إلى حديثه في صفين برواية نصر بن مزاحم :

قال نصر بن مزاحم : ( فلمّا قتل أهل الشام ، قال معاوية : إنّ ابن عباس رجل من قريش ، وأنا كاتب إليه في عداوة بني هاشم لنا ، وأخوّفه عواقب هذه الحرب لعله يكف عنّا. فكتب إليه :

أمّا بعد فإنّكم يا معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار عثمان بن عفان ، حتى أنّكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما بدمه ، واستعظامهما ما نيل منه ، فإن يكن ذلك لسلطان بني أمية فقد وليها عدي

____________________

(١) الفائق للزمخشري ( نيط ).

٤٤٤

وتيم ( قبل بني أمية ) فلم تنافسوهم وأظهرتم لهم الطاعة ، وقد وقع من الأمر ما قد ترى ( وأدالت هذه الحروب منا ومنكم ) ، وأكلت هذه الحرب بعضها من بعض حتى استوينا فيها ، فما أطمعكم فينا أطمعنا فيكم ، وما آيسكم منّا آيسنا منكم ، وقد رجونا غير الذي كان وخشينا دون ما وقع ، ولستم بملاقينا اليوم بأحدّ من حدّ أمس ، ولا غداً بأحد من حدّ اليوم ، وقد قنعنا بما كان في أيدينا من ملك الشام ، فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق ، وأبقوا على قريش ( واتقوا الله ربكم ) فإنّما بقي من رجالها ستة : رجلان بالشام ورجلان بالعراق ورجلان بالحجاز ، فأمّا اللذان بالشام فأنا وعمرو ، وأمّا اللذان بالعراق فأنت وعليّ ، وأمّا اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر ، واثنان من الستة ناصبان لك ( ولابن عمك ) ، واثنان واقفان فيك ، وأنت رأس هذا الجمع اليوم ، ولو بايع لك الناس بعد عثمان لكنّا إليك ( إلى طاعتك ) أسرع منّا إلى عليّ ( فرأيك فيما كتبت إليك )(١) .

قال نصر في كلام كثير كتب إليه : ( فلمّا انتهى الكتاب إلى ابن عباس ( تبسم ضاحكاً ) أسخطه ، ثمّ قال : حتى متى يخطب ابن هند إليّ عقلي؟ وحتى متى أجمجم على ما في نفسي؟

فكتب إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فقد أتاني كتابك وقرأته ( وفهمت ما سطرت فيه ) ، فأمّا ما ذكرت من سُرعتنا إليك بالمساءة في أنصار ابن عفان ،

____________________

(١) وقعة صفين / ٤٧١.

٤٤٥

وكراهيتنا لسلطان بني أمية ، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره ، حتى صرتَ إلى ما صرتَ إليه ، وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان الوليد بن عُقبة.

وأمّا طلحة والزبير فإنّهما أجلبا عليه وضيّقا خناقه ، ثمّ خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك ، فقاتلناهما على النكث ، وقاتلناك على البغي.

وأمّا قولك : إنّه لم يبق من قريش غير ستة ، فما أكثر رجالها وأحسن بقيتها ، وقد قاتلك من خيارها مَن قاتلك ، ولم يخذلنا إلاّ من خذلك.

وأمّا إغراؤك إيانا بعديّ وتيم ، فأبو بكر وعمر خير من عثمان ، كما أنّ عثمان خير منك ( وأمّا ذكرك الحرب ) فقد بقي لك منا يوم ينسيك ما ( كان ) قبله ، وتخاف ما ( يكون ) بعده.

وأمّا قولك : إنّه لو بايع الناس لي لاستقاموا لي ( لأسرعت إلى طاعتي ) ، فقد بايع الناس عليّاً ( وهو أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمه ووصيه ووزيره ) وهو خير مني فلم تستقيموا له ، وإنّما الخلافة لمن كانت له في المشورة ، ( وأمّا أنت فليس لك فيها حق ) ، وما أنت يا معاوية والخلافة ، وأنت طليق وابن طليق ( رأس الأحزاب وابن آكلة الأكباد ) ، والخلافة للمهاجرين الأولين ، وليس الطلقاء منها في شيء )(١) .

قال نصر في روايته : ( فلمّا انتهى الكتاب إلى معاوية ، قال : هذا عملي بنفسي ، لا والله لا أكتب إليه كتاباً سنة كاملة.

____________________

(١) نفس المصدر / ٢٧٢.

٤٤٦

وقال معاوية في ذلك :

دعوت ابن عباس إلى حدّ خِطة

وكان امرَأً أهدي إليه رسائلي

فأخلف ظنّي والحوادثُ جمّةٌ

ولم يك فيما قال مني بواصلي

وما كان فيما جاء ما يستحقه

وما زادَ أن أغلى عليه مراجلي

فقل لابن عباس تراك مفرّقا

بقولك مَن حولي وأنّك آكلي

وقل لابن عباس تُراك مخوّفا

بجهلك حلمي إنّني غير غافل

فأبرق وأرعد ما استطعت فإنّني

إليك بما يشجيك سبط الأنامل(١)

( وصفين داري ما حييت وليس ما

تربّص من ذاك الوعيد بقاتلي

قال نصر في روايته : ( فلمّا قرأ ابن عباس الشعر ، قال : لن أشتمك بعدها )(٢) .

وقال الفضل بن عباس :

ألا يا بن هند إنّني غير غافل

وإنّك ما تسعى له غير نائل

لأنّ الذي إجتبّت إلى الحرب نابها

عليك وألقت بركها بالكلاكل(٣)

فأصبح أهل الشام ( صرعى فكلّهم )

كفقعةُ قاع أو كشحمة آكل(٤)

____________________

(١) سبط اليدين ، وسبط الأنامل هو السخي.

(٢) وقعة صفين / ٤٧٣ ، الفتوح ٣ / ٥٩ ، والبيت ما بين القوسين منه.

(٣) الكلاكل : جمع كلكل. ـ الصدر ـ ( الصحاح : كلل ).

(٤) الفقعة : الكمآة البيضاء الرخوة ، ويقال للذليل وهو اذل من فقع بقرقرة لأنّه لا يمتنع على من اجتناه ، أو لأنّه يوطأ بالأرجل.

٤٤٧

وأيقنتَ أنا أهل حق وإنّما

دعوتَ لأمر كان أبطل باطل

دعوت ابن عباس إلى السلم خُدعة

وليس لها حتى تدينَ بقابل

فلا سلم حتى تشجر الخيل بالقنا

وتُضرب هامات الرجال الأماثل

وآليتَ : لا تهدي إليه رسالةٌ

إلى أن يحول الحول من رأس قابل

أردتَ به قطع الجواب وإنّما

رماك فلم يخطئ بنانَ المقاتل

وقلتَ له لو بايعوك تبعتهم

فهذا عليّ خير حافٍ وناعل

وصي رسول الله من دون أهله

وفارسه إن قيل هل من منازل

فدونكه إن كنت تبغي مُهاجراً

أشمَّ كنعل السيف غير حُلاحل(١)

فعرض شعره على عليّ فقال : ( أنت أشعر قريش ) ، فضرب بها الناس إلى معاوية )(٢) .

قال ابن أعثم : ( فوصل الكتاب إلى معاوية فقرأه وفهم الشعر فلم يرد على ذلك إلى أن كتب إلى عليّ )(٣) .

أقول : في صحة نسبة هذه الأبيات إلى الفضل بن عباس عندي توقف! لأنّ ابن شهر اشوب المتوفى سنة ( ٥٨٨ هـ ) ذكر منها البيت الخامس منسوباً إلى عبد الله ابن عباس بتغيير في القافية من ( بقائل ) إلى ( بخادع ) ،

____________________

(١) نعل السيف : حديدة في أسفل غمد السيف ، غير حُلاحل ، غير سيّد شجاع أي فدونكه وأنت كنعل السيف غير حُلاحل. وفي الفتوح ( أشم بنصل السيف ليس بناكل ).

(٢) وقعة صفين / ٤٧٤.

(٣) الفتوح ٣ / ٢٥٩.

٤٤٨

وإحتمال وهم النساخ جارٍ في المقام ، خصوصاً وقد ذكر ابن أبي الحديد في ( شرح النهج )(١) البيتين الأخيرين مصرّحاً بنسبتهما إلى عبد الله بن عباس ، وتابعه السيّد شرف الدين في ( المراجعات )(٢) على ذلك ، وأيضاً خلو ما ذكر من أشعار الفضل بن العباس اللهبي من الأبيات المذكورة ، ولا يبعد أن تكون جميعها لعبد الله بن عباس ووهم الراوي أو الناسخ فنسبها إلى الفضل بن عباس لقرب ذكره فيما تقدم له من الشعر في المقام.

ومهما كان الصحيح في نسبة الشعر فإنّه شعر صادق في التعبير عما كان أدخله كتاب ابن عباس ، والشعر الأوّل في نفس معاوية من إنهيار معنوي حتى حلف أن لا يكتب إلى ابن عباس كتاباً سنة كاملة. وأبياته المذكورة تنبئ عن فشله وندامته ولكنه على عادته في المكابرة ختمها بقوله :

فأبرق وأرعد ما استطعت فإنّني

إليك بما يشجيك سبط الأنامل

أي سخيّ بما يشجيك ، ولم يكن يتوقع أن يأتيه من قبل ابن عباس ما يشجيه هو أيضاً ، ولقد صدقت فراسة عمر بن الخطاب في ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاص حين ذكر نفر عنده معاوية وابن العاص ، فقال لهم : ( أين أنتم عن عبد الله بن عباس؟ فقالوا : والله انّه ـ أي كما ذكرت ـ ولكنهما أذكى سنّاً وأطول تجربة. فقال عمر : إنّ هذا

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحيد ١ / ٥٠.

(٢) المراجعات / ٢٨٢.

٤٤٩

لهما عليه ، ولئن بقي يجري في عنانهما ليبرحنّ بهما تبريح الأشقر مقراً وشيحاً )(١) .

نعم لقد برّح بهما أيّما تبريح ، حتى قال معاوية بعد وصول الجواب إليه : ( هذا عملي بنفسي ، لا أكتب والله إليه كتاباً سنة كاملة ).

ومرّ بنا قول عمرو بن العاص معانياً ومعاتباً معاوية على حمله أن يكتب إلى ابن عباس وجاءه الجواب المليء تقريعاً وتسفيهاً ، فقال : ( أنت دعوتني إلى هذا ، ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب ).

ولم يرتدع ابن النابغة عن غيّه بل كان متمادياً في عناده ، وأزداد عتواً ونفوراً بعد أن أخذ مصر طعمة من معاوية ، فكان يرى لنفسه ما يشمخ به ، إلاّ أنّه ما أن يرى ابن عباس إلاّ وتتصاغر نفسه ، ويهبط من عليا كبريائه ، فيحمله الحسد على المراوغة والمداجاة ، وأخيراً إلى المراضاة تخفيفاً لغلوائه ، أنّى يجديه ذلك وفي كلّ مشهد ومقام يرى من ابن عباس ما يزري به ، ويغضّ من قدره.

ولنقرأ بعض المحاورات التي جرت بين ابن العباس وابن العاص. وكلّ منهما على سجيّته وجبَلَته :

____________________

(١) أنباء نجباء الأبناء لابن ظفر المكي / ٨٠ ط مصر. والمعنى برّح به الأمر تبريحاً أي جهده ، والأشقر مَن الخجل حمرته صافية يحمّر معها العرف والذنب ، والمقر ـ ساكن ـ دقّ العنق ، والشيح ـ في لغة هذيل ـ الجادّ في الأمور.

٤٥٠

( لأنّك من اللئام الفجرة )

روى ابن عبد ربه الأندلسي في ( العقد الفريد ) :

( قال أبو مخنف. قال حج عمرو بن العاص. فمرّ بعبد الله بن عباس فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له. وموقعه من قلوبهم.

فقال له : يا بن عباس ، مالك إذا رأيتني وليتني القصرة ، وكأن بين عينيك دبرة ، وإذا كنت في ملأ من الناس كنتّ الهوهات الهمزة.

فقال ابن عباس : لأنّك من اللئام الفجرة ، وقريش الكرام البررة ، لا ينطقون بباطل جهلوه ، ولا يكتمون حقاً علموه ، وهم أعظم الناس أحلاماً ، وأرفع الناس أعلاماً ، دخلتَ في قريش ولستَ منها ، فأنت الساقط بين الحيين ، لا في بني هاشم رحلك ولا في بني عبد شمس راحلتك ؛ فأنت الأثيم الزنيم الضال المضلّ ، حملك معاوية على رقاب الناس ، فأنت تسطو بحلمه ، وتسمو بكرمه.

فقال عمرو : أما والله أنّي لمسرور بك فهل ينفعني ذلك عندك؟

قال ابن عباس : حيث مال الحق ملنا ، وحيث سلك قصدنا )(١) .

( إنّ قريشاً تزعم أنّك أعلمها )

أخرج ابن النجار في تاريخه عن ابن عباس :

( أنّه دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص.

____________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٣١٨.

٤٥١

فقال عمرو : إن قريشاً تزعم أنّك أعلمها ، فلم سُميّت قريش قريشاً؟

فقال : بأمر بيّن.

فقال : ففسّره لنا ، ففسّره.

فقال : هل قال فيهم أحد شعراً؟

قال : نعم سميّت قريش قريشاً بدابة في البحر ، وقد قال الشمرخ بن عمرو الحميري :

وقريش هي التي تسكن البحر

بها سميّت قريش قريشاً

تأكل الغث والسمين ولا تترك

فيه لذي الجناحين ريشاً

هكذا في البلاد حيّ قريش

يأكلون البلاد أكلاً كميشا(١)

ولهم آخر الزمان نبيًّ

يكثر القتل فيهموا والخموشا(٢)

يملأ الأرض خيله ورجال

يحشرون المطيّ حشراً كشيشا

هكذا رواه الزرقاني في ( شرح المواهب اللدنية )(٣) ، وأخرجه ابن عساكر أيضاً إلاّ أنّه ذكر أنّ السائل كان معاوية ، ووصف ابن عباس الدابة بأنّها أعظم دواب البحر ، وعزا هذه الأبيات للجمحي.

____________________

(١) كميشاً : سريعاً.

(٢) الخموش : الخدوش.

(٣) شرح المواهب اللدنية ١ / ٧٦ ط الأولى الأزهرية ١٣٢٥ هـ.

٤٥٢

( فليت شعري بأيّ قدر تتعرض للرجال )

( حضر عبد الله بن جعفر مجلس معاوية ، فقال عمرو بن العاص : قد جاءكم رجل كثير الخلوات بالتمني ، والطربات بالتغني ، محبّ للقيان ، كثير مزاحه ، شديد طماحه ، صدود عن السنان ، ظاهر الطيش ، رخيّ العيش ، أخّاذ بالسلف ، منفاق بالسرف.

فقال له ابن عباس : كذبت والله أنت ، وليس كما ذكرت ، ولكنه لله ذكور ، ولنعمائه شكور ، وعن الخنا زجور ، جواد كريم ، سيد حليم ، إذا رمى أصاب ، وإذا سئل أجاب ، غير حصر ولا هيّاب ولا عيّابة مغتاب ، حلّ من قريش في كريم النصاب ، كالهزبر الضرغام ، الجريّ المقدام ، في الحسب القمقام ، ليس بدعيّ ولا دنيّ ، ولا كمن أختصم فيه من قريش شرارها ؛ فغلب عليه جزّارها ، فأصبح الأمها حسباً ، وأدناها منصباً ، ينوء منها بالذليل ، ويأذى منها إلى القليل ، مذبذب بين الحييّن ، كالساقط بين المهدين ، لا المضطر فيهم عرفوهُ ، ولا الظاعن عنهم فقدوه ؛ فليت شعري بأيّ قدر تتعرض للرجال ، وبأيُ حَسَب تعتد به تبارز عند النضال ، أبنفسك وأنت الوغد اللئيم ، والنكد الذميم ، والوضيع الزنيم ، أم بمن تنتمى إليهم ، وهم أهل السفه والطيش ، والدناء في قريش ، لا بشرف في الجاهلية شهروا ، ولا بقديم في الإسلام ذكروا ، جعلت تتكلم بغير لسانك ، وتنطق بالزور في غير أقرانك ، والله لكان أبين للفضل ، وأبعد للعدوان ، أن ينزلك معاوية منزلة البعيد السحيق ، فإنّه طالما سلسل داؤك ، وطمح بك رجاؤك ،

٤٥٣

إلى الغاية القصوى التي لم يخضرّ فيها رعيك ، ولم يورق فيها غصنك.

فقال عبد الله بن جعفر : أقسمت عليك لمّا أمسكت فإنّك ناضلت ولي قارضت.

فقال ابن عباس : دعني والعبد ، فإنّه قد كان يهدر خالياً ، ولا يجد ملاحياً ، وقد أتيح له ضيغم شرس ، للأقران مفترس ، وللأرواح مختلس.

فقال ابن العاص : دعني يا أمير المؤمنين أنتصف منه فوالله ما ترك لي شيئاً.

قال ابن عباس : دعه فلا يبقي المبقي إلاّ على نفسه ، فوالله إنّ قلبي لشديدٌ ، وإنّ جوابي لعتيد ، وأني لكما قال نابغة بني ذبيان :

وقَدِماً قد قرّعَتُ وقارعوني

فما نَزرُ الكلام ولا شجاني

يصدّ الشاعر العرآف عني

صدود البكر عن قرم هِجانِّ(١)

( لك يدان ووجهان )

ذكر البلاذري وغيره :

( قال قام عمرو بن العاص بالموسم فأطرى معاوية وبني أمية وتناول بني هاشم ، ثم ذكر مشاهده بصفين ويوم أبي موسى.

فقام إليه عبد الله بن عباس ، فقال : يا عمرو إنّك بعتَ دينك من معاوية

____________________

(١) المحاسن والأضداد للجاحظ / ١٠١ ، المحاسن والمساويء للبيهقي ١ / ٦٨ ط السعادة بمصر ١٣٢٥.

٤٥٤

فأعطيته ما في يدك ، ومنّاك ما في يد غيره ، فكان الذي أخذهُ منك فوق الذي أعطاك ، وكان الذي أخذتَ منه دون ما أعطيته ، وكلٌ راضٍ بما أخذ وأعطى ، فلمّا صارت مصر في يدك تتّبعك بالنقص عليك والتعقّب لأمرك ، ثم بالعزل لك ، حتى لو أنّ نفسك في يدك لأرسلتها ، وذكرتَ يومك مع أبي موسى ، فلا أراك فخرتَ إلا بالغدر ، ولا منّيت إلاّ بالفجور والغش ، وذكرت مشاهدك بصفين ، فو الله ما ثقلتَ علينا يومئذ وطأتك ، ولا نكأت فينا جرأتك ، وإن كنت فيها لطويل اللسان وقصير السنان ، آخر الحرب إذا أقبلت ، وأوّلها إذا أدبرت ، لك يدان ، يد لا تقبضها عن شرّ ، ويد لا تبسطها إلى خير ، ووجهان ، وجه مؤنس ، ووجه موحش ، ولعمري إنّ من باع دينه بدنيا غيره لحريً أن يطول حزنه على ما باع وأشترى. أما إنّ لك بياناً ولكن فيك خَطل ، وإنّ لك رأياً ولكن فيك فشل ، ولك قدر وفيك حسد وإنّ أصغر عيبك فيك لأعظم عيب في غيرك.

فقال عمرو : أما والله ما في قريش أحد أثقل وطأة عليّ منك ، ولا لأحد من قريش قدر عندي مثل قدرك )(١) .

أقول : إنّ قول ابن عباس لعمرو : ( إنّك بعت دينك من معاوية ) إلى آخر كلامه الذي تابع فيه مزاعم عمرو في إطرائه لمعاوية وبني أمية ، وتناوله بني هاشم ثم ذكر مشاهده بصفين ، ويوم أبي موسى ، لم يرد فيه الردّ على إطراء

____________________

(١) البيان والتبيان للجاحظ ٢ / ٢٣٩ ، العقد الفريد٢ / ٤٥٩ ، التذكرة الحمدونية ٧ / ١٩٦ ، نثر الدر للآبي أيضاً.

٤٥٥

عمرو لمعاوية وبني أمية ، ولا على تناوله بني هاشم ، وإنّما ورد فقط الردّ على مشاهد عمرو يوم صفين ويوم أبي موسى ، فيا ترى من الذي ضاق ذرعاً فلم يذكر ما قاله عمرو في معاوية وبني أمية وما تناول به بني هاشم؟ وماذا كان رد ابن عباس عليه في ذلك؟ إنّها غمغمة الرواة ، وإزمة التاريخ.

ومهما يكن نص ذلك المحذوف ، فهو لا يخرج في معناه عما بقي ، وفيه الدلالة على سفاهة عمرو إذ باع دينه من معاوية بمصر ، ومع ذلك لم تكن الصفقة رابحة لكلّ منها ، إذ كان معاوية يكيد عمروا ، وهو يكيد معاوية ، وما أكثر الشواهد على ذلك ، وحديث الوهط(١) ، وحده يكفي شاهداً.

فقد ذكر البكري في ( معجم ما استعجم ) : ( حدّث سفيان بن عمرو ابن دينار ، عن مولى لعمرو بن العاص : أنّ عمرواً أدخل في تعريش الوهط ألف ألف عود قام كلّ عود بدرهم ، فقال معاوية لعمرو : من يأخذ مال مصرين يجعله في وهطين ويُصلى سعير نارين )(٢) .

وقد روى البلاذري في ( أنساب الأشراف ) بإسناده عن ميمون بن مهران : ( أنّ معاوية قال لعمرو بن العاص : أحبّ أن تصفح لي عن الوهط ضيعتك.

فقال : يا أمير المؤمنين أحبّ أن تعرض لي عنها.

____________________

(١) الوهط : الموضع المطمئن المستوى من الأرض ، وبه سمي الوهط مال كان لعمرو بن العاص كذا في لسان العرب.

(٢) معجم ما استعجم ٤ / ١٣٨٤.

٤٥٦

قال : لا ، فأبى عمرو أن يفعل.

فقال معاوية : مثلك يا عمرو كمثل ثور في روضة ، إن تُرك رتع ، وإن هيج نطح.

فقال عمرو : ومثلك يا أمير المؤمنين مثل بعير في روضة يصيب من أخلاط الشجر فيها ، فرأى شجرة على صخرة زلاّء فرغب عمّا هو فيه ، وتعاطى الشجرة فتكسّر )(١) .

وروي البلاذري أيضاً : ( قال الهيثم بن عدي : أراد معاوية أن يأخذ أرضاً لعمرو بن العاص ، فكتب إليه عمرو بشعر ( هجى به ) خفاف بن ندبة :

أبا خراشة إمّا كنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضبعُ

وكلّ قومك يخشى منك بائقة

فأنفر قليلاً وأبصرها بمن تقعُ

فالسلم تأخذ منها ما رضيتَ به

والحرب يكفيك من أنفاسها الجُرَعُ(٢)

وهكذا هي صحبة أهل الدنيا فيما بينهم : يتصاحبون على غير تقيً ويكيد بعضهم بعضاً.

فكذلك كان صحبة عمرو بن العاص مع معاوية ، فهو قد باع دينه بولاية مصر ، فخسرت صفقة البايع حيث بدت بوادر الخلاف بينهما ، فكان يكيد أحدهما الآخر ، فكانت عاقبة عمرو بن العاص عند معاوية سيئة ، رغم أنّه خالف الله ورسوله في طاعته ، وحالف الشيطان في نصرته.

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق٤ / ٦٨. تح إحسان عباس.

(٢) نفس المصدر ١ / ق٤ / ٧٠ برقم ٢٤٠.

٤٥٧

فقد روى البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، قال : ( وفد عمرو بن العاص على معاوية ومعه قوم من أهل حمص ، فأمرهم إذا دخلوا أن يقفوا ولا يسلّموا بالخلافة ، فلمّا دخلوا ، قالوا : السلام عليك يا رسول الله ، وتتابعوا على ذلك ، فضحك معاوية ، وقال : أعزبوا وزجرهم؟

فلما خرجوا قال لهم عمرو : نهيتكم عن أن تسلّموا بالخلافة فسلّمتم بالنبوة ، عليكم لعنة الله )(١) .

وهذا ما رواه الطبري في تاريخه ، وابن الأثير في كامله ، وابن كثير في ( البداية والنهاية ) ، ولكن مع أهل مصر. إذ لم يقف عمرو بن العاص عند تلك التجرية الأولى موقف المتبصر المعتبر فيأخذ العبرة ، بل ازداد في كيده ، وإلى القارئ الخبر بلفظ الطبري ، قال : ( أخبرت أن عمرو بن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر ، فقال لهم عمرو : أنظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا تسلّموا عليه بالخلافة ، فإنّه أعظم لكم في عينه ، وصغّروه ما استطعتم.

فلمّا قدموا عليه ، قال معاوية لحجّابه : إنّي كأنّي أعرف ابن النابغة ، وقد صغّر أمري عند القوم ، فأنظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها ، فلا يبلغني رجل منهم إلاّ وقد همّته نفسه بالتلف ، فكان أوّل من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له ابن الخيّاط وقد تُعتع ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فتتايع القوم على ذلك ، فلمّا خرجوا قال لهم عمرو : لعنكم الله ،

____________________

(١) نفس المصدر ١ / ق٤ / ٣١.

٤٥٨

نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة فسلّمتم عليه بالنبوة )(١) .

وأطرف من هذا وذاك رؤيا عمرو للخلفاء الثلاثة ومعاوية فقصّها على معاوية ، فأجابه معاوية مستهزءاً به بما يأتي كما في ( معجم ما استعجم ) للبكري في مادة ( الحزورة(٢) ، فليقرأها القارئ ليعرف مكايدة أحدهما للآخر :

( وقال عمرو بن العاص لمعاوية : رأيت في منامي أبا بكر حزيناً ، فسألته عن شأنه ، فقال : وُكّل بي هذان لمحاسبتي ، وإذا صحف يسير ورأيت عمر كذلك ، وإذا صحف مثل الحزورة ورأيت عثمان كذلك ، وإذا صحف مثل الخندمة(٣) ورأيتك يا معاوية وصحفك مثل أحد(٤) وثبير.

فقال له معاوية : أفرأيت ثَمَّ دنانير مصر ( برابي مصر )؟ )(٥) .

فهذا الكلام هو رؤيا منام فإن صحت الأحلام ينبئ عن سوء عقيدة عمرو بن العاص بكلّ الخلفاء الذين ذكرهم ، فهو لم يقل عن واحد منهم لم يكن حزيناً ، وأن صحيفته خالية ممّا يؤاخذ ويحاسب عليه ، فقال عن أبي بكر رأيته حزيناً ، وقال عن عمر كذلك ، وعن عثمان كذلك ، وكلّ

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٣٠ ط دار المعارف ، الكامل ٤ / ٧ ، البداية والنهاية ابن كثير ٨ / ١٤٠ ط السعادة بمصر.

(٢) الحزورة : موضع بمكة يلي البيت.

(٣) الخندمة : اسم جبل بمكة.

(٤) أحد : جبل تلقاء المدينة.

(٥) معجم ما استعجم٢ / ٤٤٥ ، تحقيق مصطفى السقى ط القاهرة ١٣٦٦ هـ.

٤٥٩

منهم لديه صحفاً منشّرة يحاسب عليها ، وقد تزايدت صحائف المتأخر على المتقدم ، حتى أضحت صحائف عثمان في حجم جبل الخندمة ، أما صحف معاوية فهي في حجم جبلي أحد وثبير.

واللافت للنظر أنّه لم يذكر عليّاً معهم ، إمّا لأنّه لا يراه خليفة ، مع إجماع المسلمين ـ إلاّ من شذّ ـ أنّه كان خليفة وإن عدّوه رابع الخلفاء ، ولعلّه إنّما لم يذكره لأنه لم ير فيه ما يشين سلوكه في سيرته أيام خلافته ، لأنّه كان مع الحق والحق معه ، وشعر ابن النابغة في القصيدة الجلجلية يشهد بذلك(١) .

( ما أرسلت كلمة إلا أرسلت نقيضها )

( دخل ابن عباس على عمرو بن العاص في مرضه فسلَم عليه ، وقال : كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟

قال : أصبحت وقد أصلحتُ من دنياي قليلاً ، وأفسدتُ من ديني كثيراً ، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت ، والذي أفسدت هو الذي أصلحت لفزت ، ولو كان ينفعني أن أطلب لطلبت ، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت ، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض لا أرقى بيدين ولا أهبط برجلين(٢) ، فعظني بعظة أنتفع بها يا بن أخي.

____________________

(١) أنظر الغدير ٢ / ١٧٦ ط مركز الغدير.

٢ ـ ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ٢ / ١١٣ : ( أن ابن عباس قال له : يا ابا عبد الله كنت تقول أشتهي أن أرى عاقلاً يموت حتى أسأله كيف تجد؟

قال : أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينها ، وأراني كأنما أتنفس من خرق إبرة ).

٤٦٠

فقال له ابن عباس : هيهات يا أبا عبد الله ، صار ابن أخيك أخاك ، ولا تشاء أن تبكي إلاّ بكيت ، كيف يؤمن برحيل مَن هو مقيم؟

فقال عمرو : وعلى حينها! حين ابن بضع وثمانين سنة تقنطني من رحمة ربّي ، اللهم إنّ ابن عباس يقنّطني من رحمتك ، فخذ منّي حتى ترضى.

فقال ابن عباس : هيهات يا أبا عبد الله أخذتَ جديداً وتُعطي خَلِقاً.

فقال عمرو : ما لي ولك يا بن عباس؟ ما أرسلت كلمة إلاّ أرسلت نقيضها )(1) .

فقال ابن قتيبة في ( المعارف ) : ( ثم وضع إصبعه في فمه حتى مات )(2) .

وروى اليعقوبي في تاريخه ، قال : ( ولمّا حضرت عمرواً الوفاة ، قال : لابنه : لودّ أبوك أنّه كان مات في غزاة ذات السلاسل ، إنّي قد دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند الله فيها.

ثم نظر إلى ماله فرأى كثرته ، قال : ياليته كان بعراً ، ياليتني مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة ، أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني ، أثرت دنياي وتركت آخرتي ، ( عمي ) عليَّ رشدي حتى حضرني أجلي ، كأنّي بمعاوية قد حوى ما لي وأساء فيكم خلافتي.

ـ قال الله تعالى :( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) (3) ، وقال تعالى :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً

____________________

(1) الإستيعاب لابن عبد البر2 / 436 في ترجمة عمرو بن العاص ، رغبة الآمل3 / 214.

(2) المعارف / 286 تح عكاشة.

(3) البقرة / 167.

٤٦١

أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ـ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (1) ـ

وتوفي عمرو ليلة الفطر سنة 43 ، فأقرّ معاوية ابنه عبد الله بن عمرو ثم استصفى مال عمرو ، فكان أوّل من استصفى مال عامل ، ولم يكن يموت لمعاوية عامل إلاّ شاطر ورثته ماله ، فكان يكلّم في ذلك ، فيقول : هذه سنّة سنّها عمر بن الخطاب )(2) .

أقول : فلينظر العمريون أين تكون تلك السنّة؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من سنّ سنّة سيئة عُمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها )(3) .

وأخيراً فلينظر أبناء كثير وتيمية وقيّم الجوزية ، كيف كانت صحابتهم الذين يوالونهم ويعادون من عاداهم على غير هدى من الله ، وليفرحوا بما قاله ابن قيّمهم في تقيميهم في كتابه ( المنار المنيف ) ، الأحاديث بالإرقام التالية :

( 250 ـ ومن ذلك الأحاديث في ذم معاوية.

____________________

(1) الأنعام / 93 ـ 94.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 222.

(3) مسند أحمد4 / 361 ، وراجع موسوعة أطراف الحديث النبوي 8 / 319 ـ 320.

٤٦٢

251 ـ وكلّ حديث في ذمّه فهو كذب.

252 ـ وكلّ حديث في ذمّ عمرو بن العاص فهو كذب.

253 ـ وكلّ حديث في ذمّ بني أمية فهو كذب ، وكلّ حديث في ذمّ يزيد بن معاوية فكذب ).

وزاد المعلق في الهامش في الطنبور نغمة ، فقال : ( وأحاديث ذمّ معاوية ، أو عمرو بن العاص ، أو يزيد بن معاوية من وضع غلاة الشيعة ، القصد منها تفضيل عليّ ، وليس فضل عليّ بحاجة إلى وضع أحاديث. ومعاوية وعمرو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصحّ لمسلم الخوض فيهما ، وكلّ منهما له فضل ومناقبه ، أمّا يزيد فهو متروك إلى الله يحاسبه عما جنت يداه )(1) .

أقول : ما ذنب غلاة الشيعة في هذا ، وجميع ما تقدم من محاورات رواها أعلام السنة في كتبهم! فإن كان غلاة الشيعة قد اخترقوا الحواجز حتى كتبوا في مصادر أهل السنة ما القصد منه تفضيل عليّ؟ فليحرق أهل السنة تلك المصادر ويبوؤا بالخسران ، وليت ابن قيّم الجوزية ومن نقّ معه هذّبوا كتاب ( الإصابة ) لابن حجر العسقلاني من تراجم بعض الصحابة ممن كان يماكس ويعافس في بيع دينه بإعترافه كالحتات المجاشعي المذكور.

قال ابن حجر : ( ذكره ابن إسحاق وابن الكلبي فيمن وفد من بني

____________________

(1) المنار المنيف / 110 الفصل 33.

٤٦٣

تميم على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأسلموا ، وقال ابن هشام هو القائل :

لعمر أبيك فلا تكذبن

لقد ذهب الخير إلاّ قليلا

لقد فتن الناس في دينهم

وأبقى ابن عفان شراً طويلا(1)

ثم قال ابن حجر : وأخرج الدارقطني في المؤتلف ومن طريقه أبو عمر من رواية نصر بن علي الأصمعي عن الحارث بن عمير عن أيوب ، قال : غزا الحتات المجاشعي وحارثة بن قدامة والأحنف ، فرجع الحتات فقال لمعاوية : فضّلت عليَّ محرقاً ومخذلاً؟ قال : أشتريت منهما ذمتهما ، قال : فاشتر مني ذمتي ـ وهذا من التحريف المتعمد ، والصواب : ( اشتريت منهما دينهما ، قال : فاشتر مني ديني ) كما في ( الإستيعاب ) في ترجمة الحتات(2) ! ـ )(3) .

وممّا يستطرف من حديث هذا الصحابي ما رواه ابن عبد البر في ترجمته ، حيث قال : ( ذكره ابن إسحاق وابن هشام وابن الكلبي ، وقالوا : آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الحتات وبين معاوية بن أبي سفيان ، فمات الحتات عند معاوية في خلافته ، فورثه بتلك الإخوة.

فقال الفرزدق في ذلك لمعاوية :

____________________

(1) البيتان المذكوران في 1 / 310 ط مصطفى محمد بهامش الإستيعاب.

(2) الإستيعاب لابن عبد البر 1 / 413.

(3) ترجمة الحتات 1 / 394 ، هامش الإصابة ، نفس الطبعة المشار إليها.

٤٦٤

أبوك وعمي يا معاوية أورثا

تراثا فيحتاز التراث أقاربه

فما بال ميراث الحتات أكلته

وميراث صخر جامد لك دائبه

قال ابن هشام : وهذان البيتان في أبيات له.

والحتات بن يزيد هذا هو القائل :

لعمر أبيك فلا تكذبن

لقد ذهب الخير إلا قليلاً

لقد فتن الناس في دينهم

وخلّى ابن عفان شرا طويلا

وأوّل هذه الأبيات :

نأتك أمامة نأيا محيلا

وأعقبك الشوق حزناً طويلا

وحال أبو حسن دونها

فما تستطيع إليها سبيلا

لعمر أبيك الخ

وكان هرب من عليّ رضي الله عنه إلى معاوية ، وللحتات بنون عبد الله وعبد الملك ومنازل بنو الحتات ولّوا لبني أمية )(1) .

أقول : وهذا أيضاً ترجمه ابن الأثير في ( أسد الغابة )(2) وذكر بيع الدين. فيا ترى من هو الغالي من الروافض الذي اخترق صفوف أهل السنة فأدخل هذه المخزاة في مصادر تراجم الصحابة؟ وكم لحتات من نظير؟

( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (3) .

____________________

(1) الإستيعاب 1 / 413.

(2) أسد الغابة 1 / 379.

(3) الحج / 46.

٤٦٥

محاورته مع الأشعث بن قيس

أخرج الطبراني في ( المعجم الكبير ) بسنده عن عيسى بن يزيد ، قال :

( استأذن الأشعث على معاوية بالكوفة فحجبه مليّاً وعنده العباس والحسن بن علي رضي الله عنهما.

فقال : أعن هذين حجبتني يا أمير المؤمنين؟ تعلم أنّ صاحبهما جائنا فملأنا كذباً ـ يعني عليّاً ـ.

فقال ابن عباس : أتراني أسبك بابن أبي طالب؟

قال : ما سبّ عربي خير منّي.

فقال ابن عباس : عبد مهرة ، قتل جدك ، وطعن في أست أبيك.

فقال : ألا تسمع مايقول لي يا أمير المؤمنين؟

قال : أنت بدأت )(1) .

ورواه الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ، وقال : ( رواه الطبراني في الكبير وفيه جماعة لا أعرفهم )(2) .

أقول : وفي النفس من صحة هذا الخبر شيء ، إذ أن ابن عباس لم

____________________

(1) المعجم الكبير 1 / 238.

(2) مجمع الزوائد 7 / 248.

٤٦٦

يكن قد حضر الصلح ، ولم يجتمع مع معاوية بالكوفة ـ وقد مرّ أن ذكرت في الجزء الخامس من الحلقة الأولى زمان ومكان أوّل لقاء بينهما ـ وأحسب أنّ المراد بابن عباس في الخبر هو عبيد الله بن عباس الذي كان مع قيس بن سعد في مقدمة جيش الإمام الحسن عليه السلام وقيل عنه ما قيل من خيانة ترك الجيش وذهب إلى معاوية ، وهذا الخبر إن صح سندا ودلالة فهو يلقي بضلال الشك على ما قيل في عبيد الله.

٤٦٧

محاورته مع عتبة بن أبي سفيان

( قال عتبة بن أبي سفيان لعبد الله بن عباس رضي الله عنه : ما منع عليّاً أن يبعثك مكان أبي موسى الأشعري يوم الحكمين؟

قال : منعه والله من ذلك حاجز القدر ، وقصر المدة ، ومحنة الإبتلاء. أما والله لو بعثني مكانه لاعترضت لعمرو في مدارج نفسه ، ناقضاً ما أبرمه ، ومبرماً ما أنقضه ، أسفُ إذا طار ، وأطير إذا أسف ، ولكن مضى قدر وبقي أسف ، ومع اليوم غد ، والآخرة خير لأمير المؤمنين من الأولى )(1) .

وقالوا : لمّا استتبَّ الأمرُ لمعاوية قدم عليه عبد الله بن عباس ، وهي أوّلُ قدمةٍ قدمها عليه ، فدخل وكأنّه قُرْحَة تتبجس(2) ، فجعل عتبةُ بن أبي سفيانَ يطيلُ النظر إليه ويقلُّ الكلام معه.

فقال ابن عباس : يا عتبة إنّك لتطيلُ النظر إِليَّ وتقلُّ الكلام معي ،

____________________

(1) جاء ذلك في أمالي المرتضى 1 / 207 ، وشرح النهج للمعتزلي 1 / 195 ، وإعجاز القرآن للباقلاني / 122 ، والعقد الفريد للملك السعيد / 11 ، والمنتخب من كناية الأدباء وإشارات البلغاء للقاضي الجرجاني / 147 ( ت 482 هـ ) ، ط السعادة بمصر 1356 هـ ، وإسرار البلاغة بذيل المخلاة / 4 ، وجمهرة خطب العرب 2 / 92.

(2) تتبجس : أي تتفجر من قولهم : إنبجس الماء وتبجس : أي تفجّر ( الصحاح / بجس ).

٤٦٨

أفلموجدةٍ فدامت أو لمعْتَبَةٍ فلا زالت؟

فقال له عتبة : ماذا أبقيت لما لا رأيت؟ أمّا طولُ نظري إليك فسروراً بك ، وأمّا قلّةُ كلامي معك فلقلَّتِهِ مع غيرك ، ولو سلطت الحقَّ على نفسك لعلمتَ أنّه لا تنظرُ إليكَ عينُ مبغض.

فقال ابن عباس : أَمهيتَ يا أبا الوليد أَمهيتَ ، لو تحقْقَ عندنا أكثر ممّا ظنناه لمحاهُ أقلُّ ممّا قلت.

فذهب بعضُ من حضر ليتكلم ، فقال له معاوية : أسكتْ إنَّ الداخل بين قريشٍ لخائن نفسه. وجعل معاويةُ يصفّقُ بيديه ويقول : [من الرجز] :

جندلتانِ اصطكتا اصطكاكا

دعوتُ عَرْكا إذ دَعَوْا عراكا

( إنّ الداخل بين قريش لخائن نفسهِ ).

يقال : أمهيتَ الحديدةَ إذا سميتها ، والأمهاء : إرخاءُ الحبل. وأمهيت الفرسَ : أرخيتُ عنانه. ولبن ممهوّ : رقيق ، وناقة ممهاء : رقيقة اللبن(1) .

____________________

(1) التذكرة الحمدونية 5 / 53 برقم 124 ، والبصائر 6 / 26 ـ 27 ( برقم / 57 ) ، ونور القبس / 189 ، ونثر الدر 3 / 115 ، وما بين القوسين منه.

٤٦٩

محاورته مع زياد ( الدعيّ )

( إنّك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت )

قالوا : ( إنّ عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد ، فرحّب به معاوية وألطفه وقرّب مجلسه ، ووسّع له إلى جنبه ، وأقبل عليه يسائله ويحادثه ، وزياد ساكت فلم يكلّمه شيئاً.

فأبتدأ ابن عباس وقال له : ما بالك أبا المغيرة كأنّك أردتَ أن تحدث بيننا وبينك هجرة؟

قال : لا ، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين.

فقال له ابن عباس : ما أدركت الناس إلاّ وهم يسلّمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم.

فقال له معاوية : كفّ عنه يا بن عباس فإنّك لا تشاء أن تغلب إلاّ غلبت )(1) .

____________________

(1) العقد الفريد 1 / 10 ، و 2 / 9 ، نهاية الإرب 6 / 14.

٤٧٠

محاورته مع أبي موسى الأشعري

( لمّا استقام رأيُ الناسِ على جعل أبي موسى حكماً لأهل العراق بصفّين.

أَتاهُ عبدُ الله بنُ عباس ـ وعنده وجوهُ الناس وأَشرافُهم ـ فقال : يا أبا موسى ، إنّ الناسَ لم يرضَوْا بك ولم يجتمعوا عليك لفضلٍ لا تُشارَكُ فيه ، وما أَكثَر أشباهَكَ من المهاجرين والأنصار والمقدَّمِين قَبْلَكَ ، ولكنَّ أَهلَ الشَّامِ أبَوْا غيْرَك ، وايمُ الله إنّي لأَظنُّ ذلك شرَّاً لنا وخيراً لهم ، وإنّه قد ضُمَّ إليك داهيةُ العرب ، وليس في معاويةَ خَصْلَةٌ يَستحقُّ بها الخلافة ؛ فإن تقذِفْ بحقِّكَ على باطِلِه تُدرِكْ حاجتَكَ ، وإنْ تُطمِعْ باطلَهُ في حقِّكَ يُدرِكْ حاجتَهُ فيك.

إعلم أنّ معاوية طليقُ الإسلامِ ، وأنّ أباه من الأحزاب ، وأنّه ادعى الخلافةَ من غير مَشُورةٍ ، فإن صدَّقَكَ فقد صرَّحَ بخلعِهِ ، وإن كذَبَكَ فقد حَرُمَ عليك كلامُهُ ، وإن ادعى أنّ عمرَ وعثمانَ إستعملاه فَصدَقَ : فأمّا عمرُ استعملَهُ وهو الوالي عليه ، بمنزلةِ الطبيبِ من المريضِ يحميه ممّا يشتهي ويؤخِّرُهُ ممّا يكره ، ثم استعمله عثمان برأي عمر ، وما أكثر من استعملاه ثم لم يَدَّعُوا الخلافة ، وهو منهم واحد.

٤٧١

واعلَمْ أنّ لعمروٍ مع كلِّ شيءٍ يسرُّك حيناً يَسوءُك ، ومهما نسيتَ فلا تنسَ أن عليّاً بايَعهُ القومُ الذين بايعوا أبا بكر وعمرَ وعثمانَ ، فإنّها بيعةُ هدى ، وأنّه لم يقاتِلْ إلاّ غاصِباً أو ناكثاً.

فقال أبو موسى : رحمك الله ، والله ما لي إمامٌ غيرُ عليّ ، وإنّي لواقفٌ عند ما أرى ، ولِرَضى الله أَحبُّ إِليَّ من رضى أهلِ الشام ، وما أنا وأنت إلاّ بالله )(1) .

____________________

(1) التذكرة الحمدونية 7 / 196 برقم 904 ، ونثر الدر للآبي 1 / 421 ، كما في الهامش الأول.

٤٧٢

محاورته مع عروة بن الزبير

( ما تقول يا عُريّة )

أخرج ابن عبد البر في كتابه ( التمهيد كما في الموطأ من المعاني والأسانيد ) :

( إنّ عروة قال لابن عباس : أضللت الناس؟

قال : وما ذلك؟

قال : تفتي الناس إذا طافوا بالبيت فقد حلّوا ، وقال أبو بكر وعمر : من أحرم بالحج لم يزل محرماً إلى يوم النحر.

فقال ابن عباس : أحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحدثوني عن أبي بكر وعمر.

فقال عروة : كانا أعلم برسول الله منك )(1) .

وأخرج الذهبي في ( تذكرة الحفاظ ) في ذيل ترجمة محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج بسنده ، عن سعيد بن جبير :

( فقال ابن عباس : ما تقول يا عريّة؟

قال : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة.

____________________

(1) التمهيد 3 / 522.

٤٧٣

فقال : أراهم سيهلكون أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقولون : قال أبو بكر وعمر؟!.

قال ابن حزم : إنّها لعظيمة ما رضي بها قط! أبو بكر وعمر )(1) !!

وذكر ابن قيم الجوزية في ( زاد المعاد ) عن أيوب :

( قال عروة لابن عباس : ألا تتقي الله ترخّص في المتعة؟

فقال ابن عباس : سل أمك ياعريّة.

فقال عروة : أمّا أبو بكر وعمرفلم يفعلا.

فقال ابن عباس : والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله ، نحدثكم عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتحدثونا عن أبي وبكر؟! )(2) .

____________________

(1) تذكرة الحفاظ 3 / 873.

(2) زاد المعاد 2 / 213.

٤٧٤

إحتجاجاته على ابن الزبير

( سل أمّك عن بردي عوسجة )

( خطب ابن الزبير بمكة على المنبر وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر.

فقال : إنّ ههنا رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره ، يزعم أنّ متعة النساء حلال من الله ورسوله ، ويفتي في القملة والنملة ، وقد أحتمل بيت مال البصرة بالأمس وترك المسلمين بها يرتضخون النوى ، وكيف ألومه في ذلك وقد قاتل أم المؤمنين وحواريّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن وقاه بيده.

فقال ابن عباس لقائده سعيد بن جبير بن هشام ـ مولى بن أسد بن خزيمة ـ : استقبل بي وجه ابن الزبير ، وأرفع من صدري. وكان ابن عباس قد كفّ بصره.

فاستقبل به قائدُه عكرمةُ وجه ابن الزبير ، وأقام قامته فحسر عن ذراعيه ثم قال : يا ابن الزبير :

قد أنصف القارة من راماها

إنّا إذا ما فئةٌ نلقاها

نردّ أولاها على آخراها

حتى تصير حَرَضاً دعواها

٤٧٥

يا بن الزبير أمّا العمى فإنّ الله تعالى يقول :( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (1) ، ثم أنشأ قوله :

إن يأخذ الله من عينيّ نورهما

ففي لساني وقلبي منهما نور

وأمّا فتياي في القملة والنملة ، فإنّ فيهما حكميَن لا تعلمهما أنت ولا أصحابك.

وأمّا حملي المال ، فإنّه كان مالاً جبيناه فأعطينا كلّ ذي حق حقه ، وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله ، فأخذناه بحقنا.

وأمّا المتعة ، فسل أمك أسماء إذا نزلت عن بردي عوسجة ).

ـ وفي رواية : ( أوّل مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير ) ، وفي رواية ثالثة : ( فإنّ أوّل متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك ) ـ

وأمّا قتالنا أم المؤمنين ، فبنا سُمّيت أم المؤمنين لا بك ولا بأبيك ، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مدّه الله عليها فهتكاه عنها ، ثم اتخذاها فئة يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما ، فما أنصفا الله ولا محمداً من أنفسهما ، أن ابرزا زوجة نبيّه وصانا حلائلهما.

وأمّا قتالنا إياكم ، فإنّا لقيناكم زحفاً ، فإن كنّا كفاراً فقد كفرتم بفراركم منّا ، وإن كنّا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا.

ـ وفي رواية : ( فقد لقيت أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى ، فإن يكن

____________________

(1) الحج / 46.

٤٧٦

على ما أقول فقد كفر بقتالنا ، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنا ) ـ

وأيم الله لولا مكان صفية فيكم ومكان خديجة فينا لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظماً إلاّ كسرته.

فانقطع ابن الزبير.

ولمّا عاد إلى أمّه سألها عن بردي عوسجة؟ فقالت : يا بني ما ولدتك إلاّ في المتعة ، ألم أنهك عن ابن عباس وعن بني هاشم فإنّهم كَعم الجواب إذا بدهوا.

فقال : بلى وعصيتك.

فقالت : يا بني أحذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الإنس والجن ، واعلم أنّ عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها ، فأياك وإياه آخر الدهر.

فقال أيمن بن خزيمة بن فاتك الأسدي :

يا ابن الزبير لقد لاقيتَ بائقة

من البوائق فالطف لطف محتال

لاقيته هاشمياً طاب منبته

في مغرسيه كريم العمّ والخال

ما زال يقرع منك العظم مقتدراً

على الجواب بصوت مسمع عال

حتى رأيتك مثل الكلب منحجراً

خلف الغبيط وكنت الباذخ العالي

إن ابن عباس المعروف حكمتَه

خير الأنام له حال من الحال

عيرّتُه المتعة المتبوع سنّتها

وبالقتال وقد عيّرت بالمال

لمّا رماك على رسلٍ بأسهمه

جرت عليك كسوف الحال والبال

٤٧٧

فأحتز مقولك الأعلى بشفرته

حزاً وحيّاً بلا قيل ولا قال

وأعلم بأنّك إن عاودت غيبته

عادت عليك مخازِ ذات أذيال )(1)

أقول : وأورد الحادثة الحافظ جمال الدين الزيلعي في ( نصب الراية لأحاديث الهداية ) نقلاً عن مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير :

( أنّ عبد الله بن الزبير قام بمكة ، فقال : إنّ ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة ـ يعرّض برجل ـ.

فناداه فقال : إنّك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة في عهد إمام المتقين ـ يريد رسول الله ـ.

فقال له ابن الزبير : فجرّب نفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك )(2) .

وعلّق ابن الهمام الحنفي في شرحه على هذه الخطبة ، فقال : ( ولا تردّد عندنا في أنّ ابن عباس هو الرجل المعرّض به ، فكان قد كفّ بصره ، فلذا قال ابن الزبير : كما أعمى أبصارهم )(3) (4) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 490 ، ط دار الكتب العربية بمصر.

(2) نصب الراية لأحايدث الهداية 3 / ط مصر سنة 1357 نقلاً عن مسلم في صحيحه 4 / 133.

(3) شرح الفتح 2 / 286.

(4) وروى الحادثة النسائي أيضاَ والمسعودي في جملة من كتبه كالإستبصار وكتاب الصفوة والكتاب الواجب في الفروض اللازمة كما في مروج الذهب 2 / 103 ، وابن عبد ربه في العقد الفريد 3 / 157 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج 4 / 489 ـ 491 ، والراغب في محاضراته 2 / 294 ، والمدني في الدرجات الرفيعة 1 / 142 ، وغيرهم

٤٧٨

تنبيه هام :

عند كثير ممن روى هذه الحادثة رواها خالية عن قصة أخذ المال وفتيا المتعة والقملة والنملة ، ومنهم الخوازمي في ( مقتل الحسين )(1) ، وأوردها خالية عن قصة أخذ المال فقط ، أو خالية بما عدا المتعة وعمى البصر كالزيلعي في ( نصب الراية ) ، وابن الهمام الحنفي في ( شرح الفتح )(2) ، وابن عبد ربه في ( العقد الفريد )(3) ، والمسعودي في مروجه(4) ، والراغب في محاضراته(5) ، وهامش ( الإستغاثة في بدع الثلاثة )(6) نقلاً عن المختصر من الأصل لابن شهر آشوب ، وستجد شرحاً عن المتعة في باب أقواله الفقهية التي خالف بها الخلفاء الثلاثة ، وهناك تجد قول من قال :

أقول للشيخ إذ طالت عزوبته

يا شيخ هل لك في فتوى ابن عباس

كما في ( محاضرات الراغب )(7) ، لشهرة فتواه بحلية المتعة ، وكذا تجد هذا في ( أصل الشيعة وأصولها )(8) .

____________________

(1) مقتل الحسين 2 / 252.

(2) شرح الفتح 2 / 286.

(3) العقد الفريد 2 / 157.

(4) مروج الذهب 2 / 102.

(5) محاضرات الراغب 2 / 94.

(6) الإستغاثة / 45.

(7) محاضرات الراغب 2 / 93.

(8) أصل الشيعة وأصولها / 123.

٤٧٩

( على رسلك )

( عن عثمان بن طلحة العبدري ، قال : شهدت من ابن عباس رحمه الله مشهداً ما سمعته من رجل من قريش ، كان يوضع إلى جانب سرير مروان بن الحكم ـ وهو يؤمئذ أمير المدينة ـ سرير آخر أصغر منه فيجلس عليه عبد الله بن عباس إذا دخل. وتوضع الوسائد فيما سوى ذلك.

فأذن مروان يوماً للناس ، وإذا سرير آخر قد أحدث تجاه سرير مروان ، فأقبل ابن عباس فجلس على سريره ، وجاء عبد الله بن الزبير فجلس على السريرالمحُدث ، وسكت مروان والقوم ، فإذا يدا ابن الزبير تتحرك ، فعلمت أن يريد أن ينطق.

ثم نطق ، فقال : إنّ أناساً يزعمون أنّ بيعة أبي بكر كانت غلطاً وفلتةُ ، ومغالبة. ألا إنّ شأن أبي بكر أعظم من أن يقال فيه هذا. ويزعمون أنّه لولا ما وقع لكان الأمر لهم وفيهم ، والله ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً أثبت إيماناً ولا أعظم سابقة من أبي بكرٌ ، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله. فأين هم حين عقد أبو بكر لعمر ، فلم يكن إلاّ ما قال ، ثم ألقى عمر حظهم في حظوظ ، وجدّهم في جدود ، فقسمت تلك الحظوظ فأخرّ الله سهمهم ، وأدحض جدّتهم وولي الأمر عليهم مَن كان أحق به منهم ، فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر خارجاً من القرية ، فأصابوا منه غرة فقتلوه ، ثم قتلهم الله به كلّ قتلة ، وصاروا مطرّدين تحت بطون الكواكب.

فقال ابن عباس : على رسلك أيها القائل في أبي بكر وعمر والخلافة.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496