موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس8%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93318 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وأمّا عن سبب عمى ابن عباس ، فقد ذكرت في الجزء الرابع من الحلقة الأولى ما يغني عن إعادته.

وأمّا عن مشاورته عائشة وأم سلمة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة فلم يرخصوا له في إجراء العملية ، وقالوا له : أرأيت إن متّ في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟

وبهذا أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية ، فهو لا يعلم كيف يعمل فيستفتي عائشة وأبا هريرة وبعض الصحابة!!

فأين أثر دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يفقهه في الدين ويعلّمه الحكمة؟!

وأين صارت شهادة عائشة في سنة ( 35 هـ ) فسألت : من ولي أمارة الموسم؟ فقيل لها : ابن عباس ، قالت : أنّه أعلم الناس بالحج! فكيف صار الآن لا يعرف تكليفه الشرعي؟!

وهو الذي قال عنه طاووس : ( رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تدارؤا صاروا إلى قول ابن عباس ).

وقد مرّت بنا هذه الأقوال وغيرها في الجزء الثاني من هذه الحلقة فراجعها تجدها مع مصادرها.

وقد قرأنا شواهد ومشاهد في أعقاب حرب الجمل فيها مواقف متشنجة بين ابن عباس وعائشة ، فكيف نستغفل عقولنا ونقبل ما رواه الرواة ممن طُبعوا على حبّ أم المؤمنين ، فصارا يبنون لها أهرامات من الفضائل تفوق أهرامات مصر الفرعونية!

٣٠١

( الحديث الرابع ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس في بدعية صلاة ركعتين بعد العصر ، حيث روي : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : يا بن عباس ما هاتان الركعتان؟ فقال : بدعة وصاحبها صاحب بدعة ، ولمّا فرغ ابن الزبير سألهما عما قالاه فأخبراه ، قال : ما ابتدعت ، ولكن حدثتني خالتي عائشة. فأرسل معاوية إليها ، فقالت : صدق ، حدثتني أم سلمة ، فأرسل إلى أم سلمة : أنّ عائشة حدثتنا عنكِ بكذا ، فذكرت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم بعد العصر ( فقمت وراءه فصليت ) فلما أنفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت وصليت معك ، فقال : إنّ عاملاً لي على الصدقات قدم عليَّ فجمعت عليه ).

ثم روى الزركشي عن الصحيحين ، عن كريب : أنّ ابن عباس وابن أزهر والمسور أرسلوا إلى عائشة لأنّهم أخبروا أنّها تصليها والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ، فقالت : سلوا أم سلمة ثم ذكر نحو ما سبق.

فهذا الحديث يدلّ على مخالفة عائشة لنهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإتيان بهما ، وأنّ ابن عباس كان هو وعمر يضربان الناس عنها. فالأحرى أن يعدّ الزركشي هذا الحديث ممّا إستدركه ابن عباس على عائشة لا العكس! لكن الزركشي شغوف بلملمة أخبار عائشة مع الصحابة وإن إستلزم ذلك توهيناً لها من حيث يدري ولا يدري.

٣٠٢

( الحديث الخامس ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس فهو لا يستبطن كذبه متناً فقط ، بل تكفي آفة سنده ، فقد أعلّه المنذري بيزيد بن أبي زياد ، وقال غير واحد من الأئمة أنّه لا يحتج بحديثه ، ومهما يكن حال السند ، فإنّ ما رواه ابن عباس كما في المتن هو أولى بالقبول لحضوره مع أهل البيت مراسيم الدفن.

ولكن هلّم الخطب فيما روته عائشة فهو محلّ الشك في صدقه ، إذ لم تكن حاضرة حين التكفين! أليس هي التي كانت مع النساء اللواتي يلتدمن كما تقول هي فيما رواه أحمد في مسنده عنها ، قالت : ( مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت التدم مع النساء وأضرب وجهي )(1) ، وقد قالت أيضاً : ( ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ( ليلة الأربعاء )(2) .

فمتى حضرت التكفين ورأت ثياب الكفن؟!

فكلّ ما ورد عنها في هذا الشأن مشكوك في صحته ، لأنّها تريد إستبعاد عليّ عليه السلام وأهل البيت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

____________________

(1) مسند أحمد 6 / 274.

(2) الإستيعاب 1 / 47.

٣٠٣

وأنكى من ذلك إستبدالهم بآل أبي بكر! فهلمّ وأقرأ ما روته من خبر الحلّة التي أشتريت ليكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأدرجوه فيها ثم نزعت عنه.

فلنقرأ الخبر برواية ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه ( المغني ) وهو غير متهم عليها ، فقال في الخبر : ( وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعائشة أقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعرف بأحواله ، ولهذا لما ذكر لها قول الناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كُفن في برد ، قالت : قد أتي بالبُرد ولكنهم لم يكفنوه فيه ، فحفظت ما أغفله غيرها. وقالت أيضاً : أدرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حلّة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ، ثم نزعت عنه ، فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلّة وقال : أكفن فيها ، ثم قال : لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتصدق بها ). قال ابن قدامة : رواه مسلم(1) .

أقول : فهل تطلب أثراً بعد عين ، وتريد سخفاً بعد ميَن؟

فعائشة وعبد الله بن أبي بكر بطلا الحضور في الإحتضار والتكفين! وليذهب أهل البيت عليهم السلام جميعاً في غيابات الحقد الدفين ، كما تريد أم المؤمنين ، وليكتب الزركشي ما يزركش به أخبارها ولو على حساب الآخرين.

على أن ابن شهاب الزهري ـ وهو غير متهم على عائشة ـ قال : ولم يله إلاّ أقاربه(2) .

____________________

(1) المغني 2 / 329.

(2) أنظر دلائل النبوة للبيهقي 7 / 234 ، عن هامش ، التمهيد لابن عبد البر 9 / 358 ط الإحياء للتراث العربي.

٣٠٤

( الحديث السادس ) :

ما رواه الزركشي عن عكرمة عن ابن عباس في حديث ( رأى ربّه مرتين ) ، وإنكار عائشة عليه الرؤية ، والخبر الذي رواه في سنده من قال فيه ابن المبارك : أرم به ، لكن الزركشي لم يرم به ، بل أطال في جميع ما يتعلق بالموضوع وحكى قول ابن خزيمة : أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها.

وحكى قول أحمد : ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أدري ما وجهه.

ثم الحديث في متنه : ( قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، وابن عباس لم يكن يقول بالرؤية البصرية كما هو واضح من لفظ الحديث الذي ذكره الزركشي نقلا ًعن الترمذي في التفسير ، وهو مخالف لقول الله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .

وفي سنده من هو مخدوش ، ورواية مسلم له في الصحيح لا تضفي عليه شرعية أبداً ـ فكم في كتابي الصحيح من حديث غير صحيح ـ وسيأتي عن ابن عباس في جواب نجدة بن عامر ـ عويمر ـ الخارجي وقد سأله : ( كيف معرفتك بربّك؟ فأجابه أعرفه بما عرّف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ) ، فهذا ينفي صحة نسبة القول بالرؤية البصرية إليه ، وسيأتي خبره مع نجدة فيما يأتي.

____________________

(1) الأنعام / 103.

٣٠٥

ومجرد رواية الترمذي عن عكرمة ذلك ، لا يضفي عليه الصحة.

ولم لا يكون الخبر من بعض أكاذيب عكرمة على مولاه ، وقد مرّت بعض الشواهد على ذلك ، كما سيأتي غيرها.

( الحديث السابع ) :

ما ذكره الزركشي في إحالة ابن عباس معرفة الوتر عليها ـ في حديث رواه مسلم في صحيحه ـ وأنّ سعد بن هشام سأل ابن عباس عن الوتر ، فقال : ( ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : نعم ، قال عائشة )(1) .

أقول : إنّ هذا الحديث الذي ذكره لا يصح الإعتماد عليه! لإختلاف النقل عن عائشة ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ، كما ذكره الزركشي نفسه.

وكيف نصدّق نحن بالخبر ، وابن عباس الذي كان يبيت في بيت خالته ميمونة ليحفظ ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاة وأذكار ـ وقد مرّت في الحلقة الأولى في الجزء الأوّل عدّة شواهد على هذا ـ فكيف صار لا يعلم عن صلاة الوتر شيئاً حتى أحال على أعلم أهل الأرض؟ يا لها من دعوى عريضة مريضة!!

لكن زوامل الأسفار يكتبون ما راق لهم ، أو يملى عليهم من السلطات الحاكمة من رفعهم عائشة إلى مقام لم تكن فيه عالمة ولا حالمة.

____________________

(1) صحيح مسلم 2 / 269 ط صبيح.

٣٠٦

( الحديث الثامن ) :

ما ذكره الزركشي من حديث عائشة وقد ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) بالتخفيف ، فذكر الزركشي ما أخرجه البخاري في صحيحه في التفيسر عن ابن أبي مليكة قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (1) الخ بالتخفيف إلى آخر الخبر ، بينما كانت عائشة تقرؤها( كُذّبُوا ) مثقلة.

أقول : ما مرّ من إختلاف القراءة فيه نظر! فإنّ القراءة بالتخفيف هي قراءة أهل البيت عليهم السلام عليّ وزين العابدين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وزيد بن علي وابن عباس ، وهي أيضاً قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والأعمش وغيرهم ، وهي قراءة أهل الكوفة(2) .

وقد أطنب الطبري في تفسيره ، فساق ثماني عشرة رواية عن ابن عباس مؤداها متفق عليه بين الرواة عن ابن عباس ، وأوّلها بسند الطبري ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (3) ، قال : ( لمّا أُيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك ، فننجي من نشاء )(4) .

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) مجمع البيان 5 / 465 ط الأعلمي.

(3) يوسف / 110.

(4) تفسير الطبري 13 / 82 ـ 83.

٣٠٧

وما جاء في بعضها أنّ ابن عباس قال : إنّهم ـ أي الأنبياء ـ بشر ، أي أنّهم هم الذين ظنوا ، فهذا وهم في الفهم ، فابن عباس لم يقل ذلك.

وقد ورد في ( عيون أخبار الرضا عليه السلام ) للشيخ الصدوق ، بسنده : عن علي بن محمد بن الجهم : أنّ المأمون قال لأبي الحسن ـ الرضا عليه السلام ـ : فأخبرني عن قول الله تعالى :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (1) ؟ قال الرضا عليه السلام : يقول الله : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم أنّ الرسل قد كذبوا ، جاء الرسل نصرُنا.

وهذا هو عين ما رواه ثلاثة من تلاميذ ابن عباس ، كما في ( الدر المنثور ) للسيوطي في تفسير الآية ، قال : ( أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابراهيم ، عن أبي حمزة الجزري ، قال : صنعت طعاماً فدعوت ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير ، والضحاك بن مزاحم ، فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير ، فقال : يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف ، فإنّي إذا أتيت عليه تمنيت أنّي لا أقرأ هذه السورة( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم وظنّ المرسَل إليهم أنّ الرسل قد كُذبوا فقال الضحاك : لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلاً )(2) .

ومهما يكن فحسب القارئ من فقاهة السيدة عائشة أنّها لم تكن ترى

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) الدر المنثور 4 / 41.

٣٠٨

نفسها أم المؤمنين رجالاً ونساءً! بينما كانت أم المؤمنين أم سلمة ترى أنّها أم المؤمنين رجالاً ونساءاً. أخرج ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن مسروق ، عن عائشة في قوله :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (1) . قال : فقالت لها أمرأة : يا أمه ، فقالت عائشة : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ، قال : فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن موسى المخزومي ، فقال : أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية عن أم سلمة ، أنّها قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء )(2) .

أقول : وأحسب أنّ عائشة قالتها في ساعة غضب على النساء اللاتي كنّ يسألنها عن شرعية خروجها في حرب الجمل كأم جميع وأضرابها.

وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً ، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ بأنّ الزركشي لم يكن دقيقاً في إختياره اسم كتابه ، إذ تبيّن أنّ ما ذكره تحت عنوان ( استدراكها على ابن عباس ) لم يكن خالياً من الإلباس ، وما ذكره لو يصح ولا يَصح ـ لا يعني أنّ بين عائشة وابن عباس من الوئام ما يصح معه زعم التواصل والتساؤل في الأحكام ، بل أنّ ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً ، وبقيا على حالهما كذلك حتى ماتت عائشة ، ولعلّه اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت عليهم السلام. وكان ابن

____________________

(1) الأحزاب / 6.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 128.

٣٠٩

عباس رجل الساعة والساحة المناصر لأهل البيت عليهم السلام ، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم ، كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث ، والشواهد على ذلك متوفرة.

فقد أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في ( كفاية الطالب ) وعنه الأربلي في ( كشف الغمة ) قال : ( روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال : ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند عائشة وابن عباس حاضر ، فقالت عائشة : كان من أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال ابن عباس : وأيّ شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله ، وارتضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأخوّته ، واختاره لكريمته ، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده ، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود ، وإن أردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه ، وإن أردتِ شجاعته فبَهمة حرب وقاضية حتم ، يصافح السيوف أنساً ، لا يجد لوقعها حسّاً ، ولا ينهنه نعنعة ، ولا تفله الجموع ، الله ينجده ، وجبرئيل يرفده ، ودعوة الرسول تعضده ، أحدّ الناس لساناً ، وأظهرهم بياناً ، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب ، عظته أقلّ من عمله ، وعمله يعجز عنه أهل دهره ، فعليه رضوان الله ، وعلى مبغضيه لعائن الله )(1) .

وإنّما قال ابن عباس رضي الله عنه هذا لأنّه كان يعلم من عائشة موقفها المتشنج إزاء أهل البيت عليهم السلام خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحتى

____________________

(1) كشف الغمة 1 / 363 ، كما في البحار 40 / 51 ط الجديدة.

٣١٠

الحسن والحسين عليهما السلام ، فلم تكن تأذن لهما بالدخول عليها ، وإذا أذنت احتجبت منهما ، وكان ابن عباس يشجب موقفها هذا ، فقد أخرج ابن سعد في ( الطبقات الكبير ) بسنده عن عكرمة قال : ( سمعت ابن عباس يقول ـ وبلغه أنّ عائشة احتجبت من الحسن بن علي ـ فقال : إنّ رؤيته لها لحلّ )(1) .

وقد مرّت بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى محاورة ابن عباس مع عائشة عند موت الحسن عليه السلام فليرجع القارئ إليها. فهي محاورة تكشف عن مبلغ التشنج عند الطرفين المتباعدين المتباغضين.

وقد إستدام حقد عائشة حتى عند موتها ، فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن ذكوان مولى عائشة : ( أنّه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك.

فقالت : دعني من ابن عباس ومن تزكيته.

فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن : إنّه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله ، فأئذني له فليسلّم عليك وليودّعك.

قالت : فأئذن له إن شئت.

قال : فإذن له ، فدخل ابن عباس ثم سلّم وجلس ، وقال : أبشري أم المؤمنين

____________________

(1) الطبقات الكبرى8 / 128ط ليدن.

٣١١

فقالت : دعني يا بن عباس من هذا ، فو الله لوددت أنّي كنت نسياً منسيّاً(1) (2) . فقد جزعت حين احتضرت. فقيل لها ، فقالت : أعترض في حلقي يوم الجمل )(3) .

وإلى هنا ننهي الحديث عن ابن عباس مع عائشة ، ونستقبل بقية محاوراته مع معاوية وأشياعه.

____________________

(1) مسند أحمد 1 / 349 ط الأولى و 5 / 90 برقم ( 3262 ) ط شاكر.

(2) قال شاكر : في هامش الحديث برقم ( 2496 ) إسناده صحيح وهو مطول 1905 ، ورواه البخاري 8 / 371 ـ 372 مختصرا.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 345.

٣١٢

محاورات ابن عباس مع معاوية

قميصّ عثمان أضحى مضربَ المثل

لكلّ ثائرة من أخبث الحيل

في كلّ واقعة كذباً مخادعةً

صار الشعار لعيّابين في الدوَل

لو ينشر اليوم عثمانٌ لطالبهم

مع القصاص له بالغُنم من نفَل

فليته لو وعى نصحاً لجنّبه

تلك المآسي ولكن شاب عن عَذَل

فكان ما كان من أمرٍ تخيّره

شيخٌ ضعيفٌ هوى في حمأة الزَلَل

فأورث الناس آلاماً بمقتله

زلّت به النعل فالتاثته بالوَحَل

فأوّل القوم من نادوا بمقتله

ثاروا له اليوم يا للقلب الحَوِل

هم ناقموا الأمس قد جاؤا بأمّهمُ

وسيرّوا عسكراً في وقعة الجَمَل

وعاهل الشام أدلى في قليبهم

فقد رأى فرصة وافت لمهتبل

فحرب صفين قد أورى شرارتها

في النهروان فأورت كُلِّ ذي شُعلِ

حتى الطفوف وقتل السبط من ذَحل

حرق الخيام بتلك النار لم يَزل

ما ثأر عثمان أحماهم وأغضبهم

لولا الخلافة عادت للإمام عليّ

تلكم قريشُ لتأبى أن ترى رجلا

بالأمس قاتلهم واليوم فيه يلي

٣١٣

فأعصبوا قتل عثمان بحيدرة

أبناءُ من سجدوا دهراً إلى هُبل

هذا عليّ وهذي بعضُ محنته

أن يعصبوه دماً من خاتم الرّسُل

قال الزمخشري : قميص عثمان الذي قتل فيه ، مَثَلٌ فيما يهيّج الحزن ويجدّد الحسرة والبكاء ، وعن عمرو بن العاص : أنّه لمّا أحسّ من العسكر فتوراً أشار على معاوية بأن يبرز لهم قميص عثمان ، فلمّا وقعت عيونهم عليه ، ارتفعت صيحتهم بالبكاء والنحيب ، وجدّوا في الحرب فعندها قال حرّك لها حوارها تحنّ(1) .

مَن هم قتلة عثمان؟ هل هم بنو هاشم؟ أم هم بنو أمية؟

هذا سؤال قد يثير استغراباً لدى القارئ إذ لم يرد في التاريخ أنّ واحداً من هؤلاء قد شارك في قتل عثمان ، مباشرة ، فلماذا إذن السؤال؟

والجواب يُعرف من الأبيات المتقدمة ، وعلى هذا الوتر كانت أصابع معاوية تضرب وأبواقه تعزف بأنّ عليّاً قتل عثمان! وإذا حوقق قال : آوى قتلته!

ولم يكن ابن عباس بعيداً عن مرمى معاوية في حجارته لعداوته ، وسنقرأ في كثير من محارواته ما يدلّ على ذلك. وإذا بحثنا عن جذور تلك العداوات نجدها متأصلة في فرعي عبد مناف بني هاشم وبني أمية منذ عهد بعيد ، فلنقرأ بعض ما جاء في ذلك :

____________________

(1) ربيع الأبرار 4 / 32 ط أوقاف بغداد.

٣١٤

إنّ من راجع كتاب ( السفيانية ) للجاحظ ، و ( النزاع والتخاصم ) للمقريزي وأضرابهما ، يجد جذور العداوة بين بني أمية وبين بني هاشم وهم من قريش ، ضاربة في أصولها متنامية في فروعها ، ولم يخف ذلك على الباحثين من قدامى ومحدثين.

فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان حاجب الحجاب ، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه(1) ، فلنقرأ ما يقول وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان ، فقال : ( هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ، ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّج عليّاً بابنته ، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى ، وكان إختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة أكثر من إختصاصه للبنت الأخرى ، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. وإختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به وإستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من إختصاصه لعثمان ، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما ).

إلى أن قال : ( ثمّ أتفق أنّ عليّاً عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بني عبد

____________________

(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال : وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.

٣١٥

شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتأكد الشنآن ، وإذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.

ثمّ مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المتخلّفين عن البيعة ، وكانت في نفس عليّ عليه السلام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوّة عمر وشدّته ، وانبساط يده ولسانه.

فلمّا قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة ، وعدل بها عبد الرحمن عن عليّ إلى عثمان ، لم يملك عليّ نفسه فأظهر ما كان كامناً ، وأبدى ما كان مستوراً ، ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم.

ومع ذلك فلم يكن عليّ عليه السلام لينكر من أمره إلاّ منكراً ، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.

وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً ، قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم ، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه )(1) .

ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو أُمية الإمام عليه السلام وبني هاشم ، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم ،

____________________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 401 ط مصر الأولى.

٣١٦

ولكنها الأحقاد الأموية.

فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله : هل شرك عليّ في دم عثمان؟

فقال : ( لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية ، ولكنّه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن )(1) .

واقرأ لابن عمر كلمته الأُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان.

قال : ( ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال )(2) .

وليس عروة بن الزبير بدون ابن عمر في نصبه ، ومع ذلك فقد كان يقول : ( كان عليّ أتقى لله من أن يعين في قتل عثمان ، وكان عثمان أتقى لله من أن يعين في قتله عليّ )(3) .

وقال ابن سيرين : ( لقد قتل عثمان يوم قتل وما أحد يتهم عليّاً في قتله )(4) .

ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، جاء فيه : ( لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ولا بيدك أمان ).

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 593.

(2) نفس المصدر 4 / 595.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 355 ط اوقاف بغداد.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 594.

٣١٧

فأجابه بجواب طويل جاء فيه : ( وأمّا قولك أنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوماً ، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت ،( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (1) (2) .

نعم ، إنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان هذا أوّلاً ، لأنّهم يرون أنّ الحقّ لهم ، وكانوا أيضاً من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عمالُه ، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته ، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.

فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عثمان؟ فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(3) .

____________________

(1) الأنبياء / 111.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 58.

(3) نفس المصدر 1 / 231.

٣١٨

وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال : ( نعم شهده ثمانمائة )(1) .

فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين قتلوا عثمان ، ومن هم الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه ، لكن من تولى كبر قتله ، لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان ، وإذ لم يكونوا معهم ، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ إنّهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه ، بل كانوا من المدافعين عنه ، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم ، وكان يتّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف ـ بني هاشم وبني أمية ـ.

والآن إلى ما رواه البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والنويري ، نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لعثمان ، ننقلها بلفظ الطبري :

قال ـ بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان ـ : ( فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رأيتَ

____________________

(1) نفس المصدر.

٣١٩

وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ونلتَ صهره.

وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم رَحِماً ، ولقد نلتَ من صهر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ما لم ينالا. ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنّك والله ما تُبصّر من عَمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإنّ أعلام الدين لقائمة ، تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هُدي وهَدىَ ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة ، فوالله إن كلاً لبيّن وإنّ السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، فيدور في جهنم كما تدور الرحا ، ثمّ يرتطم في غمرة جهنم ).

وإنّي أحذّرك الله ، وأحذّرك سطوته ونقماته ، فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنّه يقال : يقتل في هذه الأمة إمام ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتُلّبس أمورُها عليها ، ويتركهم شيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فقال له ابن عباس : هيهات يا أبا عبد الله ، صار ابن أخيك أخاك ، ولا تشاء أن تبكي إلاّ بكيت ، كيف يؤمن برحيل مَن هو مقيم؟

فقال عمرو : وعلى حينها! حين ابن بضع وثمانين سنة تقنطني من رحمة ربّي ، اللهم إنّ ابن عباس يقنّطني من رحمتك ، فخذ منّي حتى ترضى.

فقال ابن عباس : هيهات يا أبا عبد الله أخذتَ جديداً وتُعطي خَلِقاً.

فقال عمرو : ما لي ولك يا بن عباس؟ ما أرسلت كلمة إلاّ أرسلت نقيضها )(١) .

فقال ابن قتيبة في ( المعارف ) : ( ثم وضع إصبعه في فمه حتى مات )(٢) .

وروى اليعقوبي في تاريخه ، قال : ( ولمّا حضرت عمرواً الوفاة ، قال : لابنه : لودّ أبوك أنّه كان مات في غزاة ذات السلاسل ، إنّي قد دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند الله فيها.

ثم نظر إلى ماله فرأى كثرته ، قال : ياليته كان بعراً ، ياليتني مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة ، أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني ، أثرت دنياي وتركت آخرتي ، ( عمي ) عليَّ رشدي حتى حضرني أجلي ، كأنّي بمعاوية قد حوى ما لي وأساء فيكم خلافتي.

ـ قال الله تعالى :( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) (٣) ، وقال تعالى :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً

____________________

(١) الإستيعاب لابن عبد البر٢ / ٤٣٦ في ترجمة عمرو بن العاص ، رغبة الآمل٣ / ٢١٤.

(٢) المعارف / ٢٨٦ تح عكاشة.

(٣) البقرة / ١٦٧.

٤٦١

أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ـ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) (١) ـ

وتوفي عمرو ليلة الفطر سنة ٤٣ ، فأقرّ معاوية ابنه عبد الله بن عمرو ثم استصفى مال عمرو ، فكان أوّل من استصفى مال عامل ، ولم يكن يموت لمعاوية عامل إلاّ شاطر ورثته ماله ، فكان يكلّم في ذلك ، فيقول : هذه سنّة سنّها عمر بن الخطاب )(٢) .

أقول : فلينظر العمريون أين تكون تلك السنّة؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من سنّ سنّة سيئة عُمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها )(٣) .

وأخيراً فلينظر أبناء كثير وتيمية وقيّم الجوزية ، كيف كانت صحابتهم الذين يوالونهم ويعادون من عاداهم على غير هدى من الله ، وليفرحوا بما قاله ابن قيّمهم في تقيميهم في كتابه ( المنار المنيف ) ، الأحاديث بالإرقام التالية :

( ٢٥٠ ـ ومن ذلك الأحاديث في ذم معاوية.

____________________

(١) الأنعام / ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٢٢.

(٣) مسند أحمد٤ / ٣٦١ ، وراجع موسوعة أطراف الحديث النبوي ٨ / ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٤٦٢

٢٥١ ـ وكلّ حديث في ذمّه فهو كذب.

٢٥٢ ـ وكلّ حديث في ذمّ عمرو بن العاص فهو كذب.

٢٥٣ ـ وكلّ حديث في ذمّ بني أمية فهو كذب ، وكلّ حديث في ذمّ يزيد بن معاوية فكذب ).

وزاد المعلق في الهامش في الطنبور نغمة ، فقال : ( وأحاديث ذمّ معاوية ، أو عمرو بن العاص ، أو يزيد بن معاوية من وضع غلاة الشيعة ، القصد منها تفضيل عليّ ، وليس فضل عليّ بحاجة إلى وضع أحاديث. ومعاوية وعمرو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصحّ لمسلم الخوض فيهما ، وكلّ منهما له فضل ومناقبه ، أمّا يزيد فهو متروك إلى الله يحاسبه عما جنت يداه )(١) .

أقول : ما ذنب غلاة الشيعة في هذا ، وجميع ما تقدم من محاورات رواها أعلام السنة في كتبهم! فإن كان غلاة الشيعة قد اخترقوا الحواجز حتى كتبوا في مصادر أهل السنة ما القصد منه تفضيل عليّ؟ فليحرق أهل السنة تلك المصادر ويبوؤا بالخسران ، وليت ابن قيّم الجوزية ومن نقّ معه هذّبوا كتاب ( الإصابة ) لابن حجر العسقلاني من تراجم بعض الصحابة ممن كان يماكس ويعافس في بيع دينه بإعترافه كالحتات المجاشعي المذكور.

قال ابن حجر : ( ذكره ابن إسحاق وابن الكلبي فيمن وفد من بني

____________________

(١) المنار المنيف / ١١٠ الفصل ٣٣.

٤٦٣

تميم على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأسلموا ، وقال ابن هشام هو القائل :

لعمر أبيك فلا تكذبن

لقد ذهب الخير إلاّ قليلا

لقد فتن الناس في دينهم

وأبقى ابن عفان شراً طويلا(١)

ثم قال ابن حجر : وأخرج الدارقطني في المؤتلف ومن طريقه أبو عمر من رواية نصر بن علي الأصمعي عن الحارث بن عمير عن أيوب ، قال : غزا الحتات المجاشعي وحارثة بن قدامة والأحنف ، فرجع الحتات فقال لمعاوية : فضّلت عليَّ محرقاً ومخذلاً؟ قال : أشتريت منهما ذمتهما ، قال : فاشتر مني ذمتي ـ وهذا من التحريف المتعمد ، والصواب : ( اشتريت منهما دينهما ، قال : فاشتر مني ديني ) كما في ( الإستيعاب ) في ترجمة الحتات(٢) ! ـ )(٣) .

وممّا يستطرف من حديث هذا الصحابي ما رواه ابن عبد البر في ترجمته ، حيث قال : ( ذكره ابن إسحاق وابن هشام وابن الكلبي ، وقالوا : آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الحتات وبين معاوية بن أبي سفيان ، فمات الحتات عند معاوية في خلافته ، فورثه بتلك الإخوة.

فقال الفرزدق في ذلك لمعاوية :

____________________

(١) البيتان المذكوران في ١ / ٣١٠ ط مصطفى محمد بهامش الإستيعاب.

(٢) الإستيعاب لابن عبد البر ١ / ٤١٣.

(٣) ترجمة الحتات ١ / ٣٩٤ ، هامش الإصابة ، نفس الطبعة المشار إليها.

٤٦٤

أبوك وعمي يا معاوية أورثا

تراثا فيحتاز التراث أقاربه

فما بال ميراث الحتات أكلته

وميراث صخر جامد لك دائبه

قال ابن هشام : وهذان البيتان في أبيات له.

والحتات بن يزيد هذا هو القائل :

لعمر أبيك فلا تكذبن

لقد ذهب الخير إلا قليلاً

لقد فتن الناس في دينهم

وخلّى ابن عفان شرا طويلا

وأوّل هذه الأبيات :

نأتك أمامة نأيا محيلا

وأعقبك الشوق حزناً طويلا

وحال أبو حسن دونها

فما تستطيع إليها سبيلا

لعمر أبيك الخ

وكان هرب من عليّ رضي الله عنه إلى معاوية ، وللحتات بنون عبد الله وعبد الملك ومنازل بنو الحتات ولّوا لبني أمية )(١) .

أقول : وهذا أيضاً ترجمه ابن الأثير في ( أسد الغابة )(٢) وذكر بيع الدين. فيا ترى من هو الغالي من الروافض الذي اخترق صفوف أهل السنة فأدخل هذه المخزاة في مصادر تراجم الصحابة؟ وكم لحتات من نظير؟

( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (٣) .

____________________

(١) الإستيعاب ١ / ٤١٣.

(٢) أسد الغابة ١ / ٣٧٩.

(٣) الحج / ٤٦.

٤٦٥

محاورته مع الأشعث بن قيس

أخرج الطبراني في ( المعجم الكبير ) بسنده عن عيسى بن يزيد ، قال :

( استأذن الأشعث على معاوية بالكوفة فحجبه مليّاً وعنده العباس والحسن بن علي رضي الله عنهما.

فقال : أعن هذين حجبتني يا أمير المؤمنين؟ تعلم أنّ صاحبهما جائنا فملأنا كذباً ـ يعني عليّاً ـ.

فقال ابن عباس : أتراني أسبك بابن أبي طالب؟

قال : ما سبّ عربي خير منّي.

فقال ابن عباس : عبد مهرة ، قتل جدك ، وطعن في أست أبيك.

فقال : ألا تسمع مايقول لي يا أمير المؤمنين؟

قال : أنت بدأت )(١) .

ورواه الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ، وقال : ( رواه الطبراني في الكبير وفيه جماعة لا أعرفهم )(٢) .

أقول : وفي النفس من صحة هذا الخبر شيء ، إذ أن ابن عباس لم

____________________

(١) المعجم الكبير ١ / ٢٣٨.

(٢) مجمع الزوائد ٧ / ٢٤٨.

٤٦٦

يكن قد حضر الصلح ، ولم يجتمع مع معاوية بالكوفة ـ وقد مرّ أن ذكرت في الجزء الخامس من الحلقة الأولى زمان ومكان أوّل لقاء بينهما ـ وأحسب أنّ المراد بابن عباس في الخبر هو عبيد الله بن عباس الذي كان مع قيس بن سعد في مقدمة جيش الإمام الحسن عليه السلام وقيل عنه ما قيل من خيانة ترك الجيش وذهب إلى معاوية ، وهذا الخبر إن صح سندا ودلالة فهو يلقي بضلال الشك على ما قيل في عبيد الله.

٤٦٧

محاورته مع عتبة بن أبي سفيان

( قال عتبة بن أبي سفيان لعبد الله بن عباس رضي الله عنه : ما منع عليّاً أن يبعثك مكان أبي موسى الأشعري يوم الحكمين؟

قال : منعه والله من ذلك حاجز القدر ، وقصر المدة ، ومحنة الإبتلاء. أما والله لو بعثني مكانه لاعترضت لعمرو في مدارج نفسه ، ناقضاً ما أبرمه ، ومبرماً ما أنقضه ، أسفُ إذا طار ، وأطير إذا أسف ، ولكن مضى قدر وبقي أسف ، ومع اليوم غد ، والآخرة خير لأمير المؤمنين من الأولى )(١) .

وقالوا : لمّا استتبَّ الأمرُ لمعاوية قدم عليه عبد الله بن عباس ، وهي أوّلُ قدمةٍ قدمها عليه ، فدخل وكأنّه قُرْحَة تتبجس(٢) ، فجعل عتبةُ بن أبي سفيانَ يطيلُ النظر إليه ويقلُّ الكلام معه.

فقال ابن عباس : يا عتبة إنّك لتطيلُ النظر إِليَّ وتقلُّ الكلام معي ،

____________________

(١) جاء ذلك في أمالي المرتضى ١ / ٢٠٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ١ / ١٩٥ ، وإعجاز القرآن للباقلاني / ١٢٢ ، والعقد الفريد للملك السعيد / ١١ ، والمنتخب من كناية الأدباء وإشارات البلغاء للقاضي الجرجاني / ١٤٧ ( ت ٤٨٢ هـ ) ، ط السعادة بمصر ١٣٥٦ هـ ، وإسرار البلاغة بذيل المخلاة / ٤ ، وجمهرة خطب العرب ٢ / ٩٢.

(٢) تتبجس : أي تتفجر من قولهم : إنبجس الماء وتبجس : أي تفجّر ( الصحاح / بجس ).

٤٦٨

أفلموجدةٍ فدامت أو لمعْتَبَةٍ فلا زالت؟

فقال له عتبة : ماذا أبقيت لما لا رأيت؟ أمّا طولُ نظري إليك فسروراً بك ، وأمّا قلّةُ كلامي معك فلقلَّتِهِ مع غيرك ، ولو سلطت الحقَّ على نفسك لعلمتَ أنّه لا تنظرُ إليكَ عينُ مبغض.

فقال ابن عباس : أَمهيتَ يا أبا الوليد أَمهيتَ ، لو تحقْقَ عندنا أكثر ممّا ظنناه لمحاهُ أقلُّ ممّا قلت.

فذهب بعضُ من حضر ليتكلم ، فقال له معاوية : أسكتْ إنَّ الداخل بين قريشٍ لخائن نفسه. وجعل معاويةُ يصفّقُ بيديه ويقول : [من الرجز] :

جندلتانِ اصطكتا اصطكاكا

دعوتُ عَرْكا إذ دَعَوْا عراكا

( إنّ الداخل بين قريش لخائن نفسهِ ).

يقال : أمهيتَ الحديدةَ إذا سميتها ، والأمهاء : إرخاءُ الحبل. وأمهيت الفرسَ : أرخيتُ عنانه. ولبن ممهوّ : رقيق ، وناقة ممهاء : رقيقة اللبن(١) .

____________________

(١) التذكرة الحمدونية ٥ / ٥٣ برقم ١٢٤ ، والبصائر ٦ / ٢٦ ـ ٢٧ ( برقم / ٥٧ ) ، ونور القبس / ١٨٩ ، ونثر الدر ٣ / ١١٥ ، وما بين القوسين منه.

٤٦٩

محاورته مع زياد ( الدعيّ )

( إنّك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت )

قالوا : ( إنّ عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد ، فرحّب به معاوية وألطفه وقرّب مجلسه ، ووسّع له إلى جنبه ، وأقبل عليه يسائله ويحادثه ، وزياد ساكت فلم يكلّمه شيئاً.

فأبتدأ ابن عباس وقال له : ما بالك أبا المغيرة كأنّك أردتَ أن تحدث بيننا وبينك هجرة؟

قال : لا ، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين.

فقال له ابن عباس : ما أدركت الناس إلاّ وهم يسلّمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم.

فقال له معاوية : كفّ عنه يا بن عباس فإنّك لا تشاء أن تغلب إلاّ غلبت )(١) .

____________________

(١) العقد الفريد ١ / ١٠ ، و ٢ / ٩ ، نهاية الإرب ٦ / ١٤.

٤٧٠

محاورته مع أبي موسى الأشعري

( لمّا استقام رأيُ الناسِ على جعل أبي موسى حكماً لأهل العراق بصفّين.

أَتاهُ عبدُ الله بنُ عباس ـ وعنده وجوهُ الناس وأَشرافُهم ـ فقال : يا أبا موسى ، إنّ الناسَ لم يرضَوْا بك ولم يجتمعوا عليك لفضلٍ لا تُشارَكُ فيه ، وما أَكثَر أشباهَكَ من المهاجرين والأنصار والمقدَّمِين قَبْلَكَ ، ولكنَّ أَهلَ الشَّامِ أبَوْا غيْرَك ، وايمُ الله إنّي لأَظنُّ ذلك شرَّاً لنا وخيراً لهم ، وإنّه قد ضُمَّ إليك داهيةُ العرب ، وليس في معاويةَ خَصْلَةٌ يَستحقُّ بها الخلافة ؛ فإن تقذِفْ بحقِّكَ على باطِلِه تُدرِكْ حاجتَكَ ، وإنْ تُطمِعْ باطلَهُ في حقِّكَ يُدرِكْ حاجتَهُ فيك.

إعلم أنّ معاوية طليقُ الإسلامِ ، وأنّ أباه من الأحزاب ، وأنّه ادعى الخلافةَ من غير مَشُورةٍ ، فإن صدَّقَكَ فقد صرَّحَ بخلعِهِ ، وإن كذَبَكَ فقد حَرُمَ عليك كلامُهُ ، وإن ادعى أنّ عمرَ وعثمانَ إستعملاه فَصدَقَ : فأمّا عمرُ استعملَهُ وهو الوالي عليه ، بمنزلةِ الطبيبِ من المريضِ يحميه ممّا يشتهي ويؤخِّرُهُ ممّا يكره ، ثم استعمله عثمان برأي عمر ، وما أكثر من استعملاه ثم لم يَدَّعُوا الخلافة ، وهو منهم واحد.

٤٧١

واعلَمْ أنّ لعمروٍ مع كلِّ شيءٍ يسرُّك حيناً يَسوءُك ، ومهما نسيتَ فلا تنسَ أن عليّاً بايَعهُ القومُ الذين بايعوا أبا بكر وعمرَ وعثمانَ ، فإنّها بيعةُ هدى ، وأنّه لم يقاتِلْ إلاّ غاصِباً أو ناكثاً.

فقال أبو موسى : رحمك الله ، والله ما لي إمامٌ غيرُ عليّ ، وإنّي لواقفٌ عند ما أرى ، ولِرَضى الله أَحبُّ إِليَّ من رضى أهلِ الشام ، وما أنا وأنت إلاّ بالله )(١) .

____________________

(١) التذكرة الحمدونية ٧ / ١٩٦ برقم ٩٠٤ ، ونثر الدر للآبي ١ / ٤٢١ ، كما في الهامش الأول.

٤٧٢

محاورته مع عروة بن الزبير

( ما تقول يا عُريّة )

أخرج ابن عبد البر في كتابه ( التمهيد كما في الموطأ من المعاني والأسانيد ) :

( إنّ عروة قال لابن عباس : أضللت الناس؟

قال : وما ذلك؟

قال : تفتي الناس إذا طافوا بالبيت فقد حلّوا ، وقال أبو بكر وعمر : من أحرم بالحج لم يزل محرماً إلى يوم النحر.

فقال ابن عباس : أحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحدثوني عن أبي بكر وعمر.

فقال عروة : كانا أعلم برسول الله منك )(١) .

وأخرج الذهبي في ( تذكرة الحفاظ ) في ذيل ترجمة محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج بسنده ، عن سعيد بن جبير :

( فقال ابن عباس : ما تقول يا عريّة؟

قال : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة.

____________________

(١) التمهيد ٣ / ٥٢٢.

٤٧٣

فقال : أراهم سيهلكون أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقولون : قال أبو بكر وعمر؟!.

قال ابن حزم : إنّها لعظيمة ما رضي بها قط! أبو بكر وعمر )(١) !!

وذكر ابن قيم الجوزية في ( زاد المعاد ) عن أيوب :

( قال عروة لابن عباس : ألا تتقي الله ترخّص في المتعة؟

فقال ابن عباس : سل أمك ياعريّة.

فقال عروة : أمّا أبو بكر وعمرفلم يفعلا.

فقال ابن عباس : والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله ، نحدثكم عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتحدثونا عن أبي وبكر؟! )(٢) .

____________________

(١) تذكرة الحفاظ ٣ / ٨٧٣.

(٢) زاد المعاد ٢ / ٢١٣.

٤٧٤

إحتجاجاته على ابن الزبير

( سل أمّك عن بردي عوسجة )

( خطب ابن الزبير بمكة على المنبر وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر.

فقال : إنّ ههنا رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره ، يزعم أنّ متعة النساء حلال من الله ورسوله ، ويفتي في القملة والنملة ، وقد أحتمل بيت مال البصرة بالأمس وترك المسلمين بها يرتضخون النوى ، وكيف ألومه في ذلك وقد قاتل أم المؤمنين وحواريّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن وقاه بيده.

فقال ابن عباس لقائده سعيد بن جبير بن هشام ـ مولى بن أسد بن خزيمة ـ : استقبل بي وجه ابن الزبير ، وأرفع من صدري. وكان ابن عباس قد كفّ بصره.

فاستقبل به قائدُه عكرمةُ وجه ابن الزبير ، وأقام قامته فحسر عن ذراعيه ثم قال : يا ابن الزبير :

قد أنصف القارة من راماها

إنّا إذا ما فئةٌ نلقاها

نردّ أولاها على آخراها

حتى تصير حَرَضاً دعواها

٤٧٥

يا بن الزبير أمّا العمى فإنّ الله تعالى يقول :( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (١) ، ثم أنشأ قوله :

إن يأخذ الله من عينيّ نورهما

ففي لساني وقلبي منهما نور

وأمّا فتياي في القملة والنملة ، فإنّ فيهما حكميَن لا تعلمهما أنت ولا أصحابك.

وأمّا حملي المال ، فإنّه كان مالاً جبيناه فأعطينا كلّ ذي حق حقه ، وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله ، فأخذناه بحقنا.

وأمّا المتعة ، فسل أمك أسماء إذا نزلت عن بردي عوسجة ).

ـ وفي رواية : ( أوّل مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير ) ، وفي رواية ثالثة : ( فإنّ أوّل متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك ) ـ

وأمّا قتالنا أم المؤمنين ، فبنا سُمّيت أم المؤمنين لا بك ولا بأبيك ، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مدّه الله عليها فهتكاه عنها ، ثم اتخذاها فئة يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما ، فما أنصفا الله ولا محمداً من أنفسهما ، أن ابرزا زوجة نبيّه وصانا حلائلهما.

وأمّا قتالنا إياكم ، فإنّا لقيناكم زحفاً ، فإن كنّا كفاراً فقد كفرتم بفراركم منّا ، وإن كنّا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا.

ـ وفي رواية : ( فقد لقيت أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى ، فإن يكن

____________________

(١) الحج / ٤٦.

٤٧٦

على ما أقول فقد كفر بقتالنا ، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنا ) ـ

وأيم الله لولا مكان صفية فيكم ومكان خديجة فينا لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظماً إلاّ كسرته.

فانقطع ابن الزبير.

ولمّا عاد إلى أمّه سألها عن بردي عوسجة؟ فقالت : يا بني ما ولدتك إلاّ في المتعة ، ألم أنهك عن ابن عباس وعن بني هاشم فإنّهم كَعم الجواب إذا بدهوا.

فقال : بلى وعصيتك.

فقالت : يا بني أحذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الإنس والجن ، واعلم أنّ عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها ، فأياك وإياه آخر الدهر.

فقال أيمن بن خزيمة بن فاتك الأسدي :

يا ابن الزبير لقد لاقيتَ بائقة

من البوائق فالطف لطف محتال

لاقيته هاشمياً طاب منبته

في مغرسيه كريم العمّ والخال

ما زال يقرع منك العظم مقتدراً

على الجواب بصوت مسمع عال

حتى رأيتك مثل الكلب منحجراً

خلف الغبيط وكنت الباذخ العالي

إن ابن عباس المعروف حكمتَه

خير الأنام له حال من الحال

عيرّتُه المتعة المتبوع سنّتها

وبالقتال وقد عيّرت بالمال

لمّا رماك على رسلٍ بأسهمه

جرت عليك كسوف الحال والبال

٤٧٧

فأحتز مقولك الأعلى بشفرته

حزاً وحيّاً بلا قيل ولا قال

وأعلم بأنّك إن عاودت غيبته

عادت عليك مخازِ ذات أذيال )(١)

أقول : وأورد الحادثة الحافظ جمال الدين الزيلعي في ( نصب الراية لأحاديث الهداية ) نقلاً عن مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير :

( أنّ عبد الله بن الزبير قام بمكة ، فقال : إنّ ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة ـ يعرّض برجل ـ.

فناداه فقال : إنّك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة في عهد إمام المتقين ـ يريد رسول الله ـ.

فقال له ابن الزبير : فجرّب نفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك )(٢) .

وعلّق ابن الهمام الحنفي في شرحه على هذه الخطبة ، فقال : ( ولا تردّد عندنا في أنّ ابن عباس هو الرجل المعرّض به ، فكان قد كفّ بصره ، فلذا قال ابن الزبير : كما أعمى أبصارهم )(٣) (٤) .

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٤٩٠ ، ط دار الكتب العربية بمصر.

(٢) نصب الراية لأحايدث الهداية ٣ / ط مصر سنة ١٣٥٧ نقلاً عن مسلم في صحيحه ٤ / ١٣٣.

(٣) شرح الفتح ٢ / ٢٨٦.

(٤) وروى الحادثة النسائي أيضاَ والمسعودي في جملة من كتبه كالإستبصار وكتاب الصفوة والكتاب الواجب في الفروض اللازمة كما في مروج الذهب ٢ / ١٠٣ ، وابن عبد ربه في العقد الفريد ٣ / ١٥٧ ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ٤ / ٤٨٩ ـ ٤٩١ ، والراغب في محاضراته ٢ / ٢٩٤ ، والمدني في الدرجات الرفيعة ١ / ١٤٢ ، وغيرهم

٤٧٨

تنبيه هام :

عند كثير ممن روى هذه الحادثة رواها خالية عن قصة أخذ المال وفتيا المتعة والقملة والنملة ، ومنهم الخوازمي في ( مقتل الحسين )(١) ، وأوردها خالية عن قصة أخذ المال فقط ، أو خالية بما عدا المتعة وعمى البصر كالزيلعي في ( نصب الراية ) ، وابن الهمام الحنفي في ( شرح الفتح )(٢) ، وابن عبد ربه في ( العقد الفريد )(٣) ، والمسعودي في مروجه(٤) ، والراغب في محاضراته(٥) ، وهامش ( الإستغاثة في بدع الثلاثة )(٦) نقلاً عن المختصر من الأصل لابن شهر آشوب ، وستجد شرحاً عن المتعة في باب أقواله الفقهية التي خالف بها الخلفاء الثلاثة ، وهناك تجد قول من قال :

أقول للشيخ إذ طالت عزوبته

يا شيخ هل لك في فتوى ابن عباس

كما في ( محاضرات الراغب )(٧) ، لشهرة فتواه بحلية المتعة ، وكذا تجد هذا في ( أصل الشيعة وأصولها )(٨) .

____________________

(١) مقتل الحسين ٢ / ٢٥٢.

(٢) شرح الفتح ٢ / ٢٨٦.

(٣) العقد الفريد ٢ / ١٥٧.

(٤) مروج الذهب ٢ / ١٠٢.

(٥) محاضرات الراغب ٢ / ٩٤.

(٦) الإستغاثة / ٤٥.

(٧) محاضرات الراغب ٢ / ٩٣.

(٨) أصل الشيعة وأصولها / ١٢٣.

٤٧٩

( على رسلك )

( عن عثمان بن طلحة العبدري ، قال : شهدت من ابن عباس رحمه الله مشهداً ما سمعته من رجل من قريش ، كان يوضع إلى جانب سرير مروان بن الحكم ـ وهو يؤمئذ أمير المدينة ـ سرير آخر أصغر منه فيجلس عليه عبد الله بن عباس إذا دخل. وتوضع الوسائد فيما سوى ذلك.

فأذن مروان يوماً للناس ، وإذا سرير آخر قد أحدث تجاه سرير مروان ، فأقبل ابن عباس فجلس على سريره ، وجاء عبد الله بن الزبير فجلس على السريرالمحُدث ، وسكت مروان والقوم ، فإذا يدا ابن الزبير تتحرك ، فعلمت أن يريد أن ينطق.

ثم نطق ، فقال : إنّ أناساً يزعمون أنّ بيعة أبي بكر كانت غلطاً وفلتةُ ، ومغالبة. ألا إنّ شأن أبي بكر أعظم من أن يقال فيه هذا. ويزعمون أنّه لولا ما وقع لكان الأمر لهم وفيهم ، والله ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً أثبت إيماناً ولا أعظم سابقة من أبي بكرٌ ، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله. فأين هم حين عقد أبو بكر لعمر ، فلم يكن إلاّ ما قال ، ثم ألقى عمر حظهم في حظوظ ، وجدّهم في جدود ، فقسمت تلك الحظوظ فأخرّ الله سهمهم ، وأدحض جدّتهم وولي الأمر عليهم مَن كان أحق به منهم ، فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر خارجاً من القرية ، فأصابوا منه غرة فقتلوه ، ثم قتلهم الله به كلّ قتلة ، وصاروا مطرّدين تحت بطون الكواكب.

فقال ابن عباس : على رسلك أيها القائل في أبي بكر وعمر والخلافة.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496