موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس8%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93316 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

(٨٧)

سورة الأعلى

مكّيّة عند ابن عبّاس، ومدنيّة عند الضحّاك. وهي تسع عشرة آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطاه الله من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وعن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: «كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ هذه السورة( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) . وأوّل من قال: سبحان ربّي الأعلى، ميكائيل».

وعن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: «سبحان ربّي الأعلى». وكذلك روي عن عليّعليه‌السلام . وروى جرير عن الضحّاك أنّه كان يقول ذلك. وكان يقول: من قرأها فليفعل ذلك.

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: ادخل من أيّ أبواب الجنّة شئت».

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي حميصة، عن عليّعليه‌السلام ، قال: «صلّيت خلفه عشرين ليلة، فليس يقرأ إلّا( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) . وقال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، وإنّ من قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى وإبراهيم الّذي وفّى».

٤٠١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) )

ولـمّا ختم سبحانه سورة الطارق بذكر الوعيد والتهديد للكفّار، افتتح هذه السورة بذكر صفاته العلى وقدرته على ما يشاء، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) نزّه اسمه عمّا لا يصحّ فيه، من المعاني الّتي هي الإلحاد في أسمائه بالتأويلات الزائغة، مثل أن يفسّر الأعلى بمعنى العلوّ الّذي هو القهر والاقتدار على كلّ شيء، لا بمعنى العلوّ في المكان والاستواء على العرش حقيقة، كما هو مذهب المشبّهة. ومن إطلاقه على غيره راعما أنّهما فيه سواء، كعبدة الأصنام. ومن أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم. ويجوز أن يكون الأعلى صفة للربّ، والاسم باعتبار المسمّى.

وعن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: «لمّا نزلت( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (١) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم. فلمّا نزلت( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: اجعلوها في سجودكم. وكانوا يقولون في الركوع: أللّهمّ لك ركعت، وفي السجود: أللّهمّ لك سجدت».

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) خلق كلّ شيء فسوّى خلقه، بأن جعل له ما به يتأتّى كماله من الإحكام والاتّساق، على وجه يدلّ على أنّه صادر من قدير

__________________

(١) الحاقّة: ٥٢.

٤٠٢

عليم وصانع حكيم.

( وَالَّذِي قَدَّرَ ) قدّر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها وأفعالها وآجالها.

وقرأ الكسائي: قدر بالتخفيف.( فَهَدى ) فوجّهه إلى أفعاله طبعا أو اختيارا، بخلق الميول والإلهامات، فعرّفه وجه الانتفاع به. كما يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغضّ يردّ إليها بصرها، فربما كانت في برّيّة بينها وبين الريف مسيرة أيّام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتّى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحكّ بها عينيها، وترجع باصرة بإذن الله تعالى.

وإلهامات البهائم والطيور وهو امّ الأرض باب واسع لا يحيط به وصف واصف. ومن ذلك أنّه سبحانه هدى الطفل إلى ثدي أمّه، وهدى الفرخ حتّى طلب الرزق من أبيه وأمّه، وسائر الدوابّ والطيور حتّى فزع كلّ منهم إلى أمّه. وما صدر من النحل من صنعة البيوت المسدّسة والمثمّنة وغيرهما من الأشكال، على وجه يعجز عنه المهندسون العالمون في صنائعهم المحسّنة اللطيفة البديعة العجيبة، كاف في تأمّل أولي الألباب والأبصار ليهتدوا إلى الله العزيز الحكيم.

وهدايات الله للإنسان من نصب الدلائل وإنزال الآيات ـ إلى ما لا يحدّ من مصالحه، وما لا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، فسبحان ربّي الأعلى وبحمده.

( وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ) أنبت ما ترعاه الحيوانات( فَجَعَلَهُ ) بعد خضرته( غُثاءً ) يابسا هشيما( أَحْوى ) أسود. وقيل: هو حال من المرعى، أي: أخرجه حال كونه أحوى، أي: أسود من شدّة خضرته وريّه، فجعله غثاء، أي: يابسا بعد حويّه، أي: شدّة خضرته. فسبحان من دبّر هذا التدبير، وقدّر هذا التقدير. وقيل: إنّه مثل ضربه الله تعالى لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

٤٠٣

( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩) )

ثمّ بشّر نبيّه بإعطاء آيات هادية بيّنة في الإعجاز بقوله:( سَنُقْرِئُكَ ) على لسان جبرئيل، أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة.( فَلا تَنْسى ) فلا تنساه أصلا من قوّة الحفظ، مع أنّك أمّيّ، ليكون ذلك آية اخرى لك. مع أنّ الإخبار به عمّا يستقبل ووقوعه كذلك أيضا من الآيات.

وقيل: نهي، والألف للفاصلة، كقوله:( السَّبِيلَا ) (١) . والمعنى: فلا تغفل من قراءته وتكريره فتنساه.

( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) نسيانه، بأن يذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته، كقوله:( أَوْ نُنْسِها ) (٢) فإنّ الإنساء نوع من النسخ.

وقيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقّنه جبرئيل، فقال: لا تعجل، فإنّ جبرئيل

__________________

(١) الأحزاب: ٦٧.

(٢) البقرة: ١٠٦.

٤٠٤

مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكرّرة إلى أن تحفظه، ثمّ لا تنساه إلّا أن يشاء الله.

وقيل: الغرض نفي النسيان رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلّا فيما شاء الله. ولا يقصد استثناء شيء. وهو من استعمال القلّة في معنى النفي.

( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) ما ظهر من أحوالكم وما بطن، فيعلم ما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه. أو يعلم جهرك يا محمّد بالقراءة مع جبرئيل، وما دعاك إليه من مخافة التفلّت والنسيان، فيعلم ما فيه صلاحك وأمّتك من إبقاء أو إنساء.

( وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى ) معطوف على( سَنُقْرِئُكَ ) . وقوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ ) اعتراض.

والمعنى: سنوفّقك للطريقة الّتي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي. وقيل: للشريعة السمحة الّتي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذا. وقيل: نوفّقك لعمل الجنّة. ولـمّا كان التيسير متضمّنا لمعنى التوفيق قال: «نيسّرك»، لا: نيسّر لك.

روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلّا عتوّا وطغيانا. وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلظّى حسرة وتلهّفا، ويزداد جدّا في تذكيرهم وحرصا عليه، فقيل له:( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) (١) .( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ) (٢) . ثمّ قيل له:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ) وذلك بعد إلزام الحجّة بتكرير التذكير.

وقيل: ظاهر الآية شرط، ومعناه ذمّ للمذكّرين، وإخبار عن حالهم، واستبعاد لتأثير الذكرى فيهم، وتسجيل عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ

__________________

(١) ق: ٤٥.

(٢) الزخرف: ٨٩.

٤٠٥

المكّاسين(١) إن سمعوا منك، قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنّه لن يكون كذلك.

( سَيَذَّكَّرُ ) سيتّعظ وينتفع بها( مَنْ يَخْشى ) يخشى الله وسوء العاقبة، بأن يتفكّر فيها فيعلم حقيقتها، فيقوده النظر إلى اتّباع الحقّ. فأمّا هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك.

( وَيَتَجَنَّبُهَا ) ويتجنّب الذكرى( الْأَشْقَى ) الكافر، لأنّه أشقى من الفاسق.

أو الّذي هو أشقى من الكفرة، لتوغّله في جحوده وإنكاره، وحقده وشدّة غضبه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.

( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ) نار جهنّم. والصغرى: نار الدنيا، فإنّهعليه‌السلام قال: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم».

أو ما في الدرك الأسفل من أطباق النار، فإنّ ناره أحرّ وأشدّ من نار أطباق أخر.

( ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ) فيستريح( وَلا يَحْيى ) حياة تنفعه، بل صارت حياته وبالا عليه، ومشقّة يتمنّى زوالها، لـما فيها من فنون العقاب وألوان العذاب. ولهذا ذكر «ثمّ» للدلالة على أنّ التردّد بين الحياة والموت أفظع من الصلي، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة.

( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) تطهّر من الكفر والمعصية. وقيل: من الزكاء بمعنى النماء. والمعنى: من نشأ ونما في التقوى. وقيل: تطهّر للصلاة، أو أدّى الزكاة، كتصدّق من الصدقة.

( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ) وحّده بقلبه ولسانه( فَصَلَّى ) بذلك الاسم الصلوات الخمس، لقوله:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (٢) . وعن ابن عبّاس: معناه: ذكر معاده

__________________

(١) المكّاس: من يأخذ المكس. والمكس: دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهليّة.

(٢) طه: ١٤.

٤٠٦

وموقفه بين يدي ربّه، فصلّى له. وعن الضحّاك: وذكر اسم ربّه في طريق المصلّى، فصلّى صلاة العيد. وعن عليّعليه‌السلام : تصدّق بالفطر،( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ) كبّر يوم العيد، فصلّى صلاته.

ومتى قيل: على هذا القول كيف يصحّ أن تكون السورة مكّيّة، ولم يكن هناك صلاة عيد ولا زكاة فطرة؟

قلنا: يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكّة وختمت بالمدينة.

وعند أكثر علمائنا أنّ المراد بالذكر هنا الأذان والإقامة، استنادا إلى روايات واردة عن أئمّتنا صلوات الله عليهم.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الأشقين على طريقة الالتفات، أو على إضمار قل:( بَلْ تُؤْثِرُونَ ) تختارون( الْحَياةَ الدُّنْيا ) على الآخرة، فلا تفعلون ما تفلحون به. وقيل: هو عامّ في المؤمن والكافر، بناء على الأعمّ الأغلب في أمر الناس.

قال عبد الله بن مسعود: إنّ الدنيا اخضرّت لنا، وعجّل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذّتها وبهجتها، وإنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنّا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.

( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ ) أفضل في نفسها( وَأَبْقى ) وأدوم، فإنّ نعيمها ملذّ بالذات، خالص عن الغوائل، لا انقطاع له.

( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ) الإشارة إلى ما سبق من قوله: «قد أفلح» إلى قوله: «وأبقى»، فإنّه جامع أمر الديانة، وخلاصة الكتب المنزلة. والمعنى: أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف.( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) بدل من الصحف الأولى.

٤٠٧

وروي عن أبي ذرّرضي‌الله‌عنه أنّه قال: «قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟

قال: مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرون ألفا.

قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟

قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيّتهم أنبياء.

قلت: أكان آدم نبيّا؟

قال: نعم، كلّمه الله وخلقه بيده. يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك.

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟

قال: مائة وأربعة كتب، منها: على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ ـ وهو إدريس ـ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان».

وقيل: إنّ في صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه.

وقيل: إنّ كتب الله سبحانه كلّها أنزلت في شهر رمضان.

٤٠٨

(٨٨)

سورة الغاشية

مكّيّة. وهي ستّ وعشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: «من أدمن قراءة( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) في فريضة أو نافلة، غشّاه الله رحمته في الدنيا والآخرة، وأعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الأعلى بالترغيب في الآخرة، وأنّها خير من الدنيا، افتتح هذه السورة أيضا ببيان أحوال الآخرة، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) الداهية الّتي تغشى الناس بشدائدها، وتلبسهم أهوالها. يعني: يوم القيامة، من قوله:( يَوْمَ يَغْشاهُمُ

٤٠٩

الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) (١) . أو النار من قوله:( وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) (٢) ( وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (٣) .

( وُجُوهٌ ) أي: صواحبها( يَوْمَئِذٍ ) يوم إذ غشيت( خاشِعَةٌ ) ذليلة( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) تعمل في النار عملا تتعب فيه، كجرّ السلاسل والأغلال، وخوضها في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ووهادها.

وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، والتذّت بها وتنعّمت، ونصبت في أعمال لا ينفعها في الآخرة.

وقيل: عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة، من قوله:( وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ) (٤) .( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (٥) .

( أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) (٦) .

وقيل: هم أصحاب الصوامع. ومعناه: أنّها خشعت لله، وعملت ونصبت في أعمالها، من الصوم الدائب(٧) والتهجّد الواصب.

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «كلّ ناصب لنا وإن تعبّد واجتهد يصير إلى هذه الآية «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ».

( تَصْلى ناراً ) تدخلها. قيل: المصلّي عند العرب أن يحفروا حفيرا، فيجمعوا فيه جمرا كثيرا، ثمّ يعمدوا إلى شاة فيدسّوها وسطه. فأمّا ما يشوى فوق

__________________

(١) العنكبوت: ٥٥.

(٢) إبراهيم: ٥٠.

(٣) الأعراف: ٤١.

(٤) الفرقان: ٢٣.

(٥) الكهف: ١٠٤.

(٦) آل عمران: ٢٢.

(٧) الدائب: الدائم المستمرّ. والتهجّد الواصب: الدائم المواظب على القيام به.

٤١٠

الجمر، أو على المقلى(١) ، أو في التنّور، فلا يسمّى مصلّيا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر تصلى، من: أصلاه الله.( حامِيَةً ) متناهية في الحرّ.

( تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) متناهية في الحرّ، كقوله:( وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) (٢) قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنّم مذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا، هذا شرابهم.

وقال أبو الدرداء: إنّ الله يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيذكرون أنّهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون فيعطشهم الله ألف سنة، ثمّ يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة ولا مريئة، كلّما أدنوه من وجوههم سلخ وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، فذلك قوله:( وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) (٣) .

( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) يبيس الشبرق. وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس تحامته، وهو سمّ قاتل. وقيل: شجرة ناريّة تشبه الضريع، كما نقل.

وعن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك، أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشدّ حرّا من النار، سمّاه الله الضريع».

وإنّما قال:( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) . وفي الحاقّة:( وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) (٤) وظاهر الكلامين تناف، لأنّ العذاب ألوان، والمعذّبون طبقات، فمنهم أكلة الزقّوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع.

__________________

(١) المقلى: وعاء يقلى ـ أي: ينضج ـ فيه الطعام.

(٢) الرحمن: ٤٤.

(٣) محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٥.

(٤) الحاقة: ٣٦.

٤١١

( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (١) . أو المراد: إنّما طعامهم ممّا تتحاماه الإبل وتعافه، لضرّه وعدم نفعه.

وهذا إشارة إلى أنواع طعام جهنّم، من الضريع والزقّوم والغسلين.

روي: أنّ المشركين لـمّا سمعوا هذه الآية قالوا: إن إبلنا لتسمن على الضريع. وكذبوا في ذلك، لأنّ الإبل لا ترعاه كما علمت. فقال سبحانه تكذيبا لهم :

( لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) أي: لا يسمن أحدا، ولا يدفع جوعا. وهذا مرفوع المحلّ أو مجروره على وصف: طعام أو ضريع. والمعنى: طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنّما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع.

وقيل: أراد الله سبحانه بهذه الآية أن لا طعام لهم أصلا، لأنّ الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس، لأنّ الطعام ما أشبع أو أسمن، وهو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظلّ إلّا الشمس، تريد: نفي الظلّ على التوكيد.

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) )

ثمّ وصف أهل الجنّة بقوله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) ذات بهجة وحسن، أو متنعّمة في أنواع اللذّات( لِسَعْيِها ) في الدنيا( راضِيَةٌ ) رضيت بعملها لـمّا رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة والثواب لسعيها.

__________________

(١) الحجر: ٤٤.

٤١٢

( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) عليّة المحلّ أو القدر( لا تَسْمَعُ فِيها ) يا مخاطب، أو الوجوه. وقرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير وأبو عمرو ورويس. وبالتاء نافع.

( لاغِيَةً ) لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو، فإنّ أهل الجنّة لا يتكلّمون إلّا بالذكر والحكم، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم.

( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) يجري ماؤها ولا ينقطع. يريد عيونا في غاية الكثرة، كقوله:( عَلِمَتْ نَفْسٌ ) (١) . فهي اسم جنس. والتنوين للتعظيم. فلكلّ إنسان في قصره من الجنّة عين جارية من كلّ شراب يشتهيه.

( فِيها سُرُرٌ ) ألواحها من ذهب مكلّلة بالزبرجد والدرّ والياقوت( مَرْفُوعَةٌ ) رفيعة السمك، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربّه من الملك والنعيم الدائم. أو رفيعة القدر.

( وَأَكْوابٌ ) جمع كوب. وهو إناء من ذهب وفضّة لا عروة له.( مَوْضُوعَةٌ ) بين أيديهم لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو على حافّات العيون معدّة للشرب.

( وَنَمارِقُ ) جمع نمرقة بالفتح والضمّ، وهي الوسادة( مَصْفُوفَةٌ ) بعضها إلى جنب بعض، أينما أراد أن يجلس جلس على مسورة(٢) واستند إلى اخرى.

( وَزَرابِيُ ) وبسط عراض فاخرة. وقيل: هي الطنافس(٣) الّتي لها خمل رقيق. جمع زربية.( مَبْثُوثَةٌ ) مبسوطة، أو مفرّقة في المجالس.

( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ

__________________

(١) التكوير: ١٤.

(٢) المسورة: متّكأ من جلد.

(٣) الطنافس جمع الطنفسة: البساط، الحصير.

٤١٣

سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦) )

ولـمّا نعت الله سبحانه الجنّة وما فيها عجب من ذلك أهل الضلال، فبيّن سبحانه أفعاله العجيبة الغريبة الدالّة على كمال القدرة، الموجبة لفعل كلّ ما أراد من الصنائع العظيمة العجيبة، فقال :

( أَفَلا يَنْظُرُونَ ) نظر اعتبار( إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) خلقا عجيبا دالّا على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها لجرّ الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل، ناهضة بالحمل، منقادة لمن اقتادها، ولو كان قائدها غير إنسان، كما حكي أنّ فارة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرّها وهي تتبعها حتّى دخلت الجحر، فجرّت الزمام فقرّبت فمها من جحر الفار. طوال الأعناق لتنوء بالأوقار(١) ، ترعى كلّ نابت في البراري والمفاوز ممّا لا يرعاه سائر البهائم، وتحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتّى لها قطع البراري والمفاوز. مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصّت بالذكر لبيان الآيات المنبثّة في الحيوانات الّتي هي أشرف المركّبات وأكثرها صنعا، ولأنّها أعجب ما عند العرب من هذا النوع.

وقيل: المراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز، لأنّ الإبل ليست من أسماء السحاب حقيقة، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك.

( وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) بلا عمد، مع ما في خلقها من صنائع القدرة

__________________

(١) الأوقار جمع الوقر: الحمل الثقيل.

٤١٤

وبدائع الفطرة، من الشمس والقمر والكواكب، وعلّق بها منافع الخلق وأسباب معايشهم.

( وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) فهي راسخة لا تميل ولا تزول، ولولاها لمادت الأرض بأهلها.

( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) بسطت حتّى صارت مهادا للمتقلّب عليها.

ووجه حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض: أنّ هذه الأشياء غالبا في مناظر العرب ومطاع(١) نظرهم في أوديتهم وبواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم.

وملخّص المعنى: أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركّبات، ليتحقّقوا كمال قدرة الخالق، فلا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به، ويستعدّوا للقائه؟ ولذلك عقّب به أمر المعاد، ورتّب عليه الأمر بالتذكير، فقال:( فَذَكِّرْ ) أي: لا ينظرون، فذكّرهم ولا تلحّ عليهم( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) أي: فلا عليك إن لم ينظروا ولم يتذكّروا، إذ ما عليك إلّا البلاغ، كقوله:( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ) (٢) .

( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) بمتسلّط يمكنك أن تدخل الإيمان في قلوبهم وتجبرهم عليه، كقوله:( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) (٣) . وعن الكسائي بالسين على الأصل، وحمزة بالإشمام.

( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) الاستثناء منقطع. والمعنى: لست بمستول عليهم، ولكن من تولّى عن الذكر وكفر بالله( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) الّذي هو عذاب جهنّم.

__________________

(١) كذا في النسخة الخطّية، ولعلّ الصحيح: ومطمح.

(٢) الشورى: ٤٨.

(٣) ق: ٤٥.

٤١٥

وقيل: متّصل، فإنّ جهاد الكفّار وقتلهم تسلّط. وكأنّه أوعدهم الجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة.

وقيل: هو استثناء من قوله: «فذكّر» أي: فذكّر إلّا من انقطع طمعك من إيمانه وتولّى، فاستحقّ العذاب الأكبر. وما بينهما اعتراض.

( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) رجوعهم بعد الموت( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) في المحشر. وتقديم الخبر للتخصيص والمبالغة في الوعيد. كأنّه قال: إنّ إيابهم ليس إلّا إلى الجبّار المقتدر على الانتقام، وإنّ حسابهم ليس بواجب إلّا عليه، وهو الّذي يحاسب على النقير والقطمير. ومعنى الوجوب الوجوب في الحكمة.

٤١٦

(٨٩)

سورة الفجر

مكّيّة. وهي ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها في ليال عشر غفر الله له، ومن قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة».

وروى داود بن فرقد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «اقرؤا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنّها سورة الحسين بن عليّعليه‌السلام ، من قرأها كان مع الحسين بن عليّعليه‌السلام يوم القيامة في درجته من الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) )

٤١٧

ولـمّا ختم سورة الغاشية بأنّ إياب الخلق إليه وحسابهم عليه، افتتح هذه السورة بتأكيد ذلك المعنى حين أقسم أنّه بالمرصاد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْفَجْرِ ) أقسم بمطلق الصبح في الأيّام، كما أقسم في قوله:( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) (١) . أو بمطلق فلقه، كقوله:( وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) (٢) . أو بصلاة الفجر، أو بفجر يوم النحر، أو بفجر عرفة، أو فجر أوّل ذي الحجّة، أو فجر أوّل المحرّم. والأوّل أشمل وأعمّ، ومنقول عن عكرمة والحسن والجبائي، ورواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

( وَلَيالٍ عَشْرٍ ) عشر ذي الحجّة، على ما نقل عن مجاهد والضحّاك وابن عبّاس والحسن وقتادة والسدّي. ولذلك فسّر الفجر بفجر عرفة أو النحر. وقيل: عشر رمضان الأخير. ولأنّها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، وقعت منكّرة من بين ما أقسم به. ولو عرّفت بلام العهد، لأنّها ليال معلومة معهودة، لم تستقلّ بمعنى الفضيلة الّذي في التنكير، فإنّ التنكير للتعظيم والتفخيم. ولأنّ الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية، فيوهم أنّ المراد جنس العشرات لا العشرات المعيّنة المطلوبة.

( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) أي: والأشياء كلّها، شفعها ووترها. أو الخلق، لقوله:( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) (٣) والخالق، لأنّه فرد.

ومن فسّرهما بشفع هذه الليالي ووترها، وبالعناصر والأفلاك والبروج والسيّارات. أو شفع الصلوات ووترها. أو بيومي النحر وعرفة، لأنّها تاسع أيّامها

__________________

(١) المدّثر: ٣٤.

(٢) التكوير: ١٨.

(٣) الذاريات: ٤٩.

٤١٨

وذلك عاشرها، فقد روي مرفوعا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام .

أو الوتر آدم، شفّع بزوجته. أو الشفع الأيّام، والوتر اليوم الّذي لا ليل بعده، وهو يوم القيامة. أو الشفع عليّ وفاطمةعليهما‌السلام ، والوتر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أو الصفا والمروة، والوتر البيت. فلعلّه(١) أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلا في الدين، أو مناسبة لـما قبلها، أو أكثر منفعة موجبة للشكر.

وقرأ حمزة والكسائي: والوتر، بفتح الواو. وهما لغتان، كالحبر والحبر.

( وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) إذا يمضي، كقوله:( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) (٢) . وأصله: يسري، حذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا. وقد خصّه نافع وأبو عمرو بالوقف. والتقييد بذلك لـما في التعاقب من قوّة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعم.

( هَلْ فِي ذلِكَ ) الإقسام، أو المقسم به( قَسَمٌ ) حلف، أو محلوف به( لِذِي حِجْرٍ ) يعتبره ويعظم بالإقسام به، ويؤكّد به ما يريد تحقيقه. والحجر: العقل. سمّي به لأنّه يحجر عمّا لا ينبغي، كما سمّي عقلا ونهية وحصاة من الإحصاء، وهو الضبط. وفي هذا تعظيم وتأكيد لـما وقع به القسم.

والمعنى: أنّ من كان ذا لبّ علم أنّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على توحيد الله، توضح عن عجائب صنعه وبدائع حكمته.

والمقسم عليه محذوف، وهو: ليعذّبنّ. يدلّ عليه قوله:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) . الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفيه تنبيه للكفّار على ما فعله سبحانه بالأمم السابقة لـمّا كفرت بالله وبأنبيائه، وكانت أطول أعمارا وأشدّ قوّة. وعاد قوم ثمود، سمّوا باسم أبيهم، كما سمّي بنو هاشم باسمه. وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.

__________________

(١) خبر لقوله: ومن فسّرهما ...، في بداية الفقرة.

(٢) المدّثر: ٣٣.

٤١٩

( إِرَمَ ) عطف بيان لـ «عاد» إيذانا بأنّهم عاد الأولى القديمة. وهذا على تقدير مضاف، أي: سبط إرم، أو أهل إرم، إن صحّ أنّه اسم بلدتهم. وقيل: سمّي أوائلهم ـ وهم عاد الأولى ـ بإرم اسم جدّهم، ومن بعدهم سمّوا عادا الأخيرة. ومنع صرفه للعلميّة والتأنيث، باعتبار القبيلة أو البلدة.( ذاتِ الْعِمادِ ) ذات البناء الرفيع، أو القدود(١) الطوال. ومنه قولهم: رجل معمد إذا كان طويلا. ورجل طويل العماد، أي: القامة. أو ذات الرفعة والثبات.

( الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) صفة اخرى لـ «إرم». والضمير لها، سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة. والمعنى: لم يخلق مثل عاد في جميع بلاد الدنيا عظم أجرام وقوّة. فقد روي أنّ طول الرجل منهم كان أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحيّ فيهلكهم. أو لم يخلق مثل مدينة إرم في جميع بلاد الدنيا.

وقيل: كان لعاد ابنان: شدّاد وشديد، فملكا وقهرا، ثمّ مات شديد فخلص الأمر لشداد، وملك المعمورة، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنّة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنّة وسمّاها إرم، فلمّا تمّ سار إليها بأهله، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.

وعن عبد الله بن قلابة: أنّه خرج في طلب إبله فوقع عليها. وقصّة ذلك مفصّلا على ما روى وهب بن منبّه: أنّ عبد الله بن قلابة خرج يوما في طلب إبل له شردت، فبينا هو في صحاري عدن إذ هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال.

فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله، فنزل عن دابّته وعقلها، وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن. فلمّا دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم

__________________

(١) القدود جمع القدّ: قدر الشيء وتقطيعه.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

أما والله ما نالا ولا نال واحد منهما شيئاً إلاّ وصاحبنا خير ممن نال ، وما أنكرنا تقدّم من تقّدم لعيب عبناه عليه ، ولو تقدم صاحبنا لكان أهلاً وفوق الأهل ، ولولا أنّك إنّما تذكر حظ غيرك وشرف أمريءٍ سواك لكلمتّك ، ولكن ما أنت وما لاحظّ لك فيه ، أقتصر على حظك ودع تيماً لتيم ، وعدياً لعدي ، وأمية لأمية. ولو كلمني تيمي أو عدوي أو أموي لكلّمته ، وأخبرته خبر حاضر عن حاضر لا خبر غائب عن غائب ، ولكن ما أنت وما ليس لك ، فإنّ يكن في أسد بن عبد العزّى شيء فهو لك.

أما والله لنحن أقرب بك عهداً ، وأبيضُ عندك يداً ، وأوفر عندك نعمة ممن أسميت ، تظن أنّك تصول به علينا ، وما أخلق ثوب صفية بعد.( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) (١) (٢) .

( قد أنصف القارة من راماها )

( تزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو إبنة منظور بن أبان الفزارية. فلمّا دخل بها ، قال لها تلك الليلة : أتدرين مَن معك في حجلتك؟

قالت : نعم عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي.

قال : ليس غير هذا.

قالت : فما الذي تريد؟

____________________

(١) يوسف / ١١٨.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٤ / ٤٩٠ ، والدرجات الرفيعة / ١١٨.

٤٨١

قال : معك مَن أصبح من قريش بمنزلة الرأس من الجسد ، لا بل بمنزلة العينين من الرأس.

قالت : أم والله لو أنّ بعض بني عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك.

فغضب وقال : الطعام والشراب عليّ حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني عبد مناف فلا يستطيعون لذلك إنكاراً.

قالت : إن أطعتني لم تفعل ، وأنت أعلم وشأنك.

فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش منهم عبد الله بن العباس ، وعبد الله بن الحصين بن الحرث بن المطلب بن عبد مناف ، فقال لهم ابن الزبير : أحبّ أن تنطلقوا معي إلى منزلي. فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا على باب بيته ، فقال ابن الزبير : يا هذه اطرحي عليك سترك.

فلمّا أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة فتغدى القوم فلمّا فرغوا ، قال لهم : إنّما جمعتكم لحديث ردتّه علي صاحبة الستر وزعمت أنّه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني لما أقرّ لي بما قلت ، وقد حضرتم جميعاً ، وأنت يا ابن عباس ما تقول : إنّي أخبرتها إنّ معها في خدرها مَن أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد لا بل بمنزلة العين من الرأس فردّت علىّ مقالتي.

فقال : ابن عباس : أراك قصدت قصدي فإن شئت أن أقول قلتُ ، وإن شئت أن أكفّ كففت.

قال : بل قل وما عسى أن تقول : ألست تعلم أنّي ابن الزبير حواري

٤٨٢

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين؟ وأنّ عمتي خديجة سيدة نساء العالمين ، وأنّ صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جدتي؟ وأنّ عائشة أم المؤمنين خالتي؟ فهل تستطيع لهذا أنكاراً؟

قال ابن عباس : لا ولقد ذكرتَ شرفاً شريفاً وفخراً فاخراً ، غير أنّك تفاخر مَن بفخره فخرت وبفضله سموت.

قال : وكيف ذلك؟

قال : لأنّك لم تذكر فخراً إلاّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أولى بالفخر به منك.

قال ابن الزبير : لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة.

قال ابن عباس : ( قد أنصف القارة من راماها ) ، نشدتكم الله أيّها الحاضرون أعبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش؟

قالوا : عبد المطلب.

قال : أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟

قالوا : بل هاشم.

قال : أفعبد مناف أشرف أم عبد العزى؟

قالوا : عبد مناف.

فقال ابن عباس :

تنافرني يا بن الزبير وقد قضى

عليك رسول الله لا قول هازل

ولو غيرنا يا بن الزبير فخرته

ولكنما ساميت شمس الأصائل

٤٨٣

قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفضل في قوله : ( ما أفترقت فرقتان إلاّ كنت في خيرهما ، فقد فارقناك من بعد قصيّ بن كلاب ) ، أفنحن في فرقة الخير أم لا؟

إن قلت : نعم خُصمت ، وإن قلت لا كفرت. فضحك بعض القوم.

فقال ابن الزبير : أما والله لولا تحرّمك بطعامنا يا ابن عباس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك.

قال ابن عباس ولم؟ أبباطل؟ فالباطل لا يغلب الحق ، أم بحق؟ فالحق لا يخشى من الباطل.

فقالت المرأة من وراء الستر : إنّي والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلاّ ما ترون.

فقال ابن عباس : صه أيتها المرأة أقنعي ببعلك ، فما أعظم الخطر وما أكرم الخبر ، فأخذ القوم بيد ابن عباس وكان قد عمى ، فقالوا : إنهض أيها الرجل ، فقد أفحمته غير مرّة. فنهض وقال :

ألا يا قومنا أرتحلوا وسيروا

فلو تُرك القطا لغفا وناما

فقال ابن الزبير : يا صاحب القطا أقبل عليّ فما كنت لتدعني حتى أقول ، وأيم الله لقد عرف الأقوام أنّي سابق غير مسبوق ، وابن حواريّ وصدّيق ، متبجح في الشرف الأنيق ، خير من طليق وابن طليق.

فقال ابن عباس : رسعت بجرتك فلم تبق شيئاً ، هذا الكلام مردود ، من

٤٨٤

أمريء حسود ، فإن كنت سابقاً فالى مَن سبقت؟ وإن كنت فاخراً فبمن فخرت؟

فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا ، فالفخر لك علينا ، وإن كنت إنّما أدركته بأسرتنا فالفخر لنا عليك ، والكثكث في فمك ويدك.

وأمّا ما ذكرت من الطليق ، فو الله لقد ابتلي فصبر ، وأنعم عليه فشكر ، وإن كان والله لوفياً كريماً ، غير ناقض بيعة بعد توكيدها ، ولا مسلم كتيبة بعد التآمر عليها.

فقال ابن الزبير : أتعيّر الزبير بالجبن ، والله إنّك لتعلم منه خلاف ذلك.

قال ابن عباس : والله إنّي لا أعلم إلا أنّه فرّ وماكرَّ ، وحارَبَ فما صبر ، وبايع فما تمم ، وقطع الرحم وأنكر الفضل ، ورام ما ليس له بأهل :

وأدرك منها بعض ما كان يرتجى

وقصرّ عن جري الكرام وبلّدا

وما كان إلا كالهجين أمامه

عناق فجاراه العناق فأجهدا

فقال عبد الله بن الحصين بن الحرث : ويلك يا ابن الزبير أقمناه عنك وتأبى إلاّ منازعته ، والله لو نازعته من ساعتك إلى إنقضاء عمرك ، ما كنت إلاّ كالسغب الظمآن ، يفتح فاه يستزيد من الريح فلا يشبع من سغب ، ولا يروي من عطش فقل : إن شئت أو فدع ، فأنصرف القوم.

قال ابن الزبير : والله يا بني هاشم ما بقي إلاّ المحاربة والمضاربة بالسيوف.

٤٨٥

فقال له عبد الله بن نوفل بن الحرث : أما والله لقد جرّبت ذلك ، فوجدت غيه وخيماً ، فإن شئت فعد حتى نعود ، وانصرف القوم عنه وافتضح ابن الزبير )(١) .

( بئِسَ المرء يشبَع وجَارُه جَائِع )

( دخل ابن عباس على ابن الزبير وكان القائد له سعيد بن جبير.

فقال له ابن الزبير : تؤنبني وتعنفني.

قال ابن عباس : إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره ) ، وأنت ذلك الرجل.

فقال ابن الزبير : والله إنّي لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة.

وتشاجرا ، فخرج ابن عباس من مكة فأقام بالطائف حتى مات )(٢) .

( والفَضَلُ لأَهَل الفَضَل )

عن الشعبي ، عن ابن عباس :

( إنّه دخل المسجد وقد سار الحسين بن علي رضي الله عنهما إلى العراق ، فإذا هو بابن الزبير في جماعة من قريش قد استعلاهم بالكلام.

فجاء ابن عباس حتى ضرب بيده بين عضدي ابن الزبير ، وقال : قرّت

____________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٢ / ٥٠١ ط الأولى بمصر ، جمهرة خطب العرب ٢ / ١٠٤ ـ ١٠٩ ، الدرجات الرفيعة / ١٣٢ ـ ١٣٤.

(٢) مروج الذهب ٢ / ١٠٢ ، شرح النهج ٤ / ٤٩٥ ، الرسالة الأولى من رسائل الجاحظ في الحاسد والمحسود / ٨ ط مصر. الدرجات الرفيعة / ١٤٧.

٤٨٦

عينك يابن الزبير أصحبت والله كما قال الأوّل :

يا لك من قَبرّة بمعَمر

خلالكِ الجوَ فبيصي واصفري

ونقرّي ما شئتِ أن تنقري

قد رُفع الفخ فماذا تحذري

هذا الحسين سائر فأبشري

خلا الجو والله لك يا بن الزبير وسار الحسين إلى العراق ، خلت الحجاز من الحسين بن عليّ وأقبلت تهدر في جوانبها.

فغضب ابن الزبير وقال : والله إنّك لترى إنّك أحق بهذا الأمر من غيرك(١) .

فقال ابن عباس : إنّما يرى مَن كان في حال شك وإنّا ـ نحن ـ خ ل ـ من ذلك على يقين.

فقال : وبأي شيء تحقق عندك أنّك أحق بهذا الأمر مني؟

قال ابن عباس : لأنّا أحق ممَن يدّل بحقه ، ولكن أخبرني عن نفسك بماذا تروم هذا الأمر ـ خ ل ـ وبأي شيء تحقق عندك؟ إنّك أحق بها من سائر العرب إلاّ بنا.

فقال ابن الزبير : تحقق عندي أنّي أحق بها منكم لشرفي عليكم قديماً وحديثاً.

فقال : أنت أشرف أم من قد شُرفت به؟

فقال : أنّ من شرفتُ به زادني شرفاً إلى شرف قد كان لي قديماً وحديثاً.

____________________

(١) في رواية الدرجات الرفيعة : يا بن عباس والله ما ترون هذا الأمر إلا لكم ، ولا ترون إلا أنكم أحق به من جميع الناس في ١ / ١٣٨ مخطوطة السماوي / ١٣٠ ط الحيدرية.

٤٨٧

قال : أفمني الزيادة أم منك؟

قال : بل منك.

فتبسم ابن عباس ، وعلت أصواتهما.

فقال غلام من آل الزبير : يا بن عباس دعنا من لسانك هذا الذي تقلّبه كيف شئت ، والله لا تحبوننا يا بني هاشم ولا نحبّكم أبداً. فلطمه عبد الله ابن الزبير وقال له : أتتكلم وأنا حاضر.

وقال ابن عباس للغلام : صدقت نحن أهل بيت مع الله عزّو جلّ لا نحبّ من أبغضه الله تعالى. ثم قال لابن الزبير : لم ضربت الغلام؟ والله أحق بالضرب منه من خرق ومرق.

قال ابن الزبير : ومن هو؟

قال ابن عباس : أنت.

فقال ابن الزبير : يا بن عباس ما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة؟

قال : أنا أصفح عمن أقرّ ، وأمّا عمن هرّ فلا ، والفضل لأهل الفضل.

قال ابن الزبير : فأين الفضل؟

قال : عندنا أهل البيت لا تصرفه عن أهله فتظلم ، ولا تضعه في غير أهله فتندم.

قال ابن الزبير : أَفَلسَتُ من أهله؟

قال ابن عباس : بلى إن نبذت الحسد ولزمت الجدَدَ.

وأنفضّ حديثهما باعتراض رجال من قريش بينهما فأسكتوهما ، وقام القوم فتفرقوا )(١) .

____________________

(١) أخبار الدولة العباسية / ١٠٨.

٤٨٨

قالوا : لمّا هَمَّ عبدُ الله بن الزبير بما همَّ به من أمرِ بني هاشم وإحراقهم وإنّه كان ذلك من ولايتهِ على رَأس خمسِ سنين ، لم يذكر رسولّ الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهن بحرفِ في خطبة ، فعُوتب على ذلك.

فقال : ( واللهِ ما تركتُه علانيةً إلاَّ أن أكونَ أقولُه سرَّاً ، وأكثَر منه ، ولكن رأيتُنِي إذا ذكرتُه طالتْ رِقابُ بني هاشمٍ ، واشرأبَّت ألوانهم ، ولم أكُن لأذْكُرَ لهم سرورّاً وأنا أقدر عليه.

ثم صعد المنبر ؛ فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيّها الناس ، إنّي حاظر لهم حظيرة ، فمضرمُها عليهم نارّاً ، فإنّي لا أقتلُ إلاّ آثماً كفَّارَاً أفَّاكاً سَحّاراً ، والله ما رضيَ بهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم خَفَراً ، ولا تَرَكَ فيهم خيراً ، ولا رضيهم لولايةٍ ، أهل كذبٍ استفرغَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صِدْقهم.

فقام إليه محمد بنُ سعد بن أبي وقاص ، فقال : وفقكَ الله يا أمير المؤمنين ، فأنّا أوّل من أعانكَ عليهم.

وقام عبدُ الله بن صفوانَ ، فقال : يا ابنَ الزبير ، أيمُ اللهِ ما قلتَ صواباً ، ولا هممتَ برُشْد ، أرهط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعيبُ ، وإياهم تقتُل ، والعرب حولَكَ؟! والله لئن لم ينصرهم الناسُ لينصرنَّهمُ الله منك.

قال : فقال ابن الزبير : اجلس يا أبا صفوان ؛ فإنّك لست بنَامُوسٍ.

وبلغ الخبرُ عبد الله بن العباس ؛ فخرج يتوكأ على يد ابنه حتى دخل المسجد ، فقصد قَصْدَ المنبر ، فقال : أيُها الناس ، إنّ ابن الزبير يقول : أن لا أوَّل ولا آخر لرسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فواللهِ إنَّ أوّلَ من ألَّف الإلف ، وأجاز عِيَرات قريش لهاشمٌ ، وما شدَّتْ بعيراً لسفرٍ ، ولا أناختْ بعيراً لحضَرٍ إلاّ بهاشم ، وإنَّ أوَّلَ مَنْ سقَى بمكة عذباً ، وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب ، ثمَ لقد نشأتْ ناشئتُنا مع ناشئتهم ، فإنْ كنَّا لَقالتهم إذا قالوا ، وخطباؤُهم إذا

٤٨٩

نطقُوا ، وما عددتُ مجدّاً كمجد أوَّلنا ، ولا كان فيها مجد لغيرنا ، إلاّ في كُفْر ماحقٍ ، ودينِ فاسقِ ، وضُلّةِ ضالة في عشواءَ عمياء ، حتى إختار لها اللهُ نوراً ، وبعث لها سراجاً ، فأخذه طيبّاً من طيّب ، لا يُسَبُّ بمسَبَّةٍ ، ولا تغولُه غائلةُ. فكان أحدَنا وولدَنَا وعمَّنَا وابن عمِّنَا ، ثم إنَّ السابقين إليه لَمنَّا اللسان ، ثم إنَّا لخير الناس بعدَهُ صلى الله عليه وآله وسلم أظهرُهم أدبَاً ، وأكرمُهم حسبَاً ، والعجَبُ عجبَاً ، أنّ ابن الزبير يعيبُ أوَّلاً وآخرّاً من كان له لسانٌ نطق ، كذبَ أو صدق. متى كان عوَّامُ بن خويلد يطمع في صفيَّة ، لقد جلست الفرسُ بغلاً ، أما والذي لا إله غيره إنّه لمصلوّبُ قريش ، وإنّه لأُم عَفّي تَغْزِلُ من إستها ، ليس لها سوى بيتها. قيل للبغل : مَن أبوكَ يا بغل؟ قال : خالي الفرس )(١) .

وبهذه المحاورة ننهي صفحة إحتجاجات ابن عباس رضي الله عنه التي إفتتحها مع الذين تعاقبوا على الحكم ، ثم مع الذين شايعهم وتابعهم كأصحاب الجمل ، ثم مِن بعدهم معاوية وبني أميّة وابن العاص ، وأخيراً مع ابن الزبير ، فكانت مواقفه مع جميعهم تنبئ عن صدق إيمان ، وشجاعة قلب ، وقوّة حجة ، عزّ نظيرها ، إن لم يكن هو الفذّ بكلّ ما لهذا الوصف من معنى.

وبهذا نختم الجزء الرابع من الحلقة الثانية من ( موسوعة عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ) ونرجئ بقية إحتجاجاته إلى الجزء الخامس ونلحقها بما ورد عنه من مفردات الكِلَم في ( جوامع ) الحِكَم.

نسأل الله تعالى التيسير فهو على كلّ شيء قدير.

تمّ تبييضه في يوم الجمعة

١٦ شهر رجب المرجب ١٤٣٠ هـ

____________________

(١) أنظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢٠ / ١٢٩ ، جمهرة العرب لأحمد زكي ٢ / ١٢٠.

٤٩٠

فهرس الجزء التاسع

تمهيد ٩

حقائق مغيّبة في عيابات المؤرخين ١٥

نماذج مثيرة لإعترافات خطيرة٢٠

فماذا عن ابن عباس في كتاب ٢٦

( الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة )؟٢٦

الفصل الرابع ٣٣

آثار الأدبية شعراً٣٣

ونثراً ومحاججات كلامية٣٣

وفيه ثلاثة مباحث ٣٣

المبحث الأوّل ٣٥

ابن عباس وما ينسب إليه من شعر وشاعرية٣٥

المبحث الثاني ٦١

ابن عباس والخطابة٦١

نماذج من بعض خطبه٦٥

المبحث الثالث ٧٥

ابن عباس والإحتجاج ٧٥

مواقف إحتجاجاته في أيام أبي بكر٨١

مقام رجلين من علماء اليهود بين يدي أبي بكر٩١

ابن عباس مع عمر بن الخطاب في أيام خلافته٩٣

نماذج من احتجاجاته على عمر بن الخطاب ٩٨

١ ـ ( لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذرواً من قول ) ٩٨

٢ ـ ( أنت والله أحق أن تتبع ) ١٠٠

٤٩١

٣ ـ ( أمسك عليَّ وأكتم ) ١٠٢

٤ ـ ( إنّ عليّاً لأحق الناس ) ١٠٤

٥ ـ ( فأردد إليه ظلامته ) ١٠٧

٦ ـ ( أوّل من راثكم عن هذا ـ الأمر ـ أبو بكر ) ١٠٨

٧ ـ ( إنّي بابٌ وعليّ مفتاحه ) ١١٠

٨ ـ ( ولو سكت سكتنا ) ١١١

٩ ـ ( إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد الأمر له ) ١١٢

١٠ ـ ( واهاً لابن عباس ما رأيته لا حى أحداً قط إلاّ خصمه ) ١١٤

١١ ـ ( إنّا أنزل علينا القرآن ) ١٢٦

١٢ ـ ( قد رشحه لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصُرفت عنه ) ١٢٧

١٣ ـ ( يكرهون ولا يتكم لهم! ) ١٢٨

١٤ ـ ( إنّكم فضلتموهم بالنبوّة ) ١٣١

١٥ ـ ( لئن وليهم ليحملنهم على المحجة البيضاء ) ١٣١

١٦ ـ ( نشنشة من أخشن ) ١٣٣

إحتجاجه على أهل الشورى ١٣٦

( كم تمنعون حقوقنا!؟ ) ١٣٦

بين يدي محاوراته مع عثمان ١٤١

وصية العباس للإمام عليه السلام :١٥٠

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :١٥٢

محاورات ابن عباس مع عثمان ١٥٥

بين يدي المحاورة الأولى :١٥٥

المحاورة الثانية :١٥٦

المحاورة الثالثة :١٦١

المحاورة الرابعة :١٦٧

المحاورة الخامسة :١٧١

٤٩٢

المحاورة السادسة :١٧٣

المحاورة السابعة :١٧٤

المحاورة الثامنة :١٧٥

المحاورة التاسعة :١٨٠

المحاورة العاشرة :١٨٤

المحاورة الحادية عشر :١٨٥

محاورات ابن عباس مع رموز الناكثين ١٨٨

( السفارة الأولى )١٨٩

( السفارة الثانية )١٩٠

( السفارة الثالثة )١٩٦

( السفارة الرابعة )١٩٦

( السفارة الخامسة )١٩٩

( السفارة السادسة )٢٠١

ابن عباس وعائشة٢٠٥

أمر تسيير عائشة إلى المدينة :٢٠٦

ماذا عن نص المحاورة؟٢١١

نص المحاورة في مصادر القرن الثالث :٢١٦

نص المحاورة في مصادر القرن الرابع :٢٢٢

نص المحاورة في مصادر القرن الخامس :٢٣٦

نص المحاورة في مصادر القرن السادس :٢٣٧

نص المحاورة في مصادر القرن السابع :٢٤١

نص المحاورة في مصادر القرن التاسع :٢٤٥

فنادى ابن عباس؟٢٤٧

وقفة مع الأفغاني للحساب :٢٥١

إستدراكها على عبد الله بن عباس ٢٥٧

٤٩٣

تعقيب في استدراك عائشة على ابن عباس ٢٧١

( حديث واحد خير من ألف شاهد ) :٢٧٢

فماذا قال علماء التبرير؟٢٧٦

ماذا وراء الأكمة من غمّة؟٢٨٣

نور على الدرب :٢٨٧

محاورات ابن عباس مع معاوية٣١٣

مَن هم قتلة عثمان؟ هل هم بنو هاشم؟ أم هم بنو أمية؟٣١٤

كبرياء معاوية في عتابه واعتداد ابن عباس في جوابه :٣٢٤

( حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها )٣٢٥

( المحاورة الأولى )٣٢٩

مواقف فخر ونصرة٣٤١

( المحاورة الثانية )٣٥١

( المحاورة الثالثة )٣٥٢

( المحاورة الرابعة )٣٥٣

( المحاورة الخامسة )٣٥٧

( المحاورة السادسة )٣٦٠

( المحاورة السابعة )٣٦٥

( المحاورة الثامنة )٣٧٢

( المحاورة التاسعة )٣٧٤

( المحاورة العاشرة )٣٧٦

( المحاورة الحادية عشرة )٣٨١

( المحاورة الثانّية عشرة )٣٨٣

( المحاورة الثالثة عشرة )٣٨٤

( المحاورة الرابعة عشرة )٣٨٦

( المحاورة الخامسة عشرة )٣٨٧

( المحاورة السادسة عشرة )٣٨٩

٤٩٤

( المحاورة السابعة عشرة )٣٨٩

( المحاورة الثامنة عشرة )٣٩٧

( المحاورة التاسعة عشرة )٣٩٨

( المحاورة العشرون )٤٠٠

معاوية في المدينة٤١٣

( المحاورة الحادية والعشرون )٤١٥

( المحاورة الثانية والعشرون )٤٢٠

تضليل وأحابيل :٤٢٣

( المحاورة الثالثة والعشرون )٤٢٦

نصائح ابن عباس لمعاوية٤٣٠

محاوراته مع عمرو بن العاص ٤٣٢

حديث الخديعة :٤٣٤

( بين عمرو بن العاص وابن عباس )٤٣٥

كتاب معاوية إلى ابن عباس :٤٤٢

( لأنّك من اللئام الفجرة )٤٥١

( إنّ قريشاً تزعم أنّك أعلمها )٤٥١

( فليت شعري بأيّ قدر تتعرض للرجال )٤٥٣

( لك يدان ووجهان )٤٥٤

( ما أرسلت كلمة إلا أرسلت نقيضها )٤٦٠

محاورته مع الأشعث بن قيس ٤٦٦

محاورته مع عتبة بن أبي سفيان ٤٦٨

محاورته مع زياد ( الدعيّ )٤٧٠

محاورته مع أبي موسى الأشعري ٤٧١

محاورته مع عروة بن الزبير ٤٧٣

إحتجاجاته على ابن الزبير ٤٧٥

( على رسلك )٤٨٠

٤٩٥

( قد أنصف القارة من راماها )٤٨١

( بئِسَ المرء يشبَع وجَارُه جَائِع )٤٨٦

( والفَضَلُ لأَهَل الفَضَل )٤٨٦

فهرس الجزء التاسع ٤٩١

٤٩٦