موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93302 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

المبحث الثاني

ابن عباس والخطابة

٦١
٦٢

إنّ الخطابة التي كانت عند العرب ، يتفاضلون فيها بالعصبيّة ، ويتفاخرون عندها بالأنساب ، ولمّا جاء الإسلام جمع كلمتهم على الهدى والتقى باسم الإسلام ، وحسبنا أن نستذكر من خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التي ألقاها يوم فتح مكة عند الكعبة. فقال فيها : ( يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم خلق من تراب )(١) .

وقال في خطبة من خطب حجة الوداع : ( أيّها الناس ، إنّ ربكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، وكلّكم لآدم وآدم من تراب ، وأكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى )(٢) .

فهو صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء المسلمين بالقرآن الكريم فقد زاد العرب بلاغة وحكمة ، فصار خطباؤهم يزيّنون خطبهم بآية من آيات الذكر الحكيم ، وكتب السيرة والتاريخ والأدب ملاء بالشواهد ، وأبرز الخطباء بعد

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٣٣٧.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ١ / ١٢٨.

٦٣

النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أثراً في الخطابة كان هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو الذي سنّ الفصاحة لقريش كما قال معاوية في حديثه مع محقن بن أبي محقن الضبي ، وقد كان ابن عباس يقول في وصفه للإمام عليه السلام وقد سأله عنه معاوية كما سيأتي في حديثه : ( رحم الله أبا الحسن كان والله علم الهدى وأخطب أهل الدنيا إلاّ الأنبياء والنبيّ المصطفى )(١) ، وهو إمام الخطباء من العرب على الإطلاق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(٢) . ويكفي شاهداً ( نهج البلاغة ) معلماً حيّاً قائماً.

وقد روى ابن عباس من خطب الإمام عليه السلام وحكمه في كلمه كثيراً ، إذ كان له ومعه منذ رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى حضور دائم ، وظلّ ملازم ، يحفظ عنه ما يقول ، ويعي منه ما يقصر عن فهمه غيره ، فكان ربيب علمهِ وهو القائل : ( ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب )(٣) . وقال أيضاً في جواب من سأله عن الإمام عليه السلام فأغضبه في مسألته فقال له : ( ثكلتك أمّك ، عليّ علّمني ، وكان علمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ورسول الله علّمه الله من فوق عرشه ، فعلم النبيّ من الله ، وعلم عليّ من النبيّ ، وعلمي من علم عليّ ، وعلم أصحاب محمد كلّهم في علم عليّ كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر )(٤) .

____________________

(١) المعجم الكبير للطبراني ١٠ / ٤٣٩ / ١٠٥٨٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) جواهر الأدب للسيد أحمد الهاشمي ٢ / ١٣٤ ط / ١٥ مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر.

(٣) مقدمتان في علوم القرآن / ٢٦٤.

(٤) أنظر أمالي الطوسي ١ / ١١ ط النعمان ، ص ٧ ط حجرية ١٣١٣ هـ ، بحار الأنوار ٨ / ٤٦٥ ط حجرية. وقدم في هذه الحلقة من موسوعة عبد الله بن عباس ج١.

٦٤

فمن كان بهذه المثابة في المصدر في علومه ، هل تخفى عليه بلاغة عليّ عليه السلام وفصاحته في خطبه ومنثور حِكمه في كلامه ، وهو يعيش معه جنباً إلى جنب ، ثم لا يتعلم منه! لقد كان ابن عباس الوحيد من بين شيعة الإمام عليه السلام الذي روى الخطبة الشقشقية التي كشفت عن مكنون الضمير عند الأمير عليه السلام ، مع ما روى عنه ما خصّه به من حديث على نهج ما مرّ ، ودع عنك طبيعة البيت الهاشمي من امتياز في الفصاحة.

فمن هذا وذاك كان ابن عباس رضي الله عنه خطيباً بارعاً يأخذ بالألباب من سامعيه ، حتى كان بعضهم يرى على كلامه نوراً ، وآخر يودّ لو أذن له يقبّل رأسه ، وثالث يقول : لو سمعته الترك أو الديلم لأسلمت ، وكلّ هذا قد تقدم ذكره في الحلقة الأولى ، فلا نعيده ، ولنقرأ :

نماذج من بعض خطبه

١ ـ حدث عن يونس بن عبد الوارث ، عن أبيه ، قال : بينا ابن عباس رحمه الله يخطب عندنا على منبر البصرة إذ أقبل على الناس بوجهه ، ثم قال : ( أيتها الأمّة المتحيّرة في دينها ، أما والله لو قدّمتم من قدّم الله ، وأخرّتم من آخر الله وجعلتم الوراثة والولاية حيث جعلها الله ، ما عال سهم من فرائض الله ، ولا عال وليّ الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، فذوقوا وبال ما فرّطتم فيه ، بما قدّمت أيديكم ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون )(١) .

____________________

(١) أنظر أمالي الشيخ المفيد / ٢٧ و ١٥٢ ، بشارة المصطفى للطبري / ١٣٢ ، امالي الشيخ الطوسي / ٣٩ و ٦١ ط إيران ، الدرجات الرفيعة / ١٣٤ مخطوط بمكتبة الشيخ السماوي.

٦٥

ولا بد لنا من وقفة قصيرة عند مقدمة هذه الخطبة إذ يقول الراوي : ( بينا ابن عباس رحمه الله يخطب عندنا على منبر البصرة إذ أقبل على الناس بوجهه ، ثم قال ).

فنقول :

بماذا كان يخطب ابن عباس؟

وما هي خطبته تلك التي أعرض عنها الراوي فلم ينقل لنا ألفاظها؟

وإذا كان يخطب فإلى أيّ جهة كان وجهه؟ حتى يقول الراوي : ( ثم أقبل على الناس بوجهه ). فهل كان مطرقاً برأسه إلى الأرض ، أو رافعاً رأسه إلى السماء ، وأراد الراوي أن يلفت نظر السامع والقارئ فقال ذلك كناية للتعبير عن مزيد الإهتمام بما بعده ، فربما كان ذلك وربما كان غير ذلك.

وعلينا أن نكون صريحين في تعبيرنا وأحراراً في تفكيرنا ، ونقول : إنّ هذه الخطبة هي سياسية أكثر من أن تكون وعظية ، بما قدّم لها الراوي ما يشعر بفيض جوّها حمماً ، وتطفح ألفاظها ألماً وبرماً ، وذلك بما جنته الأمّة على نفسها وبسوء اختيارها ، حتى أضحت متحيّرة في دينها ، تتقاذفها الأهواء والآراء ، وتتنازعها المطامع والمطامح. ولماذا صارت كذلك؟ وهذا ما نقرأه في بيان الحبر ابن عباس رضي الله عنه حين يقسم قسماً براً لا يحنث فيه ، فيقول : ( أما والله لو قدمتم من قدّم الله الخ ).

ولكنها الأمّة هي التي ضيعّت حظها ، فأخطأت في سلوكها الطريق

٦٦

التي أرادها الله لها ، وذلك في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (١) ، وقد قضى الله تعالى بتعيين ولي الأمر بقوله تعالى :( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٢) .

وقد عيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم شخصية ذلك الولي فعلاً وقولاً في أكثر من موقف منذ حديث بدء الدعوة وحتى يوم غدير خم حيث قام آخذاً بيد عليّ عليه السلام رافعاً له حتى بان بياض إبطيهما وقال : ( من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ). ولعل آخر مشهدٍ كان في يوم الخميس قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم بأربعة أيام حين دعا بدواة وكتف ليكتب للأمّة كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ، فمنع من ذلك ، وقد مرّ الحديث عنه مفصلاً ، كما مرّ أنّ ابن عباس وهو أحد شهود ذلك المشهد وأوحد الرواة له ، كان إذا ذكر يوم الخميس بكى حتى يبل دمعه الحصى(٣) .

فهذا هو الحظ الذي ضيعته الأمّة حين أخّرت من قدّم الله ، ولم تجعل الوراثة والولاية حيث جعلها الله كما قال لهم ابن عباس. وقد خلف في نفسه من تباريح الأسى ما كان يطفح به كلامه ، سواء في خطبه أو إحتجاجاته ، وحتى أحاديثه الخاصة ، ولم يكتف حبر الأمة بمجرد التوبيخ المحض والتقريع الممض ، بل أنذرهم بسوء المنقلب وبئس المصير ،

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٣٦.

(٢) المائدة / ٥٥.

(٣) لقد مرت الإشارة إلى ذلك في الحديث عن حياة ابن عباس رضي الله عنه في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فراجع.

٦٧

وذلك بقوله في ختام خطبته : ( فذوقوا وبال ما فرطتم فيه بما قدمت أيديكم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ).

٢ ـ ومن خطبة له أيضاً بالبصرة وذلك في يوم عيد الفطر ، فقال : ( أدّوا زكاة صومكم ) ، فجعل الناس ينظر بعضهم إلى بعض ، فقال : ( من ههنا من أهل المدينة قوموا إلى إخوانكم فعلّموهم فإنّهم لا يعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرض صدقة الفطر على الصغير والكبير ، والحرّ والعبد ، والذكر والأنثى نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر أوشعير )(١) .

وهذه الفقرات تعكس لنا تردّي الحالة الإجتماعية من الناحية الدينية ، وجهل الناس بأحكام الشريعة وواجباتها المفروضة. ولولا جهل الناس وبُعدهم عن الدين وتعاليمه ، لما جعل بعضهم ينظر إلى بعض حين دعاهم ابن عباس إلى أداء زكاة الفطر ، ولعلّ مردّ ذلك إلى تهاون الولاة الذين كانوا يحكمونهم قبله في عدم تعليمهم ذلك الحكم الشرعي والفريضة الواجبة.

٣ ـ ومن خطبة له بالبصرة في شأن القدر والولدان ، فقال : ( إنّ هذه الأمّة لا يزال أمرها مؤاماً ـ متقارباً ـ ما لم يتكلم في القدر والولدان )(٢) .

٤ ـ لمّا أراد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المسير إلى أهل الشام ثانياً ، كتب إلى ابن عباس رضي الله عنه يدعوه إلى الشخوص معه فيمن قبله ، فأتاه الكتاب ، فجمع الناس وقرأه عليهم وأمرهم بالشخوص مع الأحنف ابن قيس

____________________

(١) سنن النسائي ٣ / ١٩٠ ط مصر.

(٢) الكنى والأسماء للدولابي ١ / ٧ ، و ١٧٤ ط حيدر آباد.

٦٨

كمقدمة له ، فلم ينفر مع الأحنف إلاّ ألف وخمسمائة رجل ، فاستقلهم ابن عباس رضي الله عنه قام في الناس خطيباً فقال بعد الحمد والثناء : ( أمّا بعد فقد جاءني كتاب أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم ، فأمرتكم بالنفير إليه مع الأحنف ابن قيس فلم يشخص معه إلاّ ألف وخمسمائة ، وأنتم في الديوان ستون ألفاً سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم ، ألا فانفروا مع جارية بن قدامة السعدي ، ولا يجعل أمرؤ على نفسه سبيلاً ، فإنّي موقع بكلّ من وجدته تخلّف عن دعوته ، عاصيّاً لإمامه حزناً يعقب ندماً ، وقد أمرت أبا الأسود بحشدكم ، فلا يلم أمرؤ جعل السبيل على نفسه إلاّ نفسه )(١) .

٥ ـ ومن خطبة له : ( يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب ، وكتابكم الذي أنزل على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أحدث الأخبار بالله تقرؤنه لم يشب ، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتب الله وغيّروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ، ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم )(٢) .

وهذه الخطبة تصف لنا جانباً اجتماعياً مهمّاً ، وهو إنهيار الشخصية الإسلامية عند بعض المسلمين ممن بهرهم ما كان عليه أهل الكتاب من الحديث المزيّف ، خصوصاً أولئك الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً ، فكانوا يسألونهم ويأخذون عنهم ، غافلين عمّا كان يدسه أولئك الدخلاء الذين

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٢١ ، تاريخ الطبري ٥ / ٧٨.

(٢) صحيح البخاري ٣ / ١٨١.

٦٩

استغلهم النظام الحاكم حيث وجدوا فيهم أدوات صماء لا يعقلون ، فكانوا يحشون آذانهم بكلّ ما هبّ ودبّ من الإسرائيليات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وما كان الحاكمون في غفلة بل يتغافلون ـ على أحسن الظن ـ عن نوايا أولئك الشرّيرين حتى اتسع الرتق ، وفشا حديثهم في جوامع المسلمين ، فكان كعب الأحبار ووهب بن منبه وتميم الداري وأضرابهم هم المحدّثون والمسلمون سمّاعون للكذب ولا يستنكرون ، فخشي ابن عباس رضي الله عنه من النتائج السيئة لتلك الفتنة أن يعمّ شرّها المسلمين ، فخطب الناس محذراً لهم من كيد أولئك الدخلاء ونواياهم السيئة.

٦ ـ وخطب الناس في يوم من أيام صفين ، فقال : ( الحمد لله رب العالمين الذي دحا تحتنا سبعاً ، وسمك فوقنا سبعاً ، وخلق فيما بينهن خلقاً ، وأنزل لهم فيها رزقاً ، ثم جعل كلّ شيء يبلى ويفنى غير وجهه الحيّ القيوم الذي يحيى ويبقى. إنّ الله بعث أنبياء ورسلاً ، فجعلهم حججاً على عباده عذراً ونذراً ، لا يطاع إلاّ بعلمه وإذنه ، يمنّ بالطاعة على من يشاء من عباده ، ثم يثيب عليها ، ويعصى فيعفو ويغفر بحلمه ، لا يقدّر قدره ، ولا يبلغ شيء مكانه ، أحصى كلّ شيء عدداً ، وأحاط بكلّ شيء علماً.

ثم أنّي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، إمام الهدى والنبيّ المصطفى. وقد ساقنا قدر الله إلى ما قد ترون حتى كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمّة ، وانتشر من أمرها ، أن ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على عليّ بن أبي

٧٠

طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصهره ، وأوّل ذكر صلّى معه ، بدري قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلّ مشاهده التي فيها الفضل ، ومعاوية مشرك كان يعبد الأصنام ، والذي ملك الملك وحده ، وبان به وكان أهله ، لقد قاتل عليّ بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : صدق الله ورسوله ، ومعاوية وأبو سفيان يقولان : كذب الله ورسوله ، فما معاوية في هذه بأبرّ ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في تلكم.

فعليكم بتقوى الله والجدّ والحزم والصبر ، والله إنّا لنعلم إنّكم لعلى الحق ، وأن القوم لعلى الباطل ، فلا يكونُنّ أولى بالجدّ في باطلهم منكم في حقكم ، أما والله إنّا لنعلم إنّ الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم.

اللهمَّ ربّنا أعنّا ولا تخذلنا ، وانصرنا على عدّونا ، ولا تخلَّ عنا ، وافتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أقول قولي واستغفر الله لي ولكم )(١) .

٧ ـ وخطب ابن عباس رضي الله عنه أهل العراق في الكوفة بعد ما كثر خوض الناس في أمر الحكمين ، وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قد أمر ولده الحسن عليه السلام وابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنه وابن أخيه عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن يخطب كلّ منهم في شأن الحكمين وأمرهما ، فتقدم الحسن عليه السلام فخطب خطبة بليغة ، ثم جاء دور ابن عباس رضي الله عنه فخطب الناس ، وقال بعد الحمد والثناء : ( أيّها الناس إنّ للحق أهلاً أصابوه بالتوفيق ، والناس بين

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٥ / ٢٥٠ ، وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقري / ٣٥٩ ط مصر.

٧١

راضٍ به وراغبٍ عنه ، وإنّما بعث عبد الله بن قيس ـ حكم أهل العراق ـ لهدى إلى ضلالة ، وبعث عمرو بن العاص ـ حكم أهل الشام ـ لضلالة إلى الهدى ، فلمّا التقيا رجع عبد الله عن هداه ، وثبت عمرو على ضلالته ، والله لئِن حُكّما بالكتاب لقد حكما عليه ، وإن حُكّما بما اجتمعا عليه معاً ما اجتمعا على شيء ، وإن كان حُكّما على ما سارا إليه ، لقد سار عبد الله وإمامه عليّ عليه السلام ، وسار عمرو وإمامه معاوية ، فما بعد هذا من غيب ينتظر ، ولكن سئموا الحرب ، وأحبوا البقاء ، ودفعوا البلاء ، ورجا كلّ قوم صاحبهم )(١) .

٨ ـ أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده ، بسنده عن أبي نضرة ، قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة ، فحمد الله عزوجل وأثنى عليه ، ثم قال :

( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من نبيّ إلاّ وله دعوة كلّهم قد تنجزها في الدنيا ، وإنّي أدخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، ألا وأنّي سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وأوّل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد تحته آدم من دونه ولا فخر ، ويشتد كرب ذلك اليوم على الناس ، فيقولون : انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون : أنت الذي خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته ، فاشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي ديننا ، فيقول : إنّي لست هناكم ، إنّي أخرجت من الجنة بخطيئتي ، وأنّه لا يهمني اليوم إلاّ

____________________

(١) جمهرة خطب العرب ١ / ١٧٤.

٧٢

نفسي ، ولكن أئتوا نوحاً أوّل النبيّين ، فيأتون نوحاً فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيقول : لست هناكم ، إنّي دعوت دعوة غرقت أهل الأرض ، وأنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ، ولكن أئتوا إبراهيم خليل الله ، فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيقول : لست هناكم ، إنّي كذبت في الإسلام ثلاث كذبات ، وأنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ، ـ قال ـ ابن عباس ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما حاول بهن إلاّ عن دين الله ، قوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) (١) ، وقوله :( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (٢) ، وقوله لسارة : قولي أنّه أخي ـ. ولكن أئتوا موسى عبداً إصطفاه الله برسالاته وبكلامه ، فيأتون موسى فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيقول : إنّي لست هناكم إنّي قتلت نفساً بغير نفس ، وأنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ، ولكن إئتوا عيسى روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيقول : إنّي لست هناكم ، إنّي أتُخذت وأميّ الهينَ من دون الله ، ولكن أرأيتم لو أن متاعاً في وعاء قد ختم عليه أكان يوصل ـ إلى ما في الوعاءـ حتى يفض الخاتم؟ فيقولون : لا ، فيقول : فإنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد حضر اليوم وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فيأتيني الناس فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فأقول : أنا لها أنا لها ، حتى يأذن الله عزوجل لمن يشاء ويرضى ، فإذا

____________________

(١) الصافات / ٨٩.

(٢) الأنبياء / ٦٣.

٧٣

أرد الله عزوجل أن يقضي بين خلقه نادى منادٍ : أين أحمد وأمته؟ فأقوم وتتبعني أمتي غرّ مُحجلون من أثر الوضوء والطهور.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فنحن الآخرون الأولون ، أوّل من يحاسب وتفرج لنا الأمم عن طريقنا وتقوم الأمم كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلّها ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فأنتهي إلى باب الجنة فاستفتح ، فيقال : من هذا؟ فأقول : أحمد يفتح لي ، فأنتهي إلى ربّي وهو على كرسيّه فأخر ساجاً ، فأحمد ربي بمحامد لم يحمده أحد بها قبلي ولا يحمده بها أحد بعدي ، فيقال لي : ارفع رأسك وقل تُسمع ، وسل تُعطى ، وأشفع تشفّع ، فأشفع ، فيقال : فأذهب فأخرج من النار من كان في قلبه من الخير كذا وكذا ، فأنطلق إلى جهنم ثم أرجع إلى ربّي فأخرّ ساجداً ، فيقال لي : إرفع رأسك ، وقل تُسمع ، وأشفع تشفع ، وسل تعطه ، قال : فيحد لي حداً فأخرجهم من النار ).

فهذا ما أخرجه الطيالسي في مسنده(١) ، ولا يخلو ما في بعض الخبر في صحته من نظر!

____________________

(١) مسند أبي داود / ٣٥٣ ط حيدر آباد.

٧٤

المبحث الثالث

ابن عباس والإحتجاج

٧٥
٧٦

لقد كان بارعاً في إدلاء الحجة وإلزام الخصم ، مع أدب جم ، وعلم وفهم ، وحسبنا على هذا إختيار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام له ليكون الحَكَم الذي يمثل أهل العراق ، ولكن الأشعث والخوارج أبوا عليه ذلك ، وقد مرّ خبره في الحلقة الأولى ، وكذلك إختاره مفاوضاً عنه حين أرسله إلى الخوارج في حروراء ، وقد مرّ حديثه كذلك في الحلقة الأولى ، وسيأتي أيضاً برواية أخرى.

وقد قرأنا في الحلقة الأولى ( سيرة وتاريخ ) ، أنّه كان منذ صباه يتمتع بجرأة نادرة تدفعه لأن يقول كلمه ويدلي برأيه أمام شيوخ المهاجرين والأنصار ، كما مرّ في أيام عمر.

وسنقرأ نماذج من إحتجاجاته التي تغلّب فيها على محاوريه ، فاعترفوا له بفضيلة السبق في مضمار الحجاج ، وأنّه ما لاحى أحداً إلاّ خصمه. وسنجد الطابع العام في جُلّ تلك المحاورات يدور حول إمامة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، ولا بدع ولا غرابة فهو بحكم قرباه النسبية ، وقرابته السببية من حيث التلمذة عليه ، مع إيمانه الصادق ووعيه المميز أن كان معدوداً

٧٧

في طليعة المتكلمين في العقيدة ، يمتاز بقدرة فائقة من فصاحة لسان ، وحسن بيان ، وقوّة حجة ، وفطنته تسدّ على محاوره منافذ الغلبة ، وهذا ما أعرب عنه عمر بن الخطاب بقوله : ( واهاً لابن عباس ما لاحى أحداً إلاّ خصمه ) ، وما ذلك إلاّ من قوّة إيمانه ، وكثرة علمه ، وحفظه لأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يحتاج إليه عند الإستدلال ، وأحاديثه في هذا الباب ـ وقد مرّ الكلام فيها ـ لا يتطرق الريب في صحتها ، لبراءة من قد يُتهم بوضعها.

فإن كانوا من أبنائه أو المتزلفين إليهم من شيعة بني العباس ، فهي على خلاف مذاهبهم ومشاربهم ، بل هي حجة لخصومهم عليهم ، فلا يعقل أنّهم وضعوها لتحطيم دعاواهم في استحقاقهم الخلافة!

وأمّا إن كان المتهمون بوضعها هم شيعة الإمام عليّ عليه السلام ، فهي مروية في مصادر أخصامهم من بقية المذاهب الأخرى ، فكيف تسنى لهم اختراق جميع تلك المصادر وتثبيت بصماتهم فيها؟!

بل الصحيح أنّ ابن عباس رضي الله عنه كان معلناً بولائه ، ومجاهداً بلسانه قبل سنانه ، يدلي بما وعاه ورواه في كلّ مجمع يرى فيه نصرة إمامه عليه السلام واجبة عليه ، بعد أن كانت السلطات تعمل على تغييب ذكره وأمره عن أذهان الأمّة ، فجهله كثير من الناس نتيجة الضغط الحاكم ، ورواج أكاذيب مرتزقة السلطان ، فكان ابن عباس الوحيد الذي روي عنه في فضائل الإمام عليه السلام أكثر ممّا روي عن غيره من الصحابة ، لشهرته العلمية ، ومكانته الإجتماعية ، وكثرة الرواة عنه. وفي يقيني أنّ جميع ما وصل إلينا في هذا

٧٨

الباب إن هو إلاّ غيض من فيض ، لأنّه كان يقول : ( إنّ لعليّ عليه السلام في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس ، قوله تعالى :( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) فهو المؤذن بينهم يقول : ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفوا بحقي )(١) ، وكان يقول : ( ما نزل في أحد من كتاب الله تعالى ما نزل في عليّ )(٢) . ونحن إذا رجعنا إلى ما وصل إلينا من كتب التفسير والحديث لا نجد إلا النزر اليسير ممّا أشار إليه ابن عباس في قوله السابق.

ولا يفوتني التنبيه على أمر هام وبشرى سارة لمن يحبّ عليّاً عليه السلام ، وذلك إنّي وقفت على رسالة لأحد أعلام المحدثين من شيوخ العامة لم تنشر من قبل ، جمع فيها ( ما نزل في عليّ عليه السلام من آيات القرآن المجيد ) برواية ابن عباس رضي الله عنه ، وغيره ولعلي أنشرها إن شاء الله تعالى ضمن الحلقة الثالثة من هذه الموسوعة مع لدات أمثالها ، أسأل الله التوفيق لتحقيق الآمال ، وصالح الأعمال ، انّه الكبير المتعال.

ولنقرأ من إحتجاجه مع الأفراد مسلسلاً حسب تاريخ الصدور ، بدءاً من أيام أبي بكر ، ثم من بعده أيام عمر ، ومن بعده مع عثمان ، وعائشة ، وطلحة والزبير ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، وزياد ، وعتبة ، ومروان ، وابن الزبير ، والأشعث بن قيس ، ومن سبّ عليّاً عليه السلام. ثم نقرأ من إحتجاجه مع الجماعات ، وبدءاً من الخوارج أفراداً وجماعات ، ثم مع تسعة رهط مفسدون في الأرض ، ومع المجبّرة والقدرية ، وغيرهم.

____________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٢٥٩.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٣٩.

٧٩

ولا نستغفل القارئ بأنّ ما يقرأه في هذا الجزء ليس ممّا لم يكن قد قرأ بعضه فيما مضى من أجزاء الحلقة الأولى ، بل رأيت جمع ما مرّ وما حضر ، يشكّل في موضوعه وحدة متكاملةٌ تعلّمنا آداب الحوار والجدل مع الخصم في أصول العقيدة ، وفيها إثبات الإمامة ، وهذا في جمعه نفع كبير. ولنذكر للقارئ خلاصة نهج ابن عباس رضي الله عنه في المحاجة في قوله : ( عجباً لمن يطلب أمراً بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجة ، فالحجة دين يعتمد به الطاعة ، وسلطان الغلبة يزول بزوال القدرة )(١) .

____________________

(١) محاضرات الراغب ٣ / ٣٣ ط الشرفية.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و يندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدلّ به على المعاد من إطلاق القدرة كما سيجي‏ء، و محصّله أنّ إطلاق القدرة إنّما ينفع فيما كان ممكناً لكن إعادة الإنسان بعينه محال فإنّ الإنسان المخلوق ثانياً مثل الإنسان الدنيويّ المخلوق أوّلاً لا شخصه الّذي خلق أوّلاً و مثل الشي‏ء غير الشي‏ء لا عينه.

وجه الاندفاع أنّ شخصيّة الشخص من الإنسان بنفسه لا ببدنه و النفس محفوظة فإذا خلق البدن و تعلّقت به النفس كان هو الإنسان الدنيويّ بشخصه و إن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغضّ عن النفس، مثلاً لا عيناً.

قوله تعالى: ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ) أي ما هو مبدأ خلقه؟ و ما هو الّذي صيّره الله إنساناً؟

و الجملة متفرّعة على الآية السابقة و ما تدلّ عليه بفحواها بحسب السياق و محصّل المعنى و إذ كانت كلّ نفس محفوظة بذاتها و عملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الإنسان أن سيرجع إلى ربّه و يجزي بما عمل و لا يستبعد ذلك و لينظر لتحصيل هذا الإذعان إلى مبدإ خلقه و يتذكّر أنّه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب و الترائب.

فالّذي بدأ خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه و إحيائه بعد الموت.

و في الإتيان بقوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول و ترك ذكر الفاعل و هو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، و نظيره قوله:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ ) إلخ.

قوله تعالى: ( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) الدفق تصبّب الماء و سيلانه بدفع و سرعة و الماء الدافق هو المنيّ و الجملة جواب عن استفهام مقدّر يهدي إليه قوله:( مِمَّ خُلِقَ ) .

قوله تعالى: ( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) الصلب الظهر، و الترائب جمع تريبة و هي عظم الصدر.

و قد اختلفت كلماتهم في الآية و ما قبلها اختلافاً عجيباً، و الظاهر أنّ المراد بقوله:( بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر و

٣٨١

عظام الصدر(1) .

قوله تعالى: ( إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ ) الرجع الإعادة، و ضمير( إِنَّهُ ) له تعالى و اكتفى بالإضمار مع أنّ المقام مقام الإظهار لظهوره نظير قوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول.

و المعنى أنّ الّذي خلق الإنسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته و إحيائه بعد الموت - و إعادته مثل بدئه - لقادر لأنّ القدرة على الشي‏ء قدرة على مثله إذ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) ظرف للرجع، و السريرة ما أسرّه الإنسان و أخفاه في نفسه، و البلاء الاختبار و التعرّف و التصفّح.

فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الإنسان و أسرّه من العقائد و آثار الأعمال خيرها و شرّها فيميّز خيرها من شرّها و يجزي الإنسان به فالآية في معنى قوله تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: 284.

قوله تعالى: ( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله و لا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشرّ لا من نفسه و لا من غيره.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة و الرجوع إلى الله.

و المراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحسّ من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها و غروبها بعد طلوعها، و قيل: رجعها أمطارها، و المراد بكون الأرض ذات صدع تصدّعها و انشقاقها بالنبات، و مناسبة القسمين لما اُقسم عليه من الرجوع بعد الموت و الخروج من القبور ظاهرة.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الفصل إبانة أحد الشيئين من

____________________

(1) و قد أورد المراغي في تفسيره في ذيل الآية عن بعض الأطباء توجيهاً دقيقاً علميّاً لهذه الآية من أراده فليراجعه.

٣٨٢

الآخر حتّى يكون بينهما فرجة، و التعبير بالفصل - و المراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل و الهزل خلاف الجدّ.

و الآيتان جواب القسم، و ضمير( إِنَّهُ ) للقرآن و المعنى اُقسم بكذا و كذا إنّ القرآن لقول فاصل بين الحقّ و الباطل و ليس هو كلاماً لا جدّ فيه فما يُحقّه حقّ لا ريب فيه و ما يبطله باطل لا ريب فيه فما أخبركم به من البعث و الرجوع حقّ لا ريب فيه.

و قيل: الضمير لما تقدّم من خبر الرجوع و المعاد، و الوجه السابق أوجه.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ أَكِيدُ كَيْداً ) أي الكفّار يحتالون بكفرهم و إنكارهم المعاد احتيالاً يريدون به إطفاء نور الله و إبطال دعوتك، و احتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج و الإملاء و الإضلال بالطبع على قلوبهم و جعل الغشاوة على سمعهم و أبصارهم احتيالاً أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) التمهيل و الإمهال بمعنى واحد غير أنّ باب التفعيل يفيد التدريج و الإفعال يفيد الدفعة، و الرويد القليل.

و المعنى: إذا كان منهم كيد و منّي كيد عليهم بعين ما يكيدون به و الله غالب على أمره، فانتظر بهم و لا تعاجلهم انتظر بهم قليلاً فسيأتيهم ما اُوعدهم به فكلّ ما هو آت قريب.

و في التعبير أوّلاً بمهّل الظاهر في التدريج و ثانياً مع التقييد برويداً بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ ) قال: الملائكة.

و فيه: في قوله تعالى:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) قال: النطفة الّتي تخرج بقوّة.

و فيه: في قوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) قال: الصلب الرجل

٣٨٣

و الترائب المرأة، و هو صدرها.

أقول: الرواية على إضمارها و إرسالها لا تخلو من شي‏ء.

و فيه: في قوله تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) قال: يكشف عنها.

و في المجمع، روي مرفوعاً عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ضمن الله خلقه أربع خصال: الصلاة، و الزكاة، و صوم شهر رمضان، و الغسل من الجنابة، و هي السرائر الّتي قال الله تعالى: يوم تبلى السرائر.

أقول: و لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق كما تؤيّده الرواية التالية.

و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذه السرائر الّتي ابتلى الله بها العباد في الآخرة؟ فقال: سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كلّ مفروض لأنّ الأعمال كلّها سرائر خفيّة فإن شاء الرجل قال: صلّيت و لم يصلّ و إن شاء قال: توضّيت و لم يتوضّ فذلك قوله:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) قال: ما له من قوّة يهوي بها على خالقه، و لا ناصر من الله ينصره إن أراد به سوءا.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ) قال: ذات المطر( وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) أي ذات النبات.

و في المجمع:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ) يعني أنّ القرآن يفصل بين الحقّ و الباطل بالبيان عن كلّ واحد منهما، و روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الدارميّ و الترمذيّ و محمّد بن نصر و ابن الأنباريّ في المصاحف عن الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليّاً فأخبرته فقال: أ و قد فعلوها؟

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، من ابتغى الهوى في غيره أضلّه الله، و هو حبل الله

٣٨٤

المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، و لا يشبع منه العلماء، و لا تلتبس منه الألسن، و لا يخلق من الردّ، و لا تنقضي عجائبه هو الّذي لم ينته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) . من قال به صدق، و من حكم به عدل، و من عمل به اُجر، و من دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم.

أقول: و روي ما يقرب منه عن معاذ بن جبل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رواه مختصراً عن ابن مردويه عن عليّعليه‌السلام .

٣٨٥

( سورة الأعلى مكّيّة و هي تسع عشرة آية)

( سورة الأعلى الآيات 1 - 19)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( 1 ) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 2 ) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ( 3 ) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ ( 4 ) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ ( 5 ) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ ( 6 ) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ( 7 ) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ( 8 ) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ ( 9 ) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ( 10 ) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ( 11 ) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ ( 12 ) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ( 13 ) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ( 14 ) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ( 15 ) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 16 ) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ( 17 ) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ ( 18 ) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ( 19 )

( بيان‏)

أمرٌ بتوحيده تعالى على ما يليق بساحته المقدّسة و تنزيه ذاته المتعالية من أن يذكر مع اسمه اسم غيره أو يسند إلى غيره ما يجب أن يسند إليه كالخلق و التدبير و الرزق و وعد لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتأييده بالعلم و الحفظ و تمكينه من الطريقة الّتي هي أسهل و أيسر للتبليغ و أنسب للدعوة.

و سياق الآيات في صدر السورة سياق مكّيّ و أمّا ذيلها أعني قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلخ فقد ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا من طريق أهل السنّة

٣٨٦

أنّ المراد به زكاة الفطرة و صلاة العيد و من المعلوم أنّ الصوم و ما يتبعه من زكاة الفطرة و صلاة العيد إنّما شرعت بالمدينة بعد الهجرة فتكون آيات الذيل نازلة بالمدينة.

فالسورة صدرها مكّيّ و ذيلها مدنيّ، و لا ينافي ذلك ما جاء في الآثار أنّ السورة مكّيّة فإنّه لا يأبى الحمل على صدر السورة.

قوله تعالى: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) أمر بتنزيه اسمه تعالى و تقديسه، و إذ علّق التنزيه على الاسم - و ظاهر اللفظ الدالّ على المسمّى - و الاسم إنّما يقع في القول فتنزيهه أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزّه عنه كذكر الآلهة و الشركاء و الشفعاء و نسبة الربوبيّة إليهم و كذكر بعض ما يختصّ به تعالى كالخلق و الإيجاد و الرزق و الإحياء و الإماتة و نحوها و نسبته إلى غيره تعالى أو كذكر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من الأفعال كالعجز و الجهل و الظلم و الغفلة و ما يشبهها من صفات النقص و الشين و نسبته إليه تعالى.

و بالجملة تنزيه اسمه تعالى أن يجرّد القول عن ذكر ما لا يناسب ذكره ذكر اسمه تعالى و هو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل.

و هو يلازم التوحيد الكامل بنفي الشرك الجليّ كما في قوله:( وَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) الزمر: 45 و قوله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) إسراء: 46.

و في إضافة الاسم إلى الربّ و الربّ إلى ضمير الخطاب تأييد لما قدّمناه فإنّ المعنى سبّح اسم ربّك الّذي اتّخذته ربّاً و أنت تدعو إلى أنّه الربّ الإله فلا يقعنّ في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبيّة ذكر من غيره بحيث ينافي تسمّيه بالربوبيّة على ما عرّف نفسه لك.

و قوله:( الْأَعْلَى ) و هو الّذي يعلو كلّ عال و يقهر كلّ شي‏ء صفة( رَبِّكَ ) دون الاسم و يعلّل بمعناه الحكم أي سبّح اسمه لأنّه أعلى.

٣٨٧

و قيل: معنى( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قل: سبحان ربّي الأعلى كما عن ابن عبّاس و نسب إليه أيضاً أنّ المعنى صلّ.

و قيل: المراد بالاسم المسمّى و المعنى نزّهه تعالى عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه من الصفات و الأفعال.

و قيل: إنّه ذكر الاسم و المراد به تعظيم المسمّى و استشهد عليه بقول لبيد، إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما. فالمعنى سبّح ربّك الأعلى.

و قيل: المراد تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق بأن لا يؤوّل ممّا ورد منها اسم من غير مقتض، و لا يبقى على ظاهره إذا كان ما وضع له لا يصحّ له تعالى، و لا يطلقه على غيره تعالى إذا كان مختصّاً كاسم الجلالة و لا يتلفّظ به في محلّ لا يناسبه كبيت الخلاء، و على هذا القياس.

و ما قدّمناه من المعنى أوسع و أشمل و أنسب لسياق قوله الآتي( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ فَذَكِّرْ ) فإنّ السياق سياق البعث إلى التذكرة و التبليغ فبدأ أوّلاً بإصلاح كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تجريده عن كلّ ما يشعر بجليّ الشرك و خفيّه بأمره بتنزيه اسم ربّه، و وعد ثانياً بإقرائه بحيث لا ينسى شيئاً ممّا اُوحي إليه و تسهيل طريقة التبليغ عليه ثمّ اُمر بالتذكير و التبليغ فافهم.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) خلق الشي‏ء جمع أجزائه، و تسويته جعلها متساوية بحيث يوضع كلّ في موضعه الّذي يليق به و يعطى حقّه كوضع كلّ عضو من أعضاء الإنسان فيما يناسبه من الموضع.

و الخلق و التسوية و إن كانا مطلقين لكنّهما إنّما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.

و الآية إلى تمام أربع آيات تصف التدبير الإلهيّ و هي برهان على ربوبيّته تعالى المطلقة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) أي جعل الأشياء الّتي خلقها على مقادير مخصوصة و حدود معيّنة في ذواتها و صفاتها و أفعالها لا تتعدّاها و جهّزها بما يناسب

٣٨٨

ما قدّر لها فهداها إلى ما قدّر فكلّ يسلك نحو ما قدّر له بهداية ربّانيّة تكوينيّة كالطفل يهتدي إلى ثدي اُمّه و الفرخ إلى زقّ اُمّه و أبيه، و الذكر إلى الاُنثى و ذي النفع إلى نفعه و على هذا القياس.

قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21، و قال:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20 و قال:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) البقرة: 148.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) المرعى ما ترعاه الدوابّ فالله تعالى هو الّذي أخرجها أي أنبتها.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى‏ ) الغثاء ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش و النبات، و المراد هنا - كما قيل - اليابس من النبات، و الأحوى الأسود.

و إخراج المرعى لتغذّي الحيوان ثمّ جعله غثاء أحوى من مصاديق التدبير الربوبيّ و دلائله كما أنّ الخلق و التسوية و التقدير و الهداية كذلك.

قوله تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏ ) قال في المفردات: و القراءة ضمّ الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، و ليس يقال ذلك لكلّ جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، و يدلّ على ذلك أنّه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوّه به قراءة، انتهى، و قال في المجمع: و الإقراء أخذ القراءة على القارئ بالاستماع لتقويم الزلل، و القارئ التالي. انتهى.

و ليس إقراؤه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن مثل إقراء بعضنا بعضاً باستماع المقري لما يقرؤه القارئ و إصلاح ما لا يحسنه أو يغلط فيه فلم يعهد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ شيئاً من القرآن فلا يحسنه أو يغلط فيه عن نسيان للوحي ثمّ يقرأ فيصلح بل المراد تمكينه من قراءة القرآن كما اُنزل من غير أن يغيّره بزيادة أو نقص أو تحريف بسبب النسيان.

فقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) وعدٌ منه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمكّنه من العلم

٣٨٩

بالقرآن و حفظه على ما اُنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرؤه كما اُنزل و هو الملاك في تبليغ الوحي كما اُوحي إليه.

و قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) استثناء مفيد لبقاء القدرة الإلهيّة على إطلاقها و أنّ هذه العطيّة و هي الإقراء بحيث لا تنسى لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء بحيث لا يقدر بعد على إنسائك بل هو باق على إطلاق قدرته له أن يشاء إنساءك متى شاء و إن كان لا يشاء ذلك فهو نظير الاستثناء الّذي في قوله:( وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: 108 و قد تقدّم توضيحه.

و ليس المراد بالاستثناء إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي و المعنى سنقرئك فلا تنسى شيئاً إلّا ما شاء الله أن تنساه و ذلك أنّ كلّ إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء و ينسى أشياء فلا معنى لاختصاصه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن الامتنان مع كونه مشتركاً بينه و بين غيره فالوجه ما قدّمناه.

و الآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنّه كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوّله فلمّا نزلت هذه الآية لم ينس بعده شيئاً.

و يقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية أعني قوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) نازلة أوّلاً ثمّ قوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) القيامة: 19 ثمّ قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى) الجهر كمال ظهور الشي‏ء لحاسّة البصر كقوله:( فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ) النساء: 153، أو لحاسّة السمع كقوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ) الأنبياء: 110، و المراد بالجهر الظاهر للإدراك بقرينة مقابلته لقوله:( وَ ما يَخْفى‏ ) من غير تقييده بسمع أو بصر.

و الجملة في مقام التعليل لقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) و المعنى سنصلح لك بالك

٣٩٠

في تلقّي الوحي و حفظه لأنّا نعلم ظاهر الأشياء و باطنها فنعلم ظاهر حالك و باطنها و ما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي و الحرص على طاعته فيما أمر به.

و في قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه الإشارة إلى حجّة الاستثناء فإفاضة العلم و الحفظ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما لا يسلب القدرة على خلافه و لا يحدّها منه تعالى لأنّه الله المستجمع لجميع صفات الكمال و منها القدرة المطلقة ثمّ جرى الالتفات في قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ لمثل النكتة.

قوله تعالى: ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) اليسرى - مؤنث أيسر - و هو وصف قائم مقام موصوفة المحذوف أي الطريقة اليسرى و التيسير التسهيل أي و نجعلك بحيث تتّخذ دائماً أسهل الطرق للدعوة و التبليغ قولاً و فعلاً فتهدي قوماً و تتمّ الحجّة على آخرين و تصبر على أذاهم.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و نيسّر لك اليسرى كما قال:( وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ) طه: 26 و إنّما عدل عن ذلك إلى قوله:( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) لأنّ الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبيّ الشريفة و جعله إيّاها صالحة لتأدية الرسالة و نشر الدعوة. على ما في نيسّر اليسرى من إيهام تحصيل الحاصل.

فالمراد جعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صافي الفطرة حقيقاً على اختيار الطريقة اليسرى الّتي هي طريقة الفطرة فالآية في معنى قوله حكاية عن موسى:( حَقِيقٌ عَلى‏ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) الأعراف: 105.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ ) تفريع على ما تقدّم من أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتنزيه اسم ربّه و وعده إقراء الوحي بحيث لا ينسى و تيسيره لليسرى و هي الشرائط الضروريّة الّتي يتوقّف عليها نجاح الدعوة الدينيّة.

و المعنى إذ تمّ لك الأمر بامتثال ما أمرناك به و إقرائك فلا تنسى و تيسيرك لليسرى فذكّر إن نفعت الذكرى.

و قد اشترط في الأمر بالتذكرة أن تكون نافعة و هو شرط على حقيقته فإنّها إذا

٣٩١

لم تنفع كانت لغواً و هو تعالى يجلّ عن أن يأمر باللّغو فالتذكرة لمن يخشى لأوّل مرّة تفيد ميلا من نفسه إلى الحقّ و هو نفعها و كذا التذكرة بعد التذكرة كما قال:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) و التذكرة للأشقى الّذي لا خشية في قلبه لأوّل مرّة تفيد تمام الحجّة عليه و هو نفعها و يلازمها تجنّبه و تولّيه عن الحقّ كما قال:( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) و التذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئاً و لذا اُمر بالإعراض عن ذلك قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) النجم: 29.

و قيل: الشرط شرط صوريّ غير حقيقيّ و إنّما هو إخبار عن أنّ الذكرى نافعة لا محالة في زيادة الطاعة و الانتهاء عن المعصية كما يقال: سله إن نفع السؤال و لذا قال بعضهم( إن ) ( إِنْ ) في الآية بمعنى قد، و قال آخرون: إنّها بمعنى إذ.

و فيه أنّ كون الذكرى نافعة مفيدة دائماً حتّى فيمن يعاند الحقّ - و قد تمّت عليه الحجّة - ممنوع كيف؟ و قد قيل فيهم:( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) البقرة: 7.

و قيل: إنّ في الكلام إيجازاً بالحذف، و التقدير فذكّر إن نفعت الذكرى و إن لم تنفع و ذلك لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث للتذكرة و الإعذار فعليه أن يذكّر نفع أو لم ينفع فالآية من قبيل قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) النحل: 81 أي و البرد.

و فيه أنّ وجوب التذكرة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى فيما لا يترتّب عليها أثراً أصلاً ممنوع.

و قيل: إنّ الشرط مسوق للإشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين نعياً عليهم كأنّه قيل: افعل ما اُمرت به لتوجر و إن لم ينتفعوا به.

و فيه أنّه يردّه قوله تعالى بعده بلا فصل:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) .

قوله تعالى: ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) أي سيتذكّر و يتّعظ بالقرآن من في قلبه شي‏ء من خشية الله و خوف عقابه.

قوله تعالى: ( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) الضمير للذكرى و المراد بالأشقى بقرينة

٣٩٢

المقابلة من ليس في قلبه شي‏ء من خشية الله تعالى، و تجنّب الشي‏ء التباعد عنه، و المعنى و سيتباعد عن الذكرى من لا يخشى الله.

قوله تعالى: ( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الظاهر أنّ المراد بالنار الكبرى نار جهنّم و هي نار كبري بالقياس إلى نار الدنيا، و قيل: المراد بها أسفل دركات جهنّم و هي أشدّها عذاباً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى‏ ) ثمّ للتراخي بحسب رتبة الكلام، و المراد من نفي الموت و الحياة عنه معاً نفي النجاة نفياً مؤبّداً فإنّ النجاة بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين إمّا بالموت حتّى ينقطع عنه العذاب بانقطاع وجوده و إمّا يتبدّل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة و من العذاب إلى الراحة فالمراد بالحياة في الآية الحياة الطيّبة على حدّ قولهم في الحرض: لا حيّ فيرجى و لا ميّت فينسى.

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) التزكّي هو التطهّر و المراد به التطهّر من ألواث التعلّقات الدنيويّة الصارفة عن الآخرة بدليل قوله بعد( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إلخ، و الرجوع إلى الله بالتوجّه إليه تطهّر من الإخلاد إلى الأرض، و الإنفاق في سبيل الله تطهّر من لوث التعلّق الماليّ حتّى أنّ وضوء الصلاة تمثيل للتطهّر عمّا كسبته الوجوه و الأيدي و الأقدام.

و قوله:( وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الظاهر أنّ المراد بالذكر الذكر اللفظيّ، و بالصلاة التوجّه الخاصّ المشروع في الإسلام.

و الآيتان بحسب ظاهر مدلولهما على العموم لكن ورد في المأثور عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهما نزلتا في زكاة الفطر و صلاة العيد و كذا من طرق أهل السنّة.

قوله تعالى: ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إضراب بالخطاب لعامّة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشريّ من التعلّق التامّ بالدنيا و الاشتغال بتعميرها، و الإيثار الاختيار، و قيل: الخطاب للكفّار، و الكلام على أيّ حال مسوق للعتاب و الالتفات لتأكيده.

٣٩٣

قوله تعالى: ( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) عدّ الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا مع أنّها باقية أبديّة في نفسها لأنّ المقام مقام الترجيح بين الدنيا و الآخرة و يكفي في الترجيح مجرّد كون الآخرة خيراً و أبقى بالنسبة إلى الدنيا و إن قطع النظر عن كونها باقية أبديّة.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) الإشارة بهذا إلى ما بين في قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلى تمام أربع آيات، و قيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله:( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) .

قيل: و في إبهام الصحف و وصفها بالتقدّم أوّلاً ثمّ بيانها و تفسيرها بصحف إبراهيم و موسى ثانياً ما لا يخفى من تفخيم شأنها و تعظيم أمرها.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: لمّا نزلت:( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم، و لمّا نزل( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: اجعلوها في سجودكم.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور، عن أحمد و أبي داود و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن مردويه عن عقبة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: قل سبحان ربّي الأعلى( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) قال: قدّر الأشياء بالتقدير الأوّل ثمّ هدى إليها من يشاء.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) قال: أي النبات. و في قوله:( غُثاءً أَحْوى‏ ) قال: يصير هشيماً بعد بلوغه و يسودّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينساه فقيل له: كفيناك ذلك و نزلت:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) .

٣٩٤

و في الفقيه: و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) قال قال: من أخرج الفطرة قيل له: و( ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) قال: خرج إلى الجبانة(1) فصلّى.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن حمادّ عن جرير عن أبي بصير و زرارة عنهعليه‌السلام و رواه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) ثمّ يقسّم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلّى يوم الفطر.

أقول: و روي أيضاً نزول الآيتين في زكاة الفطرة و صلاة العيد بطريقين عن أبي سعيد موقوفاً، و كذا بطريقين عن ابن عمر و بطريق عن نائلة بن الأصقع و بطريقين عن أبي العالية و بطريق عن عطاء و بطريق عن محمّد بن سيرين و بطريق عن إبراهيم النخعي و كذا عن عمرو بن عوف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الخصال، عن عتبة بن عمرو الليثيّ عن أبي ذرّ في حديث قلت: يا رسول الله فما في الدنيا ممّا أنزل الله عليك شي‏ء ممّا كان في صحف إبراهيم و موسى؟ قال: يا أبا ذرّ اقرأ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) .

أقول: يؤيّد الحديث كون الإشارة بهذا إلى مجموع الآيات الأربع كما تقدّم.

و في البصائر، بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : عندنا الصحف الّتي قال الله:( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) قلت: الصحف هي الألواح؟ قال: نعم.

أقول: و رواه أيضاً بطريق آخر عن أبي بصير عنهعليه‌السلام و الظاهر أنّ المراد بكون الصحف هي الألواح كونها هي التوراة المعبّر عنها في مواضع من القرآن بالألواح كقوله تعالى:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الأعراف: 145 و قوله:( وَ أَلْقَى

____________________

(1) الجبانة: الصحراء

٣٩٥

الْأَلْواحَ ) الأعراف: 150 و قوله:( أَخَذَ الْأَلْواحَ ) الأعراف: 154.

و في المجمع، روي عن أبي ذرّ أنّه قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرون ألفاً قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاث مائة و ثلاثة عشر و بقيّتهم أنبياء. قلت: كان آدم نبيّاً؟ قال: نعم كلّمة الله و خلقه بيده.

يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود و صالح و شعيب و نبيّك.

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة و أربعة كتب اُنزل منها على آدم عشرة صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على اُخنوخ و هو إدريس ثلاثين صحيفة و هو أوّل من خطّ بالقلم و على إبراهيم عشر صحائف و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.

أقول: و روي ذلك في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي ذرّ غير أنّه لم يذكر صحف آدم و ذكر لموسى عشر صحف قبل التوراة.

٣٩٦

( سورة الغاشية مكّيّة و هي ستّ و عشرون آية)

( سورة الغاشية الآيات 1 - 26)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( 1 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( 2 ) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ( 3 ) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ( 4 ) تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ( 5 ) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ( 6 ) لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ ( 7 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ( 8 ) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ( 9 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 10 ) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ( 11 ) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ( 12 ) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ( 13 ) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ( 14 ) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ( 15 ) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ( 16 ) أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( 17 ) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ( 18 ) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ( 19 ) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ( 20 ) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ( 21 ) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ( 22 ) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ( 23 ) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ( 24 ) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ( 25 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ( 26 )

( بيان‏)

سورة إنذار و تبشير تصف الغاشية و هي يوم القيامة الّذي يحيط بالناس تصفه بحال الناس فيه من حيث انقسامهم فريقين: السعداء و الأشقياء و استقرارهم فيما اُعدّ لهم من الجنّة و النار و تنتهي إلى أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكّر الناس بفنون من التدبير الربوبيّ

٣٩٧

في العالم الدالّة على ربوبيّته تعالى لهم و رجوعهم إليه لحساب أعمالهم.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) استفهام بداعي التفخيم و الإعظام، و المراد بالغاشية يوم القيامة سمّيت بذلك لأنّها تغشى الناس و تحيط بهم كما قال:( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: 47، أو لأنّها تغشى الناس بأهوالها بغتة كما قيل، أو لأنّها تغشى وجوه الكفّار بالعذاب.

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) أي مذلّلة بالغمّ و العذاب يغشاها، و الخشوع إنّما هو لأرباب الوجوه و إنّما نسب إلى الوجوه لأنّ الخشوع و المذلّة يظهر فيها.

قوله تعالى: ( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) النصب التعب و( عامِلَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و كذا قوله:( ناصِبَةٌ ) و( تَصْلى) و( تُسْقى) و( لَيْسَ لَهُمْ ) و المراد من عملها و نصبها بقرينة مقابلتهما في صفة أهل الجنّة الآتية بقوله:( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) عملها في الدنيا و نصبها في الآخرة فإنّ الإنسان إنّما يعمل ما يعمل في الدنيا ليسعد به و يظفر بالمطلوب لكن عملهم خبط باطل لا ينفعهم شيئاً كما قال تعالى:( وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: 23 فلا يعود إليهم من عملهم إلّا النصب و التعب بخلاف أهل الجنّة فإنّهم لسعيهم الّذي سعوه في الدنيا راضون لما ساقهم إلى الجنّة و الراحة.

و قيل: المراد أنّها عاملة في النار ناصبة فيها فهي تعالج أنواع العذاب الّذي تعذّب به و تتعب لذلك.

و قيل: المراد أنّها عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة.

قوله تعالى: ( تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) أي تلزم ناراً في نهاية الحرارة.

قوله تعالى: ( تُسْقى‏ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) أي حارّة بالغة في حرارتها.

قوله تعالى: ( ليسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ‏ ) قيل: الضريع نوع من الشوك يقال له: الشبرق و أهل الحجاز يسمّونه الضريع إذا يبس و هو أخبث طعام و أبشعه لا ترعاه دابّة، و لعلّ تسمية ما في النار به لمجرّد المشابهة شكلاً و خاصّة.

٣٩٨

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) من النعومة فيكون كناية عن البهجة و السرور الظاهر على البشرة كما قال:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، أو من النعمة أي متنعّمة. قيل: و لم يعطف على قوله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) إشارة إلى كمال البينونة بين حالي الفريقين.

قوله تعالى: ( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) اللّام للتقوية، و المراد بالسعي سعيها في الدنيا بالعمل الصالح، و المعنى رضيت سعيها و هو عملها الصالح حيث جوزيت به جزاءً حسناً.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) المراد بعلوّها ارتفاع درجاتها و شرفها و جلالتها و غزارة عيشها فإنّ فيها حياة لا موت معها، و لذّة لا ألم يشوبها و سروراً لا غمّ و لا حزن يداخله لهم فيها فوق ما يشاؤن.

و قوله:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) أي لا تسمع تلك الوجوه في الجنّة كلمة ساقطة لا فائدة فيها.

و قوله:( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) المراد بالعين جنسها فقد عدّ تعالى فيها عيوناً في كلامه كالسلسبيل و الشراب الطهور و غيرهما.

و قوله:( فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ) السرر جمع سرير و في ارتفاعها جلالة القاعد عليها،( وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ) الأكواب جمع كوب و هو الإبريق لا خرطوم له و لا عروة يتّخذ فيه الشراب( وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ) النمارق جمع نمرقة و هي الوسادة و كونها مصفوفة وضعها في المجلس بحيث يتّصل بعضها ببعض على هيئة المجالس الفاخرة في الدنيا( وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) الزرابيّ جمع زريبة مثلّثة الزاي و هي البساط الفاخر و بثّها بسطها للقعود عليها.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) بعد ما فرغ من وصف الغاشية و بيان حال الفريقين، المؤمنين و الكفّار عقّبه بإشارة إجماليّة إلى التدبير الربوبيّ الّذي يفصح عن ربوبيّته تعالى المقتضية لوجوب عبادته و لازم ذلك حساب الأعمال و جزاء المؤمن بإيمانه و الكافر بكفره و الظرف الّذي فيه ذلك هو الغاشية.

٣٩٩

و قد دعاهم أوّلاً أن ينظروا إلى الإبل كيف خلقت؟ و كيف صوّر الله سبحانه أرضاً عادمة للحياة فاقدة للشعور بهذه الصورة العجيبة في أعضائها و قواها و أفاعيلها فسخّرها لهم ينتفعون من ركوبها و حملها و لحمها و ضرعها و جلدها و وبرها حتّى بولها و بعرتها فهل هذا كله توافق اتّفاقيّ غير مطلوب بحياله.؟

و تخصيص الإبل بالذكر من جهة أنّ السورة مكّيّة و أوّل من تتلى عليهم الإعراب و اتّخاذ الآبال من أركان عيشتهم.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) و زيّنت بالشمس و القمر و سائر النجوم الزواهر بما فيها من المنافع لأهل الأرض و قد جعل دونها الهواء الّذي يضطرّ إليه الحيوان في تنفّسه.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) و هي أوتاد الأرض المانعة من مورها و مخازن الماء الّتي تتفجّر منها العيون و الأنهار و محافظ للمعادن.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) أي بسطت و سوّيت فصلحت لسكنى الإنسان و سهل فيها النقل و الانتقال و أغلب التصرّفات الصناعيّة الّتي للإنسان.

فهذه تدبيرات كلّيّة مستندة إليه تعالى بلا ريب فيه فهو ربّ السماء و الأرض ما بينهما فهو ربّ العالم الإنسانيّ يجب عليهم أن يتّخذوه ربّاً و يوحّدوه و يعبدوه و أمامهم الغاشية و هو يوم الحساب و الجزاء.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) تفريع على ما تقدّم و المعنى إذا كان الله سبحانه هو ربّهم لا ربّ سواه و أمامهم يوم الحساب و الجزاء لمن آمن منهم أو كفر فذكّرهم بذلك.

و قوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) بيان أنّ وظيفته - و هو رسول - التذكرة رجاء أن يستجيبوا و يؤمنوا من غير إكراه و إلجاء.

قوله تعالى: ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) المصيطر - و أصله المسيطر - المتسلّط، و الجملة بيان و تفسير لقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496