موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

موسوعة عبد الله بن عبّاس12%

موسوعة عبد الله بن عبّاس مؤلف:
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93311 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
موسوعة عبد الله بن عبّاس

موسوعة عبد الله بن عبّاس الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

مواقف إحتجاجاته في أيام أبي بكر

لقد مرّت بنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى مواقف مشهودة لابن عباس وإن كانت محدودة ، دلّت على قوّة شخصيته مع صغر سنه ، فقرأنا المروي عنه في مصادر الفريقين من خبر اليهودي مع أبي بكر ، وهو خبر شائق نستعيده في المقام وما يستتبعه من مماثل له ، يصلح أن يكون شاهداً على بدايات نبوغ ابن عباس ، ذلك الفتى اليافع أمام الناس داعياً واعياً.

فقد روى ابن دريد(١) ، والمقري الكبير(٢) ، والفتوني العاملي(٣) ، وابن شاذان(٤) ، والديلمي(٥) ، وابن بابويه(٦) ، والبياضي(٧) ، والعاصمي(٨) ، والمجلسي(٩) ، ( واللفظ للأوّل ) برواية أنس بن مالك ، قال :

____________________

(١) المجتنى / ٣٥ ط حيدر آباد.

(٢) نفح الطيب ٧ / ٢١٢ ط مصر نقلاً عن محاضرات المقري الكبير.

(٣) ضياء العاملين ( نسخة مصورة ) بمكتبتي.

(٤) الفضائل / ١٢٢ ط حجرية.

(٥) ارشاد القلوب ٢ / ١١٨ ط النجف.

(٦) التوحيد / ٣٨٥ ط حجرية ١٣٢١ بسنده عن الإمام الحسين عليه السلام.

(٧) الصراط المستقيم ٢ / ١٤ ط الحيدري بايران.

(٨) زين الفتى ( مخطوط ) بمكتبة المرحوم الشيخ الأميني ( قدس سره ).

(٩) بحار الأنوار ٨ / ١٩١ ط الكمباني حجرية.

٨١

( أقبل يهودي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل المسجد ، فقال : أين وصي رسول الله؟ فأشار القوم إلى أبي بكر ، فوقف عليه ، فقال له : أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصي نبيّ؟

قال أبو بكر : سل عما بدا لك.

قال اليهودي : أخبرني عمّا ليس لله ، وعمّا ليس عند الله ، وعمّا لا يعلمه الله.

فقال أبو بكر : هذه مسائل الزنادقة يا يهودي ، وهمّ أبو بكر والمسلمون رضي الله عنهم باليهودي.

فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما أنصفتم الرجل.

فقال أبو بكر : أما سمعت ما تكلّم به؟

فقال ابن عباس : إن كان عندكم جوابه وإلاّ فاذهبوا به إلى عليّ رضي الله عنه يجيبه ، فانّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعليّ بن أبي طالب : ( اللّهم اهد قلبه ، وثبّت لسانه ).

قال : فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا عليّ بن أبي طالب فاستأذنوا عليه. فقال أبو بكر : يا أبا الحسن إنّ هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة.

فقال عليّ : ما تقول يا يهودي؟

قال : أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ.

فقال له : قل. فردّ اليهودي المسائل.

فقال عليّ رضي الله عنه : أمّا ما لا يعلمه الله ، فذلك قولكم يا معشر اليهود : إنّ العزير ابن الله ، والله لا يعلم أنّ له ولداً. وأمّا قولك : أخبرني بما ليس عند الله ، فليس عنده ظلم للعباد. وأمّا قولك : أخبرني بما ليس لله ، فليس له شريك.

٨٢

فقال اليهودي : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، وأنّك وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال أبو بكر والمسلمون لعليّ عليه السلام : يا مفرّج الكرب ).

وممّا يدل على نحو ما سبق أيضاً ، ما أخرجه الشيخ ابن بابويه الصدوق في كتابه ( الخصال )(١) ، والديلمي في ( الإرشاد )(٢) ، واللفظ لهما معاً ، وبإسناد الأوّل عن ابن عباس ، قال :

( قدم يهوديان أخوان من رؤساء اليهود بالمدينة ، فقالا : يا قوم إنّ نبيّنا حُدّثنا عنه أنّه يظهر نبيّ بتهامة يسفّه أحلام اليهود ، ويطعن في دينهم ، ونحن نخاف أن يزيلنا عما كان عليه آباؤنا ، فأيّكم هذا النبيّ؟ فإن يكن الذي بشّر به داود آمنّا به واتبعناه ، وإن لم يكن وكان يورد الكلام على ائتلافه ويقول الشعر ، ويقهرنا بلسانه ، جاهدناه بأنفسنا وأموالنا ، فأيّكم هذا النبيّ؟

فقال المهاجرون والأنصار : إنّ نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم قد قبض.

فقالا : الحمد لله ، فأيّكم وصيّه؟ فما بعث عزوجل نبيّاً إلى قوم إلاّ وله وصيّ يؤدي عنه من بعده ، ويحكي عنه ما أمره ربّه.

فأومأ المهاجرون والأنصار إلى أبي بكر ، فقالوا : هو وصيّه.

فقالا لأبي بكر : إنّا نلقي عليك من المسائل ما يلقى على الأوصياء ،

____________________

(١) الخصال / ٥٦٠ باب الواحد إلى المائة ط الحيدرية.

(٢) ارشاد القلوب ٢ / ١١٩ ط الحيدرية ط الاولى.

٨٣

ونسألك عما تسأل الأوصياء عنه.

فقال لهما أبو بكر : ألقيا ما شئتما أخبركما بجوابه إن شاء الله.

فقال أحدهما : ما أنا وأنت عند الله عزوجل؟ وما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟ وما قبر سار بصاحبه؟ ومن أين تطلع الشمس وفي أين تغرب؟ وأين طلعت الشمس ثم لم تطلع فيه بعد ذلك؟ وأين تكون الجنة؟ وأين تكون النار؟ وربك يَحمل أو يُحمل؟ وأين يكون وجه ربك؟ وما اثنان شاهدان؟ وما اثنان غائبان؟ وما اثنان متباغضان؟ وما الواحد؟ وما الاثنان؟ وما الثلاثة؟ وما الأربعة؟ وما الخمسة؟ وما الستة؟ وما السبعة؟ وما الثمانية؟ وما التسعة؟ وما العشرة؟ وما الأحد عشر؟ وما الاثنا عشر؟ وما العشرون؟ وما الثلاثون؟ وما الأربعون؟ وما الخمسون؟ وما الستون؟ وما السبعون؟ وما الثمانون؟ وما التسعون؟ وما المائة؟

قال ابن عباس : فبقي أبو بكر لا يردّ جواباً ، فتخوّفنا أن يرتدّ القوم عن الإسلام ، فأتيت منزل عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فقلت له : يا عليّ أنّ رؤساء اليهود قد قدموا المدينة وألقوا على أبي بكر مسائل فبقي أبو بكر لا يرد جواباً.

فتبسم عليّ عليه السلام ضاحكاً ، ثم قال : هو اليوم الذي وعدني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فأقبل يمشي أمامي وما أخطأت مشيتُه من مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئأ حتى قعد في الموضع الذي كان يقعد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم التفت إلى اليهوديين ، فقال : يا يهوديان أدنوا مني وألقيا عليَّ ما ألقيتماه على الشيخ.

٨٤

فقالا : ومن أنت؟

فقال لهما : أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب ، أخو النبيّ ، وزوج ابنته فاطمة ، وأبو الحسن والحسين ، ووصيّه في حالاته كلّها ، وصاحب كلّ منقبة وعز ، وموضع سر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال له أحد اليهوديين : ما أنا وأنت عند الله؟

قال : أنا مؤمن منذ عرفتُ نفسي ، وأنت كافر منذ عرفتَ نفسك ، فما أدري ما يحدث الله فيك يا يهودي بعد ذلك.

فقال اليهودي : فما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟

قال : ذاك يونس عليه السلام في بطن الحوت.

قال : فما قبر سار بصاحبه؟

قال : يونس حين طاف به الحوت في سبعة أبحر.

قال له : فالشمس من أين تطلع؟

قال : من بين قرني الشيطان.

قال : فأين تغرب؟

قال : في عين حمئة ، وقال لي حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا تصل في إقبالها ولا في إدبارها حتى تصير مقدار رمح أو رمحين ).

قال : فأين طلعت الشمس ثم لم تطلع في ذلك الموضع؟

قال : في البحر حين فلقه الله تعالى لبني اسرائيل لقوم موسى عليه السلام.

قال : فربك يَحمل ، أو يُحمل؟

٨٥

قال : إنّ ربي عزوجل يحمل كلّ شيء بقدرته ولا يحمله شيء.

قال : فكيف قوله عزوجل :( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ) (١) ؟

قال : يا يهودي ألم تعلم أنّ لله( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) (٢) ، فكلّ شيء على الثرى ، والثرى على القدرة ، والقدرة تحمل كلّ شيء.

قال : فأين تكون الجنة؟ وأين تكون النار؟

قال : أمّا الجنة ففي السماء ، وأمّا النار ففي الأرض.

قال : فأين يكون وجه ربك؟

فقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام لي : يا بن عباس إئتني بنار وحطب ، فأتيته بنار وحطب فأضرمهما ، ثم قال : يا يهودي أين يكون وجه هذه النار؟

قال : لا أقف لها على وجه.

قال : فإنّ ربّي عزّ وجلّ عن هذا المثل ، وله المشرق والمغرب ،( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه ) (٣) .

فقال له : ما اثنان شاهدان؟

قال : السماوات والأرض لا يغيبان ساعة.

قال : فما اثنان غائبان؟

____________________

(١) الحاقة / ١٧.

(٢) طه / ٦.

(٣) البقرة / ١١٥.

٨٦

قال : الموت والحياة لا يوقف عليهما.

قال : فما اثنان متباغضان؟

قال : الليل والنهار.

قال : فما الواحد؟

قال : الله عزوجل.

قال : فما الاثنان؟

قال : آدم وحواء.

قال : فما الثلاثة؟

قال : كذبت النصارى على الله عزوجل فقالوا : ]ثَالِثُ ثَلاثَةٍ[(١) عيسى ابن مريم ابن الله ، والله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.

قال : فما الأربعة؟

قال : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم.

قال : فما الخمسة؟

قال : خمس صلوات مفترضات.

قال : فما الستة؟

قال : خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش.

قال : فما السبعة؟

____________________

(١) المائدة / ٧٣.

٨٧

قال : سبعة أبواب النار متطابقات.

قال : فما الثمانية؟

قال : ثمانية أبواب الجنة.

قال : فما التسعة؟

قال : تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

قال : فما العشرة؟

قال : عشرة أيام العشر.

قال : فما الأحد عشر؟

قال : قول يوسف لأبيه :( يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (١) .

قال : فما الاثنا عشر؟

قال : شهور السنة.

قال : فما العشرون؟

قال : بيع يوسف بعشرين درهماً.

قال : فما الثلاثون؟

قال : ثلاثون يوماً شهر رمضان ، وصيامه فرض واجب على كلّ مؤمن إلاّ من كان مريضاً أو على سفر.

قال : فما الأربعون؟

____________________

(١) يوسف / ٤.

٨٨

قال : كان ميقات موسى عليه السلام ثلاثون ليلة فأتمها الله عزوجل بعشرٍ ، فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة.

قال : فما الخمسون؟

قال : دعا نوح قومه لبث ألف سنة إلاّ خمسين عاماً.

قال : فما الستون؟

قال : قول الله عزوجل في كفارة الظهارَ ( فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكيناً إذا لم يقدر على صيام شهرين متتابعين ).

قال : فما السبعون؟

قال : اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات ربّه عزوجل.

قال : فما الثمانون؟

قال : قرية بالجزيرة يقال لها : ثمانون ، منها قعد نوح عليه السلام في السفينة واستوت على الجودي ، وأغرق الله القوم.

قال : فما التسعون؟

قال : الفلك المشحون ، اتخذ نوح عليه السلام تسعين بيتاً للبهائم.

قال : فما المائة؟

قال : كان أجل داود عليه السلام ستين سنة فوهب له آدم عليه السلام أربعين عاماً سنة من عمره ، فلمّا حضرت آدم عليه السلام الوفاة جحد ، فجحد ذريته.

فقال له : يا شاب صف لي محمّداً كأنّي أنظر إليه ، حتى أومن به الساعة.

٨٩

فبكى أمير المؤمنين عليه السلام ثم قال : يا يهودي هيّجت أحزاني ، كان حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلت الجبين ، مقرون الحاجبين ، أدعج العينين ، سهل الخدين ، أقنى الأنف ، دقيق المسربة ، كث اللحية ، برّاق الثنايا ، كأنّ عنقه أبريق فضة ، كان له شعيرات من لبتّه إلى سرّته ملفوفة كأنّها قضيب كافور ، لم يكن في بدنه شعيرات غيرها ، لم يكن بالطويل الذاهب ولا بالقصير النزر ، كان إذا مشى مع الناس غمرهم بنوره ، وكان إذا مشى كأنّه يتقلع من صخر أو ينحدر من صبب ، كان مدور الكعبين ، لطيف القدمين ، دقيق الخصر ، عمامته السحاب ، وسيفه ذو الفقار ، وبغلته دلدل ، وحماره اليعفور ، وناقته العضباء ، وفرسه لزاز ، وقضيبه الممشوق ، وكان عليه السلام أشفق الناس على الناس ، وأرأف الناس بالناس ، كان بين كتفيه خاتم النبوة ، مكتوب على الخاتم سطران ، أمّا أوّل سطر : فلا إله إلاّ الله ، وأمّا الثاني : فمحمد رسول الله. هذه صفته يا يهودي.

فقال اليهوديان : نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله ، وأنّك وصي محمّد حقاً.

فأسلما وحسن إسلامهما ولزما أمير المؤمنين عليه السلام ، فكانا معه حتى كان من أمر الجمل ما كان فخرجا معه إلى البصرة ، فقتل أحدهما في وقعة الجمل وبقي الآخر حتى خرج معه إلى صفين فقتل بصفين أهـ ).

٩٠

مقام رجلين من علماء اليهود بين يدي أبي بكر

ذكر ذلك الغزالي في كتابه ( مقام العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء ) ، قال :

( روى علي بن إسحاق ، عن محمد بن مروان ، عن ابن الكلبي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال :

قدم يهوديان المدينة بعد وفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام بشهرين ، فسألا عن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدلا على أبي بكر رضي الله عنه. فأتياه فقالا : إنّا وجدنا صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة ، فجئنا لنسلم على يده.

فقال أبو بكر رضي الله عنه : قد مات منذ شهرين ، فما حاجتكما؟

فقالا : نريد أن نسألك عن أشياء ثلاثة ، فإن أخبرتنا بها آمنا وصدقنا.

فقال أبو بكر رضي الله عنه : سلا عما شئتما.

قالا : أخبرنا ما الذي فرَّق بين الحبّ والبغض ومعدنهما في القلب واحد؟ وما الذي فرَّق بين الحفظ والنسيان ومعدنهما في القلب واحد؟ وما الذي فرَّق بين الأحلام الصادقة والأحلام الكاذبة؟

قال : فاطرق أبو بكر ساعة عاضاً على إبهامه ، ثم قال : الله ورسوله أعلم إئتيا عمر بن الخطاب فإنّه سيخبركما إن شاء الله تعالى.

فأتيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسألاه ، قال : الله ورسوله أعلم ، إئتيا عليّ بن أبي طالب فاسألاه فإنّه سيخبركما إنّ شاء الله.

قالا : أين هو؟

٩١

قال : هو في سفح الجبل يثير أرضاً له.

فأتياه ثم سألاه.

فقال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : ( أخبرني جبريل عليه السلام أنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، فما تعارف منها أئتلف وما تناكر منها اختلف ، الحبّ والبغض من هاهنا نشأ.

قالا : صدقت والذي أنزل التوراة على موسى بن عمران.

قال عليّ رضي الله عنه : وأمّا الحفظ والنسيان ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرني عن جبريل عليه السلام ، أنّ الله تعالى ، لما خلق آدم عليه السلام ، جعل له قلباً ، وجعل لقلبه غاشية تنفتح وتنطبق ، فما مرّ بالقلب والغاشية منطبقة ، فذلك الذي لا يعيه ابن آدم ، ولا يحفظه.

قالا : صدقت والذي أنزل التوراة على موسى بن عمران.

قال عليّ رضي الله عنه ، وأمّا الذي بين الأحلام الصادقة والكاذبة ، أخبرني رسول الله ، صل الله عليه وسلم ، أنّ جبريل عليه السلام ، أخبره أنّ ابن آدم إذا نام عرج بروحه إلى السماء ، فيرى هناك ما يرى وهو الحق ، فإذا ردت تلقتها الشياطين فلبّست عليها ، فما كان منها الصادقة فهي من السماء ، وما كان من الأرض فهي الكاذبة من الشياطين.

قالا : صدقت والذي أنزل التوراة على موسى بن عمران ، ونحن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : الحمد لله الذي هداكما والله ولي التوفيق )(١) .

____________________

(١) مقام العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء / ١٨٩ ـ ١٩١ ، بتحقيق محمد جاسم الحديثي.

٩٢

ابن عباس مع عمر بن الخطاب في أيام خلافته

قال ابن عباس : ( عجباً لمن يطلب أمراً بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجة ، فالحجة دين يعتقد به الطاعة ، وسلطان الغلبة يزول بزوال القدرة )(١) .

هكذا كانت فلسفة ابن عباس في مبدئه الحواري مع الآخرين من الحاكمين وغيرهم ، وهي فلسفة صحيحة لمن ملك مقوماتها وأحسن استعمالها ، ولقد قرأنا في سيرة ابن عباس وتاريخه في عهد عمر معاشرتهما ، كما في الحلقة الأولى في الجزء الثاني قرأنا بعض المؤشرات على قوّة نشاط ابن عباس في ذلك العهد ، فقلت في مقدمة ذلك :

( لا بد لنا من مقدمة نستوحي منها بعض المؤشرات على قوّة نشاط الحبر في ذلك العهد. ونتعرف من خلالها أسباب ذلك التمازج العملي ـ إن صح التعبير ـ مع شدّة التنافر الفكري بين الشخصين ، خصوصاً في أمر الخلافة التي هي بداية الخلاف في الأمّة ، والتي كان ابن عباس يقول فيها بالنص ، وكان عمر يقول فيها بالإختيار. فهما على طرفي نقيض في تلك النقطة المهمة ، ومن ذلك نعرف مدى التباعد بين الرؤى في العقيدة عند الرجلين مع شدّة التقارب بين الشخصين في الحضر والسفر ، بينما يرى

____________________

(١) محاضرات الراغب ١ / ٣٣ ط الشرقية.

٩٣

عمر ما رآه أبو بكر ، ورأيهما رأي المخالفين التابعين لهما والقائلين بالإختيار ) ، ويرى ابن عباس ما يراه عليّ عليه السلام من الحق له في الخلافة.

وهذا هو الرأي النظري الذي نجده مبثوثاً في الكتب الكلامية لأصحابهم ، لكن الرأي غير العمل ، فقد تبدّل منذ عهد معاوية الذي جعل الخلافة ملكاً عضوضاً ، كما سيأتي إلى ما يشير إلى هذا.

أقول : بينما يرى ابن عباس ما يراه أهل البيت جميعاً من قبل ومن بعد ، وهم القائلون بالنص ، وتبعهم على ذلك من شايعهم يومئذ وحتى الساعة.

وقد بحثتُ العوامل التي أدت إلى التناغم وتبادل الثقة بين ابن عباس وبين عمر حتى صارت صداقة ، ممّا أثارت حسد بعض شيوخ الصحابة على ذاك التقريب ، مع أنّ كلاً منهما لا يزال على رأيه وعند موقفه في مسألة الخلافة ، لأنّ إختلاف الرأي لا يفسد في الودّ قضية؟ كما يقول أحمد شوقي.

وقد بحثت ثلاث مسائل ذات أهمية بالغة وأجبت عنها تعرّفنا من خلالها الجواب على تلك المسائل ، فسأعيد في المقام تلخيصاً لها. فأقول :

إنّ المسألة الأولى : كانت حول تفضيل ابن عباس لإمرة أبي بكر على إمرة عمر ، فقال لمن سأله عنهما ، ففضّل إمرة المطيّبي ـ وهو أبو بكر ـ على إمرة الأحلافي ـ وهو عمر ـ ، وبالمقارنة بين العهدين ، وجدناه في عهد أبي

٩٤

بكر فرداً كسائر بني هاشم منضوياً تحت لواء أبيه العباس كسائر أخوته وجميع بني هاشم يضمهم جميعاً كنف الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام الرحب ، فكانوا جميعاً تبعاً له ، فعن رأيه يصدرون وبأمره يعملون ، وهم جميعاً يمثلون الجبهة المعارضة للحكم يومئذ ، فيرون الحق لعليّ عليه السلام دون غيره ، ومرت أقوالهم شعراً ونثراً في ذلك.

بينما كان ابن عباس في عهد عمر له حضور منظور ، فهو في مجلس شورى عمر مفتياً ومشيراً وناصحاً ، وصاحباً في الحضر والسفر ، فكان يجرأ على المخاصمة ويقوى على المحاججة ، ويحتمل عمر منه ما لم يحتمله من غيره.

فكان مختصر الجواب عن هذه المسألة : أنّ مسألة التحالف التي كانت قبل الإسلام حسب الأعراف القبلية ، فبقيت أثارها تثيرها الخصومات كلّ ما دعت الحاجة إليها. وقد ذكرت شاهداً على ذلك في قصة تنازع أسامة بن زيد مع عمرو بن عثمان ، وانتصار الإمام الحسن عليه السلام وعبد الله بن جعفر لأسامة ، حين رأيا نصرة مروان وسعيد بن العاص لعمرو ابن عثمان ، وحسم معاوية ذلك النزاع لصالح أسامة خشية من بني هاشم أن يتفاقم الخطب ، ولم يكن في رأيي في ذلك سبباً تاماً بقدر ما هو كجواب إقناعي ، ورأيت أنّ قصر المدّة بين الحكمين كان عاملاً من عوامل تفضيل إمرة المطيبي وهو أبو بكر ، لأنّها لقصر مدتها لم تقع فيها كثير مفارقات وتناقضات في الأحكام ، كما هي الحال في إمرة الأحلافي

٩٥

وهو عمر بن الخطاب ، ( فمني فيها ـ الناس بخبط وشماس وتلوّن واعتراض ) كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فكان عمر يغيّر ويبدّل بما جرى على لسانه ، حتى حفظ عبيدة السلماني ، وهو غير متهم عليه بمائة أقضية في الجد ، كلّها ينقض بعضها بعضاً(١) ، ومع ذلك يعترف عمر ويقول : ( قضيت في قضية الجد قضايا مختلفة كلّها لا آلو فيه عن الحق؟ ولئن عشت إن شاء الله إلى الصيف لأقضين فيها قضية تقضي به المرأة وهي على ذيلها ). فكان ابن عباس يرى في قلّة المفارقات في إمرة المطيبي مع كثرتها في إمرة الأحلافي سبباً في تفضيل الأوّل على الثاني.

أمّا المسألة الثانية : في معرفة الدواعي التي توفرت لدى كلّ من ابن عباس وعمر ، حتى بدأ التآلف يزداد يوماً بعد يوم ، مع الفارق الكبير الكثير بينهما في السن ، فإنّ عمر تولى الحكم وعمره يزيد على الأربعين ببضع سنين ، بينما كانت سنّ ابن عباس يومئذ لم تبلغ العشرين ، مضافاً إلى الشعور بين التفاضل بين البيتين ، فهو من بني هاشم صفوة الخلائق ، وعمر من بني عديّ ، كما أنّ الخلاف بينهما في مسألة إستحقاق الخلافة يوسع شقة التباعد عادة. لكن قراءة عابرة لما مرّ في الجزء الثاني في الحلقة الأولى ( في عهد

____________________

(١) قال عبيدة السلماني : لقد حفظت من عمر بن الخطاب فيها ـ مسألة الجد ـ مائة أقضية مختلفة. المصنف لعبد الرزاق ١٠ / ٢٦٢ ، فقال لابن سيرين متعجباً : عن عمر؟ قال : عن عمر. أخرجه الدارمي في سننه / ٣٨٩ ، البهقي في السنن الكبرى ٦ / ٢٤٢ ، حتى قال السيوطي في الأشباه والنظائر / ١٠١ : وعلته أنه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى من الأول ، فإنه يؤدي إلى أنه لا يشقى حكم ، وفي ذلك مشقة شديدة ، فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلّم جرّا.

٩٦

عمر ) رأينا تبادل المصالح تجمع بين المتضادين ، ما داما على إتفاق في بلوغ الهدف المنشود لهما وهو خدمة الإسلام ، مع أنّ لكلّ وجهة هو موليّها ، مع تفصيل مرتّ شواهده ، تستدعي الإتفاق ، فراجع. فكانت حاجة عمر إلى ابن عباس لكفاءته العلمية ، حتى اعترف له بذلك ، فيقول له إذا أعضله أمر : ( غص يا غواص ) ، وقد أخذ ذلك الجاحظ فقال في رسالته نفي التشبيه : ( ولو لم يعرف ـ عمر ـ ذلك ـ نفي التشبيه ـ إلاّ بعبد الله بن العباس وحده كان ذلك كافياً وبرهاناً شافياً ، فإنّ الأعجوبة فيه أربت على كلّ عجب ، وقطعت كلّ سبب ، وقد رأيتم حاجة عمر إليه ، واستشارته إياه ، وتقويمه لعثمان وتغييره عليه )(١) .

ولا يبعد أن يكون ابن عباس رأى في تقريب عمر له وأخذ الحكم منه وسيلة تنفيس عن هموم شملت بني هاشم على العموم ، حين رأوه ومن قبله غاصبين لحقوقهم ، بدءاً من الخلافة وإنتهاءً بسهم ذوي القربى وما بينهما من الحقوق المغتصبة ، فكان يسمعه أحياناً ما يغضبه في هذا الشأن كما ستأتي في صفحات إحتجاجه ما يثير العجب ، وكيف قال ابن عباس لعمر : ( فأردد إليه ظلامته ) ولم يردّ عليه عمر إلاّ بمعاذير غير مقنعة ، فدحضها ابن عباس ، كما سنقرأ ذلك.

وأمّا المسألة الثالثة : في معرفة موقف بني هاشم وعلى رأسهم الإمام عليّ عليه السلام من تقريب عمر لابن عباس ، وقبول الثاني بذلك التقريب ، وحضوره عند عمر يعني حضور بني هاشم على أضعف تقدير ، وهو مظهر ينتفع به عمر

____________________

(١) رسالة الجاحظ ١ / ٣٠٠ تحقيق هارون.

٩٧

أكثر ممّا ينتفع به بنو هاشم عند الناس ، وكم قرأنا شواهد على أنّ الإمام عليّ عليه السلام كان يرى مصلحة الإسلام فوق كلّ شيء وكذلك كان بنو هاشم ، وسيدهم يقول : ( سلامة الدين أحبّ إلينا ).

فكان وجود ابن عباس عند عمر في غالب أوقاته تسديداً لبعض ما ينقصه من علم في غفلاته ، وقرأنا فيما مرّ في الجزء الثاني من الحلقة الأولى عشرة شواهد على قوّة إتصال وثيق وحضور فاعل على الصعيدين العلمي والسياسي ، بحيث كان غيابه يؤثر على المؤسسة الحاكمة ، فلتراجع وتقرأ بإمعان ، لنعرف أنّ تبادل مصالح عامّة ومصالح خاصة هي التي قربت بين الرجلين ، فحصل بعض التناغم وإن لم يحصل تمام التفاهم ، وكان كلّ منهما مغبوطاً على صحبة الآخر ، صحبة الصديق للصديق.

فإلى قراءة نماذج من محاورات احتجاجية جرت بينهما من دون تعليق.

نماذج من احتجاجاته على عمر بن الخطاب

١ ـ ( لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذرواً من قول ).

أخرج أحمد بن أبي طاهر صاحب ( تاريخ بغداد ) في كتابه مسنداً عن ابن عباس ، قال : ( دخلت على عمر في أوّل خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة(١) ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ، ثم شرب من جرّ كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ،

____________________

(١) الخصفة : الجلة تعمل من الخوص يوضع فيها التمر.

٩٨

وطفق يحمد الله ، يكرر ذلك.

ثم قال : من أين جئت يا عبد الله؟ قلت : من المسجد.

قال : كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر ، قلت : خلّفته يلعب مع أترابه.

قال : لم أعن ذلك ، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت؟

قلت : خلّفته يمتح بالغرب(١) على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن.

قال : يا عبد الله عليك دماء البُدن إن كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟

قلت : نعم.

قال : أيزعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصّ عليه؟

قلت : نعم ، وأزيدك سألت أبي عما يدّعيه؟ فقال : صدق.

فقال عمر : لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذرواً من قول ، لا يثبت حجة ، ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه(٢) فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لا وربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتفضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّي علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم )(٣) .

____________________

(١) يمتح بالغرب : أي بالدلو.

(٢) أشارة إلى حديث الكتف والدواة وقد مرّ مفصلاً.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٩٧ ط مصر الأولى ، كشف اليقين للعلامة الحلي / ٩٤ ط حجرية ٤٦٢ ط محققة ، كشف الغمة ٢ / ٤٦ ، بحار الأنوار ٣٨ / ١٥٦.

٩٩

٢ ـ ( أنت والله أحق أن تتبع ).

روى الزبير بن بكار في ( الموفقيّات )(١) عن عبد الله بن عباس ، قال : ( خرجت أريد عمر بن الخطاب ، فلقيته راكباً حماراً قد أرتسنه(٢) بحبل أسود ، في رجليه نعلان مخصوفتان ، وعليه أزار وقميص صغير ، وقد أنكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه ، فمشيت إلى جانبه وجعلت أجذب الأزار وأسوي عليه ، كلّما سترت جانباً انكشف جانب ، فيضحك ويقول : إنّه لا يطيعك ، حتى جئنا العالية(٣) فصلّينا ، ثم قدم بعض القوم إلينا طعاماً من خبز ولحم ، وإذا عمر صائم ، فجعل ينبذ إليّ طيّب اللحم ويقول : كل لي ولك ، ثم دخلنا حائطاً فألقي إليّ رداءه وقال أكفنيه ، وألقى قميصه بين يديه وجلس يغسله وأنا أغسل رداءه ، ثم جففناهما وصلينا العصر ، فركب ومشيت إلى جانبه ولا ثالث لنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين إنّي في خطبة فأشر عليَّ.

قال : ومن خطبت؟

قلت : فلانة ابنة فلان.

قال : النسب كما تحبّ وكما قد علمت ، ولكن في أخلاق أهلها دقة

____________________

(١) لم يذكر في المطبوع فعلا من الموفقيات وقد استدركت على المحقق لها عدة نصوص ضائعة فاتته الإشارة إليها ، كان منها هذا مع ان المتقي الهندي في كنز العمال أخرجها عن الموفقيات.

(٢) أرتسنه : جعل له رسنا ، وهو ما يوضع في رأس الدابة.

(٣) ناحية من نواحي المدينة وتسمى اليوم بالعوالي.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496