وهدوا إلى صراط الحميد

وهدوا إلى صراط الحميد17%

وهدوا إلى صراط الحميد مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 331

وهدوا إلى صراط الحميد
  • البداية
  • السابق
  • 331 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75616 / تحميل: 6384
الحجم الحجم الحجم
وهدوا إلى صراط الحميد

وهدوا إلى صراط الحميد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

من واقعها الجديد كداعية إلى الإِسلام تؤكد «سلوى حسين» (الإسم الجديد لـ «فيلما») بعدما هاجرت إلى القاهرة لتمارس دورها التبليغي في مجتمع مسلم، إن مشكلة المسلمين اليوم هي في التناقض بين القول والسلوك وأخذ كل ما يوافق الهوى فقط من الإِسلام، مؤكدة في الوقت ذاته أن الغرب يكره الإِسلام ويحاول تشويهه بكل الصور، وأن تعدد الزوجات شرع الله، وشرع الله كله رحمة، ولا ضمان لسلامة المجتمع، ولا راحة للمرأة إلا به، لكن مشكلة بعض المسلمات أنهن يعشن بشكل إسلامي ويفكرن بعقل غربي! وفي البداية روت سلوى حكايتها قائلة:

«كنت أعيش في ضاحية «جيلونج» في أستراليا وأنتمي مع عائلتي إلى كنيسة «المورمن» ذات التوجهات الصهيونية الماسونية، وكان أفراد أسرتي يحرصون على الذهاب إلى الكنيسة ويعملون في خدمتها، وظللت أشارك في التبشير لمدة ١٥ عاماً كنت خلالها أجوب الشوارع وأطرق الأبواب لأحدث الناس عن النصرانية من خلال مذهب «المورمن» الذي أعتنقه، وأقول لهم «أن عيسى ابن الله وأنه مات لمغفرة خطاياكم»، وكانت الكنيسة تتبنى مجموعة من الأفكار المنحازة لليهود والمتعصبة ضد الشعب الفلسطيني والشعوب السوداء، حتى أن السود هناك ممنوعون من ولاية أية أمور كنسية، أما الفلسطينيون فموصوفون دوماً بأنهم وحوش بربرية تستحق ما جرى لها!

وتضيف: وإزاء هذه الأفكار الظالمة كانت هناك حوارات عنيفة تثور بداخلي، وأذكر وأنا صغيرة أنني استنكرتُ احتفالات الكنيسة بهزيمة ١٩٦٧م للعرب وقلت لهم كيف تحتفلون بقتل النساء والأطفال، ودعوت الله بدون وساطة يسوع بأن يهديني إلى الحق.

كيف كانت بداية تحولك إلى الإِسلام؟

كان هناك كثير من الرؤى قد استقرت في عقلي ووجداني للتشكيك فيما أنا وهؤلاء البشر عليه من استغلال للإنسان المخالف لهم في اللون والعقيدة في سبيل تحقيق مصالحهم الخاصة. ثم كيف يكون لله ابن؟ لماذا نتحمَّل خطيئة أبينا آدم؟ ولماذا تحتاج ذنوبنا إلى من يكفِّرها وذلك بأن يرسل الله «ابنه» ليفتدي البشر. ولماذا يتميز الأبيض على الأسود؟ ولماذا هذه التوجهات العنصرية ضد الفلسطينيين وهم الذين سُلِبت أراضيهم وشُرِّدوا، وتعجبت مما في العهد القديم من مغالطات خاصة الادعاء بأن قابيل قتل هابيل بسبب لونه الأسود، وبالتالي يجب على السود أن يدفعوا ثمن خطيئة قابيل مدى الحياة!

١٠١

عندما سمعت معاني سورة «مريم» بالإنكليزية لم أتمالك نفسي فانفجرت بالبكاء وكيف بدأت معرفتك بالإِسلام؟

حدث هذا أثناء إحدى جولاتي التنصيرية، إذ ذهبت إلى إحدى الأسر الفلسطينية المسلمة المقيمة في أستراليا متحدثة إليهم عن النصرانية، فإذا بهم يقرأون عليّ معاني سورة «مريم» بالإنكليزية فلم أتمالك نفسي وانتابتني نوبة من البكاء الشديد، ومنذ تلك اللحظة استقرَّ الإِسلام في قلبي، فتوجهتُ إلى الكنيسة وأعلنتُ فيها إسلامي، فقاطعني أهلي نحو عامين، إلا أنني لم آبه لذلك وانقطعتُ لدراسة الإِسلام والقرآن خمس سنوات، والتحقتُ بالجامعة لأؤكد لنفسي حسن اختياري، ثم درستُ العقائد المخالفة وعندما قررتُ إعلان الشهادة ذهبتُ إلى مركز إسلامي يبعد ٨٠ كيلومتراً، وهناك تعلّمتُ كيف أؤدي فرائض الإِسلام وارتديتُ الزي الإِسلامي وبدأتُ رحلة في دراسة العلوم الشرعية، ثم تفرّغتُ للعمل التبليغي، داعية إلى الإِسلام.

ما هي أولوياتك للدعوة إلى الإِسلام ورؤيتك للمشكلات التي تواجه المجتمعات الإِسلامية حالياً؟

فتجيب قائلة: المسلمون بحاجة الآن إلى من يأخذ بأيديهم ويردّهم رداً جميلاً إلى الإِسلام الصحيح بحيث يلتزمونه قولاً وسلوكاً، إذ أنهم يأخذون أحياناً من الشريعة ما يوافق أهواءهم ويتركون ما لا يتفق مع هذه الأهواء، مع أن الشرع كله جاء لمصلحة العباد وأنه يجب على المسلم أن يلتزم الإِسلام كاملاً غير منقوص ويعيش معه بقلبه وعقله.

وما هو رأيك في موقف المرأة المسلمة في وقتنا المعاصر من الحياة الزوجية؟

تعتقد بعض المسلمات أن الزواج هو نهاية العطاء والفاعلية الإِسلامية وأن علاقتها بالرجل علاقة «تملُّك» وليس «مشاركة» مع أننا جميعاً ملك لله، ومن ثم يجب على الزوجة أن تساعد زوجها على الإيمان والطاعة وأن تتعاون معه على البر والتقوى، وأن يكون هدفها هو الآخرة، وأن تعينه على الحياة وألا تكون عبئاً عليه.

١٠٢

أما الرجل فيجب عليه هو أيضاً ألا يرهق زوجته وأن يعينها على حسن صحبته وتربية أبنائه لكي تكون المودة والتراحم والثقة المتبادلة هي محور الحياة الزوجية. مسلمات أخريات يعتقدن أن الزواج هو بداية الترف والسعادة الدنيوية متناسيات أن يهيئن أنفسهن كزوجات للعطاء أو لكي تكون بحق سكناً للزوج ومدرسة للأسرة، وبعض الزوجات يعشن أيضاً بشكل إسلامي ويفكرن بعقل غربي من جراء الغزو الإعلامي، وهنا يجب على المرأة المسلمة أن تقرأ عن دينها كثيراً لكي تعرف دورها بحق.

وأخيراً ما هو رأيك فيما يثيره الغرب حول تعدد الزوجات الذي أباحه الإِسلام؟

الغرب يكره الإِسلام ويحاول بطرق شتى من خلال الصهيونية العالمية وتعصبه الديني تشويهه، وأما التعدد فإنه شرع الله الذي لا نقاش فيه وهو رحمة للنساء من قِبَل الرجال.. لأن الرجل هو الذي يجد صعوبة في التعامل مع طبائع عدة نساء، بل ومطلوب منه الإنفاق والعدل، أما المرأة فتظل مطمئنة وليس عليها مسؤوليات سوى طاعة زوجها.

ولا يجب أن نقف كثيراً عند مسألة «الغيرة» هكذا تقول سلوى حسين لأن المرأة المسلمة لها أولويات واهتمامات كبرى أبرزها أن تلتزم مسؤولياتها تجاه ربّها وزوجها وأختها في الله وهناك تؤكد أحدث الإحصائيات - تضيف سلوى - أن أعداد النساء تفوق أعداد الرجال في كثير من البلدان، ومن ثم فإن التعدد يعتبر الحل الوحيد لسلامة المجتمع الإِسلامي واستقراره ولراحة المرأة قبل الرجل على جميع المستويات.

١٠٣

الأخت الدانماركية كارين (كريمة):

وصيفتي التي أسرّت إسلامها، والقرآن الكريم شدّاني إلى الإِسلام

كل يوم تجتذب أنوار الإِسلام الهادية أفراداً وجماعات، تشدّهم من كل أقطار الأرض ومن كل الأجناس والمستويات الثقافية والاجتماعية.. تشرق على عقولهم وقلوبهم، فتزيل منها ظلام الشرك والجهل وتضيئها بنور الهدى والحق.. وينضم إلى قافلة الإيمان أشخاص ما كنّا نظنهم يوماً أنهم لاحقون بها.. وسرعان ما يصبح هؤلاء من أكثر المسلمين حماساً لمعرفة الدين، وأكثرهم نشاطاً في نشر هداه.. ويصبحون بالتالي حجة دامغة على كل المتساقطين والخانعين ممن لامستهم نعمة الإيمان بالوراثة ولكن عقولهم وقلوبهم انغلقت دونها..

.. وهنا قصة أخرى مثيرة للإعجاب والاحترام لامرأة دانماركية مثقفة من أسرة عريقة كتبها أحمد أحمد من القاهرة ونشرتها جريدة «المسلمون» ونعيد هنا نشرها للفائدة.

الإِسلام يملك كل العادات الطيبة التي لو سلكها الإنسان لعاش حياة نظيفة خالية من كل أمراض النفس والبدن

هي الدانماركية «كارين جونتر» المولودة عام ١٩٤٦م، لأسرة عريقة، ثرية، شبّت، كما يقولون، وفي فمها ملعقة من ذهب، وتعلمت في أرقى المدارس التي يلتحق بها الأمراء والأميرات، وكانت تعامل الناس بروح طيبة برغم تحذيرات وتنبيهات أبويها، إلّا أنها كما تقول: «كنت أجد نفسي، وراحتي مع البسطاء والفقراء، وكان عطفي عليهم كبيراً، ولم يستطع أحد أن يغيّر من طبيعتي، فقد كانت سعادة الدنيا كلها تتراءى لي وأنا أمسح جرح وألم البسطاء من الناس، ولم يأتِ ذلك من فراغ، فقد كانت لي وصيفة، اكتشفتُ أنها على خُلُق عالٍ فإذا بها تدين بالإِسلام في سرية تامة، ووعدتها بأن أتكتم على سرّها وإسلامها، ورحت أقلّدها ذات مرة في حركات الصلاة، وكانت ابتسامتها الجميلة تضيء وجهها في سعادة وإشراقة وبهجة ما رأيتها عليها قبل ذلك. ولما طلبت منها أن تحدثني عن الإِسلام، راحت تقصّ عليّ حياة رسول الإِسلام، في حبّ شديد وعشق متميز، وكانت تبكي كثيراً وتتحدث من خلال دموعها، عن الصعاب التي لاقاها رسول الله، من أقرب الناس إليه، وهو مصمم على أن يتمّ الرسالة بعد أن حملها أمانة من خالقه وخالق الكون كله.

١٠٤

وكثيراً ما كنت أخلو بوصيفتي لساعاتٍ طويلة في غرفة مكتبي في قصرنا الكبير، حيث الجناح الخاص بي، لنقرأ معاً عن الإِسلام ورسوله، وكانت سعادتي لا توصف، وأنا أقرأ وأعرف عن الإِسلام، ما لم أكن أعرفه من أعظم الصفات وأجل العادات، وأكرم السلوكيات للإنسان في حياة مليئة بالماديات المسيطرة على العقول والقلوب.

وتقول «كارين»: أسرّت لي وصيفتي ذات جلسة بأنها تتمنى أن تتزوج مسلماً، وتؤدي معه فريضة الحج، وتزور مصر، لتتعلم هناك اللغة العربية، وتعرف عن الإِسلام أكثر، لأن الإِسلام باللغة العربية التي نزل بها كتابه يعطي الإنسان مفاتيح كثيرة للتعرف على دين الله الخاتم.

البعض الذي حضر إعلان إسلامي تعرّف على الإِسلام ورسوله، وكثير منهم دخل الإِسلام

وأسرعتُ في طلب معلِّم يعلمني اللغة العربية ومعي وصيفتي، لنعرف معاً الإِسلام أكثر، ولم يَعجَب والداي من طلبي بل لبياه على وجه السرعة. واستغرق تعلمنا اللغة العربية وقتاً طويلاً، لأني كنت أدرس التاريخ والآداب في الجامعة، وما إن أنهيت دراستي، حتى أتقنت أنا ووصيفتي - أو صديقتي أو أختي - كما يحلو لي أن أناديها حالياً، أتقنتُ أنا وأختي اللغة العربية قراءة وكتابة وتحدثاً، لأني وأختي كنا نتحادث بها في فخر أمام أسرتي وأصدقائي، لدرجة أن كثيرين حاولوا تعلم اللغة العربية ليعرفوا ماذا نقول وفيم نتحدث بها؟

وكان الإِسلام باللغة العربية أشدّ وضوحاً وأكثر فهماً، فقد قرأتُ القرآن الكريم وتفسيره، وفهمت وعرفت أن القرآن هو الكتاب الذي بدأ نزوله بالعلم والمعرفة، لأن الخالق خاطب رسوله الكريم قائلاً:﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِی خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾ اقْرَأْ وَرَبُّکَ الأکْرَمُ ﴿٣﴾ الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿٤﴾ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ ﴿٥﴾ ﴾ [العلق: ١ -٥].

إنها كلمات تحثّ على التعلّم والمعرفة والتعرّف على العالم بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات ليمحو المتعلم السلبيات وينمي الإيجابيات ويبحث عنها ليقدمها إلى الناس الذين لا يعرفون.

١٠٥

وانطلاقاً من التعلّم والمعرفة، عرضتُ إسلامي على الناس، في حفل أقامه والداي في القصر ذات مساء ومعي أختي - وصيفتي - وقد كانت مفاجأة للجميع أن أعلنتُ أن الله واحد لا شريك له، وأنه خالق السماوات والأرض وما بينهما دون شريك له في الخلق، وأن الله الواحد، لم يلد، ولم يولد، وليس له نظير في أي شيء مخلوق بين الأرض والسماء، وعلى الأرض، وفي البحار والمحيطات، وأعلنتُ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء، وإمامهم الذي اختاره الله واصطفاه ليكون دينه الإِسلامي العظيم مبلغاً على يديه إلى الناس جميعاً.

وتضايق أبواي من إسلامي، ولكنهما لم يملكا أمام إسلامي وإصراري عليه إلا الاستسلام لرغبتي، ربما تكون نزوة وأعدل عنها، وبالفعل دفعا إلى زميلاتي وزملائي، في محاولات يائسة خاسرة من جانبهم لأعود إلى ما هم عليه، لكن إسلامي كان قوياً وما زال يزداد قوة مع الأيام.

ولكن بعض الذين حضروا إعلان إسلامي تعرّف على الإسلام ورسوله، وكثيرٌ منهم دخل الإسلام وهو راضٍ عن نفسه، سعيد بتحوّله إلى هذا الدين العظيم، لأن الإِسلام يملك كل العادات الطيبة التي لو سلكها الإنسان لعاش حياة نظيفة خالية من كل أمراض النفس والبدن، ويجب أن يستيقظ الناس من غفلتهم ويتعرفوا على الدين الخاتم ويعرفوا سيرة رسوله العظيم (ص) الذي أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، لينهلوا من سيرته الخلق الحميد، الذي كان سلوك الرسول الأعظم منذ أن عرف كيف يمشي ويتحرك ويتكلم، فهذا الرسول الأعظم (ص) لم يرتكب في حياته إثماً يُحسَب عليه، فقد أعطت حياته وسيرته التي ما زالت مستمرة، عطاء لا ينضب من الكمال في كل ما يهمّ الإنسان السوي، ومن يقرأ سيرته العظيمة ومسيرة الدعوة في عصره منذ أن جهر بها على الناس، يجد أن محمداً (ص) كان مثالاً ومثلاً في الجهاد في سبيل ترسيخ قواعد الإِسلام وإعلاء رايته لتظل خفاقة إلى أن تقوم الساعة.

١٠٦

الذين لا يسعون لتعريف الناس بالإسلام عليهم إثم كبير.

وإني لأعجب من المسلمين الذين يدينون بهذا الدين العظيم ولا يتخذون رسول الله (ص) قدوة في ترسيخ الدعوة إلى دين الله الخاتم، بالسلوك الإِسلامي الحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة التي لو حدثت، فستؤتي ثمارها مسلمين جدد، ينضوون تحت لواء الإِسلام، وهنا يضرب المسلمون الوثنية التي يعيشها الناس ونحن في نهاية القرن العشرين، حيث تفشت الجاهلية، بوثنية وعبادة جديدة تحمل أسماء التطور والتقدم والتجديد وما شابه ذلك من مسميات جعلها الناس عبادة لهم. ومع الأسف نجد المسلمين اليوم يقفون أمام كل هذا دون أن يفعلوا شيئاً، وهذا ما نأخذه عليهم. وأقول إنني لست ضد التطور والتقدم والتجديد، لكنني لا أنصبهم آلهة جدداً، والله الواحد دعانا إلى القراءة والتعلّم والتعرّف، وقد تحدث القرآن عن كل العلوم الحديثة في نهاية القرن العشرين في سوره وآياته وتنبّأ بمستقبل الناس في كل زمان ومكان، بمعنى أن العلم الحديث هو تفسير واقعي لما جاء في القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرناً من الزمان.

وتقول «كارين جونتر»: «إن الله الواحد (سبحانه وتعالى) لم يخلق الدنيا عبثاً ولا خلق عقل الإنسان إلّا ليفكر وينقل الإنسان من أجواء المادة إلى آفاق الروح المرتبطة بالتفكير في خلق الله وهدايتهم إلى الطريق السوي. واستخدام العلم الحديث في تطويع النفس وهدايتها إلى حياة لا يخلو من الاعتراف بأن الله واحد وأنه جلّت قدرته، أعطى العقل للإنسان كي يؤكد في كل مكتشفاته أن هناك إلهاً واحداً لا شريك له، هو الذي خلق هذا العقل وجعله يعمل ليصل إلى ما وصل إليه، وعلى المسلمين أن يجدوا الطريق إلى تأكيد ذلك ليترسخ في عقولهم وعقول الآخرين وإن أنكروا انطبق عليهم قوله (سبحانه وتعالى) في كتابه الكريم:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْ‌جَعُونَ ﴾ [المؤمنون: ١١٥]،﴿ یُرِیدُونَ أَنْ یُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَیَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ کَرِهَ الْکَافِرُونَ ﴿٣٢﴾ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَى الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ ﴿٣٣﴾ ﴾ [سورة التوبة ٣٢ - ٣٣].

١٠٧

وحديث رسول الله (ص) واضح وصريح إذ يقول:«الناس نيام حتى إذا ماتوا انتبهوا» .

والذين يتمادون في غيّهم ولا يعرفون الإِسلام، عليهم إثم عدم المعرفة.

أمّا الذين لا يسعون لتعريف الناس بالإِسلام، فعليهم إثم أكبر. وأحمد الله تعالى أن هداني إلى الإِسلام، أعمل به وأطبقه في سلوكي مع أبنائي وزوجي المسلم ومع أصدقائي من المسلمين وإخواني منهم، وأقوم بتعريف غير المسلمين به حتى لا أصير آثمة.

بقي أن تعرف أن اسمي تحوّل ليصير: «كريمة».. وأرجو أن أكون عند الله مكرّمة إن شاء الله (سبحانه وتعالى)

السيدة الإنكليزية برينس هولتن:

«لم أكن مقتنعة بما نشأتُ عليه، وشدّني الإِسلام فاعتنقته»

السيدة برينس هولتن، إنكليزية المولد، أنهت دراستها الجامعية في كندا. انتقلت بين عدّة أديان ثم اعتنقت الإِسلام قبل أكثر من عشرين سنة. وهي حالياً متزوجة من رجل مسلم وتعيش في مجتمع إسلامي.

وفيما يلي نصّ مقابلة أُجريت معها، تتحدث فيها عن ظروف إسلامها ورأيها ببعض الأوضاع الإِسلامية.

س: هل لك أن تخبرينا عن الظروف والدوافع التي قادتك نحو الإِسلام؟

ج: منذ طفولتي كنت أواظب على الحضور في الكنيسة كما هو معتاد لدى العائلات المسيحية. ثم أصبحتُ معلمة في الكنيسة، مع أن تعاليم ومحتوى الإنجيل لم يقنعاني. تركتُ الكنيسة واتجهتُ نحو أديان أخرى كالهندوسية والبوذية.. كذلك الإِسلام.

إن المشكلة في المجتمع الغربي أن أحدنا يقرأ عن الإِسلام في كتب لا تقدم المضمون الصحيح للإِسلام، يتلاعب الكتّاب بالكلمات لتشويه المعلومات. آنذاك تخليتُ عن الأديان وفي الجامعة التقيتُ بطلبة من جميع أنحاء العالم، كان البعض منهم مسلماً، فكنت أسألهم عن الإِسلام. كانت السخرية من العرب والمسلمين آنذاك في أوجها في المجلات والصحف الغربية، حيث كان الإعلام الغربي يصوّرهم على أنهم حمقى وأغبياء، وأن في إمكان يهودي واحد أن يضلل ألف عربي.

١٠٨

على كل حال كنت أحادث من يفهم الإِسلام، ويمثل المسلمين بصدق، فكانوا يقدمون لي معلومات جيدة ومعقولة، كان هؤلاء الأفراد أذكياء ويظهرون الاهتمام بأسئلتي، كانوا يزودونني بكتب حررها إنكليز مسلمون. لم أفكر في البداية أن أصبح مسلمة، لأني كنت أعلم أن عائلتي وزملائي سوف يعارضونني ويسببون لي المتاعب، لذا فقد وضعتُ تلك الكتب جانباً وأبعدتها عن متناول يدي، غير أنني لم ألبث أن أسرعتُ في العودة إليها.

اعتنقتُ الإِسلام بعد أن حصلتُ على الشهادة الجامعية، وحصلتُ على عمل في مدينة تورنتو - كندا.

لم يكن الأمر سهلاً.. كان أصدقائي يسخرون من معتقداتي الإِسلامية، غير أني كنت متسامحة وحافظتُ على علاقتي الاجتماعية بهم.

أثناء شهر رمضان لم أكن أعرف كيف أنظم أوقات السحور والفطور، وتدهورت صحتي، فسارع زملائي في العمل إلى استدعاء الطبيب، ومنذ ذلك الحين تغيّرت معاملتهم لي نحو الأفضل، فكانوا يزودوني ببعض البسكويت عند الإفطار، ولا يزال هؤلاء الطيبين أصدقاء لي.

س: وماذا عن حرية المرأة في الغرب، وحالة المرأة المسلمة في المجتمع الإِسلامي؟

ج: لقد حصلت المرأة على كثير من حقوقها في السنوات الأخيرة، وقد اقتحمت جميع حقول المعرفة. يتحدث الغرب باستمرار عن الحرية، غير أنه لا يتحدث أبداً عن الواجبات والالتزامات، لا شكّ أنه من الأفضل للمرأة أن تتعلم وتحقق مستوىً اجتماعياً جيداً، وبإمكان المرأة أن تعمل في الطب والهندسة والأعمال المناسبة.

وليست المشكلة في أن تعمل المرأة أو لا تعمل خارج البيت. المشكلة أنها قد خُدعت وضُللت واغتُصبت.

في المجتمع الرأسمالي تتسابق الشركات للحصول على أعلى الأرباح، فمن الذي يشتري بضائع هذه الشركات؟ إنه الرجل، المرأة والطفل.

١٠٩

المرأة تستهلك نقود زوجها من أجل نفسها، والشركات تشجع المرأة على شراء حاجيات تافهة، وبدورها المرأة تتابع آخر ما تقدمه دور الأزياء ومصانع التجميل وشركات السيارات... المرأة بعد ذلك تفكر أين ومع من ستقضي هذا المساء؟ وتزداد أرباح الشركات.. لا يمكن تشجيع أي شيء في الغرب إن لم يكن مربحاً... هكذا انتشر الفساد والانحراف انتشار النار في الهشيم، وتحطمت الأسرة وشُرد الأطفال..

لقد نتج هذا الوضع بسبب الحملات الإعلامية والإعلانية التي لا تفرِّق بين ما هو صالح وجيد، وبين ما هو مفسد ومضلل..

س: وما رأيك بوضع المرأة المسلمة؟

ج: أعتقد أن المرأة المسلمة تعاني في مجتمعها الإِسلامي من المصاعب حتى من هؤلاء الذين يوافقون على زيها الإِسلامي، أراهم يوافقون بصعوبة على عمل المرأة خارج البيت.

كذلك تعاني المرأة من تربية أطفالها في مجتمعات غير دينية، حيث الإعلام وأجهزة التلفاز ومناهج الدراسة تصبّ في رؤوسهم كل ما يناقض معتقداتهم الإِسلامية. لذا على المرأة المسلمة أن تكون واعية فكرياً وعلى معرفة تامة بكل ما هو حلال أو حرام، فتوجّه أطفالها وفق ذلك.

س: كيف يمكن للمرأة أن تؤدي دوراً إيجابياً في المجتمع؟

ج: بإمكان كل فرد أن يلعب دوراً إيجابياً في المجتمع، وبإمكان المرأة المسلمة أن تربي أطفالها وفق تعاليم الشريعة الإِسلامية، أمّا أنا فأحبّ مطالعة الكتب العلمية والاجتماعية، وأوّد أن أقوم بدور إيجابي في خدمة الإنسانية المعذبة، لا سيما المعوّقين.

إن المعوَّقين بحاجة كبيرة إلى المنظمات التي ترعى شؤونهم، قد لا يبدو هذا العمل منتجاً حيث لا يظهر التحسّن عادة.. غير أنه في العالم الثالث، ومع كثرة المعوَّقين بسبب الحروب الإقليمية - العدوانية، لا نجد أثراً لمثل هذه المنظمات إلا نادراً، في حين أن عدد المعوَّقين في ازدياد يوماً بعد يوم.

١١٠

قد لا يعاني المعوَّق من فقدان يد أو فقدان ساق، بل قد يعاني من اضطراب نفسي أو من رصاصة مستقرة في كبده.. يشعر المعوَّق أنه دائماً عالة على أسرته، وقد يؤدي ذلك الشعور إلى مزيد من الاضطرابات النفسية.

إن بإمكان مثل هذه المنظمات أن تساعد كثيراً في هذا المجال، ويجب علينا كمسلمين أن نفعل ما بوسعنا لمساعدة هؤلاء.

«تاتانيا فاليريفنا كريفيتش جابر» الأوكرانية:

هكذا شرح الله صدري للإِسلام وأوصلني إلى دروب السعادة الحقيقية

يشهد الإِسلام اليوم انتشاراً ملحوظاً في البلدان الأجنبية شرقاً وغرباً، وذلك مع ازدياد الوعي على مستوى الفكر والعقيدة، مع نشاط الدعاة والكتّاب والمفكّرين الملتزمين بالإِسلام. وفي هذا العدد نستعرض نموذجاً جديداً يتمثّل في إسلام امرأة أوكرانية استطاع الإِسلام أن يستنقذها من براثن الإلحاد والنظام الشيوعي، وذلك بمساعدة زوجها المهندس المسلم الذي التقاها في «كييف» عاصمة أوكرانيا. وهي تُبيّن لنا في هذه المقابلة التي أجرتها معها المجلة في منزلها الزوجي في منطقة الشياح (جنوبي بيروت) كيف صار الإِسلام بالنسبة إليها حدثاً رائعاً غيّر الكثير من معالم حياتها، وملأ نفسها بسعادة لا توصف.

س: نرجو إعطاءنا أولاً فكرة عن محيطك ونشأتك قبل اعتناقك الإِسلام؟

ج: أرحّب بكم وبمجلة «نور الإِسلام» أولاً، وأجيب على سؤالكم الكريم بأنني أدعى تاتانيا فاليريفنا كريفيتش جابر، وُلدت في أسرة ذات مستوى ثقافي جيد، فقد كان أبي يعمل مسؤولاً في مصنع لقطع السيارات، وكانت أمي تعمل محاسبة في شركة للحاسبات الإلكترونية، والدي من روسيا البيضاء ووالدتي أوكرانية وجدي يوغوسلافي، وجدتي بولونية، وقد جمعت بذلك بين أصول مختلفة، وقد وُلدت في «كييف» عاصمة أوكرانيا سنة ١٩٧٠م، وأنا البنت الكبرى لعائلة من ثلاثة أولاد، وكانت علاقتي بأسرتي حميمة، وكنا نعيش كأي أسرة شرقية، تعتنق المذهب الأرثوذوكسي كدين تقليدي، حيث يذهب أكثر الناس هناك إلى الكنيسة انسجاماً فقط مع التقاليد والعادات، وليس بسبب الإيمان بتلك الشعائر والطقوس، لأن المفاهيم الماركسية كانت قد أوجدت جواً معادياً لأي عقيدة دينية!

١١١

وبموجب تلك الأنظمة التي كانت ساندة، كان يحظّر على الطلاب المسيحيين من الشبيبة الروسية أن يذهبوا إلى الكنيسة لغرض العبادة، بل كان يسمح لهم بزيارتها على اعتبار أن الكنائس هي كالمتاحف، أماكن للزيارة والاستطلاع وليست للصلاة.

س: وماذا عن المجتمع الذي نشأت فيه ونظرته للدين؟

ج: إن المجتمع الذي نشأت فيه كان مجتمعاً ماركسياً - لينينياً، تقوم النظرة فيه على دكتاتورية البروليتاريا، وكان الحزب الشيوعي يوجّه الشبيبة (الكومسومول) توجيهاً خاصاً يصنع منهم ماركسيين فيما بعد.

وقد ساد هذا الطابع وشمل كل جوانب الفكر والمجتمع حتى الفن، وكانت التربية تقوم على الإلحاد، وكنت واحدة من بين آلاف الأعضاء المنتمين إلى حركة الشبيبة (الكومسومول) وكنت أعمل على نشر المبادىء السائدة آنذاك لدى النظام قبل تعرّفي إلى الإِسلام.

وقد كانت الثقافة التعليمية في المدارس تستخدم الأيديولوجية القائمة على أساس الإلحاد، ولم أكن أعرف إلّا هذه التعاليم التي تدور حول ماركس ولينين والنظام الشيوعي الذي كان يتحتم علينا الإخلاص له. وكنا نتلقى بعض المعلومات الدينية التي تنظر إلى الدين كحركة اجتماعية مرّت وعبرت، كشكل من أشكال الوعي الاجتماعي، هذه نقطة أساسية أولى. والنقطة الثانية تقوم على اعتبار أن المادة هي في المقام الأول ثم يأتي الوعي الذي هو في نظرهم، شكل من أشكال المادة.

وكانت الشبيبة الروسية تعيش في غمرة الانبهار بالإنجازات التي حققتها الشيوعية في مدى نصف قرن من عمر الثورة البولشيفية، التي حدثت سنة ١٩١٧ في بداية هذا القرن، والتي بدأت معها الدولة منذ الستينات تسير نحو الصدارة لتصبح دولة كبرى في مقابل الغرب، كان لها أثر كبير في محيطها وفي غيره.

١١٢

وهي اليوم تشهد انحساراً نتيجة لظروف موضوعية تتعلق بمصداقية المبادئ التي قامت عليها، والتي ثبت أنها لم تكن إلا شعارات مؤقتة وزائفة، قامت في ظروف تعتبر الأسوأ في العالم المعاصر، مما أتاح لها أن تحقق ذلك النجاح والازدهار، وبعد انكشاف زيف تلك الحضارة المادية والخدعة الشيوعية كان السقوط المدوّي الذي نعيش آثاره وتجربته الجديدة، وقد ترافق ذلك مع تنامي الصحوة الإِسلامية التي ما زالت تمتد وتتوسع إلى محيط أبعد. وقد حلت اليوم بنظري النظرية الإِسلامية محل النظرية الماركسية في مواجهة الغرب ورأسماليته.

س: هل نستطيع أن نعرف الدوافع والظروف التي قادتك لاعتناق الإِسلام؟

ج: نعم، كنت أشعر منذ البداية في ظل النظام الماركسي بثغرات على مستوى الفكر والعقيدة، وكانت هناك بضعة أسئلة فطرية تلحّ عليّ بإصرار، ولا أجد لها جواباً، وبالإضافة إلى دوافع الفطرة التي هيأتني إلى دخول الجو الجديد، كان تعرفي على نموذج جديد في الفكر من خلال تعارفي مع زوجي، وقد ساعدني ذلك على الخروج من واقعي الحائر، فكان اللقاء معه نقطة بداية للدخول إلى أجواء الإِسلام، وكانت هذه الفرصة مهمة، كونها ساعدتني على مراجعة آرائي السابقة وتمحيص الثقافة والأفكار التي تربّيت عليها.

وبدايةً كان التساؤل عن أصل الإنسان (النظرية الداروينية) عن النشوء والارتقاء، مسيطراً عليّ، والسؤال المحور كان، هل المادة أولاً أم الوعي، وأيهما ينتج عن الآخر؟ وذلك يدور في إطار نظرية أصل الأشياء أو مبدأ الخلق والتكوين، وذلك بحثاً عن العلة الأولى الخالقة للكون، أهي المادة وتناقضاتها، أم أن هناك قوة فوق المادة؟ من هنا بدأت رحلتي مع الإيمان والعقيدة حيث وصلت إلى قناعات كافية وإيمان راسخ عن طريق الإجابات المقنعة التي يقدّمها الإِسلام في هذا المجال وسواه.

س: ما كان موقف أسرتك وأصدقائك من تحوّلك هذا؟

ج: أول الأمر كانت ردود الفعل سلبية لدى أهلي، نتيجة الدعاية السلبية الموّجهة عن الإِسلام في آسيا الوسطى وجمهوريات الاتحاد السوفياتي، وكذلك ما تعرضه الأفلام عن المرأة الشرقية المسلمة على أنها سلعة للبيع، وهي صورة قديمة غير صحيحة، يتداولها الإعلام الشيوعي، ولكن بعدما استطعت توضيح الصورة في أذهان أهلي وتبديد هذه الدعايات، تفهّموا دوافعي ورحبوا بفكرة الزواج من رجل مسلم.

١١٣

أما أصدقائي وأقربائي فقد بقوا على دهشتهم وتعجبهم من تحوّلي إلى الإِسلام ومن اختياري أن أعيش في مجتمع وطريقة مختلفين عما نشأتُ فيه وترعرعتُ عليه، ولكني آمل في يوم ما، أن يعوا ويتوصلوا إلى ما توصلتُ إليه.

س: ما هي المتغيرات الإيجابية التي تمت في حياتك بعد اعتناقك الإِسلام؟

ج: بعد اعتناقي الإِسلام شعرت براحة نفسية عظيمة، خصوصاً أنني بدأت أمارس الصلاة، وكذلك الصوم الذي فهمته كباعث ديني اجتماعي للتعاطف مع الفقراء، وقد وفرّت لي هذه العبادات شعوراً بالاطمئنان ودفعتني نحو التكامل الروحي والإنساني.

وبعد أن عرفتُ أن للحياة هدفاً وأن للكون خالقاً ومدبراً، تخلّصتُ من حيرتي ولم يعد هناك فراغ في حياتي على مستوى الفكر والعقيدة.

س: على ضوء تجربتك هل تقترحين وسائل جديدة للدعوة إلى الله؟

ج: يجب أن ندعو الناس إلى حوار فكري وعقيدي مهما كانت عقيدتهم ونظرتهم إلى الحياة، على قاعدة الاقتناع والبحث عن الحقيقة للوصول إلى قواسم مشتركة، خاصة مع أتباع الديانات السماوية الأخرى، وذلك مصداقاً للآية الكريمة:﴿ قُلْ یَا أَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى کَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئًا وَلا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿٦٤﴾ ﴾ [آل عمران: ٦٤] كما علينا أن نستفيد بشكل ذكي من وسائل الإعلام الحديثة، كي نعرض أفكار الإِسلام ومفاهيمه على أكبر مجموعات ممكنة من مختلف القوميات والشعوب.

س: ما هي نظرتك إلى واقع المسلمين اليوم؟

ج: أرى أن أكثر المسلمين يعيشون القشور في حياتهم ويتركون جوهر الإِسلام، وهناك الكثير ممن اكتفوا بالنظرية وتركوا التطبيق، ولم يحولوا ما أخذوه إلى واقع عملي وإيجابي، بالإضافة إلى أسباب وعوامل خارجية أخرى، تؤدي إلى ضعف التزام قطاعات كبيرة من المسلمين بدينهم، غير أن ذلك يجب أن لا يمنع الواعين من العمل الدؤوب لتحسين واقع المسلمين وتقوية الدين في نفوسهم، كذلك أشير إلى ضعف وحدة المسلمين، هذه الوحدة ضرورية لا من أجل خوض الحروب، بل من أجل لعب دور حضاري وفكري واسع ومؤثر، فالإِسلام لم يقم على الحروب كما يدّعي الغربيون، بل كانت تلك وسيلة للدفاع عن الرسالة وكيان الأمّة.

١١٤

س: وما هي نظرتك إلى واقع المرأة المسلمة اليوم؟

ج: يجب على المرأة المسلمة أن لا تنغلق على نفسها، وهي حينما ترتدي الحجاب إنما تستعيد حريتها الحقيقية، فهي إذا فهمت الإِسلام على حقيقته أصبحت عصية على المحاولات الخبيثة العاملة على انحرافها وضياعها، وبالتالي على إضعاف الأمّة والمجتمعات الإِسلامية، ولذلك يجب العمل بكل جهد لصيانة الجيل المسلم وخصوصاً الفتيات والمرأة بشكلٍ عام. إن المشكلة الرئيسية هي مع المسلمات قبل غيرهن، وإني أدعوهن للعودة إلى الينابيع الإِسلامية الأصيلة، كي يشاركن بشكل فعال في رقي مجتمعاتهن، وإنني أثمّن نشاط الحركات النسائية الإِسلامية الفعالة، وأطلب دعمهن ليتمكنَّ من تحقيق أهدافهن العزيزة.

س: هل من كلمة توجهينها عبر المجلة؟

ج: أشكر مجلة «نور الإِسلام» التي أتاحت لي الفرصة، وأفسحت لي المجال ولكل من يريد أن يتحدث عن تجربته الشخصية في طريقه للهداية، وإنني أدعو المسلمات المهتديات خصوصاً كي يتحدثن عن تجربتهن في الاهتداء إلى الإِسلام، من أجل إغناء أسلوب الدعوة وإيضاح الطريق أمام الأخريات.

كما أدعو الرجل المسلم إلى أن يعطي المرأة فرصة التعلّم والثقافة الصحيحة كي تنفتح على المجتمع وتتمكن من التعرّف على نقاط الوعي، لأن المرأة هي دعامة المجتمع، وعلى عاتقها تقع مسؤولية التربية والإعداد.

كما أدعو علماء الدين والهيئات الدينية الإِسلامية كي يحولوا الدين من مجرد دعوة جامدة، إلى دين حي يغتني بالفكر والواقع ويغنيهما، وأدعوهم إلى أن يرتفعوا إلى مستوى الرسالة الحضارية الإنسانية التي جاء بها الإِسلام، والعمل على إزالة الخلافات فيما بينهم، لأنها تؤثر على حركة التبليغ وسمعة الإِسلام، وهم يتحملون بذلك مسؤولية شرعية كبيرة.

١١٥

الأخ المسلم الفرنسي لوران ف. «علي عبد الله»

اخترت الإِسلام طريقاً إلى آخر حياتي بمحض إرادتي ووعيي.

أسعى لأربح نفسي وآخرتي من خلال قيامي بواجباتي تجاه نفسي وعائلتي ومجتمعي.

«علي عبد الله» كما أحب أن يسميَ نفسه بعد اعتناقه الإِسلام. هو شاب فرنسي «غربي» آخر ينضم عن اقتناع وحماس إلى القافلة المتعاظمة من المهتدين إلى الدين الحق. لبى «علي» نداء الفطرة الإلهية الداعية إلى التوحيد الخالص والتصديق بكتب الله تعالى ورسله بعد طول تأمل وتفكير، وبعد تجارب وممارسات سلوكية وسياسية واجتماعية عاش خلالها المعاناة بسبب مناخات الحضارة الغربية المتفلتة، والتي تقود إلى الضغوط النفسية المريرة في الوقت نفسه.

ينعم «علي» حالياً مع عائلته المسلمة التي كوَّنها في لبنان، في واحة الإِسلام وسماحته، منسجماً مع قناعاته، ومكافحاً في مجال تربية النشئ المسلم لتحصينه بالعلم والأخلاق.. في رحاب جمعية المبرات الخيرية، حيث يعمل مشرفاً على مادة اللغة الفرنسية، التقته «نور الإِسلام» فكان هذا الحديث الشيق والمعبر.

س: مع الترحيب بك على صفحات مجلة «نور الإِسلام»، نرجو في البداية إعطاءنا لمحة عن نشأتك وعن المحيط الذي ترعرعت فيه؟

الاسم والنشأة: إسمي الآن هو علي عبد الله وقد وُلدت في فرنسا في المنطقة الشمالية الشرقية على الحدود مع بلجيكا، تعلمتُ في مدارس المنطقة حتى الجامعة، حيث أنهيتُ السنة الثانية في العلوم الطبيعية.

أمي وأبي مسيحيان ملتزمان، ويعودان في أصولهما إلى إيطاليا، فقد كانا يركعان حين يشاهدان البابا على التلفزيون، لي منهما أخوان وأختان، ويرى والدي وجوب أن أنظر إليه بوصفه مثلي الأعلى.

كنا نذهب سوياً إلى الكنيسة، فقد كنت مسيحياً ملتزماً وأقوم حسب الطقس الكنسي مع زميل لي آخر بمساعدة خوري الكنيسة في المهمات الدينية، وبقيت على هذه الحال حتى الرابعة عشر من عمري، بداية سن المراهقة.

١١٦

كانت الدنيا عندي جميلة لأني كنت أصدق كل ما يقال لي، ولكن بدأت تزدحم عندي التساؤلات في أمور كثيرة، منها على سبيل المثال: كيف تكون مريم هي أم الله؟! وكيف يكون لله أم؟!.

وكنت أراقب كلام خوري الكنيسة، فكان فعله مخالفاً لأقواله، وصارت عندي ردة فعل تجاه الدين والكنيسة والإله والمجتمع، فنبذت كل ذلك وتمردت عليه، وصرتُ أبحث عن العدالة الحقيقية، لأني كنت أرى أن المجتمع غير عادل، فدخلتُ في تنظيم خاص بالشباب الشيوعي وهو غير الحزب الشيوعي الفرنسي.

س: إلى ماذا قادك هذا التفكير وهذا المنحى الجديدان؟

مرحلة القلق والاضطراب والبحث: بين عمر ١٤ وسن ١٩ جرّبت تقريباً كل شيء، ففي الوقت الذي كنت أنتقل من تنظيم سياسي إلى آخر، وأمارس نشاطاتي التنظيمية ومهماتي، كنت أمارس سلوكي كأي مراهق أوروبي يتعاطى المخدرات وأنواع الخمور وممارسة الجنس المحرّم، وكنت أتدرج في هذه الأمور من الأخف إلى الأشد، ولولا إسلامي لأصبحتُ مدمناً، ولانتهى بي الأمر إلى الانتحار أو الموت أو القتل.

تجارب سياسية: لقد جرّبتُ معظم النشاطات السياسية اليسارية، فقد جرّبتُ العمل مع الشيوعيين الذين تركتهم فيما بعد إلى التروتوسكيين، وقد بدأتُ من الوسط فانتهيتُ إلى أقصى اليسار المتطرف، حيث كنّا في كل فرنسا حوالي ألف شخص، وكان دورنا أن نقوم بأعمال عبثية، واكتشفت أن كل مَنْ أعمل معهم كانوا يستغلونني، وأيقنت أن كل شعاراتهم هي استغلالية وليست صادقة.

واقتنعتُ أخيراً بفكرة الحرية، أي أن أكون حراً وأعمل ما أريد كإنسان من دون الارتباط بجهة سياسية أو تنظيمية، وركّزت جهدي على فكرة مفادها «أن المجتمع الفرنسي نائم وغافل، وعليّ أن أوقظه من سباته الذي تسببت به السياسة غير العادلة والمخدرات»، فكنت أسعى للتخريب ولم يكن عندي تصوّر لما سيكون بعد ذلك.

١١٧

وكان شعاري في هذه المرحلة العمل الفرديAnarchie ، أي ليس هناك سلطة ولا دين ولا إله ولا أي شيء آخر، لا شيء غير التخريب من أجل التخريب، ويوجد من هذه الفئة (اليوم وسابقاً) في أوروبا كثيرون في أوساط الشباب، وهذا الطريق يؤدي في الغالب إلى الانتحار؛ ولكن بعد فترة من الزمن تتجاوز سني المراهقة والشباب الأول، يتراجع هؤلاء عبر التنازل والانخراط في المجتمع كالآخرين.

كل هذه الأمور (السياسية والسلوكية) كانت تتم عندي مترافقة متناسقة، وقد كان التنوّع والترقي في كل أمر، والانتقال فيه من مرحلة أدنى إلى مرحلة قصوى، كل ذلك بحثاً عن شيء ينقصني وسعياً وراء سعادة وهمية لا أجدها، لا في نفسي ولا في سلوكي، ولا في المجتمع ولا في كل ما حولي.

س: ما هي الخطوة الأولى التي قادتك نحو الإِسلام؟

محطة استراحة: في النهاية وصلتُ إلى نقطة الهاوية، بعد أن جرّبتُ كل شيء، وأدركتُ أن كل خطوة إلى الأمام هي هلاك، وكنت رغم صغر سني (١٩ سنة) وخبرتي المكثفة في السلوك والمجتمع، أعيش ذهنية إنسان عمره سبعون سنة، وكانت تراودني فكرة الانتحار كل يوم.

في هذه المرحلة كنت أطالع كتباً عن الإِسلام، فقلت لأجرب الإِسلام كبقية التجارب، ولو كنت غير مقتنع في البداية، لكنني اعتبرت أن هذا هو القطار الأخير فلألحق به ولتكن تجربة إلى فترة.

تدخّل عالم الغيب: حينما أسلمتُ، عشتُ فترة اضطراب لمدة أسبوع أسأل فيها نفسي: هل صحيح أنا مسلم؟! هل أنا منافق؟! أو ما زلت ملحداً؟!.

وهنا أحسست بالتدخل الإلهي ولطفه حين تساءلتُ: هل يمكنني وأنا المسلم ترك جميع المحرّمات التي أتعاطاها على أنواعها، في الوقت الذي لا يستطيع مدمن التدخين أن يترك السيجارة لمدة ثلاثة أيام؟!.

١١٨

ولكني وجدتُ عزيمة وإرادة قوية، وأحسستُ بالرعاية الإلهية المباشرة، فتركتُ جميع المحرّمات دفعة واحدة، وحصلت عندي علاقة خاصة مع الله (سبحانه وتعالى) ، وصرتُ كلما انحرفتُ أو قصرتُ أو عدلتُ عن القصد في حياتي، تحصل معي بعض القضايا، أشعر من خلالها، أنها تأديب من الله لأبقى في جادة الصواب، وتكررت معي حوادث بالمئات كانت عامل تنبيه وإيقاظ لي، وأحسست إحساساً شديداً بالمسؤولية، بعد أن كنت لا مبالياً أعيش ليومي ولا أهتم لغدي.

س: سؤالنا التقليدي كيف كانت ردة فعل أهلك وأصدقائك ومحيطك بعد إسلامك؟

ردة فعل الأهل والمجتمع: حينما أسلمت ذهبت إلى أحد المساجد لأشهر إسلامي وأتعلَّم بعض الأحكام، فلما دخلت وعرضت على الموجودين (وكانوا عرباً) رغبتي في الدخول في الإِسلام رفضوني وطردوني، ولم يقبلوا مني، وقالوا لا نتصور مسلماً غير عربي وأنت غير عربي.

تركتهم وذهبت إلى مسجد للأتراك (وهم كما تعلمون مسلمون غير عرب) استقبلوني باحترام ورحبوا بي وعلّموني بدايات الإِسلام، من الشهادتين إلى الصلاة والصوم وباقي العقائد والفرائض، ثم عرضوا عليّ مجموعة أسماء لأختار لي إسماً منها، فوقع في نفسي اسم علي واخترته على غيره من الأسماء.

ردة فعل الأهل: حينما علم أهلي بإسلامي ورأوا امتناعي عن شرب الخمر وتعاطي المخدرات ومحرمات اللحوم والنساء، ظنوا أن المخدرات قد ضربت دماغي وأني أحتاج إلى طبيب نفسي، واعتقدوا أنني من المستحيل أن أستمر على ديني الجديد، وأن الإِسلام ليس إلا موضة جديدة أماشيها لفترة ثم أتركه إلى غيره.

وبحمد الله فقد استمريت على عقيدتي وتغيّرت أخلاقي معهم، وصرتُ أتعامل معهم بحسب الأخلاق الإِسلامية، من البر وحمل الهدايا، وكانوا يظنون ذلك طمعاً في شيء أريده منهم حسب العادات الغربية، ولمّا تأكّد أهلي من التزامي بالإِسلام قاطعوني وامتنعوا عن مساعدتي بالمال، ولكن ذلك لم يؤثر عليّ، إذ كنت أعيش وحدي وأحصِّل نفقات معيشتي وأتابع دراستي.

ردة فعل الأصدقاء: بعد أن علم أصحابي وزملائي بإسلامي انفضوا من حولي كما تهرب العصافير من أول صوت مخيف.

١١٩

وكانت الفتيات يتندَّرن عليّ بعد أن أسلمتُ، ويهربن منّي ويتنادين عليّ للضحك والسخرية، ولم أجد أي صديق من حولي، فكلهم تركوني لأن الصداقة في المجتمعات الغربية هي أن تنخرط في أجوائهم اللاهية العابثة من تعاطي الجنس والخمور والمخدرات... الخ.

وهنا لا بدّ من إبداء ملاحظة عن الإعلام الغربي ودوره في تشويه صورة الإِسلام والمسلمين، خاصة ما يجري من سلبيات في المجتمعات الإِسلامية تعمل على تضخيمها وسائل الإعلام، فالمسلم في نظرهم متخلف، جاهل، إرهابي، يحب سفك الدماء، ويحب النساء... الخ.

ولقد حدثت معي حادثة طريفة، إذ جئت مرة لزيارة أهلي فوجدتُ والدتي قد أخفت السكاكين، وفتشت عن سكين لأقوم بتقطيع بعض الفاكهة، فلم أجد، فسألت والدتي، قالت خبأتها عنك حتى لا تقوم بقتلي، لأنكم أنتم المسلمين تحبون القتل وسفك الدماء، فقلت لها متعجباً ومتودداً هل من المعقول يا أمي أن أفعل ذلك وأنت والدتي ولك عليّ حق والله يأمرني بكل خير لك!

وهنا أضيف أنه في الوقت الذي لم يفهم أهلي بعض مقاصدي كنت أخطئ بحقهم، نتيجة بعض إرشادات المشرفين على توجيهي، حيث كانت توجيهاتهم ليست خاطئة فحسب، بل منافية لتعاليم الإِسلام والأخلاق النبوية السامية.

س: كيف جرت الأمور معك بعد اعتناقك الإِسلام؟

فترة ما بعد الإِسلام: بعد إسلامي، بقيت سنتين في فرنسا، وكانت لي علاقات مع طلاب الجامعات المغاربة والجزائريين والمصريين. وكانوا في غالبيتهم ممن يتميزون بمستوى الوعي السياسي والروح الثورية التي تنسجم مع نفسيتي، ولكني لم أكن أشعر بحالة روحانية معهم، فتركتهم ودخلتُ في التصوف: الطريقة الأولى كانت النقشبندية، والثانية المولوية، فقد كنت أشعر بروحانية عالية، وتدربتُ على الصبر والتواضع والزهد، كما كانت العلاقة عندي مع الله (سبحانه وتعالى) مميّزة، فطريقة التصوف كانت انقطاعاً عن المجتمع والدنيا، والمشكلة في هذا الأسلوب هو البعد عن المسؤولية في المجتمع، مع العلم أن إصلاحه هو هدف الإِسلام ولا يكون ذلك بالبعد عنه.

مشكلتان: سؤالان كانا يراودان فكري في هذه المرحلة ومشكلتان كنت أعيشهما:

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331