رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233460 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

١٥ ـ السيد جون فنيزات :

الكاتب الانجليزي السيد جون فينزات ، يقول : « محمد اعظم اولئك الذين يطلبون الخير للانسان ، وظهور محمد دلالة علىٰ احد اكمل العقول في جميع العالم ».

الىٰ هنا استمعتم الىٰ اعترافات بعض اكبر فلاسفة الشرق والغرب ، حول نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه المقدّس وقرآنه المجيد.

وان جميع كل ما قاله العلماء والمثقفون في حقّه يحتاج الىٰ مجال اوسع من الوقت.

مثل ما اعترف به السيد باير(١) ، والدكتور ماركسي فلومانس الامريكي واستاذ جامعة واشنطن(٢) المستشرق الالماني المعروف نولد(٣) ، والسيد جول لابوم ، العالم الفرنسي الذي كتب فهرساً لمواضيع القرآن بالفرنسية ، وسائر العلماء الذين تحدثوا عن نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الكريم.

ومن خلال نقل هذا الموجز من الاعترافات التي ذكرناها عن علماء ومستشرقي الشرق والغرب ، يتضح جلياً بانّه ليست قلوب المسلمين في الشرق هي الوحيدة المفعمة بحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هناك اُناس في قلب اوروبا المادية وامريكا الغارقة في زخارف الدنيا ، وصلهم شعاع من عظمة هذا الرسول الكريم

________________

(١) Bair

(٢) Washington

(٣) Nuldt

١٤١

فاتجهوا نحوه بقلوبهم ، علىٰ الرغم من سلطة البابوات والقساوسة وحراب الدول الاستعمارية ، وبالرغم من البيئة التي يعيشون فيها والمتطورة من الناحية المادية ، بحيث انهم لو كانوا غير مطلعين علىٰ تلك القوة الخلاقة وكيفية توالدهم وتناسلهم وتكوينهم ، لإدعوا الربوبية.

في تلك المجتمعات ، لو زرت المحافل العلمية لكبار العلماء ، لعرفت ان رجالاً كثيرون من اهل العلم والمعرفة ممن يحضون بأحترام الناس في جميع العالم ، يعشقون نبي الاسلام ، ذلك الرجل الاُمّي الذي كان يعيش ، قبل الف واربعمائة سنة في عالم مظلم وبين جاهلية لا توصف علىٰ رمال الحجاز.

لو وددتّم أيّها السادة المحترمون مزيد من الاطلاع علىٰ ما قاله كبار علماء اوروبا فيما يتعلق بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عليكم بالرجوع الىٰ كتاب « محمد من منظار الآخرين ».

١٤٢

البحث في بعض قوانين الاسلام

الدكتور : ايها الشيخ ، الاعترافات التي نقلتها لنا عن كبار علماء الشرق والغرب حول نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن وقوانينه ، قيمة ومهمة جداً ، ومع ذلك يبقىٰ هناك سؤال ، هو : مع ان هؤلاء العلماء والمستشرقين لم يكونوا مسلمين ومن اتباع نبي الاسلام ، فما هو سبب اعترافاتهم تلك ؟!

الشيخ : اهم موضوع ، جعل دنيا العلم تركع امام نبي الاسلام ، هو القوانين المحيرة التي جاء بها ذلك الرجل العظيم من قبل الله للمظلومين في العالم.

وكيف لا يركع كبار علماء الشرق والغرب أمام نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي جاء بقوانين من قبل الله لضمان سعادة البشر في مختلف المجالات ، فيما عجز الآخرون عن الاتيان بمثلها ، علىٰ الرغم من انه كان يعيش في عصر مظلم قبل أربعمة عشر قرناً في صحراء الحجاز وهو الاُمي الذي لم يدرس كلمة واحدة.

ولو اردنا البحث في هذا الامر بشكل علمي وعميق ، ودراسة قوانين الاسلام ومن ثم مقارنتها بقوانين سائر العالم ، فسوف يطول بنا الحديث فيما وقت سفرنا قصير لا يسع ذلك ، ولكن من اجل ان نعرف قيمة الدين الذي نتشرف ونفتخر باتباعه ، سنبحث في عموميات وكليات بعض قوانين الدين ، ولكي يتضح ايضاً ، ان اعتراف الشخصيات العلمية الكبيرة في العالم بما يتعلق

١٤٣

بالرسول والرسالة هو نتيجة لمشاهدة هذه الالتفاتات العلمية الظريفة الموجودة في تلك القوانين التي جاء بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

المساواة في القانون

من خصوصيات الاسلام ، المساواة بين جميع الناس في القانون ، فالاسلام يرىٰ الجميع متساوين امام القانون ، ولا يرىٰ لأحد ميزة علىٰ آخر.

والقانون في الجهاز الديني يحكم الجميع بنحو واحد وبمنتهىٰ القوة ، وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (١) .

اصدقائي الاعزاء !

في ذلك العصر الذي كانت فيه الحروب العرقية والطبقية منتشرة بشدة في جميع انحاء العالم ، في ذلك العصر الذي كان فيه السود والفقراء فاقدين لجميع الحقوق الاجتماعية والفردية ، اعلن نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله المساواة التامة بين جميع البشر قانونياً من خلال ندائه السماوي الذي جاء به ، والغىٰ جميع الفوارق الوهمية التي أوجدت فوارق عميقة ورهيبة بين الناس ، واعلن امام غرور اهل الجزيرة العربية بصراحة :

________________

(١) سورة الحجرات : ١٣.

١٤٤

« لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض علىٰ أسود إلّا بالتقوىٰ ».

لقد بعث رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في الضعفاء والفقراء والسود الحياة من جديد وجعلهم يتحركون في الحياة جنباً الىٰ جنب مع البيض والاقوياء والاغنياء.

وقد خطىٰ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خطوات واسعة ومهمة في مجال المساواة بين جميع الناس امام القانون ، ليس في ما مضى فقط ، بل لا زالت تلك القوانين على درجة كبيرة من الاهمية والقيمة والاحترام إلى اليوم.

أو ليس غريباً ؟! ان الفئات المحرومة في المجتمع ، والاشخاص الذين كانوا لا يملكون شيئاً من انفسهم امام رئيس القبيلة ، وكان عليهم ان يفتدوه بأرواحهم فضلاً عن اموالهم ، اصبحت بعد ان أنار الاسلام عقولها وبعث الحياة في جسدها ، ترد على صفعة رئيس القبيلة بصفعة مماثلة لها ، وتقتص لنفسها منه ، لقد استطاعت تلك الانامل الضعيفة بالمساواة التي طرحها الاسلام ان تلامس خدّ رئيس القبيلة الذي كان مالك الرقاب السابق ؟!

ان المساواة التي يطرحها الاسلام بين الناس امام القانون ، قوية وثابتة بشكل لا يستثنىٰ منها اي مقام ومسؤول او اية قوة.

ملك آل جفنة في قبضة القانون

كان جبلة بن الايهم ( الغساني ) من ملوك آل جفنة ، وقد اختار الاسلام ، وأراد ان يزور الخليفة آنذاك ، فتحرك نحو المدينة مع كوكبة من حاشيته ومعهم

١٤٥

خمسمائة حارس مدجج بالسلاح لحمايته والسير بين يديه.

وعندما قاربوا المدينة ارسلوا رسولاً يخبر الخليفة بقدومهم ، فخرج الخليفة في استقبالهم واكرمهم ، ودخلت قافلة جبلة المجلّلة المدينة وأهلها لا يعيرونهم أهمية ، بينما رجال القافلة مدججون بالسلاح ويرتدون افضل الملابس والمجوهرات.

وبعد ايام من دخولهم المدينة حان وقت الحج فخرجوا مع الخليفة الى مكة ، وكانت قافلتهم تحضىٰ بأحترام المسلمين اين ما حلّوا في الطريق حتىٰ وصلوا مكة.

لا بدّ ان يصفع ملك آل جفنة

وفي مكة وقع حادث جعل جبلة ملك آل جفنة يبتعد عن الاسلام ويرتد الىٰ النصرانية بعد ان كان مسلماً ، والحادث بشكل مختصر :

داس رجل عربي من قبيلة بني فزار برجله وهو لا يعلم ذيل حُلة جبلة التي كانت تخط وراءه الأرض وهو يطوف الكعبة(١) ، فغضب جبلة لذلك ، فأمسك بأنف الرجل وضغط عليه ، فتألم الرجل كثيراً ، فيما يذكر بعض المؤرخين انه صفعه علىٰ وجهه ، فسكت الرجل مضطراً وهو يرىٰ تلك المجموعة الكبيرة من الحرس مع جبلة اين ما يتحرك حتىٰ في طواف الكعبة.

________________

(١) كان طول الحلّة وجرّ الذيل في ذلك العصر وبين العرب ، من علامات الاشراف والترف ، وقد حكم عليها الاسلام بالكراهية.

١٤٦

لكن عدم امتلاك قوة لا يعني الضعف في حكومة العدل والقانون ، لأن المظلوم يعلم جيداً ان هناك يد القانون القوية هي التي تدافع عنه وتحميه.

وعندما وجد ذلك الرجل نفسه مظلوماً ومعتدىٰ عليه من قبل جبلة ، اشتكىٰ عند الخليفة استناداً الىٰ عدل الاسلام ، واخبر الخليفة بما جرىٰ.

وبعد ان سمع الحاكم ( الخليفة ) شكوىٰ الرجل ، احضر جبلة علىٰ الفور ، وسأله عمّا حدث.

ومقابل سؤال الحاكم ، أجاب جبلة بصراحة بأنه فعل ذلك ، وقال : لولا حرمة الكعبة لعاقبته بالسيف ! لأنه اعتدى عليّ.

وبعد ان اسمتع الحاكم الىٰ جواب جبلة ، قال : لقد تعديت يا جبلة علىٰ الرجل وهو مظلوم وانت تعترف بذلك ، واستناداً للقانون يجب ان ترضى الرجل منك ، او تستعد للقصاص.

لكن جبلة الذي لم يفهم علىٰ الظاهر معنىٰ القصاص ، تساءل : وكيف يقتص هذا الرجل مني ؟

فقال الخليفة : كما صفعته او ظغطت علىٰ انفه وآلمته ، يجب ان يصفعك او يضغط علىٰ انفك.

كاد جبلة ان يطير عقله بعد سماعه ذلك الكلام ، وتساءل متعجباً : كيف يمكن لهذا الرجل ان يصفعني وانا ملك آل جفنة القوي ، فيما هو رجل عادي من المسلمين.

١٤٧

فقال له الخليفة : ان الاسلام جمعك وايّاه وليس لك فضل عليه الّا بالتقوىٰ.

والاسلام لا يفرق بينك مع قوتك وهذا الرجل البسيط ، فالجميع متساوون امام قانون الاسلام.

فقال جبلة : كنت اتصوّر ان تزداد عزّتي ويزيد جلالي بالاسلام ، وتزيد كذلك سلطتي علىٰ اتباعي ورعاياي.

فقال له الخليفة : جبلة! لا تتحدث عبثاً ، فالجميع متساوون امام القانون.

وبعد ان شاهد جبلة هذه الصراحة ، طلب من الخليفة ان يمهلهه الليلة كي يتأمّل في الامر اكثر ، ويرضي الرجل من نفسه ، او ان يقول الرجل بالقصاص منه.

فوافق الخليفة علىٰ طلب جبلة ( طبعاً بعد ان اخذ موافقة الرجل ) ، لكن جبلة لم يشاهد بعد تلك الليلة ، لانّه فرّ ومن معه ليلاً من يد القانون ، واتّجه مباشرة الىٰ القسطنطنية عند هرقل ملك الروم ، وارتد الىٰ النصرانية(١) .

وهذه القصة التاريخية نموذج علىٰ المساواة التي طرحها الاسلام ، وهو ما حدث قبل اربعة عشر قرناً في ذلك العصر المظلم.

________________

(١) شرح نهج البلاغة للخوئي.

١٤٨

نماذج علىٰ التمايز العرقي في الغرب

اصدقائي الاعزاء !

هل يوجد في جميع العالم الغربي الذي اصمّ البشرية نداءهم بالمساواة. وهل يمكن ان نشاهد مثل ذلك النموذج العملي للمساواة في قلب تلك الدول ؟ وهل يمكن لفرّاش بسيط ان يقتص من رئيس جمهورية الولايات المتحدة الظالم ، اذا ما حصل عليه اعتداء من قبل ذلك المتجبرّ ؟ أ يستطيع ان يقتص منه ويصفعه ، مثل ما حدث في تلك القصة التاريخية ؟!

أيّها السادة المحترمون !

بين القول والعمل مسافة شاسعة ، لقد مضت سنوات طويلة ونحن نسمع بتساوي الاسود والابيض في جميع انحاء الغرب ، وقاموا بنشاطات عديدة لرفع التمايزات العرقية ، كما حدثت حروب دموية لألغاء التمايز بين السود والبيض في الغرب ، ومثال ذلك حرب الشمال والجنوب في الولايات الامريكية حيث كان الشمال يدعو لتحرير الرق ، فيما كان الجنوب يصرّ علىٰ بقاءه ، وقد استمرت تلك الحرب اربعة سنوات وقتل فيها من الشماليين ما يقرب مليون شخص ، فيما قدم الجنوبيون ٢٥٨ الف قتيل ، ما عدىٰ ٣٦٠ ألف جريح والدمار

١٤٩

الواسع الذي حدث نتيجة لتلك الحرب(١) .

ومع كل النشاطات التي في هذا المجال ، لا زال التمايز العنصري موجوداً في الولايات المتحدة الامريكية ! ولا زال السود المساكين لا يستطيعون دخول الفنادق المخصصة للبيض بطمائنينة ، او الدخول الى القطار المخصص للبيض ، ولا زال زواج الأبيض بالسوداء او العكس يعتبر عملاً دنيئاً ، ومن العار للأسر البيضاء ان يتزوج احد من افرادها او اقرباءها من السود المساكين ، ولا زالت فنادق البيض مفصولة عن فنادق السود هناك !

تحدثت بعض الصحف مؤخراً ان احدىٰ الشخصيات الافريقية المعروفة كان ينوي السفر الىٰ الولايات المتحدة ، فحجز بالهاتف قبل ايام من سفره غرفاً له ولرفاقه في احد الفنادق الامريكية المعروفة ، لكنه بعد ان وصل من المطار الىٰ الفندق المذكور وعرّف نفسه لمدير الفندق وطلب منه مفاتيح الغرف التي حجزها من قبل ، اجابه المدير بصراحة : هذا الفندق خاص بالبيض ، ولا يسمح لكم بدخوله لأنكم من السود !

ولا زالت هناك قطارات في امريكا ( تلك التي تتحرك بين مسافات طويلة ) فيها شرطة مسؤوليتهم المحافظة على النظام والحيلولة دون وقوع مشاجرات بين البيض والسود ، الذين يحدد لكل منهم اماكن خاصة ، لكن وعلىٰ الرغم من وجود الشرطة ، فأنه غالباً ما تقع مشاجرات دموية بين السود والبيض. وقبل مدة شاهدت في احدىٰ صحف طهران المسائية صورة لطفلين

________________

(١) تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ، تأليف : الان نوينز وهنري ستيل كاماجر ، ترجمة : الدكتور محسن راهنما.

١٥٠

ابيض واسود ، وقرأت التعليق العجيب والمهم جداً تحت الصورة وهو : « الاطفال البيض والسود يدرسون في مدرسة واحدة جنباً الىٰ جنب » !

أليس عجباً ، ان تعتبر الدول الغربية دراسة الاطفال البيض والسود في مدرسة واحدة ، احدىٰ مفاخرها الاجتماعية ! وهذا غيث من فيض للحالة المأساوية التي يعيشها السود في امريكا والدول الاوروبية ، وأليس عجيباً ان لا يدرك البيض الامريكان والاوروبيون تلك الحقيقة وهي ان الاختلاف في اللون والعرف ليس دليلاً علىٰ الفضيلة والتفوق !

لكن مجرد اللون لا يعد سبباً للاستضعاف والحرمان في الاسلام ، فالمسلم الابيض يعمل جنباً الىٰ جنب مع اخيه الاسود في جميع المجامع الدينية سواءاً في القديم او اليوم ، ولا يشعر بأي انزعاج او ضجر ، وهم متساوون في الحقوق الاجتماعية وجميع شؤون الحياة ، يتزوجون منهم ويزوجونهم و كما ان الحكومة الاسلامية تستطيع ان تعطي اكبر المناصب السياسية او الدينية الىٰ السود علىٰ اساس الكفاءة ، وهو ما نملك عنه نماذج عديدة في تاريخ الاسلام ، وهذهِ من الامثلة علىٰ المساواة في الاسلام الذي جاء به النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الف واربعمائة سنة ، في حين ان عصر الذرّة اليوم لا زال يحلم بذلك.

١٥١

المساواة الاسلامية من منظار علماء اوروبا

يقول الدكتور غوستاف لوبون ، العالم الفرنسي الشهير في كتابه « حضارة الاسلام والعرب » :

« المساواة بين المسلمين علىٰ اكمل وجهها ، تلك المساواة التي يتحدّث عنها الاوروبيون جميعاً بشوق وحرارة ولا نجدها إلّا في طيات الكتب ، نجدها عملياً بين المسلمين ، وقد أصبحت من الأعراف الشرقية ، فالتمايزات الشديدة التي حدثت بين الفئات والطبقات في اوروبا اثر الثورة الصناعية والتي ستشهدها ثورات اكثر دموية اخرىٰ. غير موجودة بين المسلمين ، فالخادم والمرافق يستطيع ان يتزوج ابنة سيده دون ممانعة ومشكلة(١) ».

ويقول السيد لوبلاي(٢) حوال المساواة في الاسلام :

«الانظمة المطبقة فيما يتعلق بالكادحين والعمال ونتائجها السيئة التي ظهرت في اوروبا ، لا يزال المسلمون مصانون منها ، فلا زالت تسودهم انظمة اساسية تصلح بين الغني والفقير والسيد والعبد ، وتجعلهم قريبون من بعضهم ، مثل صلاة الجماعة والمسجد والحج ، ويكفي القول ان بعض الدول الاوروبية المتسلّطة التي ترىٰ ان تتعلّم منها تلك الدول ( الاسلامية ) الكثير ، عليها هي

________________

(١) يفهم من هذا الكلام ان التمايز الطبقي في اوروبا وصل الىٰ حدّ يتعجب فيه الدكتور غوستاف لوبون من زواج المرافق والخادم من ابنة سيده ، ويعتبر ذلك حدثاً غير عادياً.

٢ ـ Mu. le.play

١٥٢

ان تتعلّم منهم دروساً كثيرة ( مثل المساواة ).

والحقيقة ان نموذج الحكومة الديمقراطية « حكم الشعب » يعمل به في الاسلام بأحسن وجه ، لانه ومع وجود خليفة مقتدر فأن الجميع متساوون امام القانون وليس هناك وضيع أو شريف أو غني أو فقير ، والحقوق تراعىٰ بالكامل ، لقد الغىٰ الاسلام التمايزات العائلية والطبقية والقبلية والقومية ، وقال بأن جميع المسلمين متساوون واُخوة امام الاسلام ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

أجل ، لم يساوي الدين الاسلامي المقدس بين المسلمين من قبل فقط من الناحية القانونية ، بل لو اسلم قوم في اقصىٰ نقاط الدنيا وكانوا من اكثر الناس تخلفاً ، فأنهم ومنذ لحظة اسلامهم يصبحون اخوة لسائر المسلمين ومتساوون معهم في الحقوق والواجبات ولا يحق للحكومة الاسلامية ان تعتدي عليهم او تهاجمهم ».

يقول الدكتور غوستاف لوبون في هذا الصدد :

«لم يكن العرب يستطيعون الضغط علىٰ مختلف الاقوم في البلاد التي فتحوها ، لإن اولئك الناس دخلوا الاسلام وقبلوا احكامه وقوانينه برضىًٰ وارادة ، وجميع المسلمين ( من اي قوم كانوا ) متساوون واخوة برأي الحكومة الاسلامية وهذه الاخوة والمساواة مبينة على اساس احكام القرآن ، الذي لا يستطيع الفاتحون العرب تغيره ، وبذلك اتحد الغالب والمغلوب وشكلوا امة قوية كبيرة ، وقد استمرت هذهِ الوحدة وهذا الاتحاد علىٰ مدىٰ حكم العرب وخلافتهم ».

١٥٣

مسألة الرّق وحلولها

تطرّقنا الىٰ مسألة التمايز العرقي ونفي هذا النوع من التفوق والافضلية بين البشر من الناحية القانونية ، وقد يتساءل البعض ، اذن ما هي قصة « العبد والجارية » التي يعترف بها الاسلام رسمياً ؟

وفي جواب ذلك السؤال ، نقول ان الحقيقة خلاف ذلك ، فالاسلام لم يقرّ مسألة الرّق ، بل وضع لها حلّاً تدريجياً وسريعاً ومن عدّة طرق.

وبسبب سعة الموضوع وعدم امكانية شرحه بشكل كافي من جهة ، ولأهميته من جهة اخرىٰ ، فأننا سنتعرض له بشكل سريع ومختصر.

١ ـ لم يأت الاسلام بالرّق ، بل وجده حقيقة واقعة في المجتمع الذي نزل فيه ، اذن ، لا علاقة لأصل المسألة بالاسلام.

٢ ـ لم يكن باستطاعة الاسلام ، كما لم يكن عملياً اساساً ، نفي الرّق بشكل كامل ابتداءً ، بسبب ترسخه في ذلك المجتمع ، ولانه ليست هناك ثورة استطاعت تطبيق جميع اهدافها بمجرد الاعلان عن نفسها مباشرةً ، ويجب ان لا ننسىٰ الحقيقة العلمية التي تقول ان التغير النوعي لا يحدث الّا بعد طي مراحل كميّة.

فإذا لم تكن هناك مراحل كمية ، يكون الأمر تطرفاً ولربما يواجه ردود فعل حادة أيضاً ، مما يعرّض « أصل الدين » الىٰ خطر حقيقي ، ولأثبات هذه

١٥٤

الحقيقة يكفي ان نشير الىٰ قرار ألغاء الرّق في أمريكا الذي أعلنه ابراهام لينكولن ، رئيس الجمهورية سنة ١٨١٦ ، والذي ادىٰ الىٰ وقوع الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب والمآسي التي تعرضت لها ولايات الشمال والجنوب علىٰ السواء ، ( كان الجنوب يعارض الغاء الرّق بسبب دورهم في الانتاج الزراعي هناك(١) فلم تكن ولايات الجنوب متطورة مثل ولايات الشمالي كي تستبدل العبيد بالآلات الصناعية في الانتاج ).

أو الاصلاح الذي حدث في جنوب فيتنام الشمالية علىٰ يد حكومة « هانوي » و « فيت مين » ولأنها كانت مستعجلة وبدون طي مراحل كميّة ، ادت الىٰ مقتل عشرة آلاف شخص(٢) الىٰ ان تدخل « هوشه مينه » شخصياً وانهىٰ المسألة.

والآن ، مع الأخذ بالعديد من الحقائق التاريخية والعلمية ، ومع الأخذ أيضاً بدور الرّق ، المهم والاساسي في المجالات الانتاجية والخدماتية في مجتمع الجزيرة العربية قبل اربعة عشر قرناً ، أليس من البساطة ان يقول شخص : « لماذا لم يلغي الاسلام منذ الوهلة الاولىٰ الرّق ، ولم يمنعه تماماً ؟! » فهل كان هذا الامر عملياً وممكناً اساساً ؟! وهل توجد في تاريخ العالم ايديولوجية ثورية استطاعة تطبيق جميع اهدافها بعد انتصارها مباشرةً ، حتىٰ يكون الاسلام ثانيها ؟!

٣ ـ لقد تحدث القرآن في ستة اماكن عن « حرية العبد » وقد اوصىٰ او امر

________________

(١) من اجل معلومات اُخرى في الموضوع ، راجع :

تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ، تأليف : الان نوينز وهنري ستيل كاماجر.

(٢) يمكن الرجوع في ذلك الىٰ كتاب « حياة هوشي مينه ».

١٥٥

به(١) في حين انّه لا نجد فيه ما يقول بأخذ الرق او « الاستبعاد » بتاتاً.

٤ ـ وضع الاسلام طرقاً « تدريجية » او مرحلية ولكن مؤثرة وحاسمة لحل مسألة الرّق ونفيها بشكل كامل ، وهي كثيرة جداً ، منها :

أ ـ العقود الثنائية بين المالك والمملوك ، مثل « المكاتبة » او « التدبير » والذي ينتهي الىٰ عتق العبيد ، وقد اقرّها الاسلام ( خاصة الدور الذي تلعبه الحكومة الاسلامية في هذا الصدد ، من خلال مساعدتها للرّق مالياً من اجل تحريرهم ).

ب ـ هناك بعض الذنوب ، اشترط الاسلام تحرير العبيد للتكفير عنها. ( الكفارات ).

ج ـ يصرف قسم من ميزانية الدولة ( الزكاة ) لشراء العبيد من قبل الحكومة وعتقهم ، وقد امر القرآن بذلك.

د ـ وفي النهاية ، جاء في بعض الروايات الاسلامية ، انه لو كان احد المسلمين يمتلك عبداً ( غلاماً او جارية ) ولم تشمله الطرق التي ذكرناها اعلاه لكي يعتق ، فأنه يعتق بعد ثلاثة سنوات ( قبل المالك او لم يقبل ). هذا بالاضافة الىٰ التوصيات والتأكيدات الكثيرة التي وصىٰ بها الاسلام وأمر بها لتحرير العبيد من الغلمان والجواري ، خاصة وصاياه في الزواج من الجواري لان الزواج منهن كان مساوياً الىٰ حدّ ما بتحريرهن ، لانه كان عليهم ان يعتقوهن اولاً ومن ثم الزواج منهنّ.

________________

(١) راجع القرآن الكريم : سورة النساء الآية ٩٢ ، وسورة المائدة الآية ٨٩ ، وسورة المجادلة ، الآية ٣ ومن ثم الآية ١٣ من نفس السورة.

١٥٦

٥ ـ في الفترة التاريخية ما بين ظهور الاسلام وحتىٰ تهيئة الارضية لألغاءه ، اوصىٰ الاسلام واكد كثيراً علىٰ حسن معاملتهم ومراعاة الانصاف والعدل والمساواة معهم ، للحد الذي قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « واطعموهم مما تطعمون وألبسوهم مما تلبسون » لكي يشعروا أنهم جزءاً من الاسرة التي يعيشون معها ولهم حقوقهم وامتيازاتهم فيها.

٦ ـ ذمّ الاسلام كثيراً ، عمل « بيع العبيد » ، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « شرّ الناس من باع الناس » كما ان هناك روايات كثيرة بهذا المعنىٰ.

٧ ـ أمّا فلسفة وجود بعض الغلمان والجواري في بيوت الائمة المعصومين ، فهو امران :

الاول : كان الائمة يريدون من ذلك تقديم نموذج عملي لحسن معاملة الغلمان والجواري والاحسان اليهم والانصاف معهم والمساواة ، بل كانوا بعض الاحيان يقدمونهم علىٰ انفسهم ، لكي يتعلم المسلمون عملياً كيفية التعامل مع العبيد ما داموا في بيوت اسيادهم غير معتقين. والشاهد على ذلك تاريخ حياة « فضّة » بعنوان جارية في بيت فاطمةعليها‌السلام .

كانت بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تقسم عمل البيت يومياً من الطحن بالرحىٰ وعمل العجين والخبز والعناية بالاطفال مع فضّة ، ولم يكن للزهراءعليها‌السلام اي ميّزة في البيت.

الثاني : كانوا يعلّمون الآخرين كيف يشترون العبيد ( ويخرجوهم من حالة مجرد « بضاعة » تدار في السوق ) ويعتقونهم مباشرة أو بعد فترة قصيرة في المناسبات المختلفة ، مثل عيدي الفطر والاضحىٰ وامثالها ، بشكل جماعي او

١٥٧

فرادىٰ ، ويخلصوهم بذلك من حياة العبودية ، وهذا ما كان يفعله الائمة لكي يعلموا الناس ذلك.

٨ ـ تجدر الاشارة الىٰ ان الفصل الذي تبحث فيه المسائل المتعلقة بالرّق في الفقه الاسلامي ، يسمى كتاب « العتق » وهو دليل علىٰ سياسة الاسلام العامة فيما يتعلق بالرّق.

ومع الأخذ بالمسائل التي طرحناها بصورة سريعة هنا ، فيما يتعلق بالرّق ، يتضح جلياً ، انه لم يكن ممكناً للاسلام فقط الاطاحة بنظام ظالم مثل الرّق الذي كان متأصلاً في مجتمع ذلك اليوم دفعة واحدة ، بل هو غير ممكن من الناحيتين العلمية والثورية أيضاً ، ومع ذلك فقد وظف هذا الدين السماوي جميع امكانياته واستخذم جميع الطرق والاساليب لمحو هذا العار من جبين البشرية ولكي يقتلعه من الاساس في المجتمع ، وهو العمل الذي نجح فيه الاسلام بأتم وجه.

وفي ختام هذا البحث ، لابد من الاشارة الىٰ هذه الاشكالية وهي : لماذا يجيز الاسلام استخدام اسرىٰ الحرب بعنوان عبيد في بعض الاحيان ؟ ومن اجل فهم هذا السؤال جيداً ، يجب الالتفات الىٰ ان الاسلام لم يكن يملك الا سبيلاً واحداً من بين عدة سبل ، فيما يتعلق بأسرىٰ الحرب :

١ ـ السبيل الاول هو اطلاق سراح جميع اسرىٰ الحرب ، وفي هذه الحالة تواجه الامة الاسلامية مشكلتين :

الاُولى : ان هؤلاء الاسرىٰ الذين اطلق سراحهم هم من اعداء الاسلام وسيعودون مباشرة الىٰ صفوف الكافر بعد اطلاق سراحهم ، وسيقفون ثانية في

١٥٨

الجبهة المواجهة للأسلام.

أمّا المشكلة الثانية : هي ان اطلاق سراح الاسرىٰ يكون من جانب المسلمين فقط وبما ان الكفار لا يطلقون سراح اسرىٰ المسلمين ففي حال تبادل الاسرىٰ. لا يكون بأيدي المسلمين ما يبادلونه بأسراهم.

٢ ـ ابادة جميع اسرىٰ الكفار ، وهذا العمل ، اولاً ، غير صحيح في الحالة العادية وليس انسانياً ابداً وثانياً ، سيؤدي الىٰ ان يقوم الكفار بالمثل ويقتلون جميع اسرىٰ المسلمين.

٣ ـ سجن اسرىٰ الحرب ، وهذا الفرض يستلزم اولاً ، اهدار قوة بشرية كبيرة في السجون ، وثانياً ، تحميل الدولة الاسلامية مصاريف باهضة اقتصادياً وانسانياً وامنياً.

٤ ـ استبعاد هؤلاء والاستفادة منهم في العمل ، وهو الحلّ المنطقي والصحيح الوحيد الذي كان للاسلام ، لانه وبهذا العمل ، اولاً ، يستخدم بشكل جيد قوىٰ الاسرىٰ ويوظفها في مجالات الانتاج والخدمات وفي المجالات الثقافية احياناً.

وثانياً ، تعتبر البيئة الاسلامية ( وكما حدث بالفعل ) مركز تأهيل وتربية بالنسبة لهؤلاء الاسرىٰ ، لكي يتعرفوا علىٰ نظام العدل الاسلامي واحكامه وقوانينه الانسانية ، وثالثاً ، كانوا يعتبرون رهائن بيد المسلمين لمبادلتهم في اللحظة المناسبة بأسرىٰ المسلمين الذي وقعوا بيد الكفار.

١٥٩

النظام الاقتصادي الاسلامي

وهنا أجد من الضروري الحديث عن المذهب الاقتصادي في الاسلام وطريقته في توزيع الدخل والموارد والثروات الطبيعية ، ولأن هذا البحث يحتاج الىٰ دراسة موسعة ودقيقة ، فسأكتفي بالاشارة الىٰ بعض النقاط فيما يتعلق به :

١ ـ النظام الاقتصادي الاسلامي غير طبقي وهو لا يعرف التمايز بين الاشخاص اساساً.

٢ _ يرىٰ الاسلام ان الاصالة « للعمل » فقط ، ويصرّح :

( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ) (١)

ومع ذلك فإذا كانت نتيجة العمل هي جمع المال وكنزه ، فالاسلام لم يجز ذلك أيضاً ، وقد أمر بانفاقه في سبيل الله ، قال تعالى :

( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (٢) .

٣ ـ الهدف من الانفاق في الاسلام هو ملء الفراغ الطبقي ، او حسب تعبير الروايات « لكي يستغني الفقير » وتصبح مستوياتهم المعيشية متقاربة ، وهو ما

________________

(١) سورة النجم : ٣٩.

(٢) سورة التوبة : ٣٤.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الآيتان

( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) )

التّفسير

اليهود وعبادتهم للعجل :

في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة ، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسىعليه‌السلام إلى ميقات ربّه ، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعينا بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.

إنّ هذه القصّة مهمّة جدّا بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور ، في سورة البقرة الآية (51) و (54) و (92) و (93) ، وفي سورة النساء الآية (153) ، والأعراف الآيات المبحوثة هنا ، وفي سورة طه الآية (88) فما بعد.

٢٢١

على أنّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الاجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيّة ، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عند ما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأخرى مشهدا من الوثنية ، حيث وجدوا قوما يعبدون البقر ، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسىعليه‌السلام صنما كتلك الأصنام ، ولكن موسىعليه‌السلام وبّخهم وردّهم ، ولا مهم بشدّة.

وثالث ، تمديد مدّة ميقات موسىعليه‌السلام من ثلاثين إلى أربعين ، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسىعليه‌السلام بواسطة بعض المنافقين ، كما جاء في بعض التفاسير.

والأمر الرابع ، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خطته المشئومة ، كل هذه الأمور ساعدت على أن تقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية ، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.

وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا : إنّ قوم موسىعليه‌السلام بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا ، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه ، ولكنّه كان له صوت كصوت البقر ، واختاروه معبودا لهم :( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) .

ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحليّ) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلّا أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيرا منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده ، وبذلك كانوا شركاء في جريمته ، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.

وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل ، إلّا أنّه بالتوجه إلى الآية (159) من هذه السورة ، التي تقول :( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة

٢٢٢

هنا ليس كلّهم ، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل ، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.

كيف كان للعجل الذهبي خوار؟

و «الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل ، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي ، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.

ويقول آخرون : كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمع منه صوت على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعا بهيئة هندسية خاصّة.

أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئا من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائنا حيا ، وأخذ يخور خوارا طبيعيا فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم ، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.

وكلمة «جسدا» شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيوانا حيا ، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(1) .

وبغض النظر عن جميع هذه الأمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجل المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يشبه معجزة النّبي موسىعليه‌السلام ، ويحيي جسما ميتا ، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتما ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.

__________________

(1) راجع الآيات (8) من سورة الأنبياء ، و (34) من سورة ص.

٢٢٣

أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم ، وكان من الممكن أن يكون وسيلة لاختبار الأشخاص لا شيء آخر.

والنقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها ، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسىعليه‌السلام قد عانوا سنين عديدة من الحرمان ، مضافا إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراما خاصّا ، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه اهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.

أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإقامة أحد أعيادهن ، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون ، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(1) .

ثمّ يقول القرآن الكريم معاقبا وموبّخا : ألم ير بنو إسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء ، فكيف يعبدونه؟( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) .

يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرف ـ على الأقل ـ الحسن والقبيح ، وتكون له القدرة على هداية أتباعه ، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل ، ويعرّفهم على طريقة العبادة.

وأساسا كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئا ميتا صنعه وسوّاه بيده ، حتى لو استطاع ـ افتراضا ـ أن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده ، لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل.

إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم ، لهذا يقول في ختام الآية :

__________________

(1) راجع تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية المبحوثة هنا.

٢٢٤

( اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ ) .

بيد أنّه برجوع موسىعليه‌السلام إليهم ، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم ، وندموا على فعلهم ، وطلبوا من الله أن يغفر لهم ، وقالوا : إذا لم يرحمنا الله ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

وجملة( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي عند ما عثروا على الحقيقة ، أو عند ما وقعت نتيجة عملهم المشؤومة بأيديهم ، أو عند ما سقطت كل الحيل من أيديهم ولم يبق بأيديهم شيء في الأدب العربي كناية عن الندامة ، لأنّه عند ما يقف الإنسان على الحقائق ، ويطلع عليها ، أو يصل إلى نتائج غير مرغوب فيها ، أو تغلق في وجهه أبواب الحيلة ، فإنّه يندم بطبيعة الحال ، ولهذا يكون الندم من لوازم مفهوم هذه الجملة.

وعلى كل حال ، فقد ندم بنو إسرائيل من عملهم ، ولكن الأمر لم ينته إلى هذا الحدّ ، كما نقرأ في الآيات اللاحقة.

* * *

٢٢٥

الآيتان

( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) )

التّفسير

ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل :

في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسىعليه‌السلام وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.

يقول في البدء : ولما عاد موسىعليه‌السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل ، قال لهم : ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ

٢٢٦

غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ) (1) .

إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفا ، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسىعليه‌السلام بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) (2) .

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال لهم :( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) .

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة ، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة ، إلّا أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين ، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي ، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.

وفي هذا الوقت بالذات ، أي عند ما واجه موسىعليه‌السلام هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل ، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه ، ويثقل روحه حزن عميق ، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل ، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل ، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّا. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نغمة مخالفة شاذة ، وافقت هوى ورغبة ، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمرا ممكنا وسهلا.

فهنا لا بدّ أن يظهر موسىعليه‌السلام غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط ، كي يوقظ الأفكار المخدّرة لدى بني إسرائيل ، ويوجد انقلابا في

__________________

(1) «الأسف» كما يقول الراغب في «المفردات» بمعنى الحزن المقرون بالغضب ، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضا. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة ، ومن الطبيعي أن هذا الانزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقرونا بالغضب ، وبردة فعل غاضبة ، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد ، وقد نقل عن ابن عباس أيضا أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظا.

(2) سورة طه ، 85.

٢٢٧

ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق ، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.

إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة ، إذ يقول : إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده ، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطا غاضبا.

وكما يستفاد من آيات قرآنية أخرى ، وبخاصّة في سورة طه ، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة ، وصاح به ، لماذا قصّرت في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري(1) .

وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسىعليه‌السلام النفسية ، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم ، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية ، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.

وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحا ـ فرضا ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحا ، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية ، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الانزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب ، بل كان يعد عملا واجبا وضروريا.

ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبدا إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين ، للتوفيق بين عمل موسىعليه‌السلام هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء ، لأنّه يمكن أن يقال هنا : إنّ موسىعليه‌السلام انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجا شديدا لم يسبق له مثيل ، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ

__________________

(1) سورة طه : 92 ـ 93.

٢٢٨

المشاهد ألا وهو الانحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل ، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.

وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماما.

إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا ، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل ، فقد قلب المشهد رأسا على عقب في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة ، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.

ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفا إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني ، فإذن أنا بريء ، فلا تفعل بي ما سيكون موجبا لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

إن التعبير ب : «ابن أمّ» في الآية الحاضرة أو «يا ابن أمّ» (كما في الآية 94 من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة ، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسىعليه‌السلام في هذه الحالة الساخنة.

وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها ، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم ، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.

لقد هدأ غضب موسىعليه‌السلام بعض الشيء ، وتوجه إلى الله( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

إنّ طلب موسىعليه‌السلام العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه ، لم يكن لذنب اقترفاه ، بل كان نوعا من الخضوع لله ، والعودة إليه ، وإظهار النفرة من أعمال

٢٢٩

الوثنيين القبيحة ، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا انحرافا ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا ، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم ، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان.

مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة :

يستفاد من الآيات الحاضرة ، وآيات سورة طه أن بني إسرائيل هم الذين صنعوا العجل لا هارون ، وأنّ شخصا خاصا في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل هذا العمل ، ولكن هارون ـ أخا موسى ووزيره ومساعده ـ لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل ، حتى أنّهم كادوا أن يقتلوه لمعارضته لهم.

ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى هارون خليفة موسىعليه‌السلام ووزيره وأخيه ، إذ نقرأ في الفصل 32 من سفر الخروج من التوراة ، ما يلي :

«لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل ، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا ، فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

فلمّا نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى هارون وقال : غدا عيد للربّ (ثمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل».

٢٣٠

ثمّ تشرح التوراة قصّة رجوع موسىعليه‌السلام غاضبا إلى بني إسرائيل وإلقاء التوراة ، ثمّ تقول :

«وقال موسى لهارون : ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطيّة عظيمة؟!

فقال هارون : لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ».

إنّ ما ذكر هو قسم من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص ، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته ، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).

كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإصحاح الثامن من سفر الخروج أيضا).

وعلى كل حال ، تعترف التوراة لهارون ـ الذي كان خليفة لموسىعليه‌السلام وعارفا بتعاليم شريعته ـ بمنزلة سامية ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل ، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل ، وحتى أنّه اعتذر لموسىعليه‌السلام عليه بما هو أقبح من الذنب حيث قال : إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساسا وقد شجعتهم عليه.

في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّث بأدران الشرك والوثنية.

على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآن الكريم ساحة الأنبياء والرسل ، وتنسب التوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل الفعليين ، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.

* * *

٢٣١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) )

التّفسير

لقد فعلت ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عبدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم ، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضا (الآية 149) ومن أجل أن لا يتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة ، يضيف القرآن الكريم قائلا :( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

وهكذا لأجل أن لا يتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) .

٢٣٢

إن التعبير بـ «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية ، ولكن انتخاب عبدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية ، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فورا ، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.

أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية ، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة ، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الأرض المقدسة.

أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضا العجيبة التي كلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.

وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة ، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟

والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة ، ولكنّها ليست كل شيء.

إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة ، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات ، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة ، وكفاية يقول مرتكبها : «أستغفر الله» وينتهي كلّ شيء.

بل لا بدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة ، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.

٢٣٣

وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام :( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.

جواب على سؤالين :

1 ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسىعليه‌السلام بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟

ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل ، وارتضى بعض آخر الاحتمال الثّاني.

والذين ارتضوا الاحتمال الأوّل استدلوا بجملة( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذين ارتضوا الاحتمال الثّاني استدلوا بجملة( سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ ) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.

ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسىعليه‌السلام في تعقيب قصّة العجل ، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع ، وليس هناك ما يمنع أن يكون «إنّ ربّك» خطاب موجه إلى موسىعليه‌السلام (1) .

2 ـ لماذا جاء الإيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإيمان تتزلزل عند

__________________

(1) فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا : «قال الله لموسى أن الذين ...».

٢٣٤

ارتكاب المعصية ، ويصيبها نوع من الوهن ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية :

«لا يشرب الخمر وهو مؤمن ، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإيمان يتضاءل ضوؤه ، ويفقد أثره.

ولكن عند ما تتحقق التوبة يعود الإيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل ، وكأنّ الإيمان تجدّد مرّة أخرى.

ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا ، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا ، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة ، وإن بقيت أعباء الذنوب الأخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.

الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول : ولما سكن غضب موسىعليه‌السلام ، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها ، أخذ الألواح من الأرض ، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية ، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية ، والذين يخافون الله ، ويخضعون لأوامره وتعاليمه( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) .

* * *

٢٣٥

الآيتان

( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) )

التّفسير

مندوبو بني إسرائيل في الميقات :

في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات «الطور» في صحبة جماعة ، ويقص قسما آخر من تلك الحادثة.

٢٣٦

هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسىعليه‌السلام ميقات واحد مع ربّه ، أو أكثر من ميقات واحد؟ وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإثبات مقصوده من القرآن الكريم ، ولكنّه كما قلنا سابقا ـ في ذيل الآية (142) من هذه السورة ـ أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسىعليه‌السلام كان له ميقات واحد ، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.

وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمهعليه‌السلام ، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة. في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغشي على موسىعليه‌السلام وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشيا عليهم ، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.

إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث ـ في بادئ النظر ـ إشكالا ، وهو : كيف أشار الله تعالى أولا إلى ميقات موسىعليه‌السلام ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل ، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى مسألة الميقات؟

هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟

ولكن مع الالتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها ، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني ، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتا ، ويعمد إلى بحث ضروري آخر ، ثمّ يعود مرّة أخرى لنفس الحادثة الأولى.

بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل ، ونقول : إنّ موسىعليه‌السلام ذهب مرّة أخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للاعتذار إلى الله والتوبة ، كما قال بعض المفسّرين ، لأنّ هذا الاحتمال بغض النظر عن جهات أخرى يبدو بعيدا في

٢٣٧

النظر من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للاعتذار والتوبة ، فهل من الممكن أن يهلك الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للاعتذار إلى الله بالنيابة عن قومهم؟!

وعلى كل حال ، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا :( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) .

ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه ـ لبني إسرائيل ـ جهرة ، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة ، ووقع موسىعليه‌السلام على الأرض مغشيا عليه ، وعند ما أفاق قال : ربّاه لو شئت لأهلكتنا جميعا ، يعني بماذا أجيب قومي لو هلك هؤلاء( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ) .

ثمّ قال : ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء ، فلا تؤاخذنا بفعلهم :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) ؟

ولقد اعتبر بعض المفسّرين ـ وجود كلمة «الرجفة» في هذه الآية ، وكلمة «الصاعقة» في الآية (55) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرة ـ دليلا على التفاوت بين الميقاتين. ولكن ـ كما قلنا سابقا ـ إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة ، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة ، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة ، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية 17) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية 78).

وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.

٢٣٨

والجواب على هذا الكلام واضح أيضا ، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضا ، وإطلاق «الفعل» على «الكلام» ليس أمرا جديدا وغير متعارف ، مثلا عند ما نقول : إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا ، فإنّ من المسلّم أنّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضا.

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله : ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك ، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحقا لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقا لذلك)( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) واختبارك.

وهنا أيضا تكلّم المفسّرون في معنى «الفتنة» كثيرا وذهبوا مذاهب شتى ، ولكن بالنظر إلى أن لفظة «الفتنة» جاءت في القرآن الكريم بمعنى الاختبار والامتحان مرارا كما في الآية (28) من سورة الأنفال :( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) وكذا في الآية (2) من سورة العنكبوت ، والآية (126) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضا. لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختبارا شديدا ، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.

وفي ختام الآية يقول موسىعليه‌السلام : رباه :( أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ) .

من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسىعليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، وقصّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه ، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسىعليه‌السلام من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة ، يقول موسى :( وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ) .

٢٣٩

و «الحسنة» تعني كل خير وجمال ، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم ، وكذا التوفيق للعمل الصالح ، والمغفرة ، والجنّة ، وكل نوع من أنواع السعادة ، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب ، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا :( إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا ، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.

و «هدنا» مشتقة من مادة «هود» بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء ، وكما قال بعض اللغويين : تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضا ، وكذا من الشر إلى الخير(1) ، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.

يقول الراغب في «المفردات» نقلا عن بعض : «يهود في الأصل من قولهم : هدنا إليك ، وكان اسم مدح ، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازما لهم ، وإن لم يكن فيه معنى المدح».

ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير ، أو من الخير إلى الشر ، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال ، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.

وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم بـ «اليهود» لا يرتبط مطلقا بهذه اللفظة ، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة «يهوذا» الذي هو اسم لأحد أبناء يعقوبعليه‌السلام ثمّ تبدلت الذال إلى الدال ، وصارت يهودا ، فيطلق على المنسوب إليه يهودي(2) .

ولقد أجاب الله ـ في النهاية ـ دعاء موسىعليه‌السلام وقبل توبته ، ولكن لا بصورة

__________________

(1) تفسير المنار ، المجلد التاسع ، الصفحة 221 ، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.

(2) تفسير أبو الفتوح ، المجلد الخامس ، الصفحة 300 ، في تفسير الآية الحاضرة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466