رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233466 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

يصرّح به الامام الصادقعليه‌السلام ، فيقول : حتىٰ يلحقهم بالناس(١) .

٤ ـ لا يقرّ الاسلام أي نوع من العلاقة التي تأتي بالضرر بين البشر ، منها في العلاقات المالية ، والرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في هذا الصدد : لا ضرر ولا ضرار في الاسلام(٢) .

٥ ـ وللاسلام رأي خاص فيما يتعلق بالمصادر الطبيعية ، مثل : الاراضي والمعادن والانهار والمياه الجوفية والغابات والبحار ، فملكيتها نوعاً ما تعود الىٰ الامام المعصومعليه‌السلام وتكون ادارتها والاستفادة منها وتوزيع العوائد الحاصلة منها ومن صلاحيات الحكومة الاسلامية الحقيقية.

________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب الزكاة ، الباب الثامن ، من ابواب المستحقين للزكاة ، الرواية رقم ٤.

(٢) وسائل الشيعة ، الباب الاول من كتاب الارث ، الرواية رقم ٩.

١٦١

بحث القوانين القضائية في الاسلام

الشيخ : لعل تطور النظام القضائي هو من اهم مفاخر امريكا واوروبا وانجازتهما القانونية والعلمية ، اما اهم الخطوات التي قاموا بها في هذا المجال ، فهي كالتالي :

أ ـ حصانة القاضي واستقلاله ، لكي يتمكن من محاكمة الخائن في اي مستوىٰ من السلطة.

ب ـ استقلال القاضي من الناحية المالية ، لكي لا يسهل شراء رأيه وارتشاءه.

يقال : ان بريطانيا خطت خطوات واسعة في هذا المجال ، فهي لم تحدد لقضاتها مرتباً شهرياً وانما تمنحهم شيكات بيضاء موقعة من قبل الدولة وهم يدنون فيها المبلغ الذي يحتاجونه(١) .

________________

(١) جاء في مجلة نقابة المحامين ، العدد ١٠٠ سنة ١٩٦٥ ، بحث حول المسائل القضائية في بريطانيا ، بعنوان : « العدالة في بريطانيا » ، وقد جاء في الفصل الخاص بـ « حقوق القضاء » ما يلي : لا يمكن أن نتوقع من القاضي الذي ليس مرفهاً في معيشته المقاومة أما الضغوطات والاغراءات والتهديدات ، فالقاضي يكون مستقلاً ومستغنياً عندما لا يشعر بالحاجة المادية ، لذلك فالمرتبات الشهرية التي تمنح للقضاء في بريطانيا كبيرة جدّاً ، وإذا علمنا أن مرتب أحد القضاة في محكمة عادية يبلغ ما يعادل ١٣ الف تومان وأن مرتب رئيس القضاة يساوي ١٧ الف تومان ، في حين أن استاذ جامعي في بريطانيا يأخذ مرتباً مقداره الفي تومان فقط ، عند ذلك يمكن مقارنة وضع القضاة من الناحية المادية مع غيرهم من موظفي الدولة. والطريف أن مرتبات القضاة تدفع لهم من صندوق خاص يموّل بشكل

١٦٢

ج ـ الجميع متساوون امام القاضي والقضاء ، وليس لأحد ميزة على آخر.

وهذا الموارد الثلاثة التي ذكرناها ، هي اهم ما حققته اوروبا وامريكا في مجال القضاء ، ومن حسن الحظ ان الاسلام ومنذ ان جاء به الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله اهتم بهذهِ الامور علىٰ اتم وجه وافضل شكل بوحي من الباري عزّ وجلّ ، في حين تلك الدول كانت آنذاك بلدان متخلفة وسكانها متوحشين.

البقرة المسكينة !

الدكتور : يظهر ان القطار توقف ، ما الذي يحدث ؟!

العقيد : ما تقوله صحيح ، فالجميع ينظرون الىٰ الخارج.

نهض الجميع من مقاعدهم واحنوا رؤوسهم لينظروا من الشباك الىٰ خارج القطار ! ونزل مسؤولوا القطار أيضاً واخذوا يتفحصون العجلات ، فلربما هناك من سحقه القطار ، في حين أخذ المسافرين يسألون مسؤولي القطار كل لحظة ، ماذا حدث ؟

وبعد ثوان تبين ان بقرة مسكينة صدمها القطار ولم يصب منها إلّا عظم الفك. أمّا البقرة الجريحة ، فدق نهضت بسرعة وهي مرعوبة واتّجهت

________________

مستقل من خزانة الدولة ولا يحتاج إلى تصويت مجلسي اللوردات والعموم.

عزيزي القارىء ، مع الأخذ بالتقرير الموثق الذي جاء اعلاه ، حول مرتبات القضاة في بريطانيا ، نصحح المعلومات التي وردت في نصّ الكتاب.

١٦٣

مهرولة بأتجاه القرية ، فيما الدم ينزف من فكّها. ومن جهة اخرىٰ ، هرع الكثير من اهالي القرية نحو القطار ، فالظاهر انهم علموا باصابة القطار لبقرتهم.

اما رئيس القطار فما ان رأىٰ هجوم القرويين ، حتىٰ خاطب السائق : استعجل ايها السيد ، بسرعة ما دام القرويون لم يصلوا ، فلو وصلوا ورأوا بقرتهم علىٰ تلك الحالة ، سيلقنوننا درساً بعصيهم ومساحيهم لن ننساه طول العمر.

فأسرع السائق الىٰ القاطرة وصَفَر القطار بشدّة ، فصعد المسافرون الذين كانوا قد نزلوا ، وتحرك القطار قبل وصول القرويين.

الدكتور : ايها العمّ ، ارجوا ان تستمر في حديثك حول القضاء.

اول مورد قضائي متطوّر في عالم اليوم

الشيخ : كما قلت لكم ان اهم ما تفتخر به اوروبا وامريكا اليوم هو استقلالية القضاة. في حين ان الاسلام قام بتلك الخطوة قبل الف واربعمائة عام ، وقد اهتم بهذا الموضوع في قوانينه القضائية ، كما ان الاسلام خوّل القضاة صلاحيات لم يخولها لأي احد سوىٰ الخليفة ونائبه.

يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في عهده لمالك الاشتر عامله علىٰ مصر : ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ، الىٰ ان يقول له : واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له

١٦٤

عندك(١) .

اصدقائي الاعزاء !

وكما لاحظتم في ذلك العهد الذي كتبه امير المؤمنينعليه‌السلام ، فأنه اعتبر اعطاء القاضي قوة وصلاحيات مستقلة ضرورة لابد منها ، لكي لا يطمع فيه شخص ويغتاله بالدسيسة عند الوالي او الخليفة. اذن ، فنحن نشاهد الاستقلال والحصانة التي توصل اليها عالم اليوم واعطاها للقضاة في العهد الذي كتبه عليعليه‌السلام لمالك الاشتر بوضوح.

نموذجان تاريخيان في استقلال القضاء في الاسلام

هنا ، ومن اجل بيان مدىٰ قوة واستقلالية القضاء في الاسلام ، ننقل قصتين تاريخيتين :

الاُولىٰ : تنازع رجل غير معروف مع الهادي العباسي الخليفة حول بستان ، فأحتكموا عند القاضي ابو يوسف ، ورأىٰ ابو يوسف ان الحق لذلك الرجل الغريب ، في حين ان للخليفة ايضاً شهوده !

فأمر ابو يوسف الخليفة بادلاء القسم لأثبات صحة اقوال شهوده ، لكن الخليفة امتنع عن القسم ، واعتبر ذلك اهانة له ، وعندما رأى ابو يوسف ان الحق

________________

(١) نهج البلاغة : ١٣٥ ، طبعة مصر.

١٦٥

مع الرجل الغريب ، اعطاه البستان وادان الخليفة(١) .

الثانية : هو ان الفضل بن ربيع ، واحد من اراذل حاشية الرشيد الخليفة العباسي المعروف ، شهد لصالح الخليفة في حادثة قضائية ، فلم يقبل ابو يوسف القاضي شهادته ، فغضب الخليفة وقال للقاضي : لماذا لا تقبل شهادة الفضل بن ربيع ؟!

فقال القاضي : لأنني سمعت الفضل بن ربيع يقول لك : انا عبدك وغلامك. فإذا كان صادقاً ، فلا تقبل شهادة العبد لصالح سيده ، واذا كان كاذباً ، فنحن لا نقبل شهادة الكاذب(٢) .

المورد الثاني للتطور القضائي في عالم اليوم

أما المفخرة القضائية الثانية لعالم اليوم ، في استقلال القضاة مالياً فهو للحيلولة دون حاجتهم إلى الآخرين. ومن حسن الحظ فقد قام الاسلام بذلك قبل الف واربعمائة عام سبقت علىٰ عصر الذرّة والتطور الذي تتبجح به الدول الاوروبية وأمريكا.

وهذا هو الامام عليعليه‌السلام يقول في عهده لمالك الاشتر في هذا الصدد :

وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته الىٰ الناس(٣) .

________________

(١) العدالة الاجتماعية في الاسلام.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) نهج البلاغة : ١٣٠ ، طبعة مصر.

١٦٦

المورد الثالث للتطور القضائي في عالم اليوم

الخصوصية الثالثة في اوروبا وامريكا بأعتبارهما دولاً حرّة ومتطورة !! هي المساواة امام القانون والقضاء فجميع الامتيازات تلغىٰ في المحاكم القضائية. وهذا الموضوع ايضاً موجود في قوانين الاسلام القضائية بشكل افضل وادّق. ( كما سيأتي في المبحث اللاحق ، ضمن البحث في : شروط القضاء الاسلامي ).

اصدقائي الاعزاء !

ان الاسلام وضع اساساً للمساواة في المحاكم القضائية ، بحيث استطيع القول وانا مطمئن كل الاطمئنان ان اكثر دول اليوم تقدماً وفي قلب اكثر الدول تحضراً في اوروبا وامريكا لا تستطيع ايجاد مثل تلك المساواة ، لن تأتي مثل تلك المساواة لعشرات القرون الاُخرىٰ في عالم البشرية.

الدكتور : صحيح ان ادق النظريات العلمية والقانونية التي تهتم بها اوروبا وامريكا حالياً وفي جميع شؤون الحياة المادية والمعنوية ، كان الاسلام قد طرحها بأحسن وجه قبل ألف وأربعمائة عام ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان عالم اليوم له تطوراته في مجال القضاء « خاصة فيما يتعلق بالمساواة في محاكم القضاء » ، وحتى لو كانت لا تصل الىٰ دقة وظرافة قوانين الاسلام من الناحية العلمية ، فليس كما ادعيت من اننا لن نصل بعد عشرات القرون الىٰ قوانين ، كتلك التي وضعها الاسلام.

١٦٧

الشيخ : سعادة الدكتور ، اقول بصراحة وقاطعية ، ان الاسلام يمتلك قوانين سامية في هذا المجال الاجتماعي والسياسي والامني الحيوي والذي هو اساس سعادة الفرد والمجتمع ، ولا يوجد لها مثيل في جميع انحاء العالم ، ولكي لا يتصور اصدقائي انني اتكلم اعتباطياً ولا يستند كلامي الىٰ شيء ، لابد ان اشرح قسم من قوانين الاسلام القضائية ، لتكون شاهداً حياً علىٰ صدق اقوالي ، وهذهِ الشروط ( القوانين ) يمكن تقسيمها الىٰ اربعة اقسام :

شروط القضاء الاسلامي الفريدة

القسم الاول :

من شروط الاسلام الفريدة في القضاء ، المساواة التي يجب ان يعملها القاضي فيما يتعلق بطرفيّ النزاع ، وهذا القسم من الشروط ، كالتالي :

١ ـ من اجل المساواة بين طرفي النزاع ، قرر الاسلام ان يكون محل جلوسهم في المحكمة في مكان واحد حتىٰ لو كان احدهم الخليفة والثاني فقيراً او عاجزاً ، فليس من حق الحاكم ( القاضي ) ان يميزَّ بين طرفي النزاع(١) .

لا بدّ من محكمة !

ينقل لنا التاريخ : في احدىٰ المرّات وبعد ان انهىٰ هارون الرشيد اعمال

________________

(١) المصدر نفسه.

١٦٨

الحج ، ذهب الىٰ المدينة ، فطلب منه اهل المدينة ان ينصب لهم قاضياً ، لأن قاضيهم كان قد توفي ، وقد عرّفوا اثنين من اتقىٰ علماء المدينة الىٰ هارون الرشيد لهذا الامر ، فأراد هارون ان يختبرهما ، فأحضر احدهما ، وفى حين كان وزيره واقفاً بين يديه ، قال هارون للرجل العالم : بيني وبين وزيري نزاع علىٰ ضيعة ، ثم شرح للعالم اسباب النزاع وطلب منه ان يقضي في الامر ، وبعد ان استمع الرجل العالم الىٰ كلام هارون وشرحه ، ثم الىٰ كلام الوزير وشرحه ، قال بعد تأملّ وتفكرّ : الحقّ مع الخليفة ، وقضىٰ لصالحه ، فأجازه هارون بالانصراف.

ثمّ أمر بأحضار العالم الآخر المرشح للقضاء ، وشرح له ايضاً ذلك النزاع الوهمي بينه وبين وزيره ( كما شرحه للعالم الأول ) ثم طلب منه ان يقضي في الامر.

فقال له العالم والفقيه : انا لا استطيع القضاء هنا ، لأن هذا المجلس ليس محكمة رسمية بنظر القانون القضائي الاسلامي ، ولان احد طرفي النزاع وهو انت تجلس في صدر المجلس وفي المكان المخصص لك ، في حين يقف الطرف الآخر وهو وزيرك بين يديك ، في حين ان الاسلام يأمر بأن يجلس طرفي النزاع في محل ومستوى واحد وان لا يكون بينهما أي تمايز وتفاضل.

وبعد ان سمع هارون الرشيد ذلك الكلام الذي يعبر عن روح اسلامية حرّة في الرجل ، نصّبه قاضياً للمدينة.

١٦٩

اصحاب الابل يشتكون الخليفة

وكنموذج عملي كامل آخر للمساواة القضائية في الاسلام ، قصة شكوىٰ مجموعة من اصحاب الابل استأجر المنصور العباسي ابلهم للسفر الىٰ الحج ، لكنه امتنع عن اعطاءهم اجورهم بعد رجوعه من الحج. فأشتكىٰ اصحاب الابل الىٰ قاضي المدينة ( ومكانته آنذاك لا تتجاوز مكانة رئيس محكمة في مدينة صغيرة اليوم ) تعدّي المنصور علىٰ حقوقهم ، فأرسل القاضي مباشرة خلف المنصور للحضور في المحكمة الرسمية ، وحاكمه وهو جالس الىٰ جانب اصحاب الابل ، ثم اخذ منه اجرة الابل بعد ان اعطىٰ الحق لأصحاب الابل في المجلس نفسه.

٢ ـ ومن اجل مراعاة المساواة الكاملة بين طرفي النزاع ، علىٰ القاضي المساواة في النظرة والاشارة بينهما ، وان لا ينظر الىٰ احدهما اكثر من الآخر او يشير عليه ، الّا في حالة الضرورة.

٣ ـ علىٰ القاضي ان يتكلم مع الاثنين بالتساوي لا يحق له الكلام مع احدهما اكثر من الآخر او ابراز محبة نحوه اكثر من الآخر.

٤ _ علىٰ القاضي الالتفات والاهتمام بكلامهما علىٰ حدّ سواء.

في عهده لشريح قاضي الكوفة ، يقول الامام امير المؤمنين عليعليه‌السلام :

ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتىٰ لا يطمع قريبك في حيفك ولا ييأس عدوك في عدلك(١) .

________________

(١) مستند الشيعة ، للنراقي ، كتاب القضاء ، اضافة إلى سائر كتب الفقه.

١٧٠

حضرة الدكتور ! لكم ان تحكوا هل يجب على القاضي ـ في اكثر دول العالم تحضراً ـ ان يراعي هذا الحدّ من المساواة بين طرفي النزاع ، ويساويهما حتىٰ في النظرة ؟!

هل يعتبر القاضي في اوربا وامريكا غير ملتزماً بالقانون اذا تحدث مع احد المتنازعين اكثر من الآخر واهتم به اكثر من غريمه ؟!

٥ ـ اذا سلّم علىٰ القاضي احد طرفي النزاع عند دخوله المحكمة قبل الآخر ، يحق للقاضي ان يقدم جواب سلامه علىٰ الآخر ، ولكن اذا سلّماً معاً ، علىٰ القاضي ان يقول في جوابهما : سلام عليكما. ولا يحق له ان يقدم جواب سلام احدهما علىٰ الآخر ، لكي لا يعطي بذلك امتيازاً لأحدهما علىٰ الآخر ويخلّ بالمساواة التي يجب ان تكون بينهما(١) .

حضرة الدكتور ! هل توجد من هذه الالتفاتات القانونية في قضاء عالم اليوم ؟! ألا يحق للقاضي في الدول الغربية ردّ سلام احد اطراف النزاع ومجاملته اكثر من الآخر ؟! وهل سيتعامل قضاة امريكا بالمساواة اذا كان طرفي النزاع احدهما رئيس جمهورية امريكا والآخر مستخدم عادي ؟!

القسم الثاني :

وهي الشروط التي يجب توفرها في القاضي لكي يتسلّم هذا المنصب الحساس والمقدس.

________________

(١) المصدر نفسه.

١٧١

سعادة الدكتور ! تعلمون جيداً ان الشرط الوحيد للقضاء في الدول الغربية وسائر دول العالم التي قبلت بنظامها الاجتماعي ، هو الكفاءة العلمية ، لكن الاسلام وضع شروطاً للقاضي منطقية وعقلانية ، تلك الشروط التي لا نجد مثيلاً لها في جميع القوانين القضائية لدول العالم العظمىٰ ، وبالنتيجة فأن اغلب المراجع القضائية في عالم اليوم ليست ملجأً تطمئن اليه الطبقات المحرومة والمستضعفة والشروط هي :

١ ـ من شروط القاضي في الاسلام وبالاضافة الىٰ كفاءته العلمية ، ان يكون عادلاً وله حصانة اخلاقية وعلمية ، لانه الملجأ الوحيد للطبقات المحرومة والمستضعفة والمظلومة في البلاد. لذلك كان من الضروري ان يكون صاحب فضائل اخلاقية وان يكون عفيفاً ، حتى يطمئن الضعفاء والمظلمون عند تعرضهم لظلم وعدوان الاقوياء ان هناك من يلجئون اليه ، وهم القضاة الذين سيأخذون لهم الحق ممن ظلمهم واعتدىٰ عليهم كائناً من كان وفي اي مستوىٰ من القوة والمسؤولية.

ولكن اذا كان القاضي منحرفاً اخلاقياً وغير عادل ومليء بالذنوب ، فهل سيحصل ذلك الاطمئنان لدىٰ الطبقات الضعيفة والمحرومة ؟! وهل سيكونون بمأمن من تعديات الاقوياء واصحاب الاموال ؟! وهل يستطع القاضي الغارق بالخيانة والذنوب ان يكون المدافع عن المحرومين والمظلومين ؟! وهل يمكن تحقيق توقعات الشعب من القضاة ، بمجرد امتلاكهم كفاءة علمية حتىٰ لو كان القاضي خائناً ومنحرفاً ؟!

الدكتور : صحيح فالاسلام ومن خلال هذهِ الشروط التي وضعها

١٧٢

للقاضي حقق اكبر انجاز علمي وقضائي. لان القاضي العادل والذي يمتلك اخلاقاً فاضلة وتقوىٰ هو الذي يستطيع ان يكون ملجأ للطبقات المحرومة والمستضعفة فيما لو تعرضت للظلم والاعتداء ، ولا يمكن لشخص غير عادل لا يمتلك فضيلة اخلاقية ان يقوم بتلك المهمة الحساسة والحياتية لمجرد امتلاكه شهادة دراسية.

الشيخ : والعدالة والتقوىٰ هما أوّل شرطان يجب توفرهما هي القاضي بعد كفاءته العلمية ، اما الشرط الاخرىٰ ، فهي :

٢ ـ ان يكون القاضي صبوراً ، ليتمكن من حلّ اعقد المواضيع القضائية بهدوء وتأمل ودون اي استعجال.

٣ ـ يجب ان يتمتع القاضي بالحلم وان لا يغضب لسماعه كلام طرفي النزاع الذي لا يخلو عادة من الكلمات الجارحة والنابية.

٤ ـ يجب ان يكون القاضي علىٰ مستوىٰ من الاخلاق الفاضلة ، للحد الذي اذا اطلع في يوم من الايام علىٰ خطأ ارتكبه. يسحب كلامه ولا يعتبر ذلك عاراً.

٥ ـ يجب ان يكون القاضي صاحب همّة عالية ، لكي لا يتوقع اجراً مقابل قضاءه بالحق وحكمه الصحيح.

٦ ـ يجب ان لا يكون القاضي عاطفياً ، لكي لا يتعب من الدقّة في القضايا ، ولا يقضي فيها من خلال نظرة سطحية ، بل يبذل كل ما في طاقته ووسعه للتدقيق فيها.

١٧٣

٧ ـ يجب ان يكون القاضي انساناً وقوراً وحكيماً لكي لا يتأثر بمدح او هجاء اطراف النزاع له.

وقد جمع الامام امير المؤمنينعليه‌السلام هذهِ الشروط كلها في عهده الذي كتبه لمالك الاشتر حينما ولّاه مصر ، فقال(١) :

« ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الامور ولا تحكمه الخصوم ولا يتمادىٰ في الزلّة ولا يحصر في الفيء الىٰ الحق اذا عرفه ولا تشرف نفسه علىٰ طمع ولا يكتفي بأدنىٰ فهم دون اقصاه واوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، واقلهم تبرماً بمراجعة الخصم واصبرهم علىٰ تكشف الامور واصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه اطراء ولا يستميله اغراء ».

التعجب والحيرة !

الدكتور : رفاقي الاعزاء ، من خلال معلوماتي الكثيرة عن القوانين القضائية في العالم ، يجب ان اعترف بصراحة ، ان مثل هذهِ الشروط التي يجب توفرها في القاضي بحكم العقل والمنطق ، غير موجودة في جميع دول اوروبا وامريكا وفي صميم اكثر الدول تحضراً علىٰ الارض ، علىٰ الرغم من ذلك الضجيج الذي احاطوا انفسهم به ، ومما يبعث علىٰ التعجب والحيرة هو ان المسلمين وعلى الرغم من امتلاكهم مثل هذهِ الذخائر من القوانين القضائية العلمية يمدون ايديهم الىٰ انظمة الغرب ليستعيروا منها قوانينهم الوضعية.

________________

(١) نهج البلاغة : ١٣٠ ، طبعة مصر.

١٧٤

والاعجب من ذلك كله هو ليس فقط عدم تطبيق هذهِ القوانين في المجتمعات الاسلامية ، بل ان اغلب المسلمين لا يعلمون بوجود مثل هذهِ القوانين الراقية والمتطورة.

اصدقائي الاعزاء !

من خلال استماعي لهذهِ الحقائق والمعارف العلمية التي جاءت في هذا الدين المقدس والذي ظهر قبل الف واربعمائة عام في عالم مظلم ، من أجل خلاص البشرية ، ومقارنتها بقوانين اكثر البلدان تحضّراً في اوروبا وامريكا ، اعطي تمام الحق للعلماء الغربيين وغير المسلمين ان يخضعوا بهذا الشكل امام نبي الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله وان يعترفوا له بأدق واسمىٰ مكانة علمية.

القسم الثالث :

الشيخ : الحالات التي يجب ان يتجنبها القاضي عند الحكم ، وهذه الشروط هي :

١ ـ يكره(١) للقاضي اصدار الحكم وهو في حالة غضب.

٢ ـ يكره القضاء عندما يكون القاضي جائعاً او عطشاناً.

٣ ـ يكره القضاء ، اذا كان القاضي حزيناً غير مرتاح نفسياً.

________________

(١) المكروه ، هو العمل الذي يجوز القيام به ، ولكن يستحسن تركه.

١٧٥

٤ ـ يكره القضاء ، اذا كان القاضي متضايقاً من البول او الغائط(١) .

اصدقائي الاعزاء !

نفهم من خلال هذهِ الشروط التي وضعت للقاضي في الاسلام ، ان الدين يريد ان يكون حكم القاضي خالٍ من كل تأثيرات جانبية صغيرة او كبيرة من اجل ان يكون حكمه صحيحاً وحقاً ، لانه وخلاف ذلك لربما يضيع حق مظلوم او لا يطمئن المعتدىٰ عليه لجهاز القضاء في ان يأخذ حقه من المعتدي.

القسم الرابع :

وهي ما يتعلق بالشروط التي يضعها الاسلام لموظفي المحاكم القضائية ، لان يعدم تقواهم لربما يؤدي يوماً ما الىٰ عرقلة تنفيذ حكم القاضي ويؤخر قطع يد المعتدي عن المظلوم ، وهذا القسم من الشروط كالتالي :

١ ـ لابد ان يكون كاتب المحكمة والشخص المكلّف بتحرير حكم القاضي ، من ذوي الهمم العالية والبعيدين عن صفات الطمع وحب المال و لكي لا يخون بالتطميع او ان يؤدي الىٰ عرقلة او تأخير اجراء الحكم.

٢ ـ لا يحق للقاضي ان يضع لنفسه حاجباً(٢) ؛ لان القاضي ملجأ للمظلومين ويجب ان يكون الوصل اليه سهلاً يسيراً دون مانع أو حاجب ، كي

________________

(١) مستند الشيعة للنراقي ، كتاب القضاء.

(٢) لم ير بعض الفقهاء والمجتهدين حرمة في تعيين حاجب للقاضي ، بل اعتبروه مكروهاً.

١٧٦

يمكنه تخليص المظلومين من مخاطب الظالمين بأقصىٰ سرعة ؛ لان الحاجب ربما قام بتظليل الحاكم ( القاضي ) من خلال صداقته او قربه من الظالم والمعتدي ، وذلك بالمتعلق للقاضي ، ونقل اخبار غير صحيحه عن وضع المجتمع والناس له ، ولربما يكون حائلاً دون وصول صوت المظلومين الىٰ مسمع القاضي(١) .

اهم انجاز قضائي اسلامي

أتعلم يا سعادة الدكتور ، ان اكبر انجاز قضائي في الاسلام ، هو سرعة العمل وعدم وجود اي نوع من التشريفات !

اصدقائي الاعزاء !

اتعلمون ان القوانين القضائية مثل القوانين الطبية ، اي كما ان قوانين الطب موظفة لمعالجة المريض وخلاصه من مخالب الألم ، فأن المحاكم القضائية أيضاً موظفة بتخليص المظلومين من ايدي الظالمين واحقاقهم ، وكما ان الطب الجيد هو الذي يعالج مريضه بسرعة ويخلصه من آلام المرض ، فكذلك افضل المحاكم والقوانين القضائية هي تلك التي تقطع بسرعة يد المعتدين عن المظلومين وتخلصهم من مآسي الظلم.

أمّا إذا أصبحت قوانين الطب في يوم ما سجينة تشريفات معينة ، فمثلاً ،

________________

(١) مستند الشيعة للنراقي ، كتاب القضاء.

١٧٧

يؤتىٰ بمريض الزائدة الدودية(١) وهو يتلوّىٰ من شدّة الألم ، ويقول له الطبيب ، يجب ان تملأ استمارة وننظم لك اضبارة ، ثم نرسل الاضبارة الىٰ وزارة الصحة ، وبعد ان تمر بجميع المراحل القانونية ، ويتخذ قرار بمعالجتك ، واُبلّغ بذلك القرار ، سأقوم بعلاجك !!

فهل يمكن تسمية مثل هذه المؤسسة الطبية ـ ايها السادة ـ مؤسسة طب وعلاج ، بل هي ألعوبة وعبث ؟! وأي طبٍ هذا الذي يرىٰ المريض يتلوىٰ ألماً ، فيما ينتظر هو القيام بالروتين الاداري ؟!

اصدقائي الاعزاء !

لم توضع القوانين القضائية إلّا لانصاف المظلوم من الظالم ، والمحاكم القضائية ملاجىء قوية وسند للناس المحرومين والمستضعفين ، وعلىٰ هذا الملجأ والسند ان يغيث الناس بسرعة بسلاح القانون ويخلصهم من وطأة الظلم.

لكننا وللأسف نشاهد ان اعمال هذهِ المؤسسة المهمة مكبلة بتشريفات باطلة وزائفة ليس فقط في بلادنا بل حتىٰ في الدول التي تدعي لنفسها المدنية والتطور ، ممّا أدىٰ عملياً الىٰ استمرار الظلم والاعتداء علىٰ حقوق الآخرين ، فعجلة القضاء في جميع دول العالم بطيئة الىٰ حدّ نشاهد في بعض الاحيان المظلوم يموت تحت وطأت الظالم وبعد موته يصدر الحكم بمعاقبة الظالم والتخليص المظلوم !! وعذرهم في ذلك هو ان القضية يجب

________________

(١) Appendicite ، التهاب في الزائدة الدودية ، تصحبه آلام وحمّى وقيء.

١٧٨

ان تطوي مراحلاً قانونية واننا مشغولون بدراستها جيداً !! ولكي لا يملّ الاصدقاء من كثرة الحديث ، انقل لهم نماذُج لأساليب الاجهزة القضائية في عالمنا المعاصر :

القضية التي استمرت ١٩ عاماً !!

ينقل أحد مسؤولي وزارة العدل الكبار سابقاً وهو الآن متقاعد ، وكان عند تقاعده يشغل منصب مدعي عام احدىٰ المدن ، يقول السيد ( م ) في مذكراته : كنت مشغولاً في الشعبة الاولىٰ لمحكمة المدينة بدراسة قضية. مفادها ان شخصاً بأسم ( ح ) اقام دعوىٰ ضد بلدية طهران لخلع يدها عن قطعة ارض ، وذلك سنة ١٩٢٧ ، وكانت هذهِ القضية مستمرة لفترة ١٩ عاماً ، أي حتى سنة ١٩٤٦ ، حتى اعلنت في تلك السنة نهايتها وامرت بأخلاء الارض المتنازع عليها.

القضية التي استمرت ١٨ عاماً

ويذكر نفس الشخص ، فيقول : اقام احد المقاولين سنة ١٩٢٨ دعوىٰ ضد وزارة الحرب لأخذ طلبه منها ، وبقيت هذه القضية ١٨ عاماً تطوي مراحلها القانونية ، حتى اعلنت نهاية تحقيقها سنة ١٩٤٦ وحكمت بدفع المبلغ المذكور الىٰ المقاول من قبل وزارة الحرب.

١٧٩

تنظيف الوفر في شهر آب !!!

يقال ان رجلاً اشتكىٰ الىٰ القضاء من جاره الذي حول الوفر من سطح بيته الىٰ داخل بيت الرجل وذلك في شهر شباط ( اي في الشتاء ) ولانه يخاف علىٰ بيته من الضرر لأن بناءه قديم. وبعد ان قدم الرجل شكواه رجع للبيت فارغ البال وهو ينتظر ان يصدر حكماً بأزاحة الوفر والجليد من فناء داره في عصر ذلك اليوم أو غده ، لكنه مضت اسابيع وشهور ولم يصدر الحكم ، حتى اجتازت القضية مراحلها القانونية وصدر الحكم بالاخلاء ولكن ذلك كان في شهر آب والله العالم في تلك السنة او السنة التي تلتها !

هنا ضحك الجميع طويلاً.

لا بدّ من تحملّ دلال ملك الموت !!

قرأت في أحدىٰ الصحف خبراً لطيفاً بالعنوان اعلاه ، ونصّ الخبر يقول : « وصل لأحد العمال ابلاغ من المحكمة ، وعندما يذهب العامل في اليوم الثاني للمحكمة وعرّف نفسه ، لم يقبل بذلك اعضاء المحكمة ، وقالوا له : يجب أن تأتي الىٰ المحكمة برفقة احد رجال الشرطة ، فيذهب المسكين الىٰ احدىٰ المناطق القريبة من المحكمة ويتوسل الىٰ احد رجال الشرطة لكي يرافقه ( يحضره ) الىٰ المحكمة !! »(١) .

________________

(١) مجلة الرقيّ ، العدد ٣٥٨. ( بالفارسية )

١٨٠

ايها السادة المحترمون !

مثل هذهِ الامور كثيرة جداً في التاريخ القضائي لبلادنا. وان ذكرها بأجمعها يحتاج الىٰ سنوات من الوقت.

والحقيقة هي ان القيود التي وضعها العالم المتحضر علىٰ القوانيين القضائية سلبتها السرعة اللازمة وجعلها كما هي الآن مضحكة ، مما ادىٰ الىٰ يأس الفئات المستضعفة من احقاق حقها بواسطة الاجهزة القضائية ، للحدّ الذي يرضىٰ اكثر المظلومين المستضعفين بغض النظر عن حقوقهم المسلّمة والقانونية على أن يرجعوا الىٰ المحاكم.

لكن الاسلام العظيم لا يرضىٰ ان يكون هناك عمل مهما كان صغيراً بعنوان طي مراحل قانونية او عناوين اُخرىٰ في دائرته القضائية ، ومع ان المحكمة الاسلامية ليس فيها الّا عضوان هما القاضي والكاتب ( الذي يحرر الحكم ) ، الّا انه في الغالب يفضّ النزاع في اول جلسة قضائية ، ويأخذ كل واحد حقه.

المحكمة القضائية الاسلامية برأي غوستاف لوبون

يقول الدكتور غوستاف لوبون حول القضاء في الاسلام :

« القضاء الاسلامي وترتيب المحاكمات وجيز وبسيط ، فهناك شخص منصب من قبل الحاكم لأمر القضاء ، يتابع جميع القضايا شخصياً ويحكم فيها ،

١٨١

وحكمه هذا قطعي ، ففي المحكمة الاسلامية ، يدعىٰ طرفي النزاع الىٰ الحضور شخصياً الىٰ المحكمة ويقومان بشرح القضية ويقدم كل طرف منهم دليله ، ثم يصدر القاضي حكمه في ذلك المجلس.

لقد حضرت مرّة في احدىٰ هذهِ المحاكم في المغرب ورأيت كيف يقوم القاضي بعمله ، كان القاضي يجلس علىٰ كرسيه في بناية متصلة بدار الحكومة ، كما ان كلّ واحد من المتداعيين أيضاً يجلس في مكانه ومعه شهوده ، وكانوا يتحدثون بألفاظ مختصرة وكلام بسيط ، فإذا كان احدهم يحكم عليه بعدّة سياط ، كان الحكم ينفذ فيه في ختام الجلسة ، واكبر فوائد هذا النوع من القضاء هو عدم ضياع وقت المتداعيين ، وعدم وجود خسائر مالية للمتداعيين بسبب المراجعات الادارية التي نراها اليوم ، ومع البساطة والايجاز الذي ذكرته فأن الاحكام الصادرة كانت عادلة ومنصفة ».

ليس في الاسلام استئناف ولا تميز

الدكتور : الشروط التي ذكرتها والالتفاتات العلمية الموجودة في القضاء الاسلامي ليس لها مثيل في قوانين القضاء الوضعية في جميع العالم ، حسب معلوماتي الشخصية ، ورغم الضجيج الاعلامي الذي تقوم به اوروبا دعاية لمؤساستها القضائية ، فليست هناك مؤسسة متطورة كما هو الحال في المؤسسات القضائية الاسلامية. لكن هناك امر في قوانين القضاء الوضعية المعاصرة لا نجدها في القوانين القضائية الاسلامية ، وتلك مرحلة الاستئناف والتميز ، اي ان القوانين القضائية المعاصرة تكون علىٰ مرحلتين ، فلو اخطأ

١٨٢

القضاة في المرحلة الاولىٰ او ارتكبوا خيانة ، تذهب القضية مباشرة الىٰ محكمة الاستئناف ومن ثم الىٰ التميز وهناك تدرس وتتابع من جديد ، في حين ان الاسلام فاقد لهذهِ الميزة القضائية ( الاستئناف والتميز ).

الشيخ : ان وجود مرحلتان قضائيتان في عالم اليوم وعدم وجود ذلك في القانون القضائي الاسلامي هو دليل هام علىٰ استحكام مباني القوانين القضائية الاسلامية ، وهشاشتها في القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ، ولان الاسلام يأخذ الحدّ الاقصىٰ من الاحتياط والدقة في المرحلة الاولىٰ وضمن الشروط الواجب توفرها في القاضي. لان تلك الشروط التي ذكرناها مسبقاً تجعل من الصعب ان يخطيء القاضي او يخون وبذلك تنتفي الحاجة الىٰ مرحلة الاستئناف والتميز.

أمّا دنيا اليوم ترىٰ ان شرط القضاء الوحيد هو الشهادة الدراسية ، دون الاخذ بالجوانب الاُخرىٰ والتي تجعل من اي شخص قاضياً لمجرد انه خريج فرع القانون ، لابد وان لا تطمئن لقضاءهم وان تجعل احتمال الخطأ والخيانة مساوياً لاحتمال الصحة في الحكم !

سعادة الدكتور ! حتىٰ لو فرضنا ان جميع القضاة عدول واتقياء ، فان الاسلوب القضائي المتبع اليوم لا يبعث علىٰ الاطمئنان ، لان الاضبارة التي يجب ان يدرسها القضاة نظمت في محلّ آخر ، ومن اين للقضاة ان يطمئنوا اليها وانها لم تطلها يد التحريف والتزوير ، وهل تستطيع تلك الاضبارة أن تعكس واقع الناس المساكين والمظلومين ؟! وهل الاحكام التي تصدر من مثل هذه الاضبارات صحيحة ويمكن الاطمئنان إليها ؟

١٨٣

سعادة الدكتور ! يحاول عالمنا المعاصر حلّ مشاكله القضائية مثل احتمال الخيانة او الخطأ ( وهو احتمال قوي جداً وفي محله ) عن طريق محكمة الاستئناف والتميز ، في حين ان هذا الامر خطأ تماماً وتصور مغلوط ، لان القضاة الكبار في محكمة الاستئناف والتميز ليسوا ملائكة ، بل من اولئك المتعلمين الذين يعتبر شرط استخدامهم الوحيد هو شهادتهم الدراسية ، اي ان قضاة الاستيناف والتميز ايضا من نفس شاكلة القضاة العاديين ، فكيف لا يطمئن الىٰ حكم المحاكم العادية ويطمئن الىٰ حكم محكمة الاستئناف والتميز ؟! فهل ان قضاة المحاكم العادية غير عدول وغير متقين ، لكن قضاة محاكم الاستيناف والتميز عدول ومتقون ؟!

أليسوا جميعاً من صنف وهيئة واحدة ، والشرط الوحيد لعملهم هو الورقة التي في ايديهم ( الشهادة الدراسية ) ؟!

أمّا الاسلام وعلىٰ الرغم من عدم وجود محكمة استئناف وتميز في تشكيلاته القضائية ، يمكن الاطمئنان الىٰ قضائه سبب الشروط التي يضعها للقضاء ، وللحد الذي يعترف بصراحة الدكتور غوستاف لوبون :

« علىٰ الرغم من بساطة عملية القضاء الاسلامي والايجاز الذي فيها ، إلّا ان جميع الاحكام الصادرة عادلة ومنصفة. على العكس من القضاء في دول اوروبا وامريكا رغم تشكيلاته العريضة والطويلة والمعقدة ».

سعادة الدكتور ! لقد اراد العالم الاوروبي والامريكي من خلال محاكم الاستئناف والتميز ، الدقّة والحيطة التي اتبعها الاسلام قبل تعيين القاضي من

١٨٤

حيث شروط القضاة والشهُود ، ولقد اثبتنا ان اجراءات الاسلام لها دور مهم وبارز في القضاء لا يمكن لمحاكم الاستئناف والتميز القيام به ، ويجب ان نعترف بأن محكمة الاستئناف والتميز ايضاً تتبع نفس الاجراءات الروتينية التي تتبعها المحاكم العادية ، وليس لها تأثير سوىٰ في المبالغ الطائلة التي تصرف سنوياً من اموال هذا الشعب المسكين !

جواب سؤال

الطالب الجامعي ، حسن : أيّها العمّ العزيز كيف لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز ، مع ان الاسلام يرىٰ احتمال نقض حكم القاضي الأوّل من قبل قاض ثان ، او ان المحكوم يطلب اعادة محاكمته عند قاضٍ آخر ؟

الشيخ : الموارد التي يمكن فيها نقض حكم القاضي ، ان المحكوم يمكنه طلب اعادة المحاكمة عند قاص آخر ، لا تشبه ما عليه في محاكم الاستئناف والتميز في عالم اليوم. لانه هناك ثلاثة مراحل قضائية في مؤسسات القضاء المعاصرة ، هي : المرحلة الاولية والاستئنافية والتميزية ، فمرحلة الاستئناف فوق مستوى المرحلة الاولىٰ والتميز فوق مرحلة الاستئناف ، من شروط عقد محكمة الاستئناف هو ان لا يمضىٰ اكثر من عشرة ايام علىٰ تاريخ صدور الحكم من قبل المحكمة الاولىٰ ، كما ان محكمة التميز تنعقد بشروط خاصة ، كما لا يوجد في انعقاد محكمة التميز ، امتيازاً بين الدعاوىٰ الجزائية او الحقوقية.

١٨٥

وتنعقد محكمة الاستئناف في حال طب المحكوم ضده ، سواءً كان يحتمل الخطأ في الحكم الصادر بحقه او متيقن من خطأه ، فالقانون يقرّ انعقاد محكمة الاستئناف لمجرد طلب الشخص الذي صدر الحكم ضده ، وسواءً قطع قضاة محكمة الاستئناف بخطأ قضاة المحكمة الاوليّة اوقطعوا بعدهم خطأهم ، واحتملوا الخطأ أو الخيانة في حكمهم ، واذا ما انعقدت محكمة الاستئناف وبعد دراستهم لأضبارة طرفي النزاع ، استنبطوا حكماً مخالفاً لأستنباط المحكمة الاولىٰ ، عند ذاك يقومون بنقض حكم المحكمة الاولىٰ ويصدرون هم حكماً محله.

موارد نقض الحكم في قوانين الاسلام القضائية

في الاسلام لا يحق لقاضٍ نقص حكم قاض قبله الّا في ثلاث موارد ، هي :

1 ـ اذا لم يرَ القاضي الثاني صلاحية وجدارة في القاضي الأول لمقام القضاء.

2 ـ فيما لو كان حكم القاضي الأول مخالفاً للأدلة القاطعة والقواعد المسلّمة في القضاء الاسلامي ، مثل : مخالفة للاجماع المحقق والثابت والخبر المتواتر وامثالها.

أمّا إذا استنبط القاضي الاول حكماً علىٰ اساس القوانين القضائية الاسلامية ، لم يستنبطه القاضي الثاني منها ، بل فهم منها شيئاً آخراً ، ففي هذه الحالة لا يحق للقاضي الثاني نقض حكم القاضي الاول.

١٨٦

3 ـ عندما يثبت تقصير القاضي الاول في دراسته للقوانين والادلة القضائية ، ولم يدقق فيها بشكل جيد.

حول طلب اعادة المحاكمة في الاسلام

أمّا الموارد التي يمكن فيها للمحكوم ضده طلب اعادة المحاكمة ، هي الادعاء بقطع خطأ القاضي في حكمه ، او انه لم يكن يمتلك صلاحية علمية للقضاء ، او انه كان فاسقاً ، او ان الشهود لم يكونوا عدول وانهم فساق ومثل هذهِ الادعاءات.

كما انه لا تعاد المحاكمة لمجرد تلك الادعاءات ، بل على المحكوم في البداية اثبات دعواه ، فلو ادعىٰ المحكوم ان القاضي قد اخطأ ، عليه اولاً ان يثبت خطأ القاضي ومن ثم طلب اعادة المحاكمة.

أمّا اذا لم يثبت المحكوم خطأ القاضي او عدم صلاحيته او عنوان آخر مما ذكرناه ، فليس له طلب اعادة المحاكمة لمجرد احتماله الخطأ وحتىٰ لو طلب ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي ان يبحث ويدرس حكم القاضي الأول.

خصوصيات المسألتين في القضائين الاسلامي والوضعي

اصدقائي الاعزاء !

أتصوّر انه ومن خلال ما ذكرته اعلاه ، يتضح الفارق بين محكمة

١٨٧

الاستئناف والتميز عن الموارد التي يمكن فيها للقاضي المسلم نقض حكم قاض آخر او التي يحق للمحكوم فيها طلب اعادة محاكمته ، وثبت عدم تشابه ما يطرحه الاسلام عما موجود في الانظمة الوضعية ( محكمة الاستئناف والتميز ) ، وبشكل عام فأن الفوارق القضائية بين الاسلام والوضعية ، هي كالتالي :

1 ـ لا توجد في المؤسسة القضائية الاسلامية ثلاثة مراحل قضائية ، خلافاً للمؤسسة القضائية الوضعية المعاصرة التي لها ثلاث مراحل قضائية ، هي : المرحلة الاولية والاستئناف والتميز.

2 ـ من منظار القوانين القضائية الاسلامية ، اذا كان استنباط احد القضاة مخالفاً لأستنباط وحكم القاضي الاول ، فليس له اي حق في نقض ذلك الحكم الاولي ، في حين ان القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ترىٰ ان استنباط قضاة محكمة الاستئناف إذا كان مخالفاً للحكم الاولي ، ينقضه ويصدر مباشرة حكم آخر في القضية.

3 ـ لا يقبل من المحكوم طلب اعادة المحاكمة ما دام لم يدعي خطأ القاضي الاول بشكل قطعي او عدم صلاحيته اوفسقه او الخ ، وحتىٰ لو طلب المتهم ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي اعادة المحاكمة او النظر في حكم القاضي الاول ، اما لو اتهم المحكوم القاضي الاول بما ذكرناه مسبقاً ، فلا تنعقد محكمة جديدة مباشرة أيضاً ، لانه عليه ان يثبت ما ادعاه اولاً ، في حين ان قوانين القضاء الوضعية تقرّ بتشكيل محكمة استئناف بمجرد طلب المحكوم لذلك ، كما ان لقضاة محكمة الاستئناف النظر في حكم المحكمة الاولىٰ ونقصه ،

١٨٨

وعلىٰ هذا لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز بالمعنىٰ الوارد في القوانين الوضعية المعاصرة ، وان عدم وجود مرحلتي الاستئناف والتميز في القانون القضائي الاسلامي لهو خير دليل علىٰ استحكام مبنىٰ القضاء في الاسلام ، ونزلزله في القضاء الوضعي.

كانت تلك جوانب من خصوصيات قوانين القضاء الاسلامي مقارنة بالقضاء الوضعي المعاصر ، وهناك الكثير من نماذج تفوق القوانين الاسلامية علىٰ غيرها مما يعمل به في عصرنا الحاضر.

ملاحظة بعض قوانين الاسلام الجزائية

الدكتور : كما اشرتم ، ان قوانين الاسلام تتفوّق علىٰ قوانين العصر الوضعية في العديد من المجالات ، وهو امر لابد من الاعتراف به ، ولكن هناك بعض القوانين الجزائية في الاسلام ، ادت الىٰ الطعن في صميم الدين وتلك هي العقوبات الشديدة التي فرضت علىٰ بعض الذنوب في الاسلام ، مثل قطع يد السارق ، او السوط بالنسبة للزاني او شارب الخمر ، فالعالم الغربي يرىٰ ان هذهِ العقوبات اعمال وحشية ، يجب ان لا تنفذ علىٰ البشر.

الشيخ : ان معرفة حقيقة معينة تحتاج الىٰ معرفة سائر القضايا التي ترتبط بها بنحوٍ ما.

أمّا إذا أردنا دراسة موضوع ما دون الاخذ بالمواضيع الاخرىٰ المتصلة به ، فلن نصل الىٰ معرفة حقيقة وصحيحة فيما يتعلق به. ومن النماذج التامة لذلك هي القوانين الجزائية الاسلامية التي سألتم عنها. والاشكالات التي

١٨٩

يواجهها البعض مع القوانين والاحكام الجزائية في الاسلام ، مصدرها ذلك الخطأ ، وهو انهم ينظرون فقط الىٰ احكام الاسلام فيما يتعلق ببعض العقوبات ، دون الاخذ بنظر الاعتبار للقوانين التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتمع من الاثم والذنب ، والتي تعد القوانين الجزائية الشديدة ، آخر علاج لها.

أمّا الخطوات والأحكام التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتع وجعله فاضلاً ، فهي كالآتي :

أ ـ العوامل التربوية :

يستند الاسلام غالباً في صيانة المجتمع وابعاده عن العصيان والذنوب الىٰ العوامل التربوية التي يطرحها ، وهذهِ العوامل واسعة وشاملة بحيث لو أنّها طبقت بشكل جيد تضمن سلامة المجتمع ونظافته وتقيه من 90% من المعاصي.

والعوامل التربوية كثيرة في الاسلام ، لكن اهمها :

1 ـ الايمان بالله.

2 ـ الالتزام والمسؤولية.

3 ـ الالتفات الىٰ الآخرة والحساب والاجر والعقاب.

4 ـ دعوة الانسان الىٰ الفضيلة ومحاربة الخصال الذميمة.

5 ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٩٠

6 ـ الصلاة بمعاينها السامية ومفاهيمها التربوية الخاصة.

7 ـ الصوم.

وعشرات العوامل الاُخرىٰ التي لها أدوار أساسية في تربية الانسان بتمام معنى الكلمة.

ب ـ العلاج من الاساس :

المسألة الاخرىٰ التي التفت اليها الاسلام من اجل تطهير المجتمع من الذنوب والمعاصي ، هي معالجة الظواهر من الاساس ، ومهاجمة العوامل الاساسية التي تؤدي الىٰ الذنب والمعصية ، وهذهِ بحد ذاتها مرحلة مهمة يجب الالتفات اليها قبل دراسة القوانين الجزائية الاسلامية الشديدة.

فالاسلام عندما حرّم الزنا ـ علىٰ سبيل المثال ـ لم يتجاهل الغريزة الجنسية للانسان او يقمعها ، بل وضع لها طرق شرعية متعددة لو طبقت سدت حاجة الانسان الجنسية.

ولو كان الاسلام شديداً في تعامله مع السارق فلأنه طرح نظاماً اقتصادياً ليست فيه فوارق طبقية وتمايزات بين البشر ، وهو يدعو الىٰ توزيع الثروات الطبيعية والدخل علىٰ اساس العدل ، وعلىٰ ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، لن يكون هناك محتاجاً في المجتمع حتىٰ يقال : لماذا يقطع الاسلام يد السارق الجائع ، الذي ما سرق إلّا ليشبع بطنه ؟! لانه سيقال في جواب ذلك اولاً ، لن يكون هناك جائع على ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، بل هو سيملك حق

١٩١

الاستفادة من جميع المصادر الطبيعية في العالم بقدر حاجته وعلىٰ اساس اصالة العمل. وثانياً متىٰ قال الاسلام بقطع يد السارق في النظام الذي يبيت فيه الاشخاص جياعاً ؟!

أجل ، ان علاج الحالات المرضية من الأساس هو الأصل الثاني المهم الذي وضعه الاسلام لتطهير المجتمع من الجريمة والمعصية ، وذلك من خلال قلع جذور الاسباب الرئيسية للجريمة.

ج ـ الاحام الجزائية في الاسلام :

وفي نهاية المطاف ، وكآخر حلّ يضع الاسلام مجموعة من العقوبات لردع الانسان العاصي والوقوف دون وقوع الجريمة ، والآن إذا أراد شخص ان ينظر الىٰ احكام العقوبات فقط وتجاهل الموردين الاوليين المهمين في الاسلام ، فأن هذا الشخص مخطئ تماماً ، لانه وكما شرحنا من قبل وضع الاسلام من جهة عوامل تربوية واسعة وشاملة تقوم ببناء شخصية الانسان من خلالها ، ويسيطر بها على الصفات الرذيلة ، لكي يرتدع الانسان من خلال امتناعه عن الذنب والمعصية.

ومن جهة اخرىٰ ، قام بقطع دابر العوامل المؤدية للذنب من الجذور ، ووضع حلولاً علمية مناسبة لجميع المشاكل وفي كل المجالات ، وفيما لو طبقت تضمن جميع متطلبات الانسان وحاجياته الطبيعية والمشروعة.

وصدقوني ان نسبة عالية من الناس لو اجتازوا هاتين المرحلتين سيكونون بكل تأكيد اشخاصاً متقين واصحاب فضائل.

١٩٢

أمّا لو بقي رغم ذلك كله شخصاً مصرّاً في اختيار الطرق الشيطانية والخصال الرديئة ، فهنا وكآخر وسيلة للعلاج ، يتعامل الاسلام معه بشدّة ويقف من خلال قوانينه واحكامه سدّاً مقابل هذه الاعمال التي تريد هدم كيان المجتمع.

وهنا لكم ان تحكموا ، أليس من غير الانصاف ان يأتي شخص ويحكم في قوانين الاسلام الجزائية ويدينها دون الاخذ بنظر الاعتبار للمسائل الاُخرىٰ المرتبطة بها ، اي تلكما المرحلتان التي ذكرتهما من قبل ؟!

الثقافة

من الضروري الالتفات الىٰ ان الاسلام يرىٰ ان العوامل التربوية والمرحلة الثانية التي هي علاج الحالات المرضية من الاساس لها دور مؤثر وقوي جداً في تطهير المجتمع وردع الاشخاص عن الذنب والعصيان ، كما ان القوانين الجزائية لو طبقت بشكل جيد يمكن ان تقف امام المعاصي وتحول دون انتشار الفساد.

أمّا الايديولوجيات الوضعية ـ وللأسف الشديد ـ لا هي تستخدم العوامل التربوية المؤثرة ولا هي تقدم حلولاً اصولية من اجل تأمين حاجات الانسان ومتطلباته المختلفة ، ولا تقدم للأسف ايضاً قوانين جزائية صارمة يمكنها مكافحة الجريمة والفساد بشكل واسع ومؤثر.

١٩٣

الذين قطعت ايديهم !!!

هنا قد يقال : لو ان السارقين تقطع اياديهم ، لفقد الكثير من الناس في المجتمع اياديهم ؟! وفي جواب ذلك ، نقول :

بل العكس فلو طبقت تلك القوانين ( خاصة مع الاخذ بالمرحلتين الاوليتين المذكورتين ) لن يكون في المجتمع مقطوعي ايدي ولا سارقين ، ومثال ذلك في عصرنا دولة السعودية ، فعلىٰ الرغم من عدم وجود عوامل تربوية صحيحة في ذلك المجتمع ونظام اقتصادي اسلامي عادل ، وعلىٰ الرغم من الفوارق العميقة الموجودة وترف ولهو وثروات الامراء والحواشي والمقربين من اموال النفط وعائداتة الطائلة ، فليس هناك سرقة ( طبعاً السرقة العادية وليست السرقات الكبيرة التي يقوم بها المسؤولون والامراء من اموال الشعب ) ولا ايدٍ مقطوعة ، لانه علىٰ الاقل تطبق الحكومة السعودية قانون قطع يد السارق ، وهذا ما يمكن التأكد منه بواسطة آلاف الحجيج الذين يذهبون سنوياً الىٰ هناك للحج ، فكم من يدٍ وجدوها مقطوعة ؟! وكم رؤوا من السرقات ؟! وحتىٰ لو شاهدوا السرقات فيه أقل بكثير مما يحدث في أي دولة اُخرىٰ.

فهذا نموذج عملي واحد عن دور القوانين الجزائية الاسلامية فيما يتعلق بالسرقة في عالمنا المعاصر ، علىٰ الرغم من ان السعودية دولة لا تطبق النظام الاقتصادية الاسلامي وليس هناك توزيع عادل للثروة ، كما انها من البلدان المتخلفة ثقافياً وحضارياً.

١٩٤

قاطعية الاسلام في مكافحة الفساد

لا يُنكر ان الاسلام واجه المذنبين والعصاة المفسدين بعقوبات شديدة ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان ذلك كله من أجل مصلحة المجتمع وبسبب خطورة المعصية اجتماعياً ، ولا يهدف الاسلام في قوانينه الجزائية إلّا المكافحة الحقيقية للمعصية.

والاسلام ليس كالعالم المعاصر وقوانينه ، الذي يسوّي المسألة مع العاصي أو المذنب ، وبهذا الشكل يتلاعب بسعادة المجتمع ومصلحته.

فالاسلام يرجح أن يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً من أجل ان يقطع دابر شرب الخمر من المجتمع ويخلصه من امراضه.

والاسلام يرجح ان يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً ولكن في المقابل يكون له ولجميع يجله رادعاً عن فعل ذلك للأبد.

والغريب ان عالمنا المعاصر وعلىٰ الرغم من اعترافاته بأضرار شرب الخمر ، فهو يقول ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وخطرة وانها تؤثر سلباً علىٰ المخ والدم والقلب والاعصاب والجلد والجهاز الهضمي و الخ ، لكنه لا يتعامل بجدية مع القضية ويتساهل مع شارب الخمر بشكل يعتبر عمله ترغيباً واشاعة للمعصية !

ولو كان العالم المعاصر يريد قلع جذور السرقة والاعتداء علىٰ اموال وممتلكات الناس ، فلماذا يتساهل مع السارق ويبدي معه تسامحاً ؟! ولو كان

١٩٥

العالم المعاصر يعتبر الاعتداء علىٰ اعراض الناس خيانة وجريمة فلماذا كل هذا التساهل مع من يفعلها ؟!

هنا لا بدّ أن نعترف وللأسف الشديد ، ان القوانين الوضعية الحالية لن تستطيع ان تلعب دوراً مهماً في قلع الفساد والمعاصي من الجذور في المجتمع فقط ، بل اجازت تلك الاعمال وأدت إلىٰ انتشارها من خلال التسامح والتساهل الذي تبديه مع مرتكبيها ، والنهج الذي تتبعه تلك القوانين الجزائية الوضعية في مكافحة الفساد والاثم ، يشبه عمل الدكتور الذي يكتفي ببعض الجرعات المسكنة مقابل مرض خطر ومسري ، علىٰ الرغم من امتلاكه جميع الوسائل والامكانيات لمكافحة المرض. وفي مثل هذه الحالة الا يقال ان هدف الدكتور هو ليس علاج الحالة المرضية بل الهاء المريض المسكين وتخديره !

أمّا الاسلام

لكن الاسلام ( وخلافاً لعالمنا المعاصر ) يسعىٰ بجدية لمكافحة جذرية للفساد والمعصية في المجتمع ، وهدف الاسلام من ذلك هو قلع الفساد والمعصية من الجذور ، علىٰ قدر المستطاع ، ولهذا نراه شديداً في وضعه للقوانين الجزائية وقوانين العقوبات وفي تنفيذها.

ولان الاسلام يريد مكافحة السرقة بشكل حقيقي ويضمن امن المجتمع من هذه الناحية ، لذلك يأمر بقطع يد السارق(1) .

________________

(1) طبعاً من الأخذ بالشروط التي وضعها الاسلام.

١٩٦

والاسلام يريد مكافحة الاعتداء علىٰ اعراض ونواميس الآخرين بشكل حقيقي ، لذلك أمر بجلد الزاني مئة سوط أمام أعين الناس ، لكي لا يعود الىٰ ذلك ويكون عبرة للآخرين وسدّاً امام اتساع دائرة المعصية في المجتمع.

والاسلام يرىٰ ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وانها تهدد أساس المجتمع وسلامته ، لذلك يأمر بضرب ذلك الشخص الذي يخاطر بسعادة نفسه وسلامتها وسعادة وسلامة جيلة ، ويشرب من هذا الشراب المهلك ، ثمانين سوطاً ، لكي يقف امام تكرار مثل هذا العمل في المجتمع.

ألا يمكن تطبيق هذه القوانين في عصرنا.

هنا يمكن القول ، علىٰ الرغم من تأثير القوانين الجزائية والعقوبات الشديدة التي وضعها الاسلام لمكافحة المعاصي والفساد من الجذور الا ان هذه القوانين غير قابلة للتطبيق في عصرنا الحاضر ، لانه يعتبرها اساليب وحشية !

فنقول : ليس لنا إلّا أن نتعجب لهذا القول ونأسف له.

أليس عجيباً ان الدنيا تصمت وتصم آذانها وهي تشاهد مئات عمليات القتل والاعتداء وقطع الاعضاء وعشرات الجرائم الاُخرىٰ ، والتي تقع بسبب السرقة او التطاول علىٰ أموال الآخرين ، ولكنها تعتبر قطع أربعة أصابع من يد خائن او معتدي وذلك أيضاً من أجل محو ظاهرة السرقة ، والوقوف أمام مئات الجرائم التي تأتي من هذه الاعتداءات والتجاوزات غير قابلة للتطبيق والاجراء ؟!

وكيف يستصعب عالم اليوم ثمانين سوطاً علىٰ جسد شارب الخمر

١٩٧

في حين انه لا يستصعب القتل والجرائم وسلب راحة المجتمع الذي ينتج عن تأثير الخمر في سلوكيات الاشخاص والمجتمع ، ويرىٰ ذلك صعب النتفيذ !

دنيا التناقضات

اليست دنيا الي نعيش فيها ، دنيا تناقضات وعصرنا عصر غريب ! فدنيانا من جهة رؤوفة وعطوفة للحد الذي لا ترضىٰ بقطع اربعة اصابع لمجرم ( من اجل الامن العام ومحو السرقة من المجتمع ) ، ومن جهة اخرىٰ ، هذه الدنيا الرؤوفة ، تستثمر وعلىٰ مدىٰ سنوات عديدة ملايين البشر الضعفاء وعشرات الشعوب الصغيرة والمحرومة ، وتعطي للاقوياء الحق في نهب ثروات المستضعفين. في حين ان اولئك المساكين يعيشون حفاة وجياعاً ويعانون من اسوء الظروف !

وكيف تبرر هذه الدنيا العطوفة التي لا ترضىٰ ان يضرب شارب الخمر أو الزاني ثمانين أو مائة سوط ، قتل مليون جزائري مسلم ليس لهم ذنب سوىٰ انهم يريدون الاستقلال والخلاص من الهيمنة الاستعمارية ؟!

وكيف قبلت هذه الدنيا بالقنبلتين الذريتين اللآتي دمرتا هيروشيما وناكازاكي في اليابان فقتل اكثر من سبعين الف شخص وتحولت الابنية والمصانع والمرافق العامة الىٰ انقاض خلال لحظات ؟ اليس من حق الانسان صاحب الضمير الحي ان يعجب امام تصرفات هذه الدنيا المتناقضة ؟!!

١٩٨

سرد موجز للجريمة في الدول المتقدمة

عالمنا الذي يرىٰ خطأ ان قوانين الاسلام الجزائية وحشية ، اراد ان يقف امام اعتدالات الانسان عن طريق وضع قوانين اقل صرامة وبعبارة اخرىٰ لينة ، وبذلك يقتلع جذور السرقة او اية جريمة اخرىٰ ، لكنه وللأسف لم يوفق في ذلك فقط ، بل اضطر الىٰ تشديد عقوباته وقوانينه الجزائية ويزيد من عدد سجونه يوماً بعد يوم.

وعلىٰ الرغم من ذلك كله ، ولسوء الحظ ، يزداد عدد السارقين والمجرمين في كل يوم للحد الذي اصبحت احصائيات الجريمة تقلق وتخيف مسؤولي اكبر الدول المتحضرة.

وهذه بعض تلك الاحصائيات المنشورة ، والتي سببها ترك قوانين الاسلام الجزائية وعدم العمل بها :

أ ـ تقرير وزير العدل :

في تقرير قدمه وزير العدل الايراني بتاريخ 2 / 1 / 1960 الىٰ البرلمان ( المجلس الوطني ) يقول :

« نحن نواجه هذه الحقيقة المرّة ، وهي التزايد المستمر لدعاوى الناس الحقوقية والجزائية ، ولابد من التفكير بحلّ لذلك ، وعلىٰ سبيل المثال : طبقاً للاحصائيات الموجودة عندي ، فان مجموع الاضبارات التي دخلت الىٰ جهاز

١٩٩

القضاء في الأشهر الستّة الاُولىٰ من سنة 1959 ، هو 362665 في حين ان المجموع للاشهر الستة الاولىٰ من هذا العام بلغ 444391 ، اي ان ما يقرب ثمانين الف اضبارة زادت عما كان عليه في العام الماضي ، وبالتأكيد فان العملية تصاعدية في السنوات السابقة أيضاً.

ونقلت الصحف آنذاك نصّ التقرير ، وهو نماذج صغير للجرائم الموجودة لبلد في طريقه الىٰ الرقيّ ، يرىٰ ان القوانين الجزائية الاسلامية وحشية ، ويريد ان يقف امام الجريمة بالقوانين التي تضعها عقول رجاله ورجال اوروبا المخمورين !!

ولا بدّ من كلمة لوزير العدل الذي يعجب للنتائج التي تعطيها قوانينهم الوضعية : ما ستراه في المستقبل اعظم بكثير ، فأنّك لا زلت في أول الطريق.

ب ـ سجن واشنطن :

طبقاً لاحد التقارير الذي نشرته صحيفة معروفة ، كانت في واشنطن سابقاً 3600 سجينة فقط ، اما هذه السنين فقد وصل عدد السجينات الىٰ ثمانية آلاف.

وفي مدينة فلادلفيا(1) يطلق سراح النساء اللواتي يصدر الحكم بسجنهن ، لان سجون النساء مكتضة ، وليس هناك مكان للسجينات الجُدد.

________________

(1) هذه الاحصائيات تعود لثمان سنوات قبل ، أمّا الآن فالله العالم.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466