رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233481 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

١
٢

٣

٤

لابدّ من هذه المقدّمة قبل قراءة الكتاب

الكتاب الذي بين ايديكم كتبته قبل عشرين سنة وصدر بعنوان« مناظرة بين الدكتور والشيخ » . وقد تلقّفه الشباب المسلم آنذاك بحيث طبع للمرّة التاسعة بعد فترة قصيرة من صدوره.

لكن وللأسف عُرِّض الكتاب لآفة في تلك الايام حالت دون طبعه من جديد ( بشكل علني علىٰ الاقل ). وتلك الآفة هي من خصوصيات دول معينة تنال المطبوعات والصحافة.

لكن اليوم وبعد مرور سنين حيث تغيرت الظروف لحد ما بالنسبة لمثل هذه الكتابات ، وبسبب اصرار بعض الأصدقاء حاولت طبعه من جديد ، لكن المشكلة هي ان كتاب« مناظرة بين الدكتور والشيخ » كتب قبل عشرين سنة وطبيعي فهو يحمل خصوصيات الكاتب الفكرية في تلك المرحلة ، كما أنه يجمل أيضاً أجواء تلك الفترة من حياة المجتمع الفكرية والسياسية ، التي تختلف كثيراً عن الظروف المعاصرة ، لذلك كان من الضروري اعادة نظر اساسية

٥

في مواضيع الكتاب لكي يكون منسجماً مع متطلبات ومستوىٰ وعي المجتمع حالياً.

ومن جهة أُخرىٰ فإن هذا الأمر يحتاج إلىٰ عمل وفرصة كبيرة ، لكي نقوم بتغيير جذري في المسائل التي يطرحها الكتاب ، وللأسف الشديد إن الوقت بالنسبة لي ضيق جداً والفرصة غير سانحة ، لذلك اخترت حلاً وسطاً لهذا الأمر واكتفيت في الوقت الحاضر بأعادة نظر عابرة وسريعة ، بأمل اتاحة فرصة مناسبة لي ـ ان شاء الله ـ لكي أقوم بطرح جميع مواضيع الكتاب علىٰ اساس جديد ، بشكل يتناسب والجو الفكري والسياسي الذي يحكمني ومجتمعي.

إذن ، علىٰ القارىء المحترم معرفة ان التغييرات التي اُجريت علىٰ الكتاب قليلة وسطحية وليست تغييرات اُصولية وجذرية. على أمل ان أوفق في المستقبل القريب ان أخطو خطوات أكثر فائدة لنشر تعاليم الاسلام ومعارفه الغنية والثورية وعلىٰ قدر استطاعتي. وبالله الاستعانة.

السيد عبد الكريم هاشمي نجاد

مشهد ـ ١٩ / ايار / ١٩٧٨ م

٦

بدأت الشمس بتسليط اشعتها علىٰ مدينة « بندر شاه » الصغيرة ، فيما بدأ الناس نشاطهم اليومي بهدوء ، والمسافرون الذين يريدون السفر بالقطار ، اخذوا يستعدون للحركة ، في حين ان صوتاً مزعجاً من عجلات العربات التي كانت مشغولة بحمل المسافرين في شارع المحطة كان يصل الىٰ الآذان ، وكانت ساعة حركة القطار تقترب شيئاً فشيئاً.

في تلك اللحظة نزل من احدىٰ العربات شيخ يضع علىٰ رأسه قبعة صوفية ويحمل بيده حقيبة ، له لحية بيضاء كثّة وشكل نوراني جذّاب ، كان يحفظ رقبته وجزءاً من وجهه بياقة معطفه خوفاً من النسيم البارد الذي كان يهب ، وقف في آخر الصف لأخذ بطاقة القطار ، حتىٰ جاء دوره في النهاية فاشترىٰ البطاقة ودخل الىٰ فناء المحطة ، ولأنه لم يبق لحركة القطار إلّا ربع ساعة فقد صعد القطار ، وكان مكتوباً في بطاقته : العربة ٤ المقعد رقم ٤٤.

كان الشيخ ينظر من خلف الزجاج الىٰ ارقام المقاعد عندما يمر بالغرف ، حتىٰ وجد مقعده في النهاية ، فتح باب الغرفة وبعد ابداء السلام للجالسين في الغرفة ، وضع حقيبته في محلها المخصص وجلس علىٰ مقعده.

٧

بداية الحديث :

نظر الشيخ الىٰ الاشخاص الجالسين في الغرفة فرآهم يتلصصون إليه النظر ، ويشيرون الىٰ بعضهم مستهزئين بقبعته ولحيته. فتغاضىٰ عن اشاراتهم لوقاره الخاص ووجّه نظره الىٰ الاسفل ، وانشغل بقراءة القرآن والدعاء.

لكن الجالسين معه في الغرفة ذهبوا الىٰ أبعد من مجرد الغمز لبعضهم وبدأوا بالكلام وأخذوا يستهزؤون بالشيخ بكلمات نابية ، والشيخ لا يزال ساكتاً ، وهو منشغل بالدعاء ، لكن جلساءه كانوا اكثر وقاحة من ان يتركوا الشيخ لصمته ووقاره. فأصبح الكلام ابعد من مجرد المزاح والاستهزاء الىٰ الجدِّية والضجر منه ، فتوجّه احدهم بصوت عنيف الىٰ الآخر ، وقال : دكتور ! اني اتنفر من هؤلاء الرجعيين اساساً ، وقال آخر : دكتور أنا أيضاً لا اُحبُّ هذه الأشكال.

فقال : الدكتور مجيباً إياهما : أنا أعارض الدين اساساً ، فكيف بهؤلاء القرويين الرجعيين الملتحين.

وقال الرابع : نحن لا حظَّ لنا في السفر أساساً ، اردنا بعد فترة ان نسافر الىٰ طهران ، فإذا بهذا المتعصّب معنا.

خلاصة القول ، لقد تجاوزت تلك الجماعة مجرد اهانة الشيخ والاستهزاء به ، إلى التجاسر على الدين والقضايا الدينية.

٨

الشيخ يتحدث :

وجد الشيخ ان الصمت بعد ذلك غير جائز ، فبدأ الحديث ، وقال : أيُّها السادة : علىٰ حدِّ قولكم أنا رجعي وممّن يضعون علىٰ رؤوسهم قبعة من الصوف ، لكنكم الذين يظهر من ملابسكم وهيئتكم أنكم متعلمون ومثقفون. اُقسم عليكم ، هل اسلوبكم هذا انساني ؟ وأنا رفيقكم في السفر الىٰ طهران فقط ، وقد سلّمت علىٰ الجميع عند دخولي بمنتهىٰ الأدب ، وجلست في مكاني دون ان اُؤذي احداً منكم ، لكنكم في قبال ذلك ، كلتم لي كل تلك الاهانات !! مع ذلك فأنا اغض النظر عما قلتموه بحقي ، فكيف تتجاسرون وتناولون من المقدسات الاسلاميّة.

سؤال الشيخ :

لكني اسألكم سؤالاً واحداً ، مع كل هذا التشاؤم وسوء الظن بالدين والمسائل الدينية ، هل انتم تعرفون الدين ( بالمعنىٰ الصحيح للكلمة ) ؟ أم إنّ إهانتكم للإسلام هي بدون أيّة معرفة صحيحة عنه ؟!

رفقاء السفر : ماذا تقصد بالمعرفة ، نحن لا نوافقك هذا الكلام من الاساس.

ثم أضاف أحدهم : أنا لا طاقة لي بقراءة الكتب الدينية ولست مستعداً للحديث مع واحد من المعمّمين.

٩

الشيخ : أيُّها السيد المحترم ! أنت الذي تعترف بعدم اطلاعك علىٰ اصول الدين ومبادئه ، ولم تتحدث في جميع عمرك مع أي مسلم واعٍ ، إذن كيف تجيز لنفسك اساءة الأدب بحق المقدسات الدينية إلىٰ هذا الحدّ ، وتتصور ان الدين والمتدينيين بشكل عام يقفون أمام سعادتك ؟!

أنتم الذين تعترفون بجهلكم لابسط المعلومات حول الاسلام ، كيف تسمحون لانفسكم بمثل هذه الاحكام المستعجلة والارتجاليّة البعيدة عن الواقع ، وتدينون الدين واتباعه في محكمتكم غير الصالحة الاهانة والاستهزاء والكلام الباطل ؟!

أيُّها السيد المحترم ! اتصور انّك وكما يقول المثل ذهبت للقاضي فقط(١) وحكمت بدون أية صلاحية في الحكم.

قضاء باطل

رفيق سفر آخر : أيُّها الشيخ دعك من ذلك ، هل هناك اصل أو اساس علمي للدين ، حتىٰ يحتاج الخوض فيه الىٰ صلاحية أو معرفة واسعة ؟! فكل شخص يمكنه الكلام حول الدين ، وابداء الرأي فيه ثم قبوله أو عدم قبوله.

الشيخ : كلامك هنا لا ينسجم والقواعد المنطقية والعلمية والعقلية ، لأن العقل يحكم برجوع الاشخاص الذين لا يلمون بموضوع ما الىٰ المختصين فيه ،

________________

(١) مثل ايراني معناه : أن الكلام لا يستند إلى دليل حقيقي. ( المترجم )

١٠

وليس لهم ابداء الرأي دون علم سابق والحكم فيه.

ففي جميع العصور وبين جميع الاشخاص والاقوام ، هناك اشخاص متخصّصون في كل فن ، يرجع اليهم باقي الناس في مجال تخصّصهم ، ولا نذكر ان أحداً من الناس استعان بجاهل في موضوع معين لحل معضلة ، او انهم سَعَوْا الىٰ حلِّ أمر جاهلين له.هل رأيتم مريضاً راجع حداداً ليعالجه من مرضه ؟ أو ان احداً عاد طبيباً ليسأله عن امور الزراعة ؟ حتىٰ لو ان احداً في غير المتخصصين ابدىٰ رأياً في أمر ، فإن رأيه لن يعار له أي اهتمام ، خاصة في عالمنا المعاصر ، وفي الدول المتقدمة ، لربّما يكون عرض نظريات باطلة وأحكام غير صحيحة من قبل اشخاص غير مختصين يعتبر ويستدعي ملاحقة قانونية.

قصّة حول الاحكام الباطلة

هنا نورد هذه القصة علىٰ سبيل المثال :

حكىٰ لي احد الاصدقاء : انني كنت اعبر بحر المانش بين فرنسا ( ميناء ديب ) وانجلترا ( ميناء نيوهيون ) بالباخرة. وكنت جالساً الىٰ جانب رجل انجليزي يظهر عليه الألم ، وبعد قليل من التردد سألته عما يؤلمه ، فأشتكى من الصداع ، فعرضت عليه تناول حبة « كالمين » جلبتها معي من فرنسا ، فوافق وتناولها ، وبعد فترة قصيرة ذهب عنه الصداع ، فشكرني وسأل : هل انت طبيب ؟ أجبته : لا. فسألني متعجباً : إذن كيف تجيز الدواء ؟!

علىٰ أيّة حال ، وبعد نزولنا من الباخرة سلّمني للشرطة ، بأن قال لهم اشكر هذا السيد الذي أذهب عني الصداع بأعطائي الدواء ، لكنه ارتكب مخالفة

١١

قانونية بتجويزه دواءً دون رخصة.

وهذا نموذج لرد فعل ايجابي ازاء الذين اعتادوا ابداء الرأي حول كل شيء دون علم ومعرفة به كافية ، وهو رد فعل مقابل عمل لربما تكون نتيجته الموت بالنسبة لعشرات المرضىٰ(١) .

أجل ، هذا هو الاسلوب الصحيح ، ففي كل أمر تجب مراجعة المختصين به ، وهو اصل ثابت في جميع انحاء العالم ، وبين جميع الشعوب الواعية ، لكني لا اعلم لماذا عندما يصل الأمر الىٰ موضوع الدين نشاهد اولئك الناس ـ انفسهم ـ يريدون ابداء الرأي فيه دون علم ومعرفة كافية ، ويحكمون فيه مثلما يتكلم فيه العالم الديني الواعي ؟! واذا لم يستطيعوا فهمه من زاوية نظرهم ، ينفونه بكل شدّة ويقولون اننا لن نرضخ لمثل هذا القانون !!

أليس من غير الانصاف ان يقوم المزارع الذي أفنىٰ عمره ـ وللأسف حسب رغبة المستعمر ـ مع الارض والماء والقمح فقط ، أو العطار الذي عاش حياته كلها في بيع وشراء السكر والرز والتبغ ، أو العامل الماهر المختص في انتاج القماش أو الطبيب الحاذق الذي يتعامل مع اعضاء الانسان وجوارحه بسكين الجراحة في بعض الأحيان ، ابداء الرأي في المسائل الدينية وكأنه عالم دين واعٍ وصل الىٰ من التخصّص تمكّنه من الحكم في الدين ؟!

اتصوّر أن الاُمّة التي تريد التدخل في أُمور ليست من صلاحيتها ، ولا

________________

(١) صحيفة اطلاعات : العدد ١٣٧١٥ ـ ٣ شباط ١٩٧٢.

١٢

ترتبط بها علمياً عليها أن تقرع طبول شقائِها.

اجل ، يجب ان ترد الاُمور الىٰ اصحابها ، فالبلد السعيد هو الذي يعرف اهله حدود وظائفهم ويحفظونها ، ولا يتعدّىٰ أحد فيهم حدوده العلمية.

رفاق السفر : ماالذي تقوله أيُّها الشيخ ، فدنيا اليوم هي دنيا العلم ، والجميع يستطيعون معرفة كل شيء.

الشيخ : نعم ـ يستطيع كل واحد ان يفهم « كل شيء » لكن هناك مشاكل عديدة يلزم تجاوزها لتطبيق ذلك الامكان ، بمعنىٰ لابدّ من تحمل متاعب جمّة للحصول علىٰ معلومات كافية فيما يتعلق بحقيقة معينة ، لكي يمكنه فهم القضايا المرتبطة بتلك الحقيقة مثل متخصص واعٍ ، ومن العجب ! كيف لا يستطيع الشخص الذي لم يدرس الطب فهم المسائل الطبية ولكن هذا الشخص نفسه يحق له ابداء الرأي في المسائل الدينية بدون أية معلومات عن الدين ؟!

لماذا لا يتسطيع الذي لم يدرس الطب وسائر المواضيع العلمية تعلم مسائلها دفعة واحدة ( مع ان الدنيا ، هي دنيا العلم ) ، ولكن حينما تطرح قضايا الدين يستطيع كل جاهل ان يبدي نظرياته فيها لمجرد ان دنيانا هي دنيا العلم ؟!

علىٰ انني لا اقصد بالمتخصّص في المسائل الدينية ، الذين يرتدون الزي الروحاني ( الجبّة والعمامة ) ، لان مجرد الملابس لا تأتي بالتخصّص ، بل الذي اقصده هو « التخصّص العلمي » امتلاك معرفة دينية كافية وصحيحة ، أمّا

١٣

ما تقولونه فهو يشبه الاعتراض علىٰ شخص يقول : يجب علىٰ البصير أن يأخذ بيد الأعمىٰ ويوصله الىٰ مقصده من بين الطرق الملتوية ، فماذا يعني ضوء النهار مع وجوب الآخذ بيد الأعمىٰ ، في حين ان الاعمىٰ يتساوىٰ لديه الليل والنهار وفي كلتا الحالتين يحتاج الىٰ شخص بصير يأخذ بيده.

أيُّها السادة ! صحيح ان دنيانا هي دنيا العلم ، لكنه وفي دنيا العلم هذه لا يستطيع احد ابداء نظريات في مجال اختصاصه والحكم في القضايا ، إلّا الذي يمتلك وعياً ومعرفة كافيين.

أمّا الذي تقولونه فهو « عطاء من خزانة الأمير »(١) ، وهو للأسف منطق المتفرجين من بعيد ، وهذا النوع من الناس ، إذا ما وجدوا احدىٰ المباحث الدينية لا تنسجم مع تفكيرهم القاصر ، يلوذون مباشرة بتطور الآخرين العلمي والتكنولوجي ، ويقولون فخورين !! : هو عصر العلم ، عصر الذرة ، العصر الذهبي البراق ، وفي مثل هذا العالم الذي نحيا فيه لا يمكن انت نترك موضوعاً دون فهم ! أليس من ضروري أن نقول لمثل هؤلاء الاشخاص : اعزاءنا في عصر العلم ايضاً لا يحق لأحد التنظير في قضية إلّا ان يكون عالماً ومتخصّصا فيها وهؤلاء هم الذين يلتذون بالمسائل العلمية.

اصدقائي الاعزاء !

أنا لا أقول انه لا يحق لغير المتخصّص البحث والاستقصاء في الدين والمسائل التي تتعلق به ، بل ما اقصده هوان لا يجلس الشخص

________________

(١) مثل ايراني ، يقال للشخص الذي يتبرع من مال ( أو علم ) غيره. ( المترجم )

١٤

الذي ليست له جدارة علمية في المسائل الدينية علىٰ كرسي القضاء ويصدر احكامه بهذه القطعية ، وكأنما جميع الحقائق الدينية تتلخص في دائرة فكره ، وفهمه فقط.

وعاء أحرّ من الأكل(١)

هنا تذكرت قصّة حدثت قبل سنوات ، خلاصتها :

كان أحد العلماء الغربيين قد كتب مقالاً يقول فيه : نأمل ان تحلّ في المستقبل القريب مشاكل السفر الىٰ سطح القمر وان يصل الانسان الىٰ امنيته هذه(٢) .

بعد نشر ذلك المقال ، كتب أحد الكتّاب الايرانيين مقالاً في احدىٰ الصحف حول السفر الىٰ سطح القمر علىٰ أساس مقال ذلك العالم الغربي ، لكن صاحبنا استرسل في مقالة للحد الذي قال فيه : سوف يقضي عرائسنا شهر عسلهم ـ بالقريب ـ علىٰ سطح القمر ، ولسوف يستأجر الاغنياء الفيلات المبنية علىٰ سطح القمر بأسعار باهضة لكي يفرّوا من حرارة شمس الصيف الىٰ هناك.

وقد وصل بالكاتب الحدّ لأن يقول : في المستقبل القريب ، سوف تشير الاجيال التي ستأتي بعدنا نحو الأرض وتقول ان آباءنا كانوا يسكنون تلك

________________

(١) مثل ايراني ، يقال للشخص الذي يتحمس إلى موضوع لا يرتبط به. ( المترجم )

(٢) اليوم ونحن نعد هذه الطبعة الجديدة من الكتاب ، تحقّق حلم الانسان في السفر الىٰ سطح القمر قبل سنوات.

١٥

الكرة!!

جميع تلك الخزعبلات صاغها الكاتب الايراني علىٰ اساس مقال ذلك العالم الغربي في حين ان العالم الغربي كان يتحدّث عن احتمال وامكان السفر الىٰ سطح القمر. ( وهنا ، ينفجر رفاق السفر ضاحكين ).

الشيخ : أيُّها السادة : أليس بعض مواطنينا يفكرون مثل ذلك الكاتب الايراني ، لأنهم يفتخرون بالتطور العلمي الذي أوجده الآخرون !

١٦

حقائق العالم وآراء العلماء

احد رفاق السفر : أيُّها الشيخ لقد تطرفت في كلامك ! لربّما يصحّ كلامك فيما يتعلق بغير المتعلمين ، لكنه مرفوض فيما يتعلّق بالعلماء والمتعلّمين ، لأنهم يحقُّ لهم ان يجعلوا آراءهم ملاكاً لصحّة وسقم أي موضوع ، ويمكنهم اصدار حكم قطعي في كلِّ شيء.

الشيخ : لا ، لم أتطرّف في كلامي ، كما انّ آراء العلماء أيضاً ليست معياراً كاملاً لصحّة أو خطأ موضوع ما في كل حال ، لان التاريخ يحدّثنا عن تكامل البشر علمياً.

فقد حدّث ان مجموعة من العلماء أقرت مسألة خاطئة علىٰ أنّها حقيقة علمية واستندت اليها عشرات السنين للحد الذي قدمت على اساسها عشرات النظريات والفرضيات الاُخرىٰ. ولكن ، ومع تطور العلوم ، ظهرت الحقيقة بالتدريج وبان خطأ « النظرية الاُم » ، وعلىٰ حدِّ قول عالم الاحياء الفرنسي المشهور الدكتور الكسيس كارل(١) :

« ليس من الضروري ان تكون الحقيقة بسيطة علىٰ الدوام وقابلة للفهم بالنسبة لنا»(٢) .

________________

(١) Dr. Alexis carrel

(٢) الانسان ذلك المجهول.

١٧

وفي تاريخ الحياة الانسانية نشاهد العديد من النظريات العلمية ظهرت علىٰ انّها قواعد علمية واقعية لفترة طويلة بين العلماء ، وكانت ملاكاً لصحّة وفساد المسائل الاُخرىٰ ، لكن ، وبمرور الايام ، ثبت بالتدريج مخالفتها للواقع ، ومن انها لم تكن سوىٰ نظرية.

أحد النماذج التامة فيما نتحدث عنه هو قصة الذرّة ، لقد كانت الذرّة لسنوات طويلة غير قابلة للتقسيم عند الفلاسفة والعلماء ، وكان « موقريطس »(١) أوّل من قال أنّ ظواهر العالم تتألف من أجزاء صغيرة غير قابلة للتجزئة والتقسيم ، ( وقد سمي فيما بعد ذلك الجزء غير القابل للتقسيم ذرّة ).

بقيت هذه النظرية مقبولة علىٰ مدىٰ قرون من قبل الكثير من الفلاسفة والعلماء ، وكان في عداد حقائق العالم العلمية ، ومع تطور العلم ، اصبح عصرنا ينظر الىٰ تلك النظرية كأسطورة لا اكثر ، بل تم عملياً شطر الذرة والاستفادة من طاقتها المتحررة ، للحد الذي ارعبت قدرتها التخريبية العالم.

وحقيقة ان الانسان جائز الخطأ وليس مصوناً منه يمكن تعميمها لتشمل العلماء ايضاً ، والاعترافات التي يبدونها حول امكان خطئهم طريفة جداً ، هنا ننقل بعض ذلك :

________________

(١) لابد من الاشارة الىٰ ان عالماً باسم « ليوسيبوس » طرح أصل نظرية الذرة وتكون جميع ظواهر العالم منها ، وذلك قبل دموقريطس ، لكن الاخير قام بأكمال تلك النظرية.

تاريخ التطورات الاجتماعية ، ص ١٧٦ ، تأليف : متروبوسكي.

١٨

يقول عالم الرياضيات المعروف ، البرت انشتاين :

« يندر ان نجد اليوم عالماً يعتبر المواضيع التي يصل اليها حقائق نهائية. بل العكس نجد اصحاب النظريات المهمة مثل نيوتن(١) يذعنون ان ما يرونه واضحاً اليوم لربّما يكون مبهماً وغير واضح بالنسبة للاجيال اللاحقة ، ولربّما سينظر اخلافنا الىٰ اعمالنا بنفس العين التي ننظر فيها نحن الى اسلافنا»(٢) .

ويقول احد الكتاب الفرنسيين :

« الجميع يمكن ان يخطأوا. ولربما يخطىء العالم الكبير في حكمه ، وقد رأينا خطأ جميع اعضاء مؤسسة علمية في مبحث تخصصي بالنسبة لهم لذلك يجب ان لا نعتبر فتاوىٰ العلماء والمفكرين حتىٰ تلك التي ضمن اختصاصاتهم حجة لا يمكن الزيغ عنها. ويبقىٰ الزمان هو المحك الاساس في اختبار هذه الموارد »(٣) .

مجهولات الانسان

الىٰ هنا من البحث تكلمنا عن امكان خطأ العلماء وعدم حصانتهم قباله ؛ أي أن بعض العلماء أو مجموعة منهم لربما تصوروا انهم توصلوا الىٰ حقيقة ما واستطاعوا كشفها ، لكن واقع الامر هو غير ذلك ، هنا نضيف الىٰ المسألة حقيقة

________________

(١) Newton

(٢) العالم وانشتاين : ١٣٠.

(٣) صحيفة اطلاعات ، العدد ١١٧٦٠ ، بتاريخ ٢١ / تموز / ١٩٦٥.

١٩

اخرىٰ ذات دائرة لشمولية أكبر ، وتلك الحقيقة هي المجهولات التي يواجهها العلماء ، ففي عالمنا العديد من الاسرار والحقائق لا تزال يد الفكر والكشف الانساني لم تَطَلْها.

أحد رفاق السفر : أيُّها العمّ العزيز ، لا تنظر الىٰ الاُمور التي نجهلها نحن ، لانّ كلامنا يدور حول كبار علماء العالم ، الذين لا يعرفون ابداً لفظة « لا علم » أو « أجهل ذلك » !

الشيخ : أيُّها السيد المحترم ، أنا مضطر لحمل كلامك هذا من باب التفاؤل غير المنطقي بعلماء العالم ، لان الظاهر انك تحدثت دون دراسة ودراية.

صديقي العزيز ! لو طالعت كتب العلماء ، ومؤلفاتهم لوجدتهم يعترفون بجهل الكثير من حقائق العالم ، وهذه حقيقة الىٰ جانب كل حقيقة علمية تكتشفها ، فعندما نصل الىٰ كشف معين نواجه عشرات الاسئلة ، والمجهولات الجديدة ، وبهذه الكيفية ليست هناك حقيقة موضوعية واحدة في عالم الوجود مكشوفة جميع قضاياها بشكل عام ، ومن أجل اثبات هذا الادعاء ، نورد بعض اعترافات اعظم علماء عصرنا حول مجاهيل العالم :

يقول عالم الفيزياء المعاصر البرت انشتاين(١) في احدىٰ مؤلفاته :

« وعلىٰ الرغم من المعلومات التجريبية التي حصلنا عليها فيما يتعلق بنواة الذرة ، لكننا لا نزال في ظلمة فيما يتعلق بالعديد من المسائل

________________

(١) A. Enshtien

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بدرجة يطيعون اوامره وينفذون وصاياه الىٰ هذا الحدّ !

فأنظر ـ والكلام لابن سينا ـ الفارق الىٰ ايّ مستوىٰ ! اجل يا بهمنيار ، فلا يمكن الادعاء بما للعظماء كذباً.

الاصدقاء جميعهم : الحقيقة عين ما اشرت إليه.

السبب الحقيقي لنفوذ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله

العقيد : اصدقائي ارجو ان لا تستعجلوا الحكم ، مع ان كلام الشيخ لا يمكن انكاره الى حدّ ما ، فنفوذ الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس عادياً ، لكني اتصور ان جزءاً من نفوذ قدرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس الذين عاصروا ذلك العظيم هي الاعمال التي كانوا يرونها منه والتي كانوا يتصورونها معاجز ، في حين ان المعجزة والامر الذي ليس له اسباب وعلل طبيعية وعادية ، مشكوك فيه في عالمنا المعاصر ، والجزء الآخر من نفوذه والذي يرتبط بعصرنا فهو محصور بين المسلمين غير العلماء ، وطبيعي فالنفوذ الىٰ قلوب مثل هذه النماذج من الناس ليس امراً عجيباً أو صعباً.

طالب الطب ، حسن : انا اوافق سيادة العقيد في هذا الرأي.

الشيخ : اشكركم أيُّها السادة ، علىٰ طرحكم ما ترونه موضع اشكال بحرية تامة ودون مجاملات ، وهدفنا من طرح هذه المواضيع هو دراسة الاشكالات التي يراها الاصدقاء في مواجهة الدين الاسلامي المقدس ، والاجابة عليها.

٨١

الاصدقاء جميعهم : نحن مسرورون لهذا اللقاء ، وهذا اليوم الذي تعرّفنا فيه عليك لهو من اجمل ايام حياتنا ، فكلامك جميل ، واجوبتك وافية ، كما ان سفرنا يمضي بسرور ونحن مستفيدون من وقتنا.

الشيخ : تتلخص اشكالات سيادة العقيد في ثلاثة محاور :

الأول : ايمان اهل ذلك العصر بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بالمعجزة الىٰ حدّ ما.

الثاني : من الصعب اليوم القبول بالمعجزة.

الثالث : نفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله اليوم ، غالباً ما نجده بين غير المتعلمين وغير العلماء.

وسنتكلم في المواضيع الثلاثة ـ ان شاء الله ـ حسب طريقتنا ، اي بشكل مختصر ومفيد.

أمّا الموضوع الأوّل :

خلافاً لما قاله سيادة العقيد ، فأن اغلب اهالي الجزيرة العربية والمسلمون الذين عاصروا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تأثروا بقوانين الاسلام التي جاء بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( طبعاً بالحد الذي كان المستوىٰ الفكري لذلك العصر يسمح به ) وبالاعجاز القرآني من حيث الفصاحة والبلاغة وكذلك بحياة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت غريبة عنهم ، وليست بسائر المعجزات.

لأنه : إذا كان ايمان العرب بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حدث بالمعاجز فقط ، كان لابدّ ان يكون تقدم الاسلام وانتشاره سريعاً في السنوات الثلاثة عشرة التي قضاها

٨٢

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة بعد البعثة ، لان اكبر واعظم معجزاته كانت في مكة ، في حين ان نمو الاسلام في مكة وقياساً للسنوات العشرة التي قضاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة يعد لاشيء ، بل اصبحت الحياة له لا تطاق في مكة وهو مهدد بالقتل فيها مما اضطره للخروج منها ليلاً والهجرة الىٰ المدينة بأمر من الله تبارك وتعالىٰ ، اما المدينة فقد استقبلته واحتضنته وعاهدته في الدفاع عنه بكل ما تستطيع ، وقد وفو بعهدهم اليه حقاً ، لكن ما الذي دعىٰ أهل المدينة لاستقبال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتضانه والدفاع عنه بالغالي والرخيص ؟

لم تكن المعجزات هي التي جعلتهم يقومون بذلك ، لأنهم لم يروا أية معجزة منه يوم تعهدوا له بالدفاع عنه ، بل كان موسم الحج وقد جاؤا الىٰ مكة فسمعوا كلمات القرآن المحيرة ، وسألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الاسلام وقوانينه واحكامه وما يدعوا اليه ، وبعد ان تعرفوا عليه آمنوا به طوعاً ، وسبب افتتانهم به هو ان قبيلتين منهم ( الأوس والخزرج ) كانتا تتقاتلان لقرن من الزمن ، وكانت بينهما دماء ومآسي ، فكم من الشباب قتلوا وكم من النساء ترمّلن وكم من الاطفال تيتموا وكم من الآباء ثكلوا.

كان اهل المدينة قد عانوا الكثير ، كانوا يعيشون حالة من التوحش الكامل ، وقد ملّوا من الجرائم والدماء ، وكان انحطاطهم الاخلاقي بمستوىٰ جعلهم يستشرون ضرورة وجود مصلح وقوانين عادلة تنقذهم من شقائهم ، كانوا بحاجة الىٰ قوة تستبدل البغض والحقد الذي في قلوبهم بالعاطفة والمحبة ، لقد فهموا ان عليهم ايقاف حمامات الدم تلك ونبذ حياة التوحش والظلم والجريمة.

٨٣

ولكن ، من هو الشخص الذي يقوم بذلك العمل الجبار ويبلغهم تلك الآمال ؟ من هو الرجل الذي يرفع لواء العدل ويجمع هؤلاء المظلومين تحت رايته ؟ وهل يمكن ان يجدوا مثل ذلك الشخص وبتلك المواصفات في بلاد مثل الجزيرة العربية ؟

اجل ، لقد رأىٰ اهل المدينة ذلك الرجل الذي ينشدونه في سفر حجهم وادركوا انه الوحيد الذي يستطيع انهاء وضعهم المأساوي ، ولهذا اجتمعوا حول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصروه في الشدائد والمشكلات ، ولماذا لا يفتتنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ولماذا لايفتدوه بأموالهم وانفسهم ، فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما رآه ذو قلب سليم وشاهد صفاته التي لا تجتمع لأحد ، إلّا وخضع امامه واستسلم له ! فأي صخرة صماء ذلك الذي يرىٰ جميع تلك الفضائل : الوفاء والتواضع ، حسن الخلق ، نصرة المظلوم ، الرأفة ، الشجاعة ، الشهامة ، العفو ، الأدب ، الصدق ، الامانة ، عدم الاعتناء بالدنيا ومئات الفضائل الأخرىٰ ، ولا يمتلىء قلبه بحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فهل يمكن لبشر عادي ان يكون هكذا ؟

اجل صفاته واخلاقه مع الناس ومع ابنائه وازواجه ومع اتباعه ومع العبيد والصغار و الخ هي التي جعلت الناس تفتتن به ويكون له نفوذ في قلوبها ، وليست المعجزات التي جاء بها.

٨٤

سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المليئة بالفخر

سيادة العقيد ! من أجل أن يتّضح الموضوع بشكل جيد ، ولكي تعرفوا هل معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو اسلوبه اخلاقي هو الذي سخر قلوب اهل زمانه له ، سأضطر الىٰ بحث مختصر حول اخلاق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفضائله وملكاته الفاضلة.

بلع العلى بكماله

كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله

صلّوا عليه وآله

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل بيته

كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مبتسم علىٰ الدوام مع اهل بيته ، ولم يكن فظَّاً غليظاً معهم ، فقد كان يحنو عليهم ويعاملهم برأفة ، كان يحاول جهد الامكان ان لا يغتمّوا ولا يحزنوا ، وكان عادلاً بينهم حتىٰ انه لم يشتكي منه احد مدىٰ حياته ، يساعدهم في اعمال البيت ، وكان يقول : مساعدة الزوجة في عملها بالبيت صدقة ، ومع ان بعض نساءه كنّ يتجرأن عليه ويعاملنه وكأنه رجل عادي كسائر الرجال وكنّ يؤذينه ويغضبنه ويتعرضنّ عليه ويتدخلن في اعماله ، مع ذلك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله محافظاً علىٰ عدالته بينهنّ ، ويجب ان لا نتصور ان جميع وسائل الراحل كانت متوفرة لتلك النساء ، لانهنّ نساء امبراطور الاسلام ، أبداً فلا

٨٥

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان امبراطوراً ، ولا نساءه كنّ مثل حريم الاباطرة.

فلم يكن لهنّ قصور ولا غلمان وجواري ، وفي بعض الاحيان لم تتوفر لهنّ ابسط ضروريات الحياة ، لكن ثغر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الضحوك ووجهه البَشر وقلبه الرحيم العطوف ، كان بلسماً لكل وضنك ذلك العيش.

تقول اُمّ سلمة : احدىٰ نساء النبي :

في ليلة زفافي،حيث دخلت بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كنت اسكن في غرفة لم يكن فيها الّا قليل من الشعير ومطحنة يدوية ووعاء للعجين وقدر لعمل الخبز وكوز ماء ، فطحنت الشعير وعجنته وصنعت اقراصاً من الخبز ، اكلتها. وهكذا كانت حياة نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ في ليلة زفافهنَّ.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبنائه

لا يمكن وصف المحبة والعطف الذي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يغدقه علىٰ ابناءه ، لقد كان يحب ابناءه واحفاده كثيراً جداً ، كان يجلسهم علىٰ ركبتيه ويداعبهم ويقبل وجوههم ، حتىٰ انه كان يلاعبهم احياناً ، ومحبته لابنته الزهراءعليها‌السلام وابنائهاعليهم‌السلام معروفة ومشهورة.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه ومحبيه ، تشبه معاملته لابنائه ، ولهذا السبب كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله محبوباً عند اصدقائه ، الى حدّ يفوق التصوّر.

٨٦

وفي حادثة وقعت بعد معركة احد ، كانت مكة قد اعدّتها ودبّرتها ، حيث جاءت مجموعة من الاعراب الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة وطلبت ان يذهب معهم جماعة من المسلمين لتبليغ الدين وبيان الاحكام ، فأرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم جماعة من المسلمين برئاسة عاصم بن ثابت ، لكن الأعراب قاموا بقتل المسلمين غيلة إلّا اثنين منهم اسروهم وارسلوهم الىٰ مكة وباعوهم علىٰ المشركين ، وكان زيد بن دثية احد الاسيرين ، فأشتراه صفوان بن اُمية ، لكي يقتله ثأراً لأبيه ، وبعد ان سجنه لفترة ، تقرر ان يُقتل في يوم معين.

وفي ذلك اليوم اجتمع اهل مكة جميعهم ، ليشاهدوا قتل ذلك الشاب المسلم ، انتقاماً لقتلاهم في بدر.

وفي النهاية ، حانت ساعة الاعدام ، فجاءوا ب‍ « زيد » وقد اجتمعت جميع طبقات مكة من كبارها ورؤساء قريش من التجار والمزارعين والنساء والفتيات والاطفال ، اجتمعوا اطرف المشنقة ، في تلك اللحظات التفت أبو سفيان وهو زعيم قريش الىٰ زيد وقال : أتحبُّ ان يكون محمداً مكانك هنا حتىٰ يعدم وترجع انت سالماً الىٰ اهلك ، اقسم عليك بمن تعبد ان تقول الصدق ؟

فأجابه زيد : يا أبا سفيان ، أقسم باللهِ ، أحبُّ ان اُقتل هنا ولا تصيب قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شوكة فتؤذيه ! إفصاح أبو سفيان بعد تلك الاجابة : لم أرَ احداً اعزّ من محمد عند اصحابه.

أجل ، كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ودوداً مع اصحابه للحد الذي جعلهم يهيمون بحبه ، فلم يحملهم في حياته شيئاً ، ومع انه كان القائد وزعيم المسلمين الذي

٨٧

فتح الجزيرة العربية واخضع الجميع للاسلام ، لكنه وفي احدىٰ اسفاره ارادوا ان يذبحوا شاة للأكل ، فتعهد كل واحد بعمل ، فقال احدهم : انا أذبحها ، وقال الآخر : انا اسلخها وقال الثالث : أنا اطبخها ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانا اجمع الحطب للطبخ.

واضح ان العمل الذي تكفّل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله به اشقّ من أعمال الآخرين ، لأنه كان يحتاج الىٰ كمية كبيرة من حطب الصحراء ! لكي تطبخ شاة ، لذلك قال المسلمون : يا رسول الله ، نحن نجمع الحطب ولا تؤذي نفسك انت.

لم يقل المسلمون ذلك مجاملة منهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم بذلوا كل ما يملكون من اجله ، هؤلاء الناس لا يتحدثوان زيفاً وتملّقاً وانما لم يحبوا ان يتعب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : اعلم انكم لا تحبون ان اتعب ، لكني لا اُريد ان افضل علىٰ اصحابي ، والله لا يحب الذين يميزون انفسهم عن الآخرين.

وهكذا عندما بنىٰ المسلمون مسجد المدينة ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل معهم الحجارة والتراب ، وعندما حفروا الخندق(1) اختص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لنفسه حصة من العمل كسائر المسلمين ، بل انه كان يعمل اكثر من الآخرين.

________________

(1) هو الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة لصد الاعداء في معركة الاحزاب.

٨٨

اصدقائي !

ألم يكن اهل الجزيرة العربية محقّون في الخضوع لهذا الرجل والافتتنان به ؟! وهل رأيتم رجلاً في العالم يتعامل بهذه الروح السمحة والمحبة للخير مع اتباعه والذين يأتمرون بأوامره وهو في قمة هرم السلطة ؟! هذه التصرفات والمعاملة الاخلاقية لا توجد الّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه

لقد عامل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اعداءه كما كان يعامل اصدقاءه واصحابه ، فأي شخص لم ينتقم بشدة في اليوم الذي يتسلط فيه علىٰ اعدائه وينتصر عليهم ؟! لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان رؤوفاً بأعدائه ، ينظر اليهم بعين العطف ، وكان متسامحاً للحد الذي وصفوه ـ الاعداء ـ بالعظيم والكريم.

ففي غزوة ذات الرقاع ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفاً الىٰ جانب نهر ، وفجأة جاء سيل وحال بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ، فرأىٰ احد جنود العدو ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده وبعيداً عن معسكره ، فجاءه شاهراً سيفه ظاناً ان اللحظة مؤاتية لقتل الرسول ، وقال : يا محمد ، من سينجيك مني ؟

قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ربي.

ضحك الرجل مستهزءاً ، وهوىٰ بسيفه بقوة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن الله وقىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شره ، فوقعت به فرسه قبل ان يضرب ضربته ، ووقع علىٰ الارض ، فوقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فوق رأسه وأعاد عليه كلامه ، قال : من سينجيك

٨٩

مني ؟!

فقال الرجل وعيناه تبرق املاً : جودك وكرمك يامحمد !!

فما هو اساس ذلك الكلام في تلك اللحظات الحرجة ؟ هل قال الرجل كلامه تملّقاً ؟! بالتأكيد ، لم يقله تملّقاً.

لقد رأىٰ الرجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهراً سيفه فوق رأسه ، وتذكر اللحظات السابقة ، كان والوضح حرجاً بالنسبة له في الظاهر ، لانه لو قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله كان قد فعل ماكان هو يريد فعله قبل لحظات ، الاّ انه لم يوفق لذلك ، والأمل الوحيد لذلك المشرك هو أن الذي يريد قتله ليس انساناً عادياً كسائر الناس بل هو رجل الحق ، كريم بمعنىٰ الكرم ، عفوّ ورؤوف ، لقد تكلّم الرجل المشرك بكلامه استناداً الىٰ تاريخ ذلك الرجل الذي يريد قتله ، فحياته مليئة بالكرم والبذل والعمل الصالح والمحبة ، ولا بدّ أنَّ المشرك تذكر تلك السنة التي اصاب القحط فيها مكة ، فكان ذلك الرجل الذي شهر سيفه الآن عليه ، مثل الأب الرحيم علىٰ ابناءه ، يشتري الطعام بأمواله واموال خديجة ( بعد الاستأذان منها ) ، كان يشتري القمح والشعير والابل ويقدمها الىٰ الضعفاء في مكة واطرافها ، وبذلك نجّاهم من الموت جوعاً.

كان المشرك يعلم ان هذا الرجل يحمل بين جنبيه قلباً عطوفاً رحيماً ، فكان محقاً بأن يأمل ويرجو في تلك اللحظات الحرجة تماماً ، لذلك قرر الاجابة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يعرفه عن ماضيه وعطفه واحسانه ، لكن الوقت كان ضيقاً واللحظة خطرة ، فليس هناك مجال للأسهاب في الكلام ، ولهذا اجاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله موجزاً ، وقال : « جودك وكرمك يا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله » ، أي عظمتك

٩٠

ومقامك وعفوك ورأفتك يمكن ان تنجيني.

أجل ، لقد فكّر ذلك الرجل بشكل صحيح ، وكان رجاءه في محله ، لقد انجاه كرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه عندما سمع تلك العبارة ، انزل السيف جانباً ، وقال للرجل : انهض واسرع الىٰ جيشك(1) .

أيُّها السادة !

ألا يستطيع هذا الرجل ان يسخر قلوب الناس بهذه الاخلاق والمكارم الالهية التي هي بذاتها من اكبر المعجزات ؟! هل ان تأثير هذه التصرفات في جذب قلوب الناس اقل من بيان سائر المعجزات ؟

اعجاز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاخلاقي عند فتح مكة

اشرنا من قبل أن اهل مكة شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ ثلاثة عشرة سنة من بداية البعثة ، تلك المعجزات التي لو رآها أي انسان لأعترف بالنبوة والرسالة ، إلّا انهم كانوا اصم من الصخر فلم تؤثر فيهم ولم يؤمنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن اولئك الناس عندما شاهدوا عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعطفه عليهم عند فتح مكة لانت قلوبهم وآمنوا بالدين.

لقد كان لمعاملة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم في ذلك اليوم اكبر الاثر في اسلامهم ، وهو بنفس الوقت خير دليل علىٰ ما قاله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفسه :

________________

(1) روضة الكافي ، تأليف ثقة الاسلام الكلينيقدس‌سره

٩١

« ادبني ربي فأحسن تأديبي ».

كما انه نموذج كامل لأسلوبه الاخلاقي في التعامل مع اعدائه.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة دون قتال ( سوىٰ مقاومة صغيرة من بعض المشركين ابيدت علىٰ يد جيش الاسلام ).

ومكّة هي مسقط رأسه التي يهفو إليها قلبه علىٰ الدوام ، حتىٰ في الليلة التي اراد ان يهاجر فيها الىٰ المدينة ، نظر الىٰ اطرافها بحسرة ، واغرورقت عيناه بالدموع ، فنزل عليه الامين جبرائيل ووعده من جانب الله بأن يرجعه اليها. وكانت سنوات تمرّ علىٰ ذلك الوعد الالهي ، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر ، فمضت اشهر وسنين ببطء وحان الوقت الذي ينجز فيه الوعد.

* * *

عقد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صلحاً مع كفار قريش وأهل مكة في الحديبية ، إلّا ان الكفار لم يعملوا بمفاد الصلح ، فكانت النتيجة ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عزم علىٰ فتح مكة بأمر من الله ، وسار نحوا بعشرة آلاف مسلم ، وقد علم اهل مكة من خلال ابي سفيان « الذي ذكرناه تفاصيل لقاءه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرب مكة » بالتعبئة العامة للمسلمين.

طوىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الطريق بين المدينة ومكة ، حتىٰ وصل الىٰ« ذي طوىٰ »(1) . نظر الىٰ ما حوله ، فوجد جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل مستعدون

________________

(1) مكان مشرف علىٰ مكة.

٩٢

لنصرته وقلوبهم تطفح بالمحبة. فتذكّر يوم هجرته ، ذلك اليوم الذي خرج فيه خائفاً يريد الحفاظ علىٰ نفسه من مكة هذه. لكنه يعود اليها اليوم ومعه عشرة آلاف مقاتل من المسلمين الشجعان ، فمن الذي منحه تلك القوة ؟!

أهو غير ربّه الذي يدعوه ؟! بالتأكيد لا.

فلا احد يستطيع ان يحببه الىٰ قلوب الناس بهذا الشكل سوىٰ الله القادر والمهيمن ، اذن ، فاليوم هو اليوم الذي وعده به الله ، وقريب ما يتحقق الوعد الالهي.

نعم ، جميع ما حدث كان بنصر الله ، فلماذا لا يسجد له ، لماذا لا يعبده ؟ وكان ان صاح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لا إله الّا الله ، وحده وحده ، انجز وعده ، ونصر عبده ، واعزّ جنده ، وهزم الاحزاب وحده ».

وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نِعَم الله ، تلك النِعَم التي يعجز عن شكرها ، واتقدت شعلة الحب الالهي في قلبه اكثر من ذي قبل ، يريد ان يسجد لربه ، لكنه لا يزال على ظهر الناقة ، تجسم العشق الالهي ورأفة الله به بحيث لم يستطع الصبر لينزل من علىٰ ظهر الناقة كي يسجد ، فسجد شكراً لله وهو علىٰ الناقة ، ثم رفع رأسه من السجود ، فوقعت عيناه علىٰ مكة ، تلك المدينة التي تتوسطها الكعبة ، حيث بناها جده ابراهيم الخليلعليه‌السلام ، موطن آباءه والمكان الذي يهفو اليه قلبه.

جميع تلك الاسباب جعلته يناجي مكة ويظهر لها حبه ، فقال : الله يعلم احبك ، ولو لا ان اهلك اخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً ، ولا ابتغيت بك بدلاً ، اني لمغتم على مفارقتك.

٩٣

فلماذا خاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة بهذا الكلام ؟!

وكأنما كان يسمع مسقط رأسه ، أي مكة هذه ، تعاتبه وتقول له : لماذا هجرتني ، وفارقتني ثمان سنوات ، ياحبيب الله ، انا ايضاً أحبك ، فلماذا تركتني الىٰ المدينة التي اخترتها بدلاً مني ، فهل كنت سيئة معك ؟!

وبعد أن أتمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه ، تحرك من ذي طوىٰ ودخل الحجون(1) ، فأغتسل هناك وركب ناقته حتىٰ يدخل مكة.

مكّة في انتظار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

اجتمع اهل مكة ووقفوا مع زعماء قريش ورؤساء القبائل الىٰ جانب الكعبة ، لكي ينظروا دخول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يريدون بذلك أمرين :

الأول : رؤية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني : معرفة مصيرهم.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة واستسلم الحجر الاسود من علىٰ الناقة ، ثم ارتفع صوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتكبير :

الله اكبر الله اكبر

فتعالت معه حناجر عشرة آلاف مسلم الله اكبر ، كان صوت التكبير يملأ سماء مكة وينعكس في جبالها ، لكن تأثيره في قلوب المشركين كان اشدّ.

________________

(1) محل اقرب الىٰ مكة من ذي طوىٰ.

٩٤

لقد خاف زعماء قريش من ذلك الصوت ، وكأنما سمعوا صيحة من السماء ، فأضطربت قلوبهم واخذت تخفق بشدّة.

بعد التكبير ، ترجل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الناقة ، ودخل الكعبة كي يطهرها من رجز الاوثان ، فلا يجدر ببيت بُنيَ فيه الله ان يكون مأوىٰ الاثم ومركز الاصنام ، وكان علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ان يطهر البيت من تلك الاصنام والآلهه المصنوعة من الخشب أو الحجر.

وقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاطاحة بالاصنام الواحدة بعد الاُخرىٰ ، بعصاه ، وهو يقول :

( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (1) .

( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) (2) .

أجل ، لقد انتهىٰ زمان الاصنام وعبادتها ، انتهى عصر الانحناء والخضوع امام آلهة صنعت من معدن أو خشب علىٰ هيئة البشر ، لقد حان الوقت الذي يعبد فيه الناس الله سبحانه وتعالىٰ ، ويخرجوا من ذلّ عبادة هذه الاوثان ، الىٰ عزّ عبادة رب العالمين.

وبعد ان فرغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الاطاحة بالاوثان ، توجه الىٰ اهل مكة ، فوجدهم قد اصطفوا مثل التماثيل التي صنعت من حجر ، وكأن علىٰ رؤوسهم الطير ، لا يتحركون ولا يحركون ساكناً ، ووجوهم المصفرة تعبر عن اضطرابهم الداخلي ( بعد ان شاهدوا قوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ) ، كانت عيونهم

________________

(1) سورة الاسراء : 81.

(2) سورة سبأ : 49.

٩٥

تريد الخروج من حدقاتها من شدة الخوف ، كانوا غارقين في افكارهم ، ويتصورون المصير الذي ينتظرهم ، بعد تلك الحروب التي خاضوها ضد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والاذية التي آذوه ، لكنهم في نفس الوقت يرجون شيئاً من شخص الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن اهل مكة يعرفون جيداً ، ان الرجل الذي دخل مكة اليوم ظافراً منتصراً ، هو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو القلب العطوف والرحيم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي من شيمه العفو عند المقدرة والصفح عمن اساء له ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا يظلم حتىٰ اعتىٰ اعدائه واقساهم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس كالآخرين الذي لا يفكرون عند انتصارهم سوىٰ بالانتقام ، فهو الذي وصفه الله سبحانه وتعالىٰ في القرآن ، فقال :

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (1)

فلماذا لا يرجوا أهل مكة فيه الخير ؟! ولماذا لا يمتزج خوفهم واضطرابهم بالامل ؟! لقد رأىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الخوف والرجاء في وجوههم ، لكنه اراد ان يسمعه منهم ، فقال لهم : ماذا تقولون وتظنون ؟

فأجابه اهل مكة : نقول خيراً ونظن خيراً ، اخ كريم وابن اخ كريم وقد قدرت.

كان جواب اهل مكة مزيج من الخوف والامل ، فعبارة « قد قدرت » استخدمت للتعبير عن الخوف ، لكن العبارات التي سبقت ذلك كانت مفعمة بالرجاء لكن كفة الامل والرجاء كانت تفوق احتمال الانتقام.

ومن حقِّ أهل مكة ان يأملوا العفو والمسح من مثل ذلك الرجل العظيم ،

________________

(1) سورة الانبياء : 107.

٩٦

لأنه لو كان يريد الانتقام منهم ، لما اعطىٰ أبا سفيان الامان ، وجعل بيته مأمناً لأهل مكة ، فلماذا لا يأملوا بعد ذلك ، في حين ان ابا سفيان في خارج مكة عندما التقىٰ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد ان شاهد جيش المسلمين وهو واقف مع العباس عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان قد سمع سعد بن عباد رئيس قبيلة الخزرج ، يقول بصوت عال :

اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبىٰ الحرمة ، اليوم تذل قريش.

فخاف أبو سفيان بعد سماعة ذلك الكلام ، واخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخف يا ابا سفيان ، سعد مخطيء ، اليوم يوم المرحمة ، اليوم تصان الحرمة ، اليوم تعزّ قريش.

ألم يكن اهل مكة محقّون في رجائهم ؟ لذلك اجابوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : نقول خيراً ونظن خيراً.

أما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعندما سمع جوابهم ذلك ، اغرورقت عيناه المباركة بالدمع ، وعندما رأىٰ ذلك أهل مكة تجلت امام اعينهم جميع اعمالهم السيئة السابقة ، فتذكروا التهم التي كالوها له ، والسباب والرمي بالحجارة والحصار في شعب ابي طالب ومهاجمة بيته ليلاً لقتله واجباره علىٰ ترك وطنه الىٰ يثرب ، ومئات الاعمال الاخرىٰ التي جعلتهم يقفون ذلك الموقف النادم اليوم ، وشاهدوا ايضاً ذلك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قاسىٰ ماقاساه منهم ، لكنه يقف اليوم ويعاملهم بلطف ورأفة وهو المنتصر والفاتح الذي يستطيع الانتقام.

فالخجل الذي اعتراهم من مواقفهم تلك من جهة ، والرأفة والحب الذي شاهدوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اخرىٰ ، اهاجتهم وجعلت اصواتهم ترتفع

٩٧

بالبكاء ، لقد كان الجميع يذرفون الدموع ، النادمون من سوء اعمالهم ، والمنتصرون الذين عادوا الىٰ وطنهم وحرروا قبلتهم ، حتىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يذرف الدمع ، وبعد لحظات من تلك الحالة ، قال لهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأقول لكم ما قاله أخي يوسفعليه‌السلام لأخوته الذين غدروا به :

( قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (1) .

صحيح انكم لم تنظروا فيّ انكم قومي وعشيرتي ، فأستبحتم ايذائي والوقوف بوجهي ، ولكن لا تخافوا « اذهبوا فأنتم الطلقاء » ، ولا يحق لاحد ان يتعرض لكم ولأموالكم.

وبهذه الكلمات المتقطبة ، خطّ علىٰ اعمالهم السيئة وغفر لهم اخطاء عشرين سنة بحقه.

اصدقائي الاعزاء !

أي واحدة من معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تستطيع ان تسخر قلوب اعتىٰ الاعداء مثل هذا الحدّ الذي يفوق تصور البشر ؟ ألم يكن هؤلاء الناس ، هم انفسهم الذين شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ عشرين سنة ولم يأمنوا ولم تتغير نفوسهم ، بل كلما جاءهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعجزة وآية جديدة ، كانوا يزدادون غضباً وغيضاً وتتحد صفوفهم اكثر في عدائه ، في حين ان العفو العام الذي أعلنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الحقيقة من معجزاته الاخلاقية التي ليس لها ________________

(1) سورة يوسف : 92.

٩٨

مثيل ، استطاع ان يحرك عواطفهم ، للحد الذي تعالىٰ فيه صوت البكاء من تلك القلوب القاسية حتىٰ ملأ ارجاء مكة.

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدعو بالسوء

وفي معركة اُحد ، بعد ان دحر جيش الاسلام قوىٰ المشركين ، وعلىٰ اثر غفلة المسلمين وعدم اطاعتهم أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، استفاد جيش المشركين من تلك الفرصة ، وهجم من جديد علىٰ المسلمين ، فكانت نتيجة حملاته المتكررة والشديدة ان فرّ المسلمون الّا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونفر من المجاهدين الذين صمدوا رغم شدة البلاء ، وقد جرح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكسر سنّة وكان الخطر محيط به من كل جانب ، في تلك اللحظات ، قال له بعض اصحابه الذين صمدوا معه : ادعو يا رسول الله علىٰ اعدائك بالهلاك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بعثت لذلك ، وانما بعثت لأكون رحمة للعالمين.

اجل هذه النماذج قليلة من معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لغلمانه

المعاملة التي كانت للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غلمانه ، لا يوجد مثيل لها الّا في عترته الطاهرة ، فلم يكن يُحسن إليهم فقط ، ويعاملهم كأفراد الاسرة ، بل وصىٰ المسلمين بهم كثيراً ، فقال : اطعموهم مما تطعمون والبسوهم مما تلبسون. ولم يطلب منهم يوماً القيام بعمل يذلّهم أو يكون لهم عاراً ، ولم يكن يشكل علىٰ

٩٩

اعمالهم.

يقول أنس الذي لازم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنوات عديدة : خدمت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة سنوات ، فلم يزجرني بكلمة ابداً خلال تلك الفترة ، ولم يشكل علىٰ ايّ عمل قمت به لرأفته ، ولم يؤاخذني علىٰ شيء لم افعله أو عمل قصرّت فيه.

ورأفته كانت بحيث يقول أنس : طلب مني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً ان انجز له عمل ، لكني شغلت في الطريق بمشاهدة لعب الاطفال ، فمضىٰ علىٰ ذلك وقت كثير ، وانا لازلت انظر الاطفال في لعبهم ، وفجأة رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسك بقميصي من الخلف ، ويقول لي وهو يبتسم : اذهب الىٰ ما أرسلتك اليه.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466