رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233517 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثاني

ضوابط الحوار وآدابه

١ ـ شروط الحوار

٢ ـ آداب الحوار

١٦١
١٦٢

لما كان الحوار في الواقع الإنساني من الوسائل التي تستخدم لنشر الأفكار والإقتناع بها ؛ كان الهدف منه تعاون أطراف الحوار على معرفة الحقيقة والتوصل إليها ، تبصير كل منهما صاحبه بالأمور التي خفيت عنه حينما أخذ بنظر باحثاً عن الحقيقة ، وذلك باستخدام الحوار البريء من التعصب ؛ الخالي من العنف والإنفصال ، المتمشي وفق الأصول العامة للحوار الهادف البنّاء.

ولا يتحقق هذا الحوار إلا بعد تطبيق ما ذكره العلماء من الضوابط والآداب كما يلي :

١ ـ شروط الحوار :

ذكر العلماء والباحثون أنّ للحوار المّذون به شروطاً ينبغي إتباعها ، خشية أن يتحول إلى مماراة بعيدة عن الوصول إلى الحقيقة ، أو إلى مشاحنات أنانية ، ونحو ذلك مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويورث التعصب ولا يوصل إلى الحق ، نذكر منها التالي :

١ ـ أن يكون أطراف الحوار على معرفة بقوانين وقواعد الحوار ، متبعين المعايير العقلية والمنطقية ، باسلوب علمي رصين.

٢ ـ أن يكونوا على معرفة بالموضوع الذي يراد التحاور فيه ، بحيث يمكن التكلم بما يتناسب مع طبية المضوع المتحاور فيه ، بحيث لو تكلم أحد الأطراف لم يخبط خبط عشواء ، ولم يناقش في البديهيات بغير علم ، وإذا لُزم بالحق إلتزم به دون مكابرة.

٣ ـ أن يكون الموضوع مهماً ، أو مما يجوز أن تجري فيه المحاورة ضمن قواعد هذا الفن وضوابطه ، فالمفردات والبديهيات الجلية مثلاً ، لا تجري فيها المحاورة أصلا.

١٦٣

٤ ـ أن يكون المحاور متمكناً من الحوار ، بحيث يتمتع بوجهة علمية ومقدرة بيانية ، ومطلعاً على أفكار وآراء خصمه ، مستخدماً الألفاظ المناسبة الجزلة الفخمة ، متجنباً العبارات والألفاظ الركيكة.

وإلى هذا يشير إمامنا الصادق عليه السلام في الحديث التالي :

عن أبي خالد الكابلي ، قال : (رأيت أبا جعفر ـ صاحب الطاق ـ وهو قاعد في الروضة قد قطع أهل المدينة أزراره ، وهو دائب يجيبهم ويسألونه ، فدنوت منه فقلت : إنّ أبا عبد الله نهانا عن الكلام فقال : أمرك أن تقول لي؟ فقلت : لا ، ولكنه أمرني ألا أكَلِّم أحداً.

قال : فاذهب فأطعه فيما أمرك. فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته بقصة صاحب الطاق ، وما قلت له ، وقوله لي : إذهب وأطعه فيما أمرك ، فتبسم أبو عبد الله عليه السلام وقال : يا أبا خالد ، إّ صاحب الطاق يكلّم الناس فيطير وينقض ، وأنت إو قصوك لن تطير)(٢١٢) .

٢ ـ آداب الحوار :

وضع العلماء لفَن آداب البحث والمحاورة جملة من الآداب ، وألزموا المتحاورين بها ، محافظة على سلامة المحاورة ، وتحقيقاً للغرض منها ، نذكر فيما يلي أهمها :

١ ـ أن يجتنب المحاور محاورة ذي هيبة يخشاه ، لئلا يؤثر ذلك عليه ، فيضعفه عن القيام بحجته كما ينبغي.

٢ ـ ألا يظن خصمه أقوى منه بكثير ، حتى لا يتخاذل ويضعف عن تقديم حجته على الوجه المطلوب.

__________________

(٢١٢) ـ الطوسي ، الشيخ محمد بن الحسن : رجال الكشي ، ج ٢ / ٤٢٤.

١٦٤

٣ ـ ألا يظن خصمه حقيراً ضعيفاً قليل الشأن ، فذلك يقلل من إهتمامه ، فيمكن خصمه الضعيف منه.

٤ ـ ألا يكون في حالة قلق نفسي وإضطراب ؛ أو في حالة نفسد عليه مزاجه الفكري والنفسي ، كأن يكون جائعاً ، أو ظامئاً ، أو نحو ذلك.

٥ ـ أن يتقابل المتحاوران في المجلس ، ويبصر أحدهما الآخر إن أمكن ، ويكونا متماثلين أو متقاربين علماً ومقداراً.

٦ ـ أن يجتنب كلا المتحاورين الهزء والسخرية ، وكل ما يشعر بإحتقار وإزدراء لصاحبه ، أو وسمه بالجهل أو قلة الفهم ، كالتبسم والضحك والغمز واللمز ونحو ذلك ، مما يثير عواطف الغير ، ويؤدي إلى إفساد المحاورة التي ينبغي أن تكون بالتي أحسن.

٧ ـ ألا يرفع صوته فوق المتعارف المألوف ، فإنّ هذا يدل على الشعور بالضعف والشعور بالمغلوبية ، بل ينبغي إلقاء الكلام قوي الأداء ، وإن كان بصوت منخفض هادئ ، فإنّ تأثيره أقوى بكثير من اسلوب الصياح والصراخ.

٨ ـ أن يتجنب ـ حد الإمكان ـ مجادلة طلب الرياء والسمعة ومُؤثر الغلبة والعناد ، فإنّ هذا من جهة يُعديه بمرضه فينساق بالأخير مقهوراً إلى أن يكون شبيهاً به في هذا المرض ، ومن جهة أخرى لا يستطيع الوصول مع مثل هذا الشخص إلى نتيجة مرْضِيّة.

٩ ـ ألا يكون المحاور متسرعاً يقصد إسكات خصمه في زمن يسير ؛ لأنّ ذلك يفسد عليه رويته الفكرية ، ويبعده عن منهج المنطق السديد ، والتفكير في الوصول إلى الحق.

١٦٥

١٠ ـ أن يحترز المحاور عن الإختصار المخل في الكلام ، وعن إطالة الكلام بلا فائدة ترجى من ذلك.

١١ ـ أن يأتي كل من المتحاورين بالكلام الملائم للموضوع ؛ فلا يخرج عما هما بصدده.

١٢ ـ ألا يتعرض أحدهما لكلام خصمه قبل أن يفهم مراده تماماً.

١٣ ـ أن ينتظر كل واحد منهما صاحبه حتى يفرغ من كلامه ، ولا يقطع عليه كلامه قبل أن يتمه.

١٤ ـ الإستعانة بالله عَزّ وجَلّ ، للتوفيق والوصول إلى الحقيقة ، فقد ورد عن إمامنا زين العابدين عليه السلام في الصحيفة السجادية ، من دعائه في مكارم الأخلاق : (اللهُمّ صل على محمد وآله ، واجعل لي يداً على من ظلمني ، ولساناً على من خاصمني ، وظفراً بمن عاندني)(٢١٣) .

وعنه عليه السلام ـ كما في المناجاة (المعروفة بالإنجيلية الطويلة) ـ : وأعوذ بك من دعاءٍ محجوبٍ ، ورجاء مكذوب ، وحياء مسلوب ، وإخاء مَعْبُوب ، وإحتجاج مغلوب ، ورأي غير مصيب)(٢١٤) .

__________________

(٢١٣) ـ زين العابدين ، الإمام علي بن الحسين : الصحيفة السجادية / ١١١ (جمع السيد محمد باقر الأبطحي).

(٢١٤) ـ نفس المصدر / ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

١٦٦

الفصل الثالث

الحوار المتعلق بتربة الحسين (عليه السلام)

بحوث تمهيدية :

١ ـ الوحدة الإسلامية.

٢ ـ التقريب بين المذاهب الإسلامية.

٣ ـ دعوة إلى الحوار.

١٦٧
١٦٨

تلعب الشائعات وحجب الحقائق دوراً كبيراً في محاربة الأفكار والمعتقدات ، ولعل مرجع هذه الشائعات ، هي عوامل سياسية ومصلحة نفعية ، ومن بين تلك المعتقدات التي حوربت بهذه الطريقة عقيدة الشيعة الإمامية ، الذين يمثلون فئة كبيرة من المسلمين ، فقد بالغ المغرضون والوضاعون النفعيون ، في تصوير معتقداتهم ، وتحريفها عن واقعها ومدلولها الصحيح. وقد أشار إلى هذه الحقيقة الناصعة ، الدكتور حامد حنفي داود(٢١٥) بقوله : «يخطئ كثيراً من يدّعي أنّه يستطيع أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية وعلومهم وآدابهم مما كتبه عنهم الخصوم من العلم والإحاطة ، ومهما أحرزوا من الأمانة العلمية في نقل النصوص والتعليق عليها بأسلوب نزيه بعيد عن التعصب الأعمى. أقول ذلك جازماً بصحة ما أدعي بعد أن قضيت ردحاً طويلاً من الزمن ، أدرس فيه عقائد الأئمة الإثني عشرة بخاصة وعقائد الشيعة بعامة. فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها متصفحاً في كتب المؤرخين والنقاد من علماء أهل السنة بشيء ذي بال. وما زادني إشتياقي إلى هذه الدراسة وميلي الشديد في الوقوف على دقائقها إلا بعداً عنها وخروجاً عما أردت من الوصول إلى حقائقها ذلك لأنّها كانت دراسة بتراء أحلت نفسي فيها على كتب الخصوم لهذا المذهب وهو المذهب الذي يمثل شطر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، ومن ثم اضطررت بحكم ميلي الشديد إلى طلب الحقيقة حيث كانت ، والحكمة حيث وجدت ، والحكمة ضالة المؤمن ، أن أدير دفة دراستي العلمية لمذهب الأئمة الإثني عشر إلى الناحية الأخرى ، تلك هي دراسة المذهب

__________________

(٢١٥) ـ أستاذ الأدب العربي بكلية الألسن العليا ، ورئيس قسم الأدب العربي بجامعة عين شمس ، من رواد الإصلاح ، ودعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية.

١٦٩

في كتب أربابه ، وأن أتعرف عقائد القوم مما كتبه شيوخهم والباحثون المحققون من علمائهم وجهابذتهم. ومن البديهي أنّ رجال ال مذهب أشدّ معرفة لمذهبهم من معرفة الخصوم به ، مهما بلغ أولئك الخصوم من الفصاحة والبلاغة ، أو أوتوا حظاً من اللسن والإبانة عما في الشمس»(٢١٦) .

وقال الدكتور مصطفى الرافعي(٢١٧) : «... أجل ، عن مثل هؤلاء المستشرقين أو أولئك الجهلة والمغرضين أخذ خصوم الشيعة معلوماتهم عن الشيعة ، وأثاروا الكثير من الشبهات حول بعض المعتقدات التي يدينون بها ؛ أو الأحكام الفرعية التي يمارسونها ، فشوهوها وألبسوها لباس العداوة للإسلام حتى ظن معها قصار النظر ومن ليس لديه معلومات واسعة عن فقه الشيعة أنّ أتباع هذا المذهب بسبب إيمانهم بتلك المعتقدات أو ممارستهم لهذه الأحكام ، قد نؤوا عن الحق وجانبوا الصواب وربما بالغوا في التشنيع عليهم فقالوا : أنهم فرقة مرقت من الدين وخرججت من ربقة الإسلام»(٢١٨) .

هذه بعض كلمات الكتاب والباحثين من السنة ، الذين أنصفوا الشيعة الإمامية ، فيما حصل لهم من مظلومية وتشويه لسمعتهم أمام المسلم وغيره؟! والسؤال الذي ينبغي طرحه : ما هو الحل لعلاج هذه المشكلة الخطيرة؟

__________________

(٢١٦) ـ المظفر ، الشيخ محمد رضا : عقائد الإمامية / ٤١ ـ ٤٢ (تقديم).

(٢١٧) ـ كاتب وباحث لبناني ، ولد في طرابلس عام ١٩٢٣ م ، جمع بين الدراسة في الأزهر ـ حيث نال إجازة تخصص في القضاء عام ١٩٤٧ م ـ ، والدراسة في جامعة السوربون بفرنسا ، حيث نال شهادة الدكتوراه في الحقوق عام ١٩٤٨ م ، مثّل لبنان في كثير من المؤتمرات الإسلامية والثقافية ، وله مجموعة من المؤلفات.

(٢١٨) ـ الرافعي ، الدكتور مصطفى : إسلامنا / ١٣١.

١٧٠

لعلّ أهم الحلول التي طرحت لحلّ هذه المشكلة ، هي كالتالي :

١ ـ الوحدة الإسلامية :

والمراد بها إدماج مذهب في مذهب ، أو تغليب مذهب على مذهب ، وممن يرى هذه الفكرة الأستاذ أمين خولي(٢١٩) ، حيث قال : «أنا في العام الماضي تكلمت مع الشيخ محمد تقي الحكيم(٢٢٠) ، وقلت : فلنتنازل نحن السنة وأنتم الشيعة عن بعض الأشياء ، ونتفق على أشياء ونكون يداً واحدة»(٢٢١) .

وهذه الفكرة يصعب تطبيقها ، وقد أجاب عنها السيد مرتضى الرضوي بقوله ـ مخاطباً الأستاذ أمين الخولي ـ : «يا أستاذ ؛ لا يمكن التفاهم والإتفاق على شيء قبل أن نضع رجال الصدر الأول في ميزان الحساب ؛ لأنّهم خَلّفُوا أموراً خلافية كثيرة لا يمكن التغاضي عنها ، وتركها من دون علاج ، وبعد ذلك ، فمن السهل أن نتحد ونتفق على كل شيء. فسكت الأستاذ الخولي»(٢٢٢) .

٢ ـ التقريب بين المذاهب الإسلامية :

قامت مجموعة من أعلام المسلمين ـ ويأتي في طليعتهم الشيخ عبد المجيد سليم ، والشيخ محمود شلتوت ، والشيخ محمد تقي القمي ، والشيخ محمد محمد المدني ـ ، بتأسيس (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية) وذلك سنة (١٣٦٦ هـ

__________________

(٢١٩) ـ من كبار الأساتذة وعمالقة الفكر في مصر ، ولد عام ١٩٠٤ م ، من أوائل أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة ، وصل إلى منصب كرسي الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة القاهرة ، كان من أبرز أعضاء المجلس الأعلى لدار الكتب المصرية ، الذي يضم جهابذة رجال الفكر والقلم في مصر.

(٢٢٠) ـ المراد به ، هو سماحة السيد محمد تقي الحكيم ، أحد علماء النجف ، عميد كلية الفقه في النجف الأشرف ، وأستاذ الفقه المقارن في جامعة بغداد ، وعضو المجمع العلمي في العراق ، وعضو مراسل المجمع اللغوي بمصر ، له بعض المؤلفات القيمة. ولد عام ١٣٤١ هـ ، وتوفي عام ١٤٢٣ هـ.

(٢٢١) ـ الرضوي ، السيد مرتضى : مع رجال الفكر في القاهرة / ٥١.

(٢٢٢) ـ نفس المصدر.

١٧١

ـ ١٩٤٧ م) ، في القاهرة ، وكان هدف هذه المجموعة ، عدم إستغلال الفوارق المذهبية ، وما يترتب على ذلك من شق صف المسلمين ، وإضعاف وحدتهم. كما كانت دعوتهم إلى تقريب وجهات النظر ، من خلال إلقاء الضوء على المشتركات بينهم ، وعدم السعي إلى إلغاء بعضها على حساب بعض ، وبعبارة أخرى ، تسعى إلى بقاء المسلمين كل على مذهبه ، وعدم دمجهم في مذهب واحد. وكان من ثمارها ، إصدار مجلة (رسالة الإسلام) صدر العدد الأول منها سنة ١٣٦٨ هـ ، وتوقفت في شهر رمضان سنة ١٣٩٢ هـ ، بعد ما صدر منها ستون عدداً ، إهتمت بأدب التقريب بين المذاهب. وإدخال الفقه الشيعي إلى مواد التدريس في الأزهر الشريف ، كما أصدر شيخ الأزهر محمود شلتوت فتواه بجواز التعبد بالمذهب الجعفري ، ونشرتها مجلة (رسالة الإسلام ـ في العدد الثالث ، من السنة الحادية عشر ، ص ٢٢٨ ـ عام ١٩٥٩).

يقول الشيخ الشعراوي ـ بعد هذه الفتوى : «الشيعة الإمامية الإثني عشرية ، وإمامهم جعفر الصادق ؛ بن محمد ، بن علي زين العابدين ، بن الحسين ، بن علي بن أبي طالب ، وهو أحد أساتذة الإمام ابي حنيفة ، رضي الله عنهم جميعاً ، وهؤلاء الإمامية الجعفرية ؛ الذين نوضح أنهم من أرباب ال مذاهب النقيّة ؛ هم الذين أصدر شيخنا المرحوم شيخ الأزهر محمود شلتوت ، فتواه المشهورة في صحة التعبد على مذهبهم ؛ معلّلاً ذلك بأنّه من المذاهب الإسلامية ، الثابتة الأصول المعروفة المصادر ، المتبعة لسبيل المؤمنين. نعم : لقد أخذنا في مصر طائفة من الأحكام في قوانين الأحوال الشخصية عن الشيعة الإمامية الإثني عشريّة ، ومنها بعض أحكام الطلاق ، والقول بالوصيّة الواجبة

١٧٢

في الميراث»(٢٢٣) . وخلاصة هذه الفكرة ـ على حد تعبير الشيخ كاشف الغطاء (قده)(٢٢٤) . «وليس معنى الوحدة في الأمة أن يهضم أحد الفريقين حقوق الآخر فيصمت ، ويتغلب عليه فيسكت ، ولا من العدل أن يقال للمهضوم إذا طالب بحق ، أو دعا إلى عدل إنك مفرق أو مشاغب ، بل ينظر الآخرون إلى طلبه ، فإن كان حقاً نصروه ، وإذا كان حيفاً أرشدوه وأقنعوه ، وإلا جادلوه بالتي هي أحسن مجادلة الحميم لحميه ، والشقيق لشقيقه ، لا بالشتائم والسباب ، والمنابزة بالألقاب ، فتحتدم نار البغضاء بينهما حتى يكونا لها معغاً حطباً ، ويصبحا معاً للأجنبي لقمة سائغة ، وغنيمة باردة»(٢٢٥) .

وبعد هذا البيان المستفاد من كلمات العلماء والباحثين ، نقول : أنّ الهدف من التقريب بين المذاهب الإسلامية هو الحد من تضييق شقة الخلاف ، وبعض الظروف في عهود غابرة ، ولو قدر لها أن تبحث بحثاً موضوعياً ؛ لوصل الفريقان إلى الوحدة والتعاون المشترك ، في المنافع والفوائد في النهاية.

٣ ـ الدعوة إلى الحوار :

إذا أراد المسلمون تشكيل قوة متحدة متماسكة ، تستطيع أن تفرض إرادتها وإحترامها ، وترفع راية الإسلام فوق ربوع الأرض ؛ فعليهم أن ينبذوا الخلاف بالحوار الهادف المخلص ، وهذه المهمة يتحمل عِبْأَها العلماء ورواد الفكر السلامي ، فقد قام جماعة منهم بالدعوة إلى الحوار ونبذ الخلاف ،

__________________

(٢٢٣) ـ الأهرام ـ السنة ١٠٣ ـ العدد ٣٢٩٣٢.

(٢٢٤) ـ الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (١٢٩٤ هـ ـ ١٣٧٣ هـ) ، من أعلام الشيعة الإمامية ، ومنابع العلم والأدب ودعاة الاصلاح والتقريب بين المذاهب الاسلامية ، من فقهاء العراق.

(٢٢٥) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : أصل الشيعة وأصولها / ٦٦.

١٧٣

وعلى رأسهم العلمان البارزان : السيد عبد الحسين شرف الدين(٢٢٦) ، والشيخ سليم البشري(٢٢٧) .

وقد طَبّق هذا الحوار العلمان المذكوران بروح إتصفت بالنزاهة والطهر ، عَبّر عنها السيد شرف الدين (قده) بقوله : «وما أحسن ما يتعارف به العلماء من الورح النقي ، والقول الرضي ، والخلق النبوي ، ومتى كان العالم بهذا اللباس الأنيق المترف ، كان على خير ونعمة ، وكان ال ناس منه في أمان ورحمة ، لا يأبى أحد أن يفضي إليه بدخيلة رأيه ، أو يبثه ذات نفسه ، ذلك كان علم مصر وإمامها ، وهكذا كانت مجالسنا التي شكرناها شكراً لا إنقضاء له ولا حد»(٢٢٨) .

وقد إستغرق هذا الحوار مائة وإثنتي عشر حلقة ، وكان ذلك في الفترة ما بين ذي القعدة عام ١٣٢٩ هـ ، وجمادي الأولى عام ١٣٣٣ هـ ، وكانت حصيلة هذا الحوار كتب (المراجعات) ، الذي دَوّنه العالم الشيعي السيد عبد الحسين شرف الدين (قده) ، مما جعل لهذا الحوار أثره في العصر الذي جرى فيه والعصور المتأخرة ، بل يعتبر نموذجاً لكل من أراد الحوار الهادف ، وصرخة مدوية في أذن كل سني وشيعي ، أراد الوصول إلى الحقيقة ، أو على الأقل يعرف المذهب الجعفري بحقيقته الناصعة ، ولا يأخذها من كتب وأفواه خصومهم ، الذين لَفّقَوا فيهم التهم والأكاذيب. ومن بين تلك الأكاذيب ، عبادة التربة الحسينية الشريفة ، التي هي موضوع بحثنا.

__________________

(٢٢٦) ـ الشيخ عبد الحسين شرف الدين (١٢٩٠ هـ ـ ١٣٧٧ هـ) من أعلام الشيعة الإمامية ، ومنابع العلم والأدب ودعاة الإصلاح ، والتقريب بين المذاهب الإسلامية ، من فقهاء جبل عامل في لبنان.

(٢٢٧) ـ الشيخ سليم البشري (المالكي) ، ولد في محلة بشر ، بمحافظة البحيرة عام (١٢٤٨ هـ وتوفي عام ١٣٣٥ هـ) تولى مشيخة الأزهر مرتين : الأولى ـ من عام ١٣١٧ هـ إلى عام ١٣٢٠ هـ ، والثانية ـ من عام ١٣٢٧ هـ إلى عام ١٣٣٥ هـ. وفي عهده طبق نظام إمتحان الراغبين في التدريس بالأزهر.

(٢٢٨) ـ شرف الدين ، السيد عبد السحين : المراجعات / ٣٢.

١٧٤

نماذج للحوار في التربة الحسينية

١ ـ السيد الشيرازي مع رجل دين مصري.

٢ ـ السيد سلطان الواعظين مع الشيخ عبد السلام الأفغاني.

٣ ـ الشيخ الأنطاكي مع بعض أعلام السنة.

٤ ـ الدكتور التيجاني مع الشهيد الصدر.

٥ ـ المستر رايلي مع سكرتير وزارة المعارف العراقية.

٦ ـ الأستاذ محمد خير مع خصوم الشيعة.

١٧٥
١٧٦

١ ـ السيد الشيرازي(٢٢٩) مع رجل علم مصري :

قال السيد عبد الله الشيرازي (قده) : «كنت يوماً جالساً في الروضة النبوية المطهرة بعد الفراغ من فريضة الصبح ، قرب المنبر مشغولاً بقراءة القرآن وكان المصحف بيدي ، فجاء رجل شيعي ووقف على يساري وكَبّر للصلاة ، وكان على يميني رجلان من أهل العلم مصريان ـ على الظاهر ـ متكئان على الإسطوانة ، فأدخل المصلي يده في جيبه بعد تكبير الإحرام لإخراج التربة أو الحجر للسجود عليه ، فقال أحدهما للآخر : إنظر إلى هذا العجمي يريد أن يسجد على الحجر. فلما هوى المصلي للسجود بعد ركوعه ، حمل عليه أحدها ليختطف ما في يده ، لكني أمسكت على يده قبل وصولها إلى المصلي ، وقلت : لماذا تبطل صلاة الرجل المسلم ، وهو يصلي مقابل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال : يريد أن يسجد على الحجر. قلت : وأيّ بأس في ذلك؟ وأنا أيضاً أسجد على الحجر.

قال : كيف؟ قلت : هو جعفري ، وهذا هو الصحيح على مذهبنا ، ثم قلت : هل تعرف جعفر بن محمد عليهما السلام؟

قال : نعم. قلت : هو من أهل البيت؟ قال : نعم. قلت : هو رئيس مذهبنا ، ويقول لا يجوز السجود على الفراش أو السجاد ، ويقول : لابد أن يكون السجود على أجزاء الأرض. فسكت قليلاً ، ثم قال : الدين واحد ، والصلاة واحدة. قلت : إذا كان واحداً ، والصلاة واحدة ، فكيف تُصلون

__________________

(٢٢٩) ـ أحد الفقهاء الكبار ، والمراجع العظام ، ولد في شيراز عام ١٣٠٩ هـ ، وهاجر الى النجف الأشرف عام ١٣٣٣ هـ ، حتى أصبح أحد أعلامها ، وفي عام ١٣٩٥ هـ إستقر في مشهد المقدسة ، قائماً بأعباء المرجعية وإدارة حوزتها العلمية ، وتوفي بها عام ١٤٥ هـ ، ودفن بجوار الإمام الرضا (ع).

١٧٧

أنتم السنة في حال القيام على أربعة أشكال من جهة التكتف : فالمالكية يصلون مرسلين الأيدي ، والحنفية يتكتفون ، والشافعية نحو ثالثاً ، والحنبلية نحواً رابعاً ، مع أنّ الدين واحد ، والصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت نحواً واحداً؟!

ولقنته الجواب ، وقلت : غير أنكم تقولون إنّ أبا حنفية هكذا قال : والشافعي هكذا ، والمالكي هكذا ، والحنبلي هكذا ، وصوّرت له بيدي صور الحالات الأربع. قال : نعم.

قلت : جعفر بن محمد الصادق عليه السلام رئيس مذهبنا الذي إعترفت بأنّه من أهل البيت أدرى بما في البيت ، لم يكن أقل من أبي حنفية ، ومن هؤلاء علمنا أنّه لابدّ أن يكون السجود على أجزاء الأرض ، ولا يجوز السجود على الصوف والقطن ، وهذا الإختلاف بيننا وبينكم لا يكون إلا مثل الإختلاف بين أنفسكم في كيفية الصلاة من جهة التكتف وغيرها من سائر الإختلاف بينكم في الفروع ولا يرتبط بالأصول ، ولا يكون مربوطاً بالشرك أصلاً. فصدقني الجالسون من أهل السنة ، حتى صاحب هذا الشخص الذي كان جالساً إلى جانبه ، ولما وجدت الجو مناسباً بعد تصديقه كلامي حملت عليه بالكلام الحاد ، وقلت : أما تستحي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبطل صلاة رجل مسلم يصلي عند قبره ـ صلوات الله عليه وآله ـ بمقتضى مذهبه ، وهو مذهب أهل البيت صاحب هذا القبر ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تهيراً ، ولا يكون قولهم ومذهبهم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومذهبه.

فحمل الجالسون عليه أيضاً بالكلام الخشن ، واعتذروا مني من إعتقادهم بأنّ السجود على التربة أو الحجر شرك من الشيعة. أقول : لا يكاد ينقضي تعجبي من أنّ علماءهم كيف أشربوا في قلوب عوامهم أنّ الجسود على التربة

١٧٨

الحسنية ، أو الحجر ، أو الخشب من سائر أجزاء الأرض شرك بالله ، مع أنّه في حال السجود يذكرون الله تعالى بالتحميد والعلو ، وكثيراً في حال السجود عليها ، يقولون : لا إله إلا الله ، أليس السجود على الحجر الذي هو جزء ـ من ـ الأرض مثل السجدة على نفس الأرض ، أو السجدة على الفراش ، أو الحصير أو السجاد؟ فإذا سجد على الأرض أو الحصير أو السجاد ، هل يكون ذلك بمعنى أنّه عبدها؟ فليكن السجود على الحجر مثل السجود عليها!

وأعجب من أصل الموضوع أنّ لسان أكثرهم عربي ، وهم أعرف بمعاني اللغة وخصوصيات معاني الألفاظ ، فكيف غفلوا أو تجاهلوا عن الفرق بين السجود عليه ، والسجود له؟ والسجدة على شيء سواء كان أرضاً أو حجراً أو فراشاً يحتاج تحقق العبادة معه إلى شيء آخر يكون هو المعبود ، ولا يكون نفس السجود عليه معبوداً وهل رأى أحد وثنياً أو صنمياً في مقام العبادة يضع الصنم على الأرض ويسجد عليه؟

لا والله ، بل يجعلون الأصنام في مقابلهم ويسجدون على الأرض ويخرّون عليها تخضعاً وتخشعاً لها ، فحينئذ المعبود هل الصنم أو ما سجد عليه من الأرض أو الحجر أو الشيء الذي سجد عليه ووقع تحت جبهته بلا إختيار ولا إلتفات أو معهما؟

فيا ليت كان في البين ثالث عارف باللغة يحكم بين الفريقين ، هل السجود لله على أجزاء الأرض عبادة لها وشرك بالله ، أو يكون مثل السجدة على نفس الأرض والمعبود في كليهما هو الله الواحد؟

وإن كان بحمد الله الحاكم موجوداً وهو اللغة. فنرجو ـ من الله ـ أن يتنبّه العلماء والفضلاء منهم إلى هذه النقطة ، وإن لم يكن تجااهلاً ، وينبّهوا عوامهم

١٧٩

إلى عدم نسبة الشرك إلى الشيعة ، لسجودهم على أجزاء الأرض من التربة الحسينية أو الحجر أو الخشب»(٢٣٠) .

٢ ـ السيد سلطان الواعظين(٢١٣) ، مع الشيخ عبد السلام الأفغاني :

قال السيد سلطان الواعظين (طاب ثراه) : «ولكنا إذا خالفنا العامة في صلاتنا ، بأن سجدنا على طينة يابسة فبدل أن يسألونا عن الدليل والسبب ، يتهمونا بعبادة الأصنام ويسمون تلك الطينة التي نسجد عليها بالصنم ، فلماذا هذا الجهل والجفاء؟! ولماذا هذا التفريق بين المسلمين؟!

قال الشيخ عبد السلام : كما قلتم بأنّ مجلسنا هذا إنما إنعقد للتعارف والتفاهم ، وأنا أشهد الله سبحانه بأنّي لم أقصد الإساءة إليكم والتجاسر عليكم ، فإذا صدر مني ما يسوء فسببه عدم إطلاعنا على مذهبكم وعدم مطالعتنا لكتبكم ، فما كنا نعرفكم حق المعرفة ، لأنّا ما عاشرناكم ولا جالسناكم ، وانما سمعنا وصفكم من لسان غيركم وتلقيناها بالقبول من دون تحقيق ، فإلتبست علينا كثير من الحقائق ، ومع تكرار الإعتذار أرجوكم أن تُبينوا لنا سبب سجودكم على الطينة اليابسة؟

قلت : أشكر شعوركم الطيب ، وبيانكم الحلو العذب ، وأشكركم على هذا الإستفهام ؛ لأنّ السؤال والإستفهام أجمل طريقة وأعقل وسيلة لإزاحة أي شبهة وابهام.

__________________

(٢٣٠) ـ الشيرازي ، السيد عبد الله : الإحتجاجات العشرة / ٥٥ ـ ٥٩.

(٢٣١) ـ السيد محمد الموسوي الشيرازي ، المعروف بسلطان الواعظين ، كان من العلماء العاملين ، والخطباء البارعين ، ولد في طهران عام ١٣١٤ هـ. وأخذ المقدمات والأوليات على أساتذتها ، وفي عام ١٣٢٦ هـ. هاجر إلى كربلاء مع والده وحضر على أعلام حوزتها ، حتى برع وكمل في كربلاء ، ثم إتصل بالزعيم الشيخ عبد الكريم الحائري في قم وحضر دروسه ، وتوفي يوم الإثنين ٢٠ شعبان عام ١٣٩١ هـ.

١٨٠

ايها السادة المحترمون !

مثل هذهِ الامور كثيرة جداً في التاريخ القضائي لبلادنا. وان ذكرها بأجمعها يحتاج الىٰ سنوات من الوقت.

والحقيقة هي ان القيود التي وضعها العالم المتحضر علىٰ القوانيين القضائية سلبتها السرعة اللازمة وجعلها كما هي الآن مضحكة ، مما ادىٰ الىٰ يأس الفئات المستضعفة من احقاق حقها بواسطة الاجهزة القضائية ، للحدّ الذي يرضىٰ اكثر المظلومين المستضعفين بغض النظر عن حقوقهم المسلّمة والقانونية على أن يرجعوا الىٰ المحاكم.

لكن الاسلام العظيم لا يرضىٰ ان يكون هناك عمل مهما كان صغيراً بعنوان طي مراحل قانونية او عناوين اُخرىٰ في دائرته القضائية ، ومع ان المحكمة الاسلامية ليس فيها الّا عضوان هما القاضي والكاتب ( الذي يحرر الحكم ) ، الّا انه في الغالب يفضّ النزاع في اول جلسة قضائية ، ويأخذ كل واحد حقه.

المحكمة القضائية الاسلامية برأي غوستاف لوبون

يقول الدكتور غوستاف لوبون حول القضاء في الاسلام :

« القضاء الاسلامي وترتيب المحاكمات وجيز وبسيط ، فهناك شخص منصب من قبل الحاكم لأمر القضاء ، يتابع جميع القضايا شخصياً ويحكم فيها ،

١٨١

وحكمه هذا قطعي ، ففي المحكمة الاسلامية ، يدعىٰ طرفي النزاع الىٰ الحضور شخصياً الىٰ المحكمة ويقومان بشرح القضية ويقدم كل طرف منهم دليله ، ثم يصدر القاضي حكمه في ذلك المجلس.

لقد حضرت مرّة في احدىٰ هذهِ المحاكم في المغرب ورأيت كيف يقوم القاضي بعمله ، كان القاضي يجلس علىٰ كرسيه في بناية متصلة بدار الحكومة ، كما ان كلّ واحد من المتداعيين أيضاً يجلس في مكانه ومعه شهوده ، وكانوا يتحدثون بألفاظ مختصرة وكلام بسيط ، فإذا كان احدهم يحكم عليه بعدّة سياط ، كان الحكم ينفذ فيه في ختام الجلسة ، واكبر فوائد هذا النوع من القضاء هو عدم ضياع وقت المتداعيين ، وعدم وجود خسائر مالية للمتداعيين بسبب المراجعات الادارية التي نراها اليوم ، ومع البساطة والايجاز الذي ذكرته فأن الاحكام الصادرة كانت عادلة ومنصفة ».

ليس في الاسلام استئناف ولا تميز

الدكتور : الشروط التي ذكرتها والالتفاتات العلمية الموجودة في القضاء الاسلامي ليس لها مثيل في قوانين القضاء الوضعية في جميع العالم ، حسب معلوماتي الشخصية ، ورغم الضجيج الاعلامي الذي تقوم به اوروبا دعاية لمؤساستها القضائية ، فليست هناك مؤسسة متطورة كما هو الحال في المؤسسات القضائية الاسلامية. لكن هناك امر في قوانين القضاء الوضعية المعاصرة لا نجدها في القوانين القضائية الاسلامية ، وتلك مرحلة الاستئناف والتميز ، اي ان القوانين القضائية المعاصرة تكون علىٰ مرحلتين ، فلو اخطأ

١٨٢

القضاة في المرحلة الاولىٰ او ارتكبوا خيانة ، تذهب القضية مباشرة الىٰ محكمة الاستئناف ومن ثم الىٰ التميز وهناك تدرس وتتابع من جديد ، في حين ان الاسلام فاقد لهذهِ الميزة القضائية ( الاستئناف والتميز ).

الشيخ : ان وجود مرحلتان قضائيتان في عالم اليوم وعدم وجود ذلك في القانون القضائي الاسلامي هو دليل هام علىٰ استحكام مباني القوانين القضائية الاسلامية ، وهشاشتها في القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ، ولان الاسلام يأخذ الحدّ الاقصىٰ من الاحتياط والدقة في المرحلة الاولىٰ وضمن الشروط الواجب توفرها في القاضي. لان تلك الشروط التي ذكرناها مسبقاً تجعل من الصعب ان يخطيء القاضي او يخون وبذلك تنتفي الحاجة الىٰ مرحلة الاستئناف والتميز.

أمّا دنيا اليوم ترىٰ ان شرط القضاء الوحيد هو الشهادة الدراسية ، دون الاخذ بالجوانب الاُخرىٰ والتي تجعل من اي شخص قاضياً لمجرد انه خريج فرع القانون ، لابد وان لا تطمئن لقضاءهم وان تجعل احتمال الخطأ والخيانة مساوياً لاحتمال الصحة في الحكم !

سعادة الدكتور ! حتىٰ لو فرضنا ان جميع القضاة عدول واتقياء ، فان الاسلوب القضائي المتبع اليوم لا يبعث علىٰ الاطمئنان ، لان الاضبارة التي يجب ان يدرسها القضاة نظمت في محلّ آخر ، ومن اين للقضاة ان يطمئنوا اليها وانها لم تطلها يد التحريف والتزوير ، وهل تستطيع تلك الاضبارة أن تعكس واقع الناس المساكين والمظلومين ؟! وهل الاحكام التي تصدر من مثل هذه الاضبارات صحيحة ويمكن الاطمئنان إليها ؟

١٨٣

سعادة الدكتور ! يحاول عالمنا المعاصر حلّ مشاكله القضائية مثل احتمال الخيانة او الخطأ ( وهو احتمال قوي جداً وفي محله ) عن طريق محكمة الاستئناف والتميز ، في حين ان هذا الامر خطأ تماماً وتصور مغلوط ، لان القضاة الكبار في محكمة الاستئناف والتميز ليسوا ملائكة ، بل من اولئك المتعلمين الذين يعتبر شرط استخدامهم الوحيد هو شهادتهم الدراسية ، اي ان قضاة الاستيناف والتميز ايضا من نفس شاكلة القضاة العاديين ، فكيف لا يطمئن الىٰ حكم المحاكم العادية ويطمئن الىٰ حكم محكمة الاستئناف والتميز ؟! فهل ان قضاة المحاكم العادية غير عدول وغير متقين ، لكن قضاة محاكم الاستيناف والتميز عدول ومتقون ؟!

أليسوا جميعاً من صنف وهيئة واحدة ، والشرط الوحيد لعملهم هو الورقة التي في ايديهم ( الشهادة الدراسية ) ؟!

أمّا الاسلام وعلىٰ الرغم من عدم وجود محكمة استئناف وتميز في تشكيلاته القضائية ، يمكن الاطمئنان الىٰ قضائه سبب الشروط التي يضعها للقضاء ، وللحد الذي يعترف بصراحة الدكتور غوستاف لوبون :

« علىٰ الرغم من بساطة عملية القضاء الاسلامي والايجاز الذي فيها ، إلّا ان جميع الاحكام الصادرة عادلة ومنصفة. على العكس من القضاء في دول اوروبا وامريكا رغم تشكيلاته العريضة والطويلة والمعقدة ».

سعادة الدكتور ! لقد اراد العالم الاوروبي والامريكي من خلال محاكم الاستئناف والتميز ، الدقّة والحيطة التي اتبعها الاسلام قبل تعيين القاضي من

١٨٤

حيث شروط القضاة والشهُود ، ولقد اثبتنا ان اجراءات الاسلام لها دور مهم وبارز في القضاء لا يمكن لمحاكم الاستئناف والتميز القيام به ، ويجب ان نعترف بأن محكمة الاستئناف والتميز ايضاً تتبع نفس الاجراءات الروتينية التي تتبعها المحاكم العادية ، وليس لها تأثير سوىٰ في المبالغ الطائلة التي تصرف سنوياً من اموال هذا الشعب المسكين !

جواب سؤال

الطالب الجامعي ، حسن : أيّها العمّ العزيز كيف لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز ، مع ان الاسلام يرىٰ احتمال نقض حكم القاضي الأوّل من قبل قاض ثان ، او ان المحكوم يطلب اعادة محاكمته عند قاضٍ آخر ؟

الشيخ : الموارد التي يمكن فيها نقض حكم القاضي ، ان المحكوم يمكنه طلب اعادة المحاكمة عند قاص آخر ، لا تشبه ما عليه في محاكم الاستئناف والتميز في عالم اليوم. لانه هناك ثلاثة مراحل قضائية في مؤسسات القضاء المعاصرة ، هي : المرحلة الاولية والاستئنافية والتميزية ، فمرحلة الاستئناف فوق مستوى المرحلة الاولىٰ والتميز فوق مرحلة الاستئناف ، من شروط عقد محكمة الاستئناف هو ان لا يمضىٰ اكثر من عشرة ايام علىٰ تاريخ صدور الحكم من قبل المحكمة الاولىٰ ، كما ان محكمة التميز تنعقد بشروط خاصة ، كما لا يوجد في انعقاد محكمة التميز ، امتيازاً بين الدعاوىٰ الجزائية او الحقوقية.

١٨٥

وتنعقد محكمة الاستئناف في حال طب المحكوم ضده ، سواءً كان يحتمل الخطأ في الحكم الصادر بحقه او متيقن من خطأه ، فالقانون يقرّ انعقاد محكمة الاستئناف لمجرد طلب الشخص الذي صدر الحكم ضده ، وسواءً قطع قضاة محكمة الاستئناف بخطأ قضاة المحكمة الاوليّة اوقطعوا بعدهم خطأهم ، واحتملوا الخطأ أو الخيانة في حكمهم ، واذا ما انعقدت محكمة الاستئناف وبعد دراستهم لأضبارة طرفي النزاع ، استنبطوا حكماً مخالفاً لأستنباط المحكمة الاولىٰ ، عند ذاك يقومون بنقض حكم المحكمة الاولىٰ ويصدرون هم حكماً محله.

موارد نقض الحكم في قوانين الاسلام القضائية

في الاسلام لا يحق لقاضٍ نقص حكم قاض قبله الّا في ثلاث موارد ، هي :

١ ـ اذا لم يرَ القاضي الثاني صلاحية وجدارة في القاضي الأول لمقام القضاء.

٢ ـ فيما لو كان حكم القاضي الأول مخالفاً للأدلة القاطعة والقواعد المسلّمة في القضاء الاسلامي ، مثل : مخالفة للاجماع المحقق والثابت والخبر المتواتر وامثالها.

أمّا إذا استنبط القاضي الاول حكماً علىٰ اساس القوانين القضائية الاسلامية ، لم يستنبطه القاضي الثاني منها ، بل فهم منها شيئاً آخراً ، ففي هذه الحالة لا يحق للقاضي الثاني نقض حكم القاضي الاول.

١٨٦

٣ ـ عندما يثبت تقصير القاضي الاول في دراسته للقوانين والادلة القضائية ، ولم يدقق فيها بشكل جيد.

حول طلب اعادة المحاكمة في الاسلام

أمّا الموارد التي يمكن فيها للمحكوم ضده طلب اعادة المحاكمة ، هي الادعاء بقطع خطأ القاضي في حكمه ، او انه لم يكن يمتلك صلاحية علمية للقضاء ، او انه كان فاسقاً ، او ان الشهود لم يكونوا عدول وانهم فساق ومثل هذهِ الادعاءات.

كما انه لا تعاد المحاكمة لمجرد تلك الادعاءات ، بل على المحكوم في البداية اثبات دعواه ، فلو ادعىٰ المحكوم ان القاضي قد اخطأ ، عليه اولاً ان يثبت خطأ القاضي ومن ثم طلب اعادة المحاكمة.

أمّا اذا لم يثبت المحكوم خطأ القاضي او عدم صلاحيته او عنوان آخر مما ذكرناه ، فليس له طلب اعادة المحاكمة لمجرد احتماله الخطأ وحتىٰ لو طلب ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي ان يبحث ويدرس حكم القاضي الأول.

خصوصيات المسألتين في القضائين الاسلامي والوضعي

اصدقائي الاعزاء !

أتصوّر انه ومن خلال ما ذكرته اعلاه ، يتضح الفارق بين محكمة

١٨٧

الاستئناف والتميز عن الموارد التي يمكن فيها للقاضي المسلم نقض حكم قاض آخر او التي يحق للمحكوم فيها طلب اعادة محاكمته ، وثبت عدم تشابه ما يطرحه الاسلام عما موجود في الانظمة الوضعية ( محكمة الاستئناف والتميز ) ، وبشكل عام فأن الفوارق القضائية بين الاسلام والوضعية ، هي كالتالي :

١ ـ لا توجد في المؤسسة القضائية الاسلامية ثلاثة مراحل قضائية ، خلافاً للمؤسسة القضائية الوضعية المعاصرة التي لها ثلاث مراحل قضائية ، هي : المرحلة الاولية والاستئناف والتميز.

٢ ـ من منظار القوانين القضائية الاسلامية ، اذا كان استنباط احد القضاة مخالفاً لأستنباط وحكم القاضي الاول ، فليس له اي حق في نقض ذلك الحكم الاولي ، في حين ان القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ترىٰ ان استنباط قضاة محكمة الاستئناف إذا كان مخالفاً للحكم الاولي ، ينقضه ويصدر مباشرة حكم آخر في القضية.

٣ ـ لا يقبل من المحكوم طلب اعادة المحاكمة ما دام لم يدعي خطأ القاضي الاول بشكل قطعي او عدم صلاحيته اوفسقه او الخ ، وحتىٰ لو طلب المتهم ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي اعادة المحاكمة او النظر في حكم القاضي الاول ، اما لو اتهم المحكوم القاضي الاول بما ذكرناه مسبقاً ، فلا تنعقد محكمة جديدة مباشرة أيضاً ، لانه عليه ان يثبت ما ادعاه اولاً ، في حين ان قوانين القضاء الوضعية تقرّ بتشكيل محكمة استئناف بمجرد طلب المحكوم لذلك ، كما ان لقضاة محكمة الاستئناف النظر في حكم المحكمة الاولىٰ ونقصه ،

١٨٨

وعلىٰ هذا لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز بالمعنىٰ الوارد في القوانين الوضعية المعاصرة ، وان عدم وجود مرحلتي الاستئناف والتميز في القانون القضائي الاسلامي لهو خير دليل علىٰ استحكام مبنىٰ القضاء في الاسلام ، ونزلزله في القضاء الوضعي.

كانت تلك جوانب من خصوصيات قوانين القضاء الاسلامي مقارنة بالقضاء الوضعي المعاصر ، وهناك الكثير من نماذج تفوق القوانين الاسلامية علىٰ غيرها مما يعمل به في عصرنا الحاضر.

ملاحظة بعض قوانين الاسلام الجزائية

الدكتور : كما اشرتم ، ان قوانين الاسلام تتفوّق علىٰ قوانين العصر الوضعية في العديد من المجالات ، وهو امر لابد من الاعتراف به ، ولكن هناك بعض القوانين الجزائية في الاسلام ، ادت الىٰ الطعن في صميم الدين وتلك هي العقوبات الشديدة التي فرضت علىٰ بعض الذنوب في الاسلام ، مثل قطع يد السارق ، او السوط بالنسبة للزاني او شارب الخمر ، فالعالم الغربي يرىٰ ان هذهِ العقوبات اعمال وحشية ، يجب ان لا تنفذ علىٰ البشر.

الشيخ : ان معرفة حقيقة معينة تحتاج الىٰ معرفة سائر القضايا التي ترتبط بها بنحوٍ ما.

أمّا إذا أردنا دراسة موضوع ما دون الاخذ بالمواضيع الاخرىٰ المتصلة به ، فلن نصل الىٰ معرفة حقيقة وصحيحة فيما يتعلق به. ومن النماذج التامة لذلك هي القوانين الجزائية الاسلامية التي سألتم عنها. والاشكالات التي

١٨٩

يواجهها البعض مع القوانين والاحكام الجزائية في الاسلام ، مصدرها ذلك الخطأ ، وهو انهم ينظرون فقط الىٰ احكام الاسلام فيما يتعلق ببعض العقوبات ، دون الاخذ بنظر الاعتبار للقوانين التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتمع من الاثم والذنب ، والتي تعد القوانين الجزائية الشديدة ، آخر علاج لها.

أمّا الخطوات والأحكام التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتع وجعله فاضلاً ، فهي كالآتي :

أ ـ العوامل التربوية :

يستند الاسلام غالباً في صيانة المجتمع وابعاده عن العصيان والذنوب الىٰ العوامل التربوية التي يطرحها ، وهذهِ العوامل واسعة وشاملة بحيث لو أنّها طبقت بشكل جيد تضمن سلامة المجتمع ونظافته وتقيه من ٩٠% من المعاصي.

والعوامل التربوية كثيرة في الاسلام ، لكن اهمها :

١ ـ الايمان بالله.

٢ ـ الالتزام والمسؤولية.

٣ ـ الالتفات الىٰ الآخرة والحساب والاجر والعقاب.

٤ ـ دعوة الانسان الىٰ الفضيلة ومحاربة الخصال الذميمة.

٥ ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٩٠

٦ ـ الصلاة بمعاينها السامية ومفاهيمها التربوية الخاصة.

٧ ـ الصوم.

وعشرات العوامل الاُخرىٰ التي لها أدوار أساسية في تربية الانسان بتمام معنى الكلمة.

ب ـ العلاج من الاساس :

المسألة الاخرىٰ التي التفت اليها الاسلام من اجل تطهير المجتمع من الذنوب والمعاصي ، هي معالجة الظواهر من الاساس ، ومهاجمة العوامل الاساسية التي تؤدي الىٰ الذنب والمعصية ، وهذهِ بحد ذاتها مرحلة مهمة يجب الالتفات اليها قبل دراسة القوانين الجزائية الاسلامية الشديدة.

فالاسلام عندما حرّم الزنا ـ علىٰ سبيل المثال ـ لم يتجاهل الغريزة الجنسية للانسان او يقمعها ، بل وضع لها طرق شرعية متعددة لو طبقت سدت حاجة الانسان الجنسية.

ولو كان الاسلام شديداً في تعامله مع السارق فلأنه طرح نظاماً اقتصادياً ليست فيه فوارق طبقية وتمايزات بين البشر ، وهو يدعو الىٰ توزيع الثروات الطبيعية والدخل علىٰ اساس العدل ، وعلىٰ ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، لن يكون هناك محتاجاً في المجتمع حتىٰ يقال : لماذا يقطع الاسلام يد السارق الجائع ، الذي ما سرق إلّا ليشبع بطنه ؟! لانه سيقال في جواب ذلك اولاً ، لن يكون هناك جائع على ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، بل هو سيملك حق

١٩١

الاستفادة من جميع المصادر الطبيعية في العالم بقدر حاجته وعلىٰ اساس اصالة العمل. وثانياً متىٰ قال الاسلام بقطع يد السارق في النظام الذي يبيت فيه الاشخاص جياعاً ؟!

أجل ، ان علاج الحالات المرضية من الأساس هو الأصل الثاني المهم الذي وضعه الاسلام لتطهير المجتمع من الجريمة والمعصية ، وذلك من خلال قلع جذور الاسباب الرئيسية للجريمة.

ج ـ الاحام الجزائية في الاسلام :

وفي نهاية المطاف ، وكآخر حلّ يضع الاسلام مجموعة من العقوبات لردع الانسان العاصي والوقوف دون وقوع الجريمة ، والآن إذا أراد شخص ان ينظر الىٰ احكام العقوبات فقط وتجاهل الموردين الاوليين المهمين في الاسلام ، فأن هذا الشخص مخطئ تماماً ، لانه وكما شرحنا من قبل وضع الاسلام من جهة عوامل تربوية واسعة وشاملة تقوم ببناء شخصية الانسان من خلالها ، ويسيطر بها على الصفات الرذيلة ، لكي يرتدع الانسان من خلال امتناعه عن الذنب والمعصية.

ومن جهة اخرىٰ ، قام بقطع دابر العوامل المؤدية للذنب من الجذور ، ووضع حلولاً علمية مناسبة لجميع المشاكل وفي كل المجالات ، وفيما لو طبقت تضمن جميع متطلبات الانسان وحاجياته الطبيعية والمشروعة.

وصدقوني ان نسبة عالية من الناس لو اجتازوا هاتين المرحلتين سيكونون بكل تأكيد اشخاصاً متقين واصحاب فضائل.

١٩٢

أمّا لو بقي رغم ذلك كله شخصاً مصرّاً في اختيار الطرق الشيطانية والخصال الرديئة ، فهنا وكآخر وسيلة للعلاج ، يتعامل الاسلام معه بشدّة ويقف من خلال قوانينه واحكامه سدّاً مقابل هذه الاعمال التي تريد هدم كيان المجتمع.

وهنا لكم ان تحكموا ، أليس من غير الانصاف ان يأتي شخص ويحكم في قوانين الاسلام الجزائية ويدينها دون الاخذ بنظر الاعتبار للمسائل الاُخرىٰ المرتبطة بها ، اي تلكما المرحلتان التي ذكرتهما من قبل ؟!

الثقافة

من الضروري الالتفات الىٰ ان الاسلام يرىٰ ان العوامل التربوية والمرحلة الثانية التي هي علاج الحالات المرضية من الاساس لها دور مؤثر وقوي جداً في تطهير المجتمع وردع الاشخاص عن الذنب والعصيان ، كما ان القوانين الجزائية لو طبقت بشكل جيد يمكن ان تقف امام المعاصي وتحول دون انتشار الفساد.

أمّا الايديولوجيات الوضعية ـ وللأسف الشديد ـ لا هي تستخدم العوامل التربوية المؤثرة ولا هي تقدم حلولاً اصولية من اجل تأمين حاجات الانسان ومتطلباته المختلفة ، ولا تقدم للأسف ايضاً قوانين جزائية صارمة يمكنها مكافحة الجريمة والفساد بشكل واسع ومؤثر.

١٩٣

الذين قطعت ايديهم !!!

هنا قد يقال : لو ان السارقين تقطع اياديهم ، لفقد الكثير من الناس في المجتمع اياديهم ؟! وفي جواب ذلك ، نقول :

بل العكس فلو طبقت تلك القوانين ( خاصة مع الاخذ بالمرحلتين الاوليتين المذكورتين ) لن يكون في المجتمع مقطوعي ايدي ولا سارقين ، ومثال ذلك في عصرنا دولة السعودية ، فعلىٰ الرغم من عدم وجود عوامل تربوية صحيحة في ذلك المجتمع ونظام اقتصادي اسلامي عادل ، وعلىٰ الرغم من الفوارق العميقة الموجودة وترف ولهو وثروات الامراء والحواشي والمقربين من اموال النفط وعائداتة الطائلة ، فليس هناك سرقة ( طبعاً السرقة العادية وليست السرقات الكبيرة التي يقوم بها المسؤولون والامراء من اموال الشعب ) ولا ايدٍ مقطوعة ، لانه علىٰ الاقل تطبق الحكومة السعودية قانون قطع يد السارق ، وهذا ما يمكن التأكد منه بواسطة آلاف الحجيج الذين يذهبون سنوياً الىٰ هناك للحج ، فكم من يدٍ وجدوها مقطوعة ؟! وكم رؤوا من السرقات ؟! وحتىٰ لو شاهدوا السرقات فيه أقل بكثير مما يحدث في أي دولة اُخرىٰ.

فهذا نموذج عملي واحد عن دور القوانين الجزائية الاسلامية فيما يتعلق بالسرقة في عالمنا المعاصر ، علىٰ الرغم من ان السعودية دولة لا تطبق النظام الاقتصادية الاسلامي وليس هناك توزيع عادل للثروة ، كما انها من البلدان المتخلفة ثقافياً وحضارياً.

١٩٤

قاطعية الاسلام في مكافحة الفساد

لا يُنكر ان الاسلام واجه المذنبين والعصاة المفسدين بعقوبات شديدة ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان ذلك كله من أجل مصلحة المجتمع وبسبب خطورة المعصية اجتماعياً ، ولا يهدف الاسلام في قوانينه الجزائية إلّا المكافحة الحقيقية للمعصية.

والاسلام ليس كالعالم المعاصر وقوانينه ، الذي يسوّي المسألة مع العاصي أو المذنب ، وبهذا الشكل يتلاعب بسعادة المجتمع ومصلحته.

فالاسلام يرجح أن يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً من أجل ان يقطع دابر شرب الخمر من المجتمع ويخلصه من امراضه.

والاسلام يرجح ان يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً ولكن في المقابل يكون له ولجميع يجله رادعاً عن فعل ذلك للأبد.

والغريب ان عالمنا المعاصر وعلىٰ الرغم من اعترافاته بأضرار شرب الخمر ، فهو يقول ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وخطرة وانها تؤثر سلباً علىٰ المخ والدم والقلب والاعصاب والجلد والجهاز الهضمي و الخ ، لكنه لا يتعامل بجدية مع القضية ويتساهل مع شارب الخمر بشكل يعتبر عمله ترغيباً واشاعة للمعصية !

ولو كان العالم المعاصر يريد قلع جذور السرقة والاعتداء علىٰ اموال وممتلكات الناس ، فلماذا يتساهل مع السارق ويبدي معه تسامحاً ؟! ولو كان

١٩٥

العالم المعاصر يعتبر الاعتداء علىٰ اعراض الناس خيانة وجريمة فلماذا كل هذا التساهل مع من يفعلها ؟!

هنا لا بدّ أن نعترف وللأسف الشديد ، ان القوانين الوضعية الحالية لن تستطيع ان تلعب دوراً مهماً في قلع الفساد والمعاصي من الجذور في المجتمع فقط ، بل اجازت تلك الاعمال وأدت إلىٰ انتشارها من خلال التسامح والتساهل الذي تبديه مع مرتكبيها ، والنهج الذي تتبعه تلك القوانين الجزائية الوضعية في مكافحة الفساد والاثم ، يشبه عمل الدكتور الذي يكتفي ببعض الجرعات المسكنة مقابل مرض خطر ومسري ، علىٰ الرغم من امتلاكه جميع الوسائل والامكانيات لمكافحة المرض. وفي مثل هذه الحالة الا يقال ان هدف الدكتور هو ليس علاج الحالة المرضية بل الهاء المريض المسكين وتخديره !

أمّا الاسلام

لكن الاسلام ( وخلافاً لعالمنا المعاصر ) يسعىٰ بجدية لمكافحة جذرية للفساد والمعصية في المجتمع ، وهدف الاسلام من ذلك هو قلع الفساد والمعصية من الجذور ، علىٰ قدر المستطاع ، ولهذا نراه شديداً في وضعه للقوانين الجزائية وقوانين العقوبات وفي تنفيذها.

ولان الاسلام يريد مكافحة السرقة بشكل حقيقي ويضمن امن المجتمع من هذه الناحية ، لذلك يأمر بقطع يد السارق(١) .

________________

(١) طبعاً من الأخذ بالشروط التي وضعها الاسلام.

١٩٦

والاسلام يريد مكافحة الاعتداء علىٰ اعراض ونواميس الآخرين بشكل حقيقي ، لذلك أمر بجلد الزاني مئة سوط أمام أعين الناس ، لكي لا يعود الىٰ ذلك ويكون عبرة للآخرين وسدّاً امام اتساع دائرة المعصية في المجتمع.

والاسلام يرىٰ ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وانها تهدد أساس المجتمع وسلامته ، لذلك يأمر بضرب ذلك الشخص الذي يخاطر بسعادة نفسه وسلامتها وسعادة وسلامة جيلة ، ويشرب من هذا الشراب المهلك ، ثمانين سوطاً ، لكي يقف امام تكرار مثل هذا العمل في المجتمع.

ألا يمكن تطبيق هذه القوانين في عصرنا.

هنا يمكن القول ، علىٰ الرغم من تأثير القوانين الجزائية والعقوبات الشديدة التي وضعها الاسلام لمكافحة المعاصي والفساد من الجذور الا ان هذه القوانين غير قابلة للتطبيق في عصرنا الحاضر ، لانه يعتبرها اساليب وحشية !

فنقول : ليس لنا إلّا أن نتعجب لهذا القول ونأسف له.

أليس عجيباً ان الدنيا تصمت وتصم آذانها وهي تشاهد مئات عمليات القتل والاعتداء وقطع الاعضاء وعشرات الجرائم الاُخرىٰ ، والتي تقع بسبب السرقة او التطاول علىٰ أموال الآخرين ، ولكنها تعتبر قطع أربعة أصابع من يد خائن او معتدي وذلك أيضاً من أجل محو ظاهرة السرقة ، والوقوف أمام مئات الجرائم التي تأتي من هذه الاعتداءات والتجاوزات غير قابلة للتطبيق والاجراء ؟!

وكيف يستصعب عالم اليوم ثمانين سوطاً علىٰ جسد شارب الخمر

١٩٧

في حين انه لا يستصعب القتل والجرائم وسلب راحة المجتمع الذي ينتج عن تأثير الخمر في سلوكيات الاشخاص والمجتمع ، ويرىٰ ذلك صعب النتفيذ !

دنيا التناقضات

اليست دنيا الي نعيش فيها ، دنيا تناقضات وعصرنا عصر غريب ! فدنيانا من جهة رؤوفة وعطوفة للحد الذي لا ترضىٰ بقطع اربعة اصابع لمجرم ( من اجل الامن العام ومحو السرقة من المجتمع ) ، ومن جهة اخرىٰ ، هذه الدنيا الرؤوفة ، تستثمر وعلىٰ مدىٰ سنوات عديدة ملايين البشر الضعفاء وعشرات الشعوب الصغيرة والمحرومة ، وتعطي للاقوياء الحق في نهب ثروات المستضعفين. في حين ان اولئك المساكين يعيشون حفاة وجياعاً ويعانون من اسوء الظروف !

وكيف تبرر هذه الدنيا العطوفة التي لا ترضىٰ ان يضرب شارب الخمر أو الزاني ثمانين أو مائة سوط ، قتل مليون جزائري مسلم ليس لهم ذنب سوىٰ انهم يريدون الاستقلال والخلاص من الهيمنة الاستعمارية ؟!

وكيف قبلت هذه الدنيا بالقنبلتين الذريتين اللآتي دمرتا هيروشيما وناكازاكي في اليابان فقتل اكثر من سبعين الف شخص وتحولت الابنية والمصانع والمرافق العامة الىٰ انقاض خلال لحظات ؟ اليس من حق الانسان صاحب الضمير الحي ان يعجب امام تصرفات هذه الدنيا المتناقضة ؟!!

١٩٨

سرد موجز للجريمة في الدول المتقدمة

عالمنا الذي يرىٰ خطأ ان قوانين الاسلام الجزائية وحشية ، اراد ان يقف امام اعتدالات الانسان عن طريق وضع قوانين اقل صرامة وبعبارة اخرىٰ لينة ، وبذلك يقتلع جذور السرقة او اية جريمة اخرىٰ ، لكنه وللأسف لم يوفق في ذلك فقط ، بل اضطر الىٰ تشديد عقوباته وقوانينه الجزائية ويزيد من عدد سجونه يوماً بعد يوم.

وعلىٰ الرغم من ذلك كله ، ولسوء الحظ ، يزداد عدد السارقين والمجرمين في كل يوم للحد الذي اصبحت احصائيات الجريمة تقلق وتخيف مسؤولي اكبر الدول المتحضرة.

وهذه بعض تلك الاحصائيات المنشورة ، والتي سببها ترك قوانين الاسلام الجزائية وعدم العمل بها :

أ ـ تقرير وزير العدل :

في تقرير قدمه وزير العدل الايراني بتاريخ ٢ / ١ / ١٩٦٠ الىٰ البرلمان ( المجلس الوطني ) يقول :

« نحن نواجه هذه الحقيقة المرّة ، وهي التزايد المستمر لدعاوى الناس الحقوقية والجزائية ، ولابد من التفكير بحلّ لذلك ، وعلىٰ سبيل المثال : طبقاً للاحصائيات الموجودة عندي ، فان مجموع الاضبارات التي دخلت الىٰ جهاز

١٩٩

القضاء في الأشهر الستّة الاُولىٰ من سنة ١٩٥٩ ، هو ٣٦٢٦٦٥ في حين ان المجموع للاشهر الستة الاولىٰ من هذا العام بلغ ٤٤٤٣٩١ ، اي ان ما يقرب ثمانين الف اضبارة زادت عما كان عليه في العام الماضي ، وبالتأكيد فان العملية تصاعدية في السنوات السابقة أيضاً.

ونقلت الصحف آنذاك نصّ التقرير ، وهو نماذج صغير للجرائم الموجودة لبلد في طريقه الىٰ الرقيّ ، يرىٰ ان القوانين الجزائية الاسلامية وحشية ، ويريد ان يقف امام الجريمة بالقوانين التي تضعها عقول رجاله ورجال اوروبا المخمورين !!

ولا بدّ من كلمة لوزير العدل الذي يعجب للنتائج التي تعطيها قوانينهم الوضعية : ما ستراه في المستقبل اعظم بكثير ، فأنّك لا زلت في أول الطريق.

ب ـ سجن واشنطن :

طبقاً لاحد التقارير الذي نشرته صحيفة معروفة ، كانت في واشنطن سابقاً ٣٦٠٠ سجينة فقط ، اما هذه السنين فقد وصل عدد السجينات الىٰ ثمانية آلاف.

وفي مدينة فلادلفيا(١) يطلق سراح النساء اللواتي يصدر الحكم بسجنهن ، لان سجون النساء مكتضة ، وليس هناك مكان للسجينات الجُدد.

________________

(١) هذه الاحصائيات تعود لثمان سنوات قبل ، أمّا الآن فالله العالم.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466