رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233416 / تحميل: 7995
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

في هذه العجالة لتحليل ذلك، نعم نتوقف عند الفرض الثالث، لأنه الفرض المقبول اجمالاً في أذهان كثير من المتأثرين بالداروينية، وذلك لنبحث مدى صحة نظرية دارون الاحيائية.

- ٣ -

ملخص نظر دارون في علم الاحياء:

إن الأنواع الحية بما فيها الانسان ترجع إلى كائن حي وحيد الخلية. حدثت في داخل هذا الكائن تغيرات نوعية بشكل بالطفرات أوجبت انقسامه إلى أنواع بعد أن كان وحيد النوع. وهذه الطفرات لا تتم بتوجيه وقصد، وإنما تتم صدفة يحصل صراع - وفقاً لقانون تنازع البقاء - بين الأنواع التي زودتها الطفرة الصدفة بكفاءات نوعية جديدة، وبين تلك التي لم تحظ بذلك، وبحكم قانون بقاء الأصلح تبيد هذه الأنواع أمام الانواع المزودة بالطفرات. وهذه التغيرات المكتسبة بالطفرات الصدفة لا بد من افتراض أنها قابلة للتوريث إلى الاعقاب، وهكذا ينشأ جيل جديد ورث الخصائص النوعية المميزة عن اسلافه. وتستمر الطفرات في الحدوث صدفة ويستمر قانون الوراثة في عمله. ويستمر قانونا تنازع البقاء وبقاء الأصلح في عملهما وتستمر التطورات من خلال ذلك، حتى يصل بنا المطاف إلى الانواع الحية السائدة الان، ومن بينها الانسان، قمة هذه العملية التطورية.

هذا ملخص لنظرية دارون في اكمل صورها، بعد كثير من الاصلاحات التي اضافها خلفاء دارون إليها. فهل هي علم يقيني تماثل أن ٢ + ٢ = ٤ ؟

٨١

كلا، إنها في غالبها ظنون واحتمالات وفرضيات صنفت لأجل تكوين صورة عن عملية التطور التي لا شك فيها إجمالاً، والتي لا تختص بالأنواع الحية وحدها وإنما تشمل الجماد والنبات والحيوان. فعلينا أن نميز بين أصل مسألة التطور وهي قضية مسلمة إجمالاً وبين تفاصيلها كما شرحها دارون وخلفاؤه وهي لا تعدو أن تكون مجموعة من الظنون والاحتمالات، ولا ترقى الى مرتبة العلم واليقين.

والمناقشات التي تدور حول النظرية تكشف عن ضعفها، وعدم تماسكها:

أولاً: لماذا تحدث الطفرة؟ يجيب الداروينيون: انها تحدث صدفة.

ولكن هذا التعليل غير مقنع. إن الطفرة ظاهرة طبيعية لا بد لها من أسباب، فما هي أسبابها؟ لا ندري!!، إذن تعليلنا للتغير النوعي الذي يحدث بأنه طفرة حدثت صدفة، لا يعني اكثر من أننا نجهل سبب التغيير النوعي. وإلا فإذا كانت الصدفة وحدها كافية - علمياً - لتفسير النوع الحيواني فلماذا لا نفسر الظواهر الطبيعية الاخرى بالصدفة ايضاً؟ وإذا كان التعليل بالصدفة يكفي علمياً فلماذا نرفض فكرة أن السلالة البشرية الموجودة الآن تناسلت من أبوين وجدا صدفة، ولم يتسلسلا من نوع اخر؟.

الحقيقة أن التمسك بالصدفة لا يعني شيئاً اكثر من أننا نجهل السبب في حدوث التنوع الحيواني. وهكذا تختفي السمة العلمية من النظرية لتعوذ بالالفاظ التي تخفي عجزها عن البيان العلمي المقنع ثم ما هي الصدفة؟

٨٢

هل في الكون صدفة؟ إن للصدفة قانوناً معينا يكشف لنا عن استحالة تعليل نشوء جزيء واحد من البروتين من المركبات الاساسية في جميع الخلايا الحية - إن العالم الرياضي السويسري (تشارلز يوجين جاي) قام بحساب الفرصة التي يمكن أن تتاح لتكوين جزيء واحد من البروتين صدفة فوجد أنها بنسبة(١) إلى (١٠ ١٦٠) أي بنسبة رقم واحد إلى عشرة مضروباً في نفسه (١٦٠) مرة، وهو رقم لا يمكن النطق به والتعبير عنه بالكلمات. وينبغي أن تكون كمية المادة اللازمة لحدوث هذا التفاعل لينتج جزيء واحد من البروتين صدفة اكثر مما يتسع له هذا الكون بملايين المرات. ويجب أن يستمر هذا التفاعل بلايين من السنين قدرها العالم المذكور بأنها عشرة مضروبة في نفسها (٢٤٣) (١٠ ٢٤٣) من السنين. كل هذا لانتاج جزيء واحد من البروتين صدفة فإذا قلنا أن التنوع الحيواني في الكون ناشيء عن طريق الصدفة نصل إلى الصفر، أي أن قيمة الاحتمال أو الصدفة تساوي الصفر أي تساوي المحال الرياضي.

ومع ذلك يقول الداروينيون إن النوع الحيواني في الكون وجد صدفة!!

ثم ان هذه التغيرات التي يسميها الداروينيون طفرات، ما الدليل على أنها نقلت كائناً حياً من حالة نوعية إلى حالة نوعية أُخرى؟ لا دليل، إنه مجرد افتراض لا غير، فلم تستطع جميع العلوم التي استعانت بها الداروينية أن تثبت بصورة علمية لا تقبل الشك حلقات الاتصال بين نوع حيواني ونوع آخر.

ان التغيرات موجودة بلا شك، وتدل على تطور في الكفاءات،

٨٣

ولكن في داخل كل نوع، ولاتدل أبداً على الانتقال بسببها من حالة نوعية إلى حالة نوعية أُخرى.

ثانياً - ننتقل إلى مشكلة توريث الصفات المكتسبة بواسطة الطفرات، دون الصفات المكتسبة الاخرى التي ثبت علمياً عدم قابليتها للتوارث. بأي تعليل علمي مقبول نعلل هذا الافتراض الذي يشكل العمود الفقري للنظرية - إلى جانب حكاية الطفرة الصدفة لقد فشل دارون وخلفاؤه في اعداد جواب علمي مقبول وكاف على هذا السؤال. أما علم الوراثة فقد اثبت ان مرد جميع الصفات الوراثية إلى الجينات التي تحويها خلايا التناسل. وقد أوضح العلم أن الجينات لم تشتق من خلايا جسمية بل من «جرمبلازم» الوالدين فالأجداد، وهكذا وعلى هذا الضوء أثبت علم الوراثة بعد التمييز بين الخلايا الجسمية والخلايا التناسلية ان الصفات المكتسبة لاتورث. وهكذا تنهار الداروينية، من هنا لتلجأ إلى فرضية التنوع عن طريق الطفرات، وقد عرفنا قيمة هذه الفرضية آنفاً.

وهكذا تبقى الداروينية - مجرد فرضية لم يحالفها التوفيق.

ثالثاً: نساير الداروينية فنقول: لقد وصل التطور إلى قمته متمثلاً بالعقل الانساني، فكيف حدث ذلك؟ ما هو العقل؟ وما هو سره العجيب؟

إن العلم الحديث لا يعرف شيئاً عن طبيعة العقل. والداروينية كغيرها من الفرضيات عاجزة عن تقديم تفسير لنشأة العقل الانساني المدهش.

هل تفرض الداروينية ان العقل تطور من تطورات المادة نشأ بواسطة

٨٤

الطفرات الصدفة وتنازع البقاء وبقاء الاصلح والتوريث؟..الحق أن أشد مذاهب علم النفس غلواً في المادية «المذهب السلوكي» حاول الجواب وفشل بشكل فاضح.

الخلاصة: إن الداروينية عاجزة عن إثبات دعواها إنها ذات نتائج احتمالية مبنية على مقدمات احتمالية، فهل يصح أن نعتبرها علماً، وان نتخذها سنداً في نقد الافكار الدينية؟ وهل نكون أُمناء حين نسمي الظنون والاحتمالات علماً(١) .

إن الدكتور العظم وقع في الخطأ حين أصدر أحكاماً جازمة مبنية على ما أسماه علماً، وما هو بعلم إن هو إلا ظن واحتمال والظن لا يغني من الحق شيئاً، وندرك مدى خطأه حين يهاجم العقائد مستنداً على هذه النظرية ويهاجم الموفقين بين العلم والدين الذين يرفضون هذه النظرية. انظر ص ٤٢ ، ٤٣ من الكتاب.

____________________

(١) نشرت صحيفة الأهرام القاهرية في عددها الصادر يوم الاربعاء ٢ شوال سنة ١٣٩٢ هجري - ٨ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٧٢ م ، الخبر التالي:

واشنطن، في ٧ - ١ - ٧٢ وكالات الانباء:

أعلن ريتشار دليكي، أحد علماء الانثروبولوجيا - علم الانسان - في كينيا، أنه تم اكتشاف بقايا جمجمة يرجع تاريخها الى مليونين ونصف مليون عام، ويعد أقدم أثر من نوعه للانسان الأول. وقال العالم: ان هذا الاكتشاف يمتد في أثره مليوناً ونصف مليون عام عن أقدم أثر يمكن العثور عليه حتى الآن. وقد تم اكتشاف عظام الجمجمة مع عظام لساق بشرية ترجع إلى نفس الحقبة من التاريخ في جبل حجري بصحراء تقع شرق بحيرة رودلفا في كينيا.

وقال العالم: ان هذا الأثريمكن أن يقلب النظريات القائمة بشأن تطور الانسان عن أجداده فيما قبل التاريخ، وكيف ومتى تم. =

٨٥

____________________

= وقد قدم ريتشارد، (وهو مدير المتحف البريطاني في كينيا) تقريراً عن اكتشافه إلى الجمعية الجغرافية في واشنطن، وقال فيه:

إن نظريات التطور الحالية - وعلى رأسها نظرية دارون - تفيد أن الانسان تطور من مخلوق بدائي كانت له سمات بدنية شبيهة بسمات القرود. وان اقدم اثر للانسان كمخلوق منتصب يسير على رجليه وله مخ كبير يرجع الى نحو مليون سنة، في حين ان الاكتشاف الجديد يدل على أن المخلوق الانساني المنتصب في الساقين لم يتطور عن المخلوق البدائي الذي يشبه القرد، بل كان يعاصره منذ أكثر من مليون ونصف مليون عام، وإنه يمكن على هذا الاعتبار استبعاد المخلوق البدائي الأول على اساس ان الانسان انحدر من سلالته وذكرت الجمعية الجغرافية في تعليقها:

«ان نظرية ليكي تقوم على أساس أن المخلوق البدائي الأول، واسمه العلمي (أوسترالو بيتشيكوس) - وكان اساساً من أكلة النباتات - قد وصل الى مرحلة تطورية مسدودة، بينما استطاع الانسان الذي استعمل اللحم في غذائه، وتمكن من صناعة الادوات الحجرية أن يبقى على قيد الحياة.

وأكد ليكي في تقريره أنه أمكن إعادة بناء جمجمة من شظايا العظام التي عثر عليها، وأنه بالرغم من أن هذه الجمجمة لا تشبه جماجم الجنس البشري المعروف حالياً إلا أنها تختلف كذلك عن جميع اشكال الجماجم التي عثر عليها للانسان الأول، ولذلك لا تتفق مع أي نظرية حالية من تطور الانسان»

وفي ١١ - ٣ - ١٩٧٣ نشرت جريدة الأخبار القاهرية في صفحتها الثالثة تحت عنوان «انتكاسة نظرية الارتقاء» ما يأتي للاستاذ ظفر الاسلام خان - الهندي: «تعرضت نظرية الارتقاء لهزة عنيفة في اوائل الشهر الحالي حين قرر المجلس التعليمي الحكومي بولاية كاليفورنيا الامريكية بأن تشير جميع الكتب المدرسية للعلوم الى نظرية الارتقاء الداروينية بأنها «نظرية افتراضية وليست حقيقية» وجاء في قرار المجلس التعليمي للولاية: «ان ما يمكن معرفته عن اصول الحياة لا يعدو أن يكون مجرد افتراض ذكي - على اكثر تقدير -» وأمر المجلس «باستخدام تعديل على العقائد النظرية المسلم بها الى بيانات قابلة للتعديل وفقاً للظروف».

أوردت هذا الخبر مجلة (الايكونومست) الاسبوعية البريطانية في عددها الصادر في ١٠ مارس سنة ١٩٧٣ نقلنا هذين الخبرين عن الاستاذ الدكتور عبد اللنعم النمر مدير البحوث الاسلامية في الازهر الشريف (خواطر من الدين والحياة) الطبعة الاولى ١٩٧٣ م - دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان ص ٢١٠ - ٢١٢.

٨٦

الجن والملائكة وابحاث أخرى (الجن والملائكة)

ثمة حقائق أثبتها الوحي ولا سبيل إلى العلم بها عن طريق الحس والتجربة، وهي الحقائق الغيبية. إن الملائكة والجن وابليس والجنة والنار وما إليها ليست أساطير كما يقول المؤلف.

هل النظرة العلمية التجريبية الحسية تنفي وجود هذه الكائنات؟ أو ان الحس والتجربة لم تكتشف هذه الكائنات؟ إن التعبير الصحيح هو الثاني، ولم يقل أحد ان هذه الأشياء يمكن اكتشافها في المختبر، لسبب بسيط جداً، وهو انها خارجة عن نطاق التجربة الحسية. فالرجوع إلى النظرة العلمية الحسية للحكم على ما هو خارج عن نطاقها مسلك غير علمي، ولا ينفي عدم قدرة الحس والتجربة على ملامسة هذه الأشياء ان تكون هذه الأشياء حقيقة أيضاً كالأشياء الحسية.

إن الوحي الصادق الذي ثبت بالبرهان القاطع هو طريقنا إلى العلم بهذه الامور، فاننا إذا آمنا بالعلة الاولى للكون، وهي اللّه. وآمنا بالنبوة والوحي فلا بد لنا من الايمان بالحقائق الغيبية التي اخبرنا الوحي عنها.

٨٧

إننا حين نؤمن بأن شيئاً ما مصدر للمعرفة، فلا بد لنا من الايمان بالمعرفة التي تأتينا من هذا المصدر.

وإذن فالايمان بهذه الامور فرع للايمان بظاهرة الوحي، ومن لا يؤمن بالوحي لا معنى للكلام معه في الفرع وهو ينكر الأصل، وإذا آمنا بالوحي فمن المنطقي حينئذٍ الايمان بالغيب الذي جاء عن طريق الوحي.

والدكتور العظم وامثاله من الماديين الماركسيين وغيرهم حين يردون الكون وظواهره إلى اصل غير معروف وغير معقول، وحين يلوذون بحكاية الصدفة إذا حوصروا واعوزتهم الحجة المقنعة - هؤلاء ايضاً يؤمنون بالغيب الذي يعتقد بمثله المؤمنون بالاديان، فلماذا يكون غيب الماديين حقاً وغيب المؤمنين بالاديان باطلاً؟ مع أن غيب المؤمنين اكثر عقلانية وانسجاماً مع المنطق السليم.

***

من هنا يتضح لنا أن سخرية المؤلف في (٣٧ - ٣٨) لامعنى لها فليس المراد من النص الذي اختاره المؤلف أن بالامكان اكتشاف موجات ضوئية جنِّية وملائكية، وإنما المراد هو أن ثمة عوالم غير منظورة كثيرة وراء عالمنا، فعدم اطلاعنا على تلك العوالم وتركيبها لا ينفي وجود كائنات غير منظورة وذات طبيعة غير إنسانية فيها - وهذا معنى معقول صحيح لا وجه للسخرية منه.

***

النظرة الغائية

وهذا ينقلنا إلى مناقشة المؤلف للنظرة الغائية إلى الكون. إن المؤلف ينفي القصد والغاية من النظام الكوني. إنه نظام وجد صدفة، نعم صدفة، ووجد بهذا الشكل من النظام الدقيق المحكم المتناسق صدفة.

لا يأبى عقل الدكتور «العلمي» أن يؤمن بالصدفة في كل النظام الدقيق الشامل الذي يسيطر على كل ظواهر الطبيعة ويأبى عقله التصديق بالوحي وبالحقائق الغيبية الآتية عن طريق الوحي.

نعود إلى النظرة الغائية. إن النظام الدقيق المحكم الذي يسيطر على الكون يكشف عن القصد والغاية التي تقود الكون نحو النمو والتكامل. إن المؤلف قد نفى هذه النظرة بكلام خطابي عن العلم وعدم إدراكه للغاية والقصد مع قائمة بأسماء علماء الطبيعة والرياضيات (ص - ٣٨ ٣٩).

٨٨

وقد فات الدكتور انه لا منافاة بين النظرة الغائية وبين العلم. إن وظيفة العلم وظيفة وصفية، العلم لا يفسر ولا يفلسف، العلم يحلل ويصف فقط، أما التفسير، اما إدراك المعنى الكامن ولاء الظاهرة الطبيعية، فهو من شأن الفلسفة، من شأن العقل المفكر الواعي، وليس من شأن أنابيب الاختبار وأفران الصهر. إن العلم يستطيع أن يحلل التفاحة إلى عناصرها الأساسية، ويصفها، ولكنه لا يستطيع أن يقول لنا انها جملية أو غير جميلة، لذيذة أو غير لذيذة، فلذلك شأن يتعلق بقوى إدراكية لدى الانسان لا علاقة للعلم التجريبي بها.

***

تدخل القدرة الإلهية في عمل الطبيعة

اعترض المؤلف على قوله تعالى في سورة المؤمن:

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ من سُلالَةٍ من طين. ثم جَعَلْنَاه نُطْفَةً في قرارٍ مَكين. ثم خَلَقْنَا النّطْفةَ عَلَقَةً. فخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فخَلَقْنا المضغة عظاماً. فكسوْنا العظام لحماً. ثم انشأناهُ خلقاً آخر فتباركَ اللّه أحسَنُ الخالقين ) (١) .

اعترض بأن ما تدل عليه الآيات من تدخل الارادة الإلهية في عملية تكون الجنين ينافي ما يقرره علم الأجنة.

ونقول للمؤلف اننا بينا عند الحديث عن المسألة الإلهية ان إيماننا باللّه علةً أُولى للكون لا يعني أننا ننفي العلل الطبيعية من التأثير، كيف ذلك ونحن نشاهد بحسنا وندرك بعقولنا تدخل العلل الطبيعية وعملها؟ وانما يعني ان العلل المتصاعدة لا بد ان تنتهي إلى علة أُولى هي اللّه تعالى.

ونزيد البيان هنا فنقول:

إن الظاهرة تارة تكون خارقة للطبيعية «معجزة» وأُخرى تكون طبيعية. حين تكون الظاهرة خارقة للطبيعة ففي هذه الحالة تكون نتيجة للتدخل الإلهي المباشر. وأما حين تكون الظاهرة طبيعية فهي تتبع بصورة مباشرة أسبابها الطبيعية، ومن ذلك نمو الجنين في الرحم، فإنه تابع

____________________

(١) سورة المؤمن، الآيات: ١٢ - ١٤

٨٩

لأسبابه الطبيعية المباشرة، وإسناد عملية الخلق إلى اللّه في هذه الآيات، إنما هو باعتبار أن اللّه تعالى هو العلة الاولى والنهائية في سلسلة العلل المتصاعدة. فهو سبحانه وتعالى خلق الأسباب وجعل العلل وفقاً لهذا النظام الذي يحكم الكون كله.

***

تزوير وتناقض

يهاجم المؤلف (ص - ٤٢ - ٤٣) المسلمين الذين يرفضون نظرية دارون، ونظرية الحريات العامة في التاريخ كما بشرت بها الثورة الفرنسية، ونظرية فرويد والماركسية ويهاجمهم لأنهم يرفضون العلم في الوقت الذي يدعون ان الاسلام ينسجم مع العلم.

ونقول للمؤلف اننا قد بينا مدى «علمية» نظرية دارون آنفاً فهي ليست علماً بل ظن واحتمال لا يغني عن الحق شيئاً.

ونقول للمؤلف الماركسي: هل تقر عقيدتك الماركسية نظرية الحريات كما بشرت بها الثورة الفرنسية او ان الماركسية تستغل الحريات إلى أن يستولى اتباعها على السلطة فتخنق كل الحريات. هل يتاح لمسلم أن يهاجم الماركسية في دولة شيوعية كما هاجمت أنت الاسلام والمسيحية في كتابك موضوع البحث. هل توجد حريات في المجتمع الشيوعي؟

ونقول للمؤلف الماركسي هل تعترف الماركسية بنظرية فرويد التي قلت عنها (ص - ٤٣) «انها من أهم النتائج التي توصلت إليها البحوث العلمية

٩٠

في مجال الدراسات النفسية». نقول له: هل تقر الماركسية نظرية فرويد في أن المحرك الأساسي للانسان هو الغريزة الجنسية، وتنخلى الماركسية عن مبدئها الاساسي في ان العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد في حركة الفرد والمجتمع؟

إن الماركسية ترفض نظرية فرويد فلماذا لا يجوز للمسلم أن يرفضها؟ أو إنها بالنسبة إلى الماركسي تكون سخافة وبالنسبة إلى المسلم تصير علماً..

وأما مدى ما في الماركسية من «علم» فنرجو ان تتاح لنا فرصة الحديث عنه مع المؤلف في الفصل الأخير من كتابه.

***

التوفيق التبريري

في الصفحات (٤٥ - ٥١) انتقد المؤلف المحاولات التي تبذل في الدول الإسلامية لتبرير اشكال الحكم القائمة في كل دولة. ونحن نقول للمؤلف إن الإسلام كدين ليس مسؤولاً عن هذه المحاولات، وإنما المسؤول هو الحكام الذين يريدون أن يبرروا أنفسهم، ومسؤولية المبررين.

وقد عرضنا لهذه المسألة في قسم سابق من حديثنا مع المؤلف، ونبهنا على تناقض المؤلف مع نفسه بين ما ذكره هنا وبين ما ذكره عن هذا الموضوع في ص - ٢٣ - ٢٤.

التوفيق التعسفي

في الصفحات (٥١ - ٥٧) ندد المؤلف بقسوة وسخرية عن

٩١

المحاولات الرامية إلى تقرير أن بعض المكتشفات العلمية الحديثة قد وردت في القرآن.

ونقول للمؤلف: ان المبدأ العام بالنسبة إلى هذه المسألة هو أن القرآن ليس كتاباً في العلوم، ولذا فليس المطلوب منه ان يتضمن مبادئ علوم الطبيعة وغيرها، وإنما هو كتاب هدى ونور، يقوّم السلوك الإنساني ويهديه سواء السبيل.

ولكن هذا المبدأ لا ينفي أبداً أن في القرآن آيات كثيرة تتضمن إشارات واضحة جداً إلى حقائق علمية كشف العلم عنها بصورة نهائية. ان الآيات التي أتحدث عنها لم تسق للتعبير عن الحقيقة العلمية بصورة مباشرة، وإنما سيقت للتعبير عن أغراض أُخرى تتعلق بالانسان وسلوكه، وقدرة اللّه الكلية ولكنها في طيات ذلك تومئ إلى الحقيقة العلمية. والملاحظة الأمينة المحايدة الواعية تكشف عن ذلك بوضوح. ولو كان المقام يتسع لذكر بعض الأمثلة لذكرتها.

إن السخرية التي يلجأ إليها المؤلف لنفي الآراء التي لا تعجبه لا تقوى على دفع هذه الحقيقة. لسنا مع أولئك المتحمسين الذين يريدون أن يجعلوا من القرآن موسوعة علمية، ولكننا أيضاً لانوافق المؤلف على نفيه القاطع.

التوفيق على الطريقة اللبنانية

في الصفحات (٥٧ - ٦٩) استعراض المؤلف المحاولات المبذولة لانشاء حوار إسلامي مسيحي في لبنان والعالم، واعتبرها ظاهرة من ظواهر

٩٢

التفكير المجامل في اذهان المسؤولين عن شؤون الفكر الديني عامة واهتماماتهم».

ونقول: لسنا مع الأب يواكيم مبارك وغيره ممن يرون ان يحصروا الحوار في «المقابلة اللاهوتية البحت» فذلك لا يجدي ولا يفيد.

المفروض انه يوجد إسلام ويوجد مسيحية، وانهما دينان متميزان فلا معنى للمطالبة بوحدتهما في كل شيء، وإلا لكانا ديناً واحداً. إن الحوار ينبغي أن يستهدف اكتشاف المبادئ الكبرى التي تجمعها، المبادئ الكبرى في السلوك وفي احترام الانسان، وفي تيسير حركة التقدم الانساني، والتعايش بين الامم والجماعات الثقافية والدينية المختلفة.

إن الاسلام منذ ظهوره منفتح على المسيحية والمسيحيين، وتاريخه خلال العصور أعظم شاهد على انفتاحه، والمسيحية من خلال تطور الكنيسة تحاول الانفتاح على الاسلام، ونأمل أن يترجم هذا الانفتاح إلى دعم جهود العالمين الاسلامي والعربي بصورة واضحة وصريحة في المسألة الفلسطينية(١) .

تناقض

بعد أن حارب المؤلف الدين من كل الوجوه، ونفى أُسسه على جميع المستويات، ابتداء من اكبر قضاياه «وجود اللّه» إلى أبسط قضية

____________________

(١) لاحظ بحثنا عن الحوار الاسلامي المسيحي الذي نشر بعد كتابة هذه المطارحات في جريدة السفير البيروتية في حلقتين الاولى في العدد ٧٠٨ الاثنين ١٤ ربيع الأول ١٣٩٦ هجري = ١٥ / ٣ / ١٩٧٦ بعنوان (تأملات في صيغة الحوار الاسلامي المسيحي - ازمة الحضارة ومشروع جديد للحوار والثانية في العدد ٧٠٩ الثلاثاء ١٦ / ٣ / ١٩٧٦ بعنوان (تأملات في صيغة الحوار الاسلامي المسيحي - آفاق جديدة لعلاقات الحوار بين الديانتين).

٩٣

دينية، بعد كل هذا عاد في ص ٧٨ إلى القول بأنه «لا يريد نسخ الشعور الديني في تجارب الانسان من الوجود».

ونتساءل: كيف لايعترف بوجود إله، ويرفض وجود عالم غيبي، ومع ذلك يريد بقاء الشعور الديني، من أين يأتي الشعور الديني اذا لم يكن ثمة إله؟

وهذا التناقض شبيه بما ذكره في أول كتابه في (ص ١٧) حيث فرق بين ظاهرتين للدين:

١ - كونه «ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس» والدين بهذا الاعتبار ليس موضوعاً لنقد المؤلف.

٢ - كون الدين «قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا، وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي» وهو بهذا الإعتبار موضوع لنقد المؤلف.

نتساءل أولاً:

لماذا أعفى الدين بالاعتبار الأول من نقده، هل ينسجم فكر المؤلف - وهو الماركسي اللينيني - مع الظاهرة التي يمثلها هؤلاء «القديسون والمتصوفون وبعض الفلاسفة» وهل تسير الحياة الروحية لهؤلاء الذين اعفاهم المؤلف من نقده إلا على أساس المفهوم الإلهي والروحي للكون؟ وهو مفهوم يرفضه المؤلف جملة وتفصيلاً.

ونتساءل ثانياً:

هل الدين بالاعتبار الثاني الذي جعله المؤلف موضوعاً لنقده إلا نتيجة لكونه ظاهرة روحية؟ وهل هو باعتباره ظاهرة روحية تبدو في حياة

٩٤

قلة ضئيلة إلا السبب الفاعل في الحياة الاجتماعية والفكرية لجماهير المعتنقين للدين؟

أَليست هذه القلة الضئيلة من الناس التي اعفاها المؤلف من نقده هي التي أغنت الدين بأفكارها وتأملاتها، وتَقَبّل المجتمع المتدين هذه الأفكار والتأملات فجعلها خميرة لثقافته وروحاً لحضارته.

ان هذه الملاحظة، وأمثالها كثير، تكشف لنا عن مدى تناقضات المؤلف.

وإلى اللقاء مع قصة المؤلف في قصة ابليس

قصة ابليس

يجب أن يكون القرآن هو المادة الأساسية للبحث في قصة إبليس الاسلامية، لأن القرآن الكريم هو المصدر الأصيل الذي لا يرقى إليه الشك حول ملامح هذه القصة من وجهة النظر الإسلامية.

وعلى هذا فيجب أن يكون القرآن هو المادة الأساسية للمؤلف في بحثه الذي كتبه عن إبليس. ولا يجوز - في منطق المنهج العلمي - اعتماد مصادر أُخرى غير موثوقة لهذه القصة، كما هو الشأن في كل بحث يتناول أية مسألة من مسائل المعرفة.

وإذن، فللبحث في قصة إبليس صلة بعلم التفسير، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه: صلته بعلم التفسير من حيث انه يتناول نصاً قرآنياً، وصلته بعلم الفقه من حيث انه يتناول - في النص القرآني - تكليفاً شرعياً بالسجود، تعلق بمخلوق معين هو إبليس، وصلته بعلم اصول الفقه من حيث أنه (بحث المؤلف) يحتاج إلى معرفة بالمصطلحات الخاصة بعلم الفقه والأدلة الشرعية ليستطاع التوصل إلى فهمٍ صحيح للنص.

٩٥

الأمر التشريعي والأمر التكويني «كما سنبينه في الفقرة الثالثة» «وثانياً» انها تعبر عن افكار وتصورات متأثرة بعقائد غريبة عن الاسلام مستمدء من الافلاطونية الحديثة وغيرها. وعلى أي حال فهي ذات منابع غير إسلامية.

وأما الاحاديث المسماة «الاحاديث القدسية» فاغلبها غير اسلامي، وانما تسرب إلى التراث الاسلامي من مصادر هندية وفارسية ويونانية واسرائيلية ونصرانية، ولذا فلا يمكن اعتبارها معبرة عن وجهة النظر الاسلامية الصافية.

إن الذي يعبر عن النظرة الاسلامية - بعد القرآن - هو السنة النبوية الصحيحة التي تثبت للدراسة النقدية فيما يتعلق بالسند والمتن، والشكل والمضمون، أي لما نصطلح عليه بالنقد الخارجي والنقد الداخلي.

والعجيب من المؤلف، وهو يدعي في اكثر من موضع من كتابه تقديس العلم، ويشحن كتابه بالعبارات التي ينعى فيها على مخالفيه في الرأي أنهم لا يتبعون «المنهج العلمي» في كلامهم - من العجيب أنه هو بالذات يترك ابسط مقتضيات المنهج العلمي، وهو التأكد من المصادر التي يعتمد عليها.

مثلاً: من الصحيح أن نعتبر كتاب الطواسين معبراً عن وجهة نظر الحلاج بالذات في قصة ابليس، وذلك فيما إذا أردنا أن نكتب عن شخصية الحلاج وآرائه، وأما نعتبر آراء الحلاج هي آراء الاسلام، وفهم الحلاج هو وجهة النظر الاسلامية، فهذا خطأ كبير يدركه حتى

٩٦

الطلاب الذين يحضرون اطروحة الليسانس حين يرشدهم استاذهم المشرف إلى نوعية المصادر التي تصلح أن تكون مادة للدراسة المنوي انجازها.

٢ - الحرية الداخلية:

إن البحث الذي أداره المؤلف حول قصة ابليس يبتني على نظرية الجبر، وهي فكرة باطلة، وغير إسلامية. في الاسلام: المخلوق العاقل حر، وهو الذي يقرر بحريته واختياره التام موقفه من الاشياء والأحداث. وإرادة اللّه تأتي في مرحلة متأخرة عن اختيار العبد.

إن الفعل الانساني يتم انجازه نتيجة لاختيار المخلوق وحريته الداخلية مضافاً إليها - في مرحلة تالية إرادة اللّه، وذلك وفقاً للمعادلة التالية:

إرادة الانسان + إرادة اللّه - الفعل.

فالفعل مخلوق لارادة اللّه، ولكن ليس ابتداء‍ً، وإنما بعد أن يريده الانسان ويقرره بتمام حريته، فهو - الفعل - نتيجة لعامل الحرية - يتلوه تدخل الاراد ة الالهية في خلق الموقف الذي قرر الانسان اتخاذه.

هذا تبسيط لنظرية أهل البيت (ع) في مسألة حرية الانسان وعلاقتها بالارادة الالهية، وذلك في النص الوارد عنهم «لا جبر ولا تفويض ولكن امر بين الأمرين»، فالمخلوق ليس مجبراً، لاننا بوجداننا ندرك ما نتمتع به من حرية داخلية مطلقة، والمخلوق ليس مفوضاً لا دخل لارادة اللّه في خلق افعاله، وفي تسيير الكون، بل إرادة اللّه حاضرة دائماً، ولكن في مرحلة لاحقة على قرار العبد الذي يتخذه.

٩٧

إن الأمر التشريعي (أو النهي التشريعي) هما الأمر والنهي المتعلقان بأفعال العباد (الانسان والملائكة، الجن، ومنهم إبليس) وفعل العبد (أو تركه) منسوب إلي العبد حقيقة، فهو الذي يفعل، وهو الذي يترك، ويتمتع بالحرية المطلقة في إطاعة الأمر الإلهي والنهي الإلهي وعصيانهما. ولكن العبد عاجز عن خلق أفعاله بنفسه، فهو يمارس حريته بمعونة الارادة الإلهية، فاذا قرر العبد موقفاً معيناً من شيء (والعبد يمارس حرية مطلقة في اتخاذ قراره بدون تدخل للارادة الالهية) حينئذٍ - وبعد أن يتخذ العبد قراره يأتي دور الارادة الالهية في تحقيق قرار العبد باعانته على جعل قراره النظري نافذاً في الواقع. وبهذا يتأكد مبدأ الحرية، اذ بدون تحقيق ارادة العبد تبقى حريته نظرية لا قيمة لها.

وقد بينا هذه الحقيقة في مطلع هذا البحث عند حديثنا عن الحرية الداخلية ان اللّه كلف العباد، وأمرهم بالطاعة، واعطاء الحرية، وجعلهم مسؤولين عن كيفية ممارستهم لحريتهم، فاذا قرروا الطاعة فهم احرار في اتخاذ هذا القرار، وإذا قرروا المعصية فهم احرار في اتخاذ هذا القرار، ويتحملون مسؤوليته، ولأجل أن تتحقق لهم حريتهم الكاملة تتدخل الارادة الإلهية في تنفيذ قراراتهم التي اتخذوها.

على هذا الضوء نصل إلى النتائج التالية:

١ - الارادة التكوينية (يسميها المؤلف «المشيئة») مجال عملها عالم الأشياء.

٢ - الارادة التشريعية (الأمر التشريعي) مجاله أفعال العباد، ولا

٩٨

دخل للارادة التكوينية فيه إلا بالنحو الذي بيناه، وهو كما قلنا لا يتعارض مع مبدأ الحرية، بل يؤكد مبدأ الحرية، ويجعله واقعاً عملياً معاشاً.

٣ - لأن اللّه جعل الانسان حراً، فلا يمكن أن يأمره بشيء تشريعاً، ويريد منه خلافه تكويناً، بل اذا أمره بشيء تشريعاً يترك له حرية اتخاذ قراره، وينفذ له قراره الذي اتخذه.

ومن هنا يتضح مدى الخطأ الذي وقع فيه المؤلف حين قال (في ص ٨٩) «.... لقد شاء اللّه وجود أشياء كثيرة غير انه أمر عباده بالابتعاد عنها، كما انه أمرهم باشياء ولكنه أرادهم ان يحققوا أشياء أُخرى».

***

على ضوء هذه الملاحظات نشرح بإيجاز قصة إبليس من وجهة النظر الاسلامية مستهدين في ذلك بالنص القرآني، وبعد ذلك نوضح أخطاء المؤلف في آرائه وأحكامه الني أطلقها فيما يتعلق بقصة ابليس:

٩٩

( ...فَسَجَدُوا إلا إبْليسَ أبَى واسْتَكْبَر، وكَانَ منَ الكَافرين ) (١) .

وفي بعض آخر من الآيات يقول اللّه على لسان ابليس:

( ....قَالَ يا إبْليسُ مَا لكَ ألا تَكُونَ مَعَ السّاجدين؟ قَالَ: لم أكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَه منْ صَلْصَالٍ منْ حمأٍ مَسْنوُن ) (٢) .

( وَإذْ قُلْنَا للمَلائكَةَ اسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إبْليسَ قَالَ: أَ أَسْجُدُ لمَنْ خَلَقْتَ طيناً ) (٣)

وفي بعض ثالث من الآيات تبرز «الأنا» عند ابليس في مقابل الذات الالهية:

( قَالَ: مَا مَنَعكَ ألا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ؟ قَالَ أنَا خَيْز منْه خَلَقتْنَي منْ نَارٍ وَخَلَقْتَه منْ طين ) (٤) .

( فَسَجَدَ الملائكَةُ كُلّهم أجْمعَوُن إلا إبْليسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ منَ الكَافرين. قَالَ يَا إبْليس مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لما خَلَقتُ بيَدي أسْتكبرت أمْ كُنْتَ منَ العَالين؟ قَالَ: أنَا خَيْر منْهُ خَلَقْتَني منْ نَارٍ وَخَلَقْتَه من طين ) (٥) .

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٤ ٠

(٢) سورة الحجر الآية ٣٢ - ٣٣.

(٣) سورة الاسراء الآية ٦١.

(٤) سورة الاعراف الآية ١٢.

(٥) سورة الاعراف الآية ٧٥ - ٧٦.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ج ـ النساء المجرمات في امريكا

نقلت إحدىٰ المجلات الصادرة في عددها ٤٥٩ عن مجلة متروبوليس ، خبراً مفاده : حسب احصائيات صحيحة قام بها الاحصائيون الامريكان ، فان عدد المجرمات قد بلغ في غضون عشرة سنوات من عشرة بالمئة الىٰ ثمانين بالمئة !

احصائية عجيبة !!

تحت عنواني « الفتيات والفتيان الامريكان يحطمون الرقم القياسي في الجريمة » و « المدارس والجامعات اماكن العشاق » نشرت احدىٰ المجلات هذه الاحصائيات الرهيبة :

٢٠,٠٠٠ شاب فرنسي مابين سن ١٥ ـ ١٧ عام ارتكبوا جرائم حوكموا عليها ، ١٢٣٧٥ شاب امريكي ارتكبوا جرائم بالسيارات والدرجات والاسلحة النارية ، وهذه الاحصاءات تشمل الموارد التي تدخل فيها البوليس او اكتشفها ، اما تلك التي بقيت خافية عن انظار البوليس فهي كثيرة أيضاً وكما ان عدد الذين ارتكبوا جرائم في امريكا : ٤٦٧٨٥٠ من الشباب و ٩٨٧١٧ من الشابات(١) .

وهذه مجرّد نماذج لاحصائيات الجريمة التي يقوم بها انسان القرن

________________

(١) مجلة أمل ايران ، العدد ٣٤٣. ( بالفارسية )

٢٠١

العشرين في عصره الذهبي وفي البلدان المتحضرة !

ه‍ ـ احصائية عن الجريمة في امريكا :

حسب الاحصائيات المنشورة ، ان كل ٢٥ ثانية يقع في امريكا حادث جريمة ، وفي كل ٢٤ ساعة عملية قتل وخمسين عمل لا اخلاقي وتجاوز بالعنف و ٧٣٠ سرقة كبيرة وما يقرب ثلاثة آلاف سرقة صغيرة ، وبشكل عام تقع سنوياً ما يقرب مليون وخمسين الف جريمة(١) .

وفي تقرير نشره « هاور » رئيس دائرة المباحث الامريكية ، يقول :

ان عدد الجرائم في سنة ١٩٦٠ بلغ ١٨٦١٠٠٠ جريمة ، بزيادة قدرها ٤% عن العام الماضي.

ويضيف « هاور » في تقريره :

انّنا لو قارنّا بين الجرائم التي حدثت سنة ١٩٥٠ و ١٩٦٠ سنجد ان معدلاتها ارتفعت ٩٨ بالمئة ، في حين ان سكان امريكا لم يزدادوا في الفترة نفسها الّا ١٨ بالمئة(٢) .

و ـ احصائية عن السرقة والاختلاس في مهد الحضارة

الجميع يعلمون تطور عمليات السرقة حالياً في اوروبا وامريكا وحداثتها ، وفي امريكا هناك سارقون محترفون يطلق عليهم اسم Gangsters (

________________

(١) كتاب روح البشر : ٤٢. ( بالفارسية )

(٢) صحيفة اطلاعات الايرانية بتاريخ ٣٠ / ٧ / ١٩٦١.

٢٠٢

اعضاء العصابة ) ، وإليكم بعض الاحصائيات فيما يتعلق بهم :

ـ في نيويورك وحدها هناك ١٥٠٠ عصابة يتجاوز عدد افراد كل واحدة منها المئات.

ـ يدفع اهالي شيكاغو سنوياً ١٦٥ مليون دولار رشوة الىٰ السارقين المحترفين ، وفي جميع الولايات المتحدة الاميريكية تبلغ عائدات عصابات السرقة من هذه الرشاوي ١٢ مليار دولار ، ففي نيويورك وحده يحصل « راكتي » الذي يعمل في تزوير الوثائق علىٰ ٤٠٠ مليون دولار سنوياً.

وكان راكت روبرت يسرق اكثر من ثلاثة آلاف سيارة في السنة ويبيعها ، واللأسف الشديد هناك العديد من رجال الدولة شركاءه في ذلك(١) .

ز ـ احصائية عن السرقة في ايران :

طبقاً للأحصائيات الرسمية التي نشرت مؤخراً ، ثم الكشف في دائرة شرطة طهران لوحدها علىٰ ١٩٤ عملية سرقة خلال كانون الثاني ١٩٦١ فقط ، والقي القبض في نفس الفترة علىٰ ٣٤٢ سارق ، وهؤلاء السارقين غير الذين القت القبض عليهم شرطة المباحث ، في كانون الثاني نفسه والذين يقدرون ب‍ ٥٠٠ من اكبر وأهم السارقين(٢) .

________________

(١) مفكرة نور العلم السنوية ، سنة ١٩٥٦.

(٢) صحيفة اطلاعات الايرانية : ٨ / ٥ / ١٩٦١.

٢٠٣

اعدموا السارقين

لقد بلغ وضع الجريمة في عالمنا مستوىٰ ارعب مسؤولي الامن والبوليس والقضاء ، وكانت احدىٰ الصحف قد كتبت ان رئيس دائرة الامن الداخلي والبوليس في احدىٰ الدول الغربية طالب اعضاء البرلمان بتشريع قانون يجيز اعدام السارق.

اعدام المرتشي

وجاء في صحفية نداء الحق العدد ٤٤٣ نقلاً عن وكالة الاسيوشايتدبرس ، خبر مفاده :

« صوّت اعضاء البرلمان في تايلند بشكل أولي علىٰ قانون يوجب الاعدام لموظف الدولة الذي يأخذ رشوة ».

عجباً ، كيف يقبل العالم بأعدام السارق والمرتشي ، وهو الذي كان يعتبر قطع يد السارق وعقابه من اجل اجتثاث هذه الظاهرة من المجتمع عملاً وحشياً يستحق الاستنكار ؟!

أليس غريباً ان يعتبر مجرد قطع يد السارق عملاً وحشياً ، فيما لا يعتبر اعدامه كذلك !!

وكيف تحولت تلك المربيات اللاتي يرين انفسهن اكثر عطفاً من الاُم ولا يرضين بقطع اصابع يد انسان خائن ( طبعاً حسب الشروط التي ذكرها

٢٠٤

الاسلام ) ، الىٰ موجودات قاسيات يحكمن بالاعدام ( القتل ) علىٰ السارق والمرتشي ؟!

وقد عجزت تلك العقول التي لعبت بها الخمرة عن فهم حقيقة مفادها : الاعدام ليس حلاً للسرقة ولا يمكنه اجتثاثها من المجتمع وتأثيره أقل من تأثير قطع اليد. لأن اعدام السارق علىٰ الرغم من شدته ينسىٰ بعد فترة من الوقت ، لكن قطع يده يبقىٰ علامة في المجتمع علىٰ العقاب الذي يطال من يفعل ذلك ، مما يشكل رادعاً للآخرين عن القيام بالسرقة.

اصدقائي الاعزاء !

هل وجدتم في التاريخ شعوباً متملقة ومتحايلة مثل الشعوب الاوروبية والاميركية.

أليس عجيباً ان تثير الدول الاوروبية والاميركية كل هذا الضجيج الاعلامي لقطع اصابع سارق يخلّ بالامن والمصلحة العامة ، لكنها تقوم هي في نفس الوقت وعلىٰ مدىٰ سنين بالسيطرة علىٰ الدول الصغيرة والضعيفة وتمتص دماءها وخيراتها ، دون ان يتحرك ساكن او تدان علىٰ ذلك ؟

أليس هناك أحد يقول لرجال اوروبا وامريكا العطوفين والرؤوفين ! أيّها الذئاب المتوحشة وأيّها المخادعون ، انتم الذين تدّعون الشفقة والرحمة ليد تقطع بحق ، لماذا كل هذا التسابق في صنع تلك الاسلحة المدمرة والفتاكة ، واين عواطفكم واحاسيسكم الرقيقة تلك من استخدام ذلك السلاح ضد الابرياء والعزّل من شعوب العالم التي تريدون ابادتها ؟!

٢٠٥

ويا زعماء الشرق والغرب المتوحشين ، يا زعماء موسكو وواشنطن ولندن هل تتصورون ان العالم نسي المشاهد الدموية التي جرت علىٰ ايديكم في الحربين العالميتين الاُولىٰ والثانية ؟ وهل تُنسىٰ الدماء التي اُريقت والأشلاء التي تناثرت بواسطة قنابلكم وصواريخكم ؟

ان صيحات وآهات المفجوعين من النساء والرجال والشيوخ والاطفال لازالت تدوي في سماء عالمنا المعاصر ، رغم ضجيج اعلامكم ومنجزاتكم المزعومة.

ويا أيّها المخادعون ، كيف تجيزون كل ذلك القتل في حروبكم من اجل السيطرة علىٰ العالم والشعوب وتفجعون الآباء والاُمهات بأبنائهم والنساء بأزواجهن ، دون أن تتأثر لذلك قلوبكم السوداء ، بل تعدونه من مفاخركم وانجازاتكم ، في حين تعتبرون قطع يد سارقة عملاً وحشياً وعقوبة شديدة ، لا يمكن اجرائها ضد البشر(١) .

ضرورة وعي السياسة الغربية والشرقية

من اجل ان يعي بعض ابناء شعبنا واُمّتنا ، المتأثرين بشعارات الشرق والغرب ، حقيقة اولئك المستعمرين الناهبين لثروات الشعوب والمهيمنين علىٰ

________________

(١) بلغت خسائر الحرب العالمية الاُولى : مقتل ١٠ ملايين عسكري ، وجرح ما بين ٢٥ إلى ٣٠ مليون آخرين ، وفي الحرب العالمية الثانية ، حيث الاحصائيات ادق ، فقد بلغ عدد القتلى ٣٥ مليون و ٢٠ مليون معوّق و ١٢ مليون حالة اسقاط جنين ، وتدمير ١٣٠ الف مدرسة ، و ٦ آلاف جامعة و ٨ آلاف مختبر ، وقد اُلقيت أكثر من ٣٩٠ الف مليار قذيفة. راجع : تاريخ الحرب العالمية الثانية ، تأليف الفريق أول نخجوان. ( بالفارسية )

٢٠٦

المستضعفين والمحرومين في العالم ولكي يعلموا ان اولئك المخمورين في اوروبا وامريكا والذي يعتبرون انفسهم قادة العالم وموجهوه ما هم إلّا حفنة من المخادعين القتلة ، ولا بدّ من ذكر نماذج لأعمالهم الدنيئة والبشعة التي يرتكبونها ضد الشعوب الفقيرة.

اقرأوا بدقة اكثر الهند في مخالب بريطانيا !

هنا ، اليكم نموذجاً لتصرفات احدىٰ الدول العطوفة التي لا تقبل بقطع يد السارق وتعد ذلك عملاً وحشياً ، وتلك هي بريطانيا التي فعلت أحط الاعمال مع الشعب الهندي.

لنسمع من أحد المؤرخين الاوروبيين :

يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه « حضارة الاسلام والعرب » وفي الصفحة ٧٤٣ حول معاملة الانجليز للشعب الهندي :

« صحيح ان بريطانيا تطورت واصبحت غنية ، لكن الناس الذين اخذت منهم هذه الثروات ( الشعب الهندي ) اصبحوا في ادنىٰ مستويات الفقر والفاقة ».

٢٠٧

تقرير السيد غرانديدير(١) عن وضع الشعب الهندي

في تقرير للسيد غرانديدير عن وضع الشعب الهندي خلال استعماره من قبل انجلترا ، يقول :

« كانت طبقة المزارعين الهنود والتي تشكل اغلبية الشعب تدفع في السابق سدس ( ١ / ٦ ) محاصيلها الىٰ امرائها المحليين ، اما في فترة السيطرة الانجليزية فقد كان عليهم أن يدفعوا نصف ( ١ / ٢ ) محاصيلهم اما اذا امتنعوا عن دفع تلك الضرائب ، فان املاكهم واراضيهم تصادر بشكل مأساوي ، وقد أدىٰ هذا الامر الىٰ مآسي وفجائع بالنسبة للمزارعين تفوق مستوىٰ التصور ».

حالة الشعب الهندي نقلاً عن السيد هيندمان(٢)

يقول السيد هيندمان الذي زار الهند في فترة الاستعمار البريطاني :

« لقد قام الانجليز من جهة بالضغط علىٰ الشعب الهندي من خلال الضرائب الباهضة بشكل جعلهم يتضورون جوعاً ومن جهة اخرىٰ قاموا بتدمير مصانعهم وصناعتهم مما ادىٰ الىٰ غلقها وذلك من اجل السيطرة علىٰ السوق الهندية وزيادة صادراتهم ، وبهذه التصرفات فاننا ( الشعب الانجليزي ) نسير

________________

(١) Grandidier

(٢) Hind man

٢٠٨

نحو كارثة ليس لها مثيل في التاريخ ».

وفي مكان آخر من كتاب حضارة الاسلام والعرب ، يتحدث الدكتور غوستاف لوبون عن حالة الشعب الهندي ، فيقول :

« يوجد في ولاية مدرس(١) وحدها وحسب الاحصائيات الرسمية ستة عشر مليون متسول. ولماذا لا يكون كذلك ؟ فالشعب الهندي المسكين كان عليه أن يدفع مصروفات الحرب والتي بلغت اربعمائة مليون باوند وكذلك مصروفات الدوائر الحكومية البريطانية ومبلغها خمسين مليون باوند ، وما عدا تلك المبالغ الضخمة ، كان عليهم أن يدفعوا سنوياً خمسمائة مليون باوند ـ خالصة ـ إلى خزانة الحكومة البريطانية ، وعلى هذا الاساس يكون مجموع ما حصلت عليه بريطانيا خلال فترة عشرين سنة(٢) من سيطرتها على الهند ، يفوق عشرة ملياردات باوند ، طبعاً هذا غير المبالغ العظيمة التي صرفت على المأمورين الانجليز في الهند ، لأن اولئك المأمورين كانوا يتقاضون خلال فترة اقامتهم في الهند مرتبات مساوية لما يتقاضاه الوزير في بريطانيا ».

ثم ينقل الدكتور لوبون عن تقرير السيد هيندمان ، فيقول :

« ومن الاُمور العجيبة والمرعبة هي أن الولايات الشمالية الغربية كانت مجبورة على ارسال محاصيلها من الحبوب إلى الخارج ، في حين أن ثلاثمائة

________________

(١) من ولايات جنوب شرق الهند ، يبلغ عدد سكانها ٤٤ مليون نسمة ، وأهم منتوجاتها الرز والتبغ والشاي والقطن.

(٢) الفترة المذكورة ، حتى تاريخ كتابة « حضارة الاسلام والعرب ».

٢٠٩

شخص ماتوا جوعاً هناك خلال بضعة أشهر.

وفي سنة ١٨٨٧ م مات في ولاية مدرس وحدها ٩٣٥ الف شخص ( حسب الاحصائيات الرسمية ) جوعاً ، وكانت الحالة تزداد سوءً يوماً بعد يوم ، لأن المزارعين كانوا مضطرين إلى زراعة اراضيهم أكثر من الحد الطبيعي لكي يتمكنوا من دفع الضرائب الباهظة التي تأخذها منهم الحكومة الاستعمارية بالقوة ، وبذلك فقدت الاراضي طاقاتها وخربت بشكل تام ».

وبعد أن ينقل الدكتور لوبون ذلك التقرير عن السيد هيندمان ، يعلق ويقول :

« الارقام التي نشرها السيد هنيدمان ، لم تعترض أو تعلق عليها الحكومة البريطانية ، كما انها لم تكذبها أيضاً. والجواب الوحيد الذي أعطته في مجلة « كل خمسة عشر يوماً » حول الخمسمائة مليون باوند التي على الحكومة الهندية أن ترسلها الى خزانة بريطانيا ، هو : « أن هذا المبلغ هو ثمن حكومة منظمة وآمنة اعطيت للشعوب الهندية ».

ويقول لوبون بعد نقله لهذا الجواب القاطع في المجلة المذكورة :

« ولا يخفى أن اطلاق لفظة آمنة على حكومة مسالمة ! بلغت خسائرها من الجوع أكثر من خسائر حرب ضروس ، لم يكن يفسره الشعب الهندي بغير الكذب ».

وهذا التصرّف المشين هو نموذج لسياسة دولة عظمى ومتحضّرة مع الشعب الهندي ، تلك الدولة التي تتحدّث عن حقوق الانسان وعواطفه وتعدّ قطع يد السارق عملاً وحشياً.

٢١٠

اصدقائي الاعزاء

ما ذكرناه من التصرفات والسياسات الوحشية لحكومة بريطانيا الاستعمارية في الهند ، هو جزء يسير من همجيتهم وبربريتهم ، لم يقتصر الأمر على الهند فقط ، بل شمل جميع المناطق التي استعمرتها ( الحقيقة استثمرتها ) تلك الحكومة التي تدّعي الدفاع عن حقوق الانسان ! وبالامكان الحديث عن نماذج اُخرى لوحشيتهم وجرائمهم في العديد من الدول الآسيوية والافريقية التي احتلوها واستعمروها.

٢١١

امريكا وريثة الاستعمار

الىٰ اولئك الجهلة والمسلمين غير الواعين الذين يرجون الدعم الأمريكي من اجل استيفاء حقوقهم الانسانية.

الىٰ الذين لا يزالون يعتبرون امريكا كعبة آمالهم ، فيلهجون بذكرها ويسبحون بحمدها ، ومن أجل ان تعرفوا ان أمريكا لا تقل عن بريطانيا وحشية وبربرية ، وكما يقول المثل « الكلب اخو الذئب » ، اقرأوا الخبر بدقّة ، لكي تعرفوا حقيقة امريكا وريثة الاستعمار البشعة ، من خلف قناع الانسانية الذي تتظاهر به.

سنة ١٩٤٥ م قامت امريكا التي تدفع عن حقوق الانسان والتي تقيم الدنيا وتقعدها من أجل قطع يد سارق بألقاء قنبلتين ذريتين ( صغيرتين !! ) علىٰ مدينتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان ، لان اليابان قاومت الهجوم الامريكي ولم تستطع امريكا ان تنتصر عليها رغم استسلام قوات المحور في اوروبا وذلك لبسالة الجنود اليابانيين وشجاعتهم ، وكانت نتيجة ذلك التدمير المدينتين بالكامل ومقتل سبعين ألف شخص.

وقبل فترة قصيرة ، قرأت في احدىٰ المجلات خبراً تحت عنوان « حادث غريب هزّ اوروبا وامريكا » ، كانت هناك صورة لذلك الضابط الشريف !! والشهم !! الذي القىٰ قنبلته الذرية علىٰ الشعب الياباني بأمر من حكومته وهذا التعليق اسفلها :

٢١٢

الطيار الذي ألقىٰ أول قنبلة ذرية علىٰ هيروشيما يعيش حالة من الندم والجنون ، ويشاهد دائماً يتكلم مع البوليس والقضاة : « ألقوا القبض عليّ ، اسجنوني ».

ثمّ تضيف المجلة : « الرائد اترلي يرىٰ كل ليلة في منامه دخاناً برتقالي اللون يتّجه نحوه ويسمع اصوات استغاثات ، واناس كثيرون يصرخون في اذنيه » ، ثمّ تقول المجلة نقلاً عن مجلة « بارس ماج » التي تصدر في باريس : « ان جنون الرائد اترلي من اغرب ألاعيب الطبيعة التي حيّرت الجميع في القرن العشرين ».

اصدقائي الاعزاء :

هذه المجازر الجماعية وتدمير هاتين المدينتين الصناعيتين الكبيرتين ، بجميع معاملهما وشركاتهما ومؤسساتهما وابنيتهما ، نموذج من سلوكيات وتصرفات القادة المصلحين ! المحبين للانسانية في امريكا ، الذين لا يفكرون بشيء سوىٰ تقديم خدمات للدول النامية والشعوب الضعيفة ، وهو ما قدموه لتلك الدولة الشرقية ، اي اليابان ! ولو سنحت فرص اخرىٰ لامريكا المحبّة للبشرية ! امريكا التي تحتل موقع الصدارة في الحضارة المعاصرة ! لكررت ذلك النموذج مع شعوب ضعيفة اُخرىٰ.

وما تكلّمنا عنه للتعريف بحقيقة امريكا ونواياها الشريرة ، هو جزء يسير من جرائهما الكبيرة التي اقترفتها ولا زالت تقترفها بحق البشرية ، والحقيقة ان جرائم هذا الذئب الغدّار الذي ورث الامبراطوريات الاستعمارية بعد الحرب

٢١٣

العالمية الثانية واسعة بشكل بيّضت وجوه جميع من سبقوها في تاريخ الاستعمار والتسلّط ، فبالاضافة الىٰ القتل والدمار والنهب الذي قامت به امريكا علىٰ مدىٰ عشرة سنين في فيتنام والذي قتل فيه عشرات الآلاف من البشر الأبرياء بأبشع الصور.

كما تقوم امريكا بجرائم اقتصادية وسياسية وثقافية وحضارية في العديد من المجتمعات والبلدان اما بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق الحكومات العميلة والمرتبطة بها ، بشكل لم يسبق له مثيل ولم يشاهد ان قام به جزار وسفاك ومجرم قبلها في التاريخ.

وأمريكا التي لم يمض علىٰ ظهورها علىٰ الساحة الدولية إلّا بضع سنين ، تتصرف ببشاعة وجنون في نهب خيرات الشعوب واستضعافها ، ولا يمكن الوقوف امامها إلّا بتوعية الشعوب وتحركها.

تعرّفوا علىٰ فرنسا المخادعة

يا شبابنا المسلم ! الفرنسيون الذين كانوا يعتبرون انفسهم ما قبل قرنين حملة راية الحرية ! والواضعون للبيان العالمي لحقوق الانسان ، هؤلاء العطوفون الذين يرون قطع يد السارق عملاً وحشياً ، تعاملوا مع الشعب الجزائري المسلم بقسوة جعلت كل انسان شريف وصاحب ضمير في حيرة من امره ، ولا يزال الشعب الجزائري بنسائه ورجاله وشيوخه وشبابه يجاهدون ويقفون امام هذا الغول والذئب المتوحش ويقدمون الضحايا تلو الضحايا من اجل ان يحصلوا علىٰ استقلالهم ويحكموا بلادهم بأنفسهم ، لكن الفرنسيين

٢١٤

الوضيعين وكأنما يريدون ان يفقدوا ارض آباءهم واجدادهم ، ليسوا مستعدين للتخلي عن الجزائر ووقف مجازرهم هناك.

لقد قدم الشعب الجزائري المسلم والشجاع مليون شهيداً في سبيل حريته واستقلاله ، ولقد كان تعامل الحكومة الفرنسية بشع حتىٰ مع الاسرىٰ المسلمين المحتجزين في معسكرات الجيش الفرنسي بحيث نقلت وكالات الانباء العالمية اخباراً عن وضع الأسرى المؤسف ، واعترضت على الحكومة الفرنسية بشدّة للكف عن المعاملة اللانسانية مع اولئك الاسرىٰ.

طبعاً لفرنسا مثل الغولين الاستعماريين امريكا وبريطانيا سجل دموي آثم في جميع مستعمراتها في آسيا وافريقيا ، وهو ما يتفق فيه جميع المستعمرين ، فالتاريخ الاستعماري اساساً هو ليس إلّا القتل والنهب والخيانة ، وسحق جميع القيم الثقافية والدينية للشعوب الصغيرة.

وعلىٰ هذا الاساس ، لا يمكن حصر جرائم فرنسا ( وكغيرها من اقرانها المستعمرين ) بنوع ومجال معين ، لأنها واسعة ومتنوعة.

اصدقائي الاعزاء !

هذه النماذج مختصرة وصغيرة من آلاف التصرفات الوحشية التي تقوم بها الدول الكبرىٰ ، مع الشعوب الضعيفة ، تلك الدول العظمىٰ التي تعتبر انفسها مدافعة عن الانسانية وتريد ان تخلّص البشر من وحل الشقاء بعقولها المخمورة ، تلك الدول العظمىٰ الرؤوفة بالانسان والانسانية ، والتي تعتبر قطع يد السارق كعقوبة وفق الشروط التي وضعها الاسلام ، عملاً وحشياً غير جائزاً !

٢١٥

أليس عجيباً ان يحاول هؤلاء المتوحشون الدوليون الحيلولة دون الاعمال الوحشية التي يقوم بها بعض البشر ، وأليس غريباً ان يحاول هؤلاء السارقون المسلحون بالاسلحة الذرية الوقوف امام السرقات والاعتداءات التي يقوم بها البشر ومن المحيّر جداً ان يحاول هؤلاء الجزّارون الذين تلطخت اياديهم بدماء ملايين البشر ، والوقوف امام القتل والجريمة.

هنا وبمشاهدتنا لجميع تلك الجرائم والمجازر الرهيبة التي قامت بها الدول الاوروبية والامريكية المتقدمة علمياً ، لابدّ ان نعترف بان عالمنا المعاصر ارتكب خطأً كبيراً عندما ضحّىٰ بالمعنويات من اجل الماديات ، لأنه وعلىٰ الرغم من التطورات التي شهدها عالمنا في المجالات العلمية والصناعية ، لكن وجود هذه المجازر والانحرافات العلمية والاخلاقية دليل حيّ علىٰ موت الفضيلة والانسانية ، بشكل تام ، وان العاطفة والصفات الانسانية قد اضمحلت ، فالبشرية تخلفت عن قافلة اخلاق والفضيلة بنفس المقدار الذي تقدمت فيه في ميدان العلوم المادية.

التضحية بالمعنويات امام الماديات

يقول الدكتور الكسيس كارل ، الذي مرّ ذكره ، حول انحطاط البشر الاخلاقي في عالم اليوم :

« الحضارة الجديدة ارتكبت خطأً فادحاً بتضحيتها بالمعنويات امام الماديات ، وهذا الخطأ كبير لأنه يحيي عند الناس الشعور بالعصيان ».

ويضيف الدكتور كارل في بحث آخر حول عدم جدوىٰ العلوم المادية

٢١٦

لوحدها ، فيقول :

« لا جدوىٰ من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكية ولربما لا تكون الاكتشافات الفيزيائية والكيميائية والنجومية كبيرة جداً ، طبيعي ثابت لدينا ان العلم بحد ذاته غير مضر بالنسبة لنا ، لكنها تحصر بجمالها الباهر جميع نشاطاتنا الفكرية في الموارد غير الحيوية.

وعلىٰ البشرية اليوم ان تركز انتباهها علىٰ نقاط الضعف الاخلاقية والفكرية التي تعاني منها ، فما الفائدة من كثرة وسائل الراحة والزينة والجمال والعظمة وهذه الحضارة إذا لم تكن لنا القدرة في ادارتها بأحسن وجه ، وما هي حصيلة استمرار حالة معيشية تؤدي الىٰ ضعف الاسس الاخلاقية وتدمير عوامل الاعراق الاصيلة ، أليس من الافضل ان نتهم بأنفسنا بدل الغرق في صناعة التلسكوبات العظيمة لدراسة الكواكب والنجوم أو صناعة السفن المتطورة والسيارات الحديثة و الخ.

فلو استطعنا السفر من اوروبا الىٰ الصين خلال بعض ساعات بالطائرة ، فما هو التقدّم الذي حصل في داخلنا ، هل التقدم الفيزيائي والكيميائي و يوجد لدينا اخلاقاً فاضلةً وذكاءً أو صحةً وتعادلاً نفسياً أو أمناً وسلاماً ، علينا ان نركز علىٰ قضايا كثر جدّية من الفيزياء أو الأحياء ، وهي النفس الانسانية والمعنويات ».

اصدقائي الاعزاء !

هذه العبارات هي نص اعتراف احد كبار شخصيات اوروبا حول

٢١٧

انحطاط تلك البلدان ، ومع الأخذ بكل ما ذكرناه من جرائم مرعبة وانحرافات اخلاقية وعلمية في الغرب ، أليس عجباً ان يغتر بعض المسلمين والشرقيين بزخارف الصناعات الاوروبية والامريكية وينسوا انفسهم ويفقدوا هويتهم ، لكي يفتخروا بتقليد اعمىٰ لكل ما موجود في الغرب !!

اصبت بزكام اجنبي

مسكين احد المتغرّبين الايرانيين ، كان قد سمع ان الاوروبيين يسمون الزكام « غريب »(١) ، فأجهد نفسه لكي يتعلم تلك الكلمة حتىٰ يفتخر بأستخدامها عند محادثة الآخرين ! ولربما انتظر فصل الشتاء كثيراً وتمنىٰ لو يصاب بالزكام حتىٰ يلفظ تلك الكلمة عندما يسأله الآخرون عن حالته ، وبعد فترة طويلة حصل له ما كان يتمناه ، فسأله احد اصدقائه عن صحته ، لكن هذا المسكين نسيَ لفظة Grippe وكلما حاول ان يتذكرها خانته ذاكرته ، وفي نفس الوقت لم يكن حاضراً لأن يجيب صديقه بأنه مصاب بالزكام ، فقال لصديقه : اصبت بزكام اجنبي !!

وهنا انفجر الحاضرون بالضحك.

ايها السادة ! لا تعجبوا من ذلك ، فهناك نماذج كثيرة من هذا القبيل في بلادنا ، من الذين ينظرون الىٰ أكثر الاعمال وحشية وانحطاطاً في الغرب علىٰ انها مقدّسة لمجرد صدورها عن الغرب.

________________

(١) Grippe مرض مسري وهو علىٰ نوعين ، الأول الزكام العادي والثاني اخطر منه وهو الذي يسمىٰ انفلونزا Anfluenza

٢١٨

اقول لنفسي بعض الاحيان ، لا يُلام قادة الشعوب الغربية لو منحوا بعض متغربينا اعظم اوسمة الجهل والحماقة ، لانهم لايزالون يتوقعون ان يقوم الغرب بأصلاحات في بلداننا مع ان الغرب ومنذ عشرات السنين يقوم بنهب ثرواتنا والتسلط علىٰ بلداننا ثقافياً وسياسياً ، بشكل جعلنا متخلفين في جميع شؤون الحياة.

اين أجرة الحمار في النهاية !!

هذه السذاجة في التفكير وهذا التوقع من هؤلاء الذئاب ، شبيه بالقصه التي ينقلها المرحوم الشيخ البهائي ، وهي :

كان هناك رجلاً في بغداد قد استقرض كثيراً من الناس ، بحيث كان الجميع يطلبونه ، والحقيقة هو ان الرجل كان متحايلاً غريباً ، حتىٰ اشتكىٰ عليه غرماءه عند القاضي ، فقام القاضي بالكشف عن وضعه المالي مباشرة ، فوجد انه لا يملك شيئاً يمكن استرداده منه ، لذلك فقد شخّصه بانه مفلس وخلّصه من أيدي الطالبين ، ولكن ومن أجل ان لا يتحايل الرجل علىٰ شخص آخر ويستدين منه مالاً ، أمر القاضي بايجار حمار يطاف عليه الرجل في الاسواق ليعرف الناس انه مفلس ولا يقرضه أحد مالاً.

وبعد ان أدىٰ صاحب الحمار عمله المنهمك من الصباح الىٰ وقت المغرب ، طالب الرجل بأجرته ، فأجابه المفلس ضاحكاً : لم اشاهد من هو احمق وأسفه منك ، فأنت تدور بي منذ الصباح في المدينة وتعلن للناس انني مفلس ومدان وان لا يقرضني أحد مالاً ، ومع ذلك تطالبني الآن

٢١٩

بأجرة الحمار؟

يضحك الحاضرون ملياً.

والحقيقة ان توقعنا الحصول علىٰ خدمات ومساعدة من تلك الدول الاوروبية والاميريكية ، يشابه توقع صاحب الحمار من ذلك الرجل المفلس ، لان هؤلاء وبالاضافة الىٰ المآسي التي قاموا بها في بلداننا الاسلامية ، فان مساعداتهم المالية والقروض التي قدموها لنا لم يصلنا من اغلبها الّا الضرر ، فيما ذهبت تلك الاموال في جيوب السماسرة والمسؤولين الحكوميين.

اعتراف غريب للدكتور غوستاف لوبون

في بحث له بهذا الصدد ، يعترف الدكتور غوستاف لوبون بصراحة :

« لم تأت حضارتنا بشيء لشعوب الشرق سوىٰ الشقاء والمآسي ، ومن مصلحتهم ان يقطعوا ارتباطهم بأوروبا وشعوبها ».

ويقول في كتابه حضارة الاسلام والعرب ، بعد بحث معقد ومحيّر :

« ان كتمان هذه الحقيقة لن يؤثر شيئاً ، ولابد ان اقول بصراحة قد لايستسيغها رجال اوروبا ، ان تعاملنا نحن الاوروبيون مع شعوب الشرق ، منحط وقاسي ، بل ووحشي ».

ثم يضيف :

« ومما يؤسف له اكثر من كل شيء ، هو ان تعامل الدول الاوروبية مع الشعوب الشرقية المتحضرة مثل الصينيين والهنود وغيرهم ، ليس بأفضل

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466