رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور8%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233456 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ج ـ النساء المجرمات في امريكا

نقلت إحدىٰ المجلات الصادرة في عددها ٤٥٩ عن مجلة متروبوليس ، خبراً مفاده : حسب احصائيات صحيحة قام بها الاحصائيون الامريكان ، فان عدد المجرمات قد بلغ في غضون عشرة سنوات من عشرة بالمئة الىٰ ثمانين بالمئة !

احصائية عجيبة !!

تحت عنواني « الفتيات والفتيان الامريكان يحطمون الرقم القياسي في الجريمة » و « المدارس والجامعات اماكن العشاق » نشرت احدىٰ المجلات هذه الاحصائيات الرهيبة :

٢٠,٠٠٠ شاب فرنسي مابين سن ١٥ ـ ١٧ عام ارتكبوا جرائم حوكموا عليها ، ١٢٣٧٥ شاب امريكي ارتكبوا جرائم بالسيارات والدرجات والاسلحة النارية ، وهذه الاحصاءات تشمل الموارد التي تدخل فيها البوليس او اكتشفها ، اما تلك التي بقيت خافية عن انظار البوليس فهي كثيرة أيضاً وكما ان عدد الذين ارتكبوا جرائم في امريكا : ٤٦٧٨٥٠ من الشباب و ٩٨٧١٧ من الشابات(١) .

وهذه مجرّد نماذج لاحصائيات الجريمة التي يقوم بها انسان القرن

________________

(١) مجلة أمل ايران ، العدد ٣٤٣. ( بالفارسية )

٢٠١

العشرين في عصره الذهبي وفي البلدان المتحضرة !

ه‍ ـ احصائية عن الجريمة في امريكا :

حسب الاحصائيات المنشورة ، ان كل ٢٥ ثانية يقع في امريكا حادث جريمة ، وفي كل ٢٤ ساعة عملية قتل وخمسين عمل لا اخلاقي وتجاوز بالعنف و ٧٣٠ سرقة كبيرة وما يقرب ثلاثة آلاف سرقة صغيرة ، وبشكل عام تقع سنوياً ما يقرب مليون وخمسين الف جريمة(١) .

وفي تقرير نشره « هاور » رئيس دائرة المباحث الامريكية ، يقول :

ان عدد الجرائم في سنة ١٩٦٠ بلغ ١٨٦١٠٠٠ جريمة ، بزيادة قدرها ٤% عن العام الماضي.

ويضيف « هاور » في تقريره :

انّنا لو قارنّا بين الجرائم التي حدثت سنة ١٩٥٠ و ١٩٦٠ سنجد ان معدلاتها ارتفعت ٩٨ بالمئة ، في حين ان سكان امريكا لم يزدادوا في الفترة نفسها الّا ١٨ بالمئة(٢) .

و ـ احصائية عن السرقة والاختلاس في مهد الحضارة

الجميع يعلمون تطور عمليات السرقة حالياً في اوروبا وامريكا وحداثتها ، وفي امريكا هناك سارقون محترفون يطلق عليهم اسم Gangsters (

________________

(١) كتاب روح البشر : ٤٢. ( بالفارسية )

(٢) صحيفة اطلاعات الايرانية بتاريخ ٣٠ / ٧ / ١٩٦١.

٢٠٢

اعضاء العصابة ) ، وإليكم بعض الاحصائيات فيما يتعلق بهم :

ـ في نيويورك وحدها هناك ١٥٠٠ عصابة يتجاوز عدد افراد كل واحدة منها المئات.

ـ يدفع اهالي شيكاغو سنوياً ١٦٥ مليون دولار رشوة الىٰ السارقين المحترفين ، وفي جميع الولايات المتحدة الاميريكية تبلغ عائدات عصابات السرقة من هذه الرشاوي ١٢ مليار دولار ، ففي نيويورك وحده يحصل « راكتي » الذي يعمل في تزوير الوثائق علىٰ ٤٠٠ مليون دولار سنوياً.

وكان راكت روبرت يسرق اكثر من ثلاثة آلاف سيارة في السنة ويبيعها ، واللأسف الشديد هناك العديد من رجال الدولة شركاءه في ذلك(١) .

ز ـ احصائية عن السرقة في ايران :

طبقاً للأحصائيات الرسمية التي نشرت مؤخراً ، ثم الكشف في دائرة شرطة طهران لوحدها علىٰ ١٩٤ عملية سرقة خلال كانون الثاني ١٩٦١ فقط ، والقي القبض في نفس الفترة علىٰ ٣٤٢ سارق ، وهؤلاء السارقين غير الذين القت القبض عليهم شرطة المباحث ، في كانون الثاني نفسه والذين يقدرون ب‍ ٥٠٠ من اكبر وأهم السارقين(٢) .

________________

(١) مفكرة نور العلم السنوية ، سنة ١٩٥٦.

(٢) صحيفة اطلاعات الايرانية : ٨ / ٥ / ١٩٦١.

٢٠٣

اعدموا السارقين

لقد بلغ وضع الجريمة في عالمنا مستوىٰ ارعب مسؤولي الامن والبوليس والقضاء ، وكانت احدىٰ الصحف قد كتبت ان رئيس دائرة الامن الداخلي والبوليس في احدىٰ الدول الغربية طالب اعضاء البرلمان بتشريع قانون يجيز اعدام السارق.

اعدام المرتشي

وجاء في صحفية نداء الحق العدد ٤٤٣ نقلاً عن وكالة الاسيوشايتدبرس ، خبر مفاده :

« صوّت اعضاء البرلمان في تايلند بشكل أولي علىٰ قانون يوجب الاعدام لموظف الدولة الذي يأخذ رشوة ».

عجباً ، كيف يقبل العالم بأعدام السارق والمرتشي ، وهو الذي كان يعتبر قطع يد السارق وعقابه من اجل اجتثاث هذه الظاهرة من المجتمع عملاً وحشياً يستحق الاستنكار ؟!

أليس غريباً ان يعتبر مجرد قطع يد السارق عملاً وحشياً ، فيما لا يعتبر اعدامه كذلك !!

وكيف تحولت تلك المربيات اللاتي يرين انفسهن اكثر عطفاً من الاُم ولا يرضين بقطع اصابع يد انسان خائن ( طبعاً حسب الشروط التي ذكرها

٢٠٤

الاسلام ) ، الىٰ موجودات قاسيات يحكمن بالاعدام ( القتل ) علىٰ السارق والمرتشي ؟!

وقد عجزت تلك العقول التي لعبت بها الخمرة عن فهم حقيقة مفادها : الاعدام ليس حلاً للسرقة ولا يمكنه اجتثاثها من المجتمع وتأثيره أقل من تأثير قطع اليد. لأن اعدام السارق علىٰ الرغم من شدته ينسىٰ بعد فترة من الوقت ، لكن قطع يده يبقىٰ علامة في المجتمع علىٰ العقاب الذي يطال من يفعل ذلك ، مما يشكل رادعاً للآخرين عن القيام بالسرقة.

اصدقائي الاعزاء !

هل وجدتم في التاريخ شعوباً متملقة ومتحايلة مثل الشعوب الاوروبية والاميركية.

أليس عجيباً ان تثير الدول الاوروبية والاميركية كل هذا الضجيج الاعلامي لقطع اصابع سارق يخلّ بالامن والمصلحة العامة ، لكنها تقوم هي في نفس الوقت وعلىٰ مدىٰ سنين بالسيطرة علىٰ الدول الصغيرة والضعيفة وتمتص دماءها وخيراتها ، دون ان يتحرك ساكن او تدان علىٰ ذلك ؟

أليس هناك أحد يقول لرجال اوروبا وامريكا العطوفين والرؤوفين ! أيّها الذئاب المتوحشة وأيّها المخادعون ، انتم الذين تدّعون الشفقة والرحمة ليد تقطع بحق ، لماذا كل هذا التسابق في صنع تلك الاسلحة المدمرة والفتاكة ، واين عواطفكم واحاسيسكم الرقيقة تلك من استخدام ذلك السلاح ضد الابرياء والعزّل من شعوب العالم التي تريدون ابادتها ؟!

٢٠٥

ويا زعماء الشرق والغرب المتوحشين ، يا زعماء موسكو وواشنطن ولندن هل تتصورون ان العالم نسي المشاهد الدموية التي جرت علىٰ ايديكم في الحربين العالميتين الاُولىٰ والثانية ؟ وهل تُنسىٰ الدماء التي اُريقت والأشلاء التي تناثرت بواسطة قنابلكم وصواريخكم ؟

ان صيحات وآهات المفجوعين من النساء والرجال والشيوخ والاطفال لازالت تدوي في سماء عالمنا المعاصر ، رغم ضجيج اعلامكم ومنجزاتكم المزعومة.

ويا أيّها المخادعون ، كيف تجيزون كل ذلك القتل في حروبكم من اجل السيطرة علىٰ العالم والشعوب وتفجعون الآباء والاُمهات بأبنائهم والنساء بأزواجهن ، دون أن تتأثر لذلك قلوبكم السوداء ، بل تعدونه من مفاخركم وانجازاتكم ، في حين تعتبرون قطع يد سارقة عملاً وحشياً وعقوبة شديدة ، لا يمكن اجرائها ضد البشر(١) .

ضرورة وعي السياسة الغربية والشرقية

من اجل ان يعي بعض ابناء شعبنا واُمّتنا ، المتأثرين بشعارات الشرق والغرب ، حقيقة اولئك المستعمرين الناهبين لثروات الشعوب والمهيمنين علىٰ

________________

(١) بلغت خسائر الحرب العالمية الاُولى : مقتل ١٠ ملايين عسكري ، وجرح ما بين ٢٥ إلى ٣٠ مليون آخرين ، وفي الحرب العالمية الثانية ، حيث الاحصائيات ادق ، فقد بلغ عدد القتلى ٣٥ مليون و ٢٠ مليون معوّق و ١٢ مليون حالة اسقاط جنين ، وتدمير ١٣٠ الف مدرسة ، و ٦ آلاف جامعة و ٨ آلاف مختبر ، وقد اُلقيت أكثر من ٣٩٠ الف مليار قذيفة. راجع : تاريخ الحرب العالمية الثانية ، تأليف الفريق أول نخجوان. ( بالفارسية )

٢٠٦

المستضعفين والمحرومين في العالم ولكي يعلموا ان اولئك المخمورين في اوروبا وامريكا والذي يعتبرون انفسهم قادة العالم وموجهوه ما هم إلّا حفنة من المخادعين القتلة ، ولا بدّ من ذكر نماذج لأعمالهم الدنيئة والبشعة التي يرتكبونها ضد الشعوب الفقيرة.

اقرأوا بدقة اكثر الهند في مخالب بريطانيا !

هنا ، اليكم نموذجاً لتصرفات احدىٰ الدول العطوفة التي لا تقبل بقطع يد السارق وتعد ذلك عملاً وحشياً ، وتلك هي بريطانيا التي فعلت أحط الاعمال مع الشعب الهندي.

لنسمع من أحد المؤرخين الاوروبيين :

يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه « حضارة الاسلام والعرب » وفي الصفحة ٧٤٣ حول معاملة الانجليز للشعب الهندي :

« صحيح ان بريطانيا تطورت واصبحت غنية ، لكن الناس الذين اخذت منهم هذه الثروات ( الشعب الهندي ) اصبحوا في ادنىٰ مستويات الفقر والفاقة ».

٢٠٧

تقرير السيد غرانديدير(١) عن وضع الشعب الهندي

في تقرير للسيد غرانديدير عن وضع الشعب الهندي خلال استعماره من قبل انجلترا ، يقول :

« كانت طبقة المزارعين الهنود والتي تشكل اغلبية الشعب تدفع في السابق سدس ( ١ / ٦ ) محاصيلها الىٰ امرائها المحليين ، اما في فترة السيطرة الانجليزية فقد كان عليهم أن يدفعوا نصف ( ١ / ٢ ) محاصيلهم اما اذا امتنعوا عن دفع تلك الضرائب ، فان املاكهم واراضيهم تصادر بشكل مأساوي ، وقد أدىٰ هذا الامر الىٰ مآسي وفجائع بالنسبة للمزارعين تفوق مستوىٰ التصور ».

حالة الشعب الهندي نقلاً عن السيد هيندمان(٢)

يقول السيد هيندمان الذي زار الهند في فترة الاستعمار البريطاني :

« لقد قام الانجليز من جهة بالضغط علىٰ الشعب الهندي من خلال الضرائب الباهضة بشكل جعلهم يتضورون جوعاً ومن جهة اخرىٰ قاموا بتدمير مصانعهم وصناعتهم مما ادىٰ الىٰ غلقها وذلك من اجل السيطرة علىٰ السوق الهندية وزيادة صادراتهم ، وبهذه التصرفات فاننا ( الشعب الانجليزي ) نسير

________________

(١) Grandidier

(٢) Hind man

٢٠٨

نحو كارثة ليس لها مثيل في التاريخ ».

وفي مكان آخر من كتاب حضارة الاسلام والعرب ، يتحدث الدكتور غوستاف لوبون عن حالة الشعب الهندي ، فيقول :

« يوجد في ولاية مدرس(١) وحدها وحسب الاحصائيات الرسمية ستة عشر مليون متسول. ولماذا لا يكون كذلك ؟ فالشعب الهندي المسكين كان عليه أن يدفع مصروفات الحرب والتي بلغت اربعمائة مليون باوند وكذلك مصروفات الدوائر الحكومية البريطانية ومبلغها خمسين مليون باوند ، وما عدا تلك المبالغ الضخمة ، كان عليهم أن يدفعوا سنوياً خمسمائة مليون باوند ـ خالصة ـ إلى خزانة الحكومة البريطانية ، وعلى هذا الاساس يكون مجموع ما حصلت عليه بريطانيا خلال فترة عشرين سنة(٢) من سيطرتها على الهند ، يفوق عشرة ملياردات باوند ، طبعاً هذا غير المبالغ العظيمة التي صرفت على المأمورين الانجليز في الهند ، لأن اولئك المأمورين كانوا يتقاضون خلال فترة اقامتهم في الهند مرتبات مساوية لما يتقاضاه الوزير في بريطانيا ».

ثم ينقل الدكتور لوبون عن تقرير السيد هيندمان ، فيقول :

« ومن الاُمور العجيبة والمرعبة هي أن الولايات الشمالية الغربية كانت مجبورة على ارسال محاصيلها من الحبوب إلى الخارج ، في حين أن ثلاثمائة

________________

(١) من ولايات جنوب شرق الهند ، يبلغ عدد سكانها ٤٤ مليون نسمة ، وأهم منتوجاتها الرز والتبغ والشاي والقطن.

(٢) الفترة المذكورة ، حتى تاريخ كتابة « حضارة الاسلام والعرب ».

٢٠٩

شخص ماتوا جوعاً هناك خلال بضعة أشهر.

وفي سنة ١٨٨٧ م مات في ولاية مدرس وحدها ٩٣٥ الف شخص ( حسب الاحصائيات الرسمية ) جوعاً ، وكانت الحالة تزداد سوءً يوماً بعد يوم ، لأن المزارعين كانوا مضطرين إلى زراعة اراضيهم أكثر من الحد الطبيعي لكي يتمكنوا من دفع الضرائب الباهظة التي تأخذها منهم الحكومة الاستعمارية بالقوة ، وبذلك فقدت الاراضي طاقاتها وخربت بشكل تام ».

وبعد أن ينقل الدكتور لوبون ذلك التقرير عن السيد هيندمان ، يعلق ويقول :

« الارقام التي نشرها السيد هنيدمان ، لم تعترض أو تعلق عليها الحكومة البريطانية ، كما انها لم تكذبها أيضاً. والجواب الوحيد الذي أعطته في مجلة « كل خمسة عشر يوماً » حول الخمسمائة مليون باوند التي على الحكومة الهندية أن ترسلها الى خزانة بريطانيا ، هو : « أن هذا المبلغ هو ثمن حكومة منظمة وآمنة اعطيت للشعوب الهندية ».

ويقول لوبون بعد نقله لهذا الجواب القاطع في المجلة المذكورة :

« ولا يخفى أن اطلاق لفظة آمنة على حكومة مسالمة ! بلغت خسائرها من الجوع أكثر من خسائر حرب ضروس ، لم يكن يفسره الشعب الهندي بغير الكذب ».

وهذا التصرّف المشين هو نموذج لسياسة دولة عظمى ومتحضّرة مع الشعب الهندي ، تلك الدولة التي تتحدّث عن حقوق الانسان وعواطفه وتعدّ قطع يد السارق عملاً وحشياً.

٢١٠

اصدقائي الاعزاء

ما ذكرناه من التصرفات والسياسات الوحشية لحكومة بريطانيا الاستعمارية في الهند ، هو جزء يسير من همجيتهم وبربريتهم ، لم يقتصر الأمر على الهند فقط ، بل شمل جميع المناطق التي استعمرتها ( الحقيقة استثمرتها ) تلك الحكومة التي تدّعي الدفاع عن حقوق الانسان ! وبالامكان الحديث عن نماذج اُخرى لوحشيتهم وجرائمهم في العديد من الدول الآسيوية والافريقية التي احتلوها واستعمروها.

٢١١

امريكا وريثة الاستعمار

الىٰ اولئك الجهلة والمسلمين غير الواعين الذين يرجون الدعم الأمريكي من اجل استيفاء حقوقهم الانسانية.

الىٰ الذين لا يزالون يعتبرون امريكا كعبة آمالهم ، فيلهجون بذكرها ويسبحون بحمدها ، ومن أجل ان تعرفوا ان أمريكا لا تقل عن بريطانيا وحشية وبربرية ، وكما يقول المثل « الكلب اخو الذئب » ، اقرأوا الخبر بدقّة ، لكي تعرفوا حقيقة امريكا وريثة الاستعمار البشعة ، من خلف قناع الانسانية الذي تتظاهر به.

سنة ١٩٤٥ م قامت امريكا التي تدفع عن حقوق الانسان والتي تقيم الدنيا وتقعدها من أجل قطع يد سارق بألقاء قنبلتين ذريتين ( صغيرتين !! ) علىٰ مدينتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان ، لان اليابان قاومت الهجوم الامريكي ولم تستطع امريكا ان تنتصر عليها رغم استسلام قوات المحور في اوروبا وذلك لبسالة الجنود اليابانيين وشجاعتهم ، وكانت نتيجة ذلك التدمير المدينتين بالكامل ومقتل سبعين ألف شخص.

وقبل فترة قصيرة ، قرأت في احدىٰ المجلات خبراً تحت عنوان « حادث غريب هزّ اوروبا وامريكا » ، كانت هناك صورة لذلك الضابط الشريف !! والشهم !! الذي القىٰ قنبلته الذرية علىٰ الشعب الياباني بأمر من حكومته وهذا التعليق اسفلها :

٢١٢

الطيار الذي ألقىٰ أول قنبلة ذرية علىٰ هيروشيما يعيش حالة من الندم والجنون ، ويشاهد دائماً يتكلم مع البوليس والقضاة : « ألقوا القبض عليّ ، اسجنوني ».

ثمّ تضيف المجلة : « الرائد اترلي يرىٰ كل ليلة في منامه دخاناً برتقالي اللون يتّجه نحوه ويسمع اصوات استغاثات ، واناس كثيرون يصرخون في اذنيه » ، ثمّ تقول المجلة نقلاً عن مجلة « بارس ماج » التي تصدر في باريس : « ان جنون الرائد اترلي من اغرب ألاعيب الطبيعة التي حيّرت الجميع في القرن العشرين ».

اصدقائي الاعزاء :

هذه المجازر الجماعية وتدمير هاتين المدينتين الصناعيتين الكبيرتين ، بجميع معاملهما وشركاتهما ومؤسساتهما وابنيتهما ، نموذج من سلوكيات وتصرفات القادة المصلحين ! المحبين للانسانية في امريكا ، الذين لا يفكرون بشيء سوىٰ تقديم خدمات للدول النامية والشعوب الضعيفة ، وهو ما قدموه لتلك الدولة الشرقية ، اي اليابان ! ولو سنحت فرص اخرىٰ لامريكا المحبّة للبشرية ! امريكا التي تحتل موقع الصدارة في الحضارة المعاصرة ! لكررت ذلك النموذج مع شعوب ضعيفة اُخرىٰ.

وما تكلّمنا عنه للتعريف بحقيقة امريكا ونواياها الشريرة ، هو جزء يسير من جرائهما الكبيرة التي اقترفتها ولا زالت تقترفها بحق البشرية ، والحقيقة ان جرائم هذا الذئب الغدّار الذي ورث الامبراطوريات الاستعمارية بعد الحرب

٢١٣

العالمية الثانية واسعة بشكل بيّضت وجوه جميع من سبقوها في تاريخ الاستعمار والتسلّط ، فبالاضافة الىٰ القتل والدمار والنهب الذي قامت به امريكا علىٰ مدىٰ عشرة سنين في فيتنام والذي قتل فيه عشرات الآلاف من البشر الأبرياء بأبشع الصور.

كما تقوم امريكا بجرائم اقتصادية وسياسية وثقافية وحضارية في العديد من المجتمعات والبلدان اما بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق الحكومات العميلة والمرتبطة بها ، بشكل لم يسبق له مثيل ولم يشاهد ان قام به جزار وسفاك ومجرم قبلها في التاريخ.

وأمريكا التي لم يمض علىٰ ظهورها علىٰ الساحة الدولية إلّا بضع سنين ، تتصرف ببشاعة وجنون في نهب خيرات الشعوب واستضعافها ، ولا يمكن الوقوف امامها إلّا بتوعية الشعوب وتحركها.

تعرّفوا علىٰ فرنسا المخادعة

يا شبابنا المسلم ! الفرنسيون الذين كانوا يعتبرون انفسهم ما قبل قرنين حملة راية الحرية ! والواضعون للبيان العالمي لحقوق الانسان ، هؤلاء العطوفون الذين يرون قطع يد السارق عملاً وحشياً ، تعاملوا مع الشعب الجزائري المسلم بقسوة جعلت كل انسان شريف وصاحب ضمير في حيرة من امره ، ولا يزال الشعب الجزائري بنسائه ورجاله وشيوخه وشبابه يجاهدون ويقفون امام هذا الغول والذئب المتوحش ويقدمون الضحايا تلو الضحايا من اجل ان يحصلوا علىٰ استقلالهم ويحكموا بلادهم بأنفسهم ، لكن الفرنسيين

٢١٤

الوضيعين وكأنما يريدون ان يفقدوا ارض آباءهم واجدادهم ، ليسوا مستعدين للتخلي عن الجزائر ووقف مجازرهم هناك.

لقد قدم الشعب الجزائري المسلم والشجاع مليون شهيداً في سبيل حريته واستقلاله ، ولقد كان تعامل الحكومة الفرنسية بشع حتىٰ مع الاسرىٰ المسلمين المحتجزين في معسكرات الجيش الفرنسي بحيث نقلت وكالات الانباء العالمية اخباراً عن وضع الأسرى المؤسف ، واعترضت على الحكومة الفرنسية بشدّة للكف عن المعاملة اللانسانية مع اولئك الاسرىٰ.

طبعاً لفرنسا مثل الغولين الاستعماريين امريكا وبريطانيا سجل دموي آثم في جميع مستعمراتها في آسيا وافريقيا ، وهو ما يتفق فيه جميع المستعمرين ، فالتاريخ الاستعماري اساساً هو ليس إلّا القتل والنهب والخيانة ، وسحق جميع القيم الثقافية والدينية للشعوب الصغيرة.

وعلىٰ هذا الاساس ، لا يمكن حصر جرائم فرنسا ( وكغيرها من اقرانها المستعمرين ) بنوع ومجال معين ، لأنها واسعة ومتنوعة.

اصدقائي الاعزاء !

هذه النماذج مختصرة وصغيرة من آلاف التصرفات الوحشية التي تقوم بها الدول الكبرىٰ ، مع الشعوب الضعيفة ، تلك الدول العظمىٰ التي تعتبر انفسها مدافعة عن الانسانية وتريد ان تخلّص البشر من وحل الشقاء بعقولها المخمورة ، تلك الدول العظمىٰ الرؤوفة بالانسان والانسانية ، والتي تعتبر قطع يد السارق كعقوبة وفق الشروط التي وضعها الاسلام ، عملاً وحشياً غير جائزاً !

٢١٥

أليس عجيباً ان يحاول هؤلاء المتوحشون الدوليون الحيلولة دون الاعمال الوحشية التي يقوم بها بعض البشر ، وأليس غريباً ان يحاول هؤلاء السارقون المسلحون بالاسلحة الذرية الوقوف امام السرقات والاعتداءات التي يقوم بها البشر ومن المحيّر جداً ان يحاول هؤلاء الجزّارون الذين تلطخت اياديهم بدماء ملايين البشر ، والوقوف امام القتل والجريمة.

هنا وبمشاهدتنا لجميع تلك الجرائم والمجازر الرهيبة التي قامت بها الدول الاوروبية والامريكية المتقدمة علمياً ، لابدّ ان نعترف بان عالمنا المعاصر ارتكب خطأً كبيراً عندما ضحّىٰ بالمعنويات من اجل الماديات ، لأنه وعلىٰ الرغم من التطورات التي شهدها عالمنا في المجالات العلمية والصناعية ، لكن وجود هذه المجازر والانحرافات العلمية والاخلاقية دليل حيّ علىٰ موت الفضيلة والانسانية ، بشكل تام ، وان العاطفة والصفات الانسانية قد اضمحلت ، فالبشرية تخلفت عن قافلة اخلاق والفضيلة بنفس المقدار الذي تقدمت فيه في ميدان العلوم المادية.

التضحية بالمعنويات امام الماديات

يقول الدكتور الكسيس كارل ، الذي مرّ ذكره ، حول انحطاط البشر الاخلاقي في عالم اليوم :

« الحضارة الجديدة ارتكبت خطأً فادحاً بتضحيتها بالمعنويات امام الماديات ، وهذا الخطأ كبير لأنه يحيي عند الناس الشعور بالعصيان ».

ويضيف الدكتور كارل في بحث آخر حول عدم جدوىٰ العلوم المادية

٢١٦

لوحدها ، فيقول :

« لا جدوىٰ من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكية ولربما لا تكون الاكتشافات الفيزيائية والكيميائية والنجومية كبيرة جداً ، طبيعي ثابت لدينا ان العلم بحد ذاته غير مضر بالنسبة لنا ، لكنها تحصر بجمالها الباهر جميع نشاطاتنا الفكرية في الموارد غير الحيوية.

وعلىٰ البشرية اليوم ان تركز انتباهها علىٰ نقاط الضعف الاخلاقية والفكرية التي تعاني منها ، فما الفائدة من كثرة وسائل الراحة والزينة والجمال والعظمة وهذه الحضارة إذا لم تكن لنا القدرة في ادارتها بأحسن وجه ، وما هي حصيلة استمرار حالة معيشية تؤدي الىٰ ضعف الاسس الاخلاقية وتدمير عوامل الاعراق الاصيلة ، أليس من الافضل ان نتهم بأنفسنا بدل الغرق في صناعة التلسكوبات العظيمة لدراسة الكواكب والنجوم أو صناعة السفن المتطورة والسيارات الحديثة و الخ.

فلو استطعنا السفر من اوروبا الىٰ الصين خلال بعض ساعات بالطائرة ، فما هو التقدّم الذي حصل في داخلنا ، هل التقدم الفيزيائي والكيميائي و يوجد لدينا اخلاقاً فاضلةً وذكاءً أو صحةً وتعادلاً نفسياً أو أمناً وسلاماً ، علينا ان نركز علىٰ قضايا كثر جدّية من الفيزياء أو الأحياء ، وهي النفس الانسانية والمعنويات ».

اصدقائي الاعزاء !

هذه العبارات هي نص اعتراف احد كبار شخصيات اوروبا حول

٢١٧

انحطاط تلك البلدان ، ومع الأخذ بكل ما ذكرناه من جرائم مرعبة وانحرافات اخلاقية وعلمية في الغرب ، أليس عجباً ان يغتر بعض المسلمين والشرقيين بزخارف الصناعات الاوروبية والامريكية وينسوا انفسهم ويفقدوا هويتهم ، لكي يفتخروا بتقليد اعمىٰ لكل ما موجود في الغرب !!

اصبت بزكام اجنبي

مسكين احد المتغرّبين الايرانيين ، كان قد سمع ان الاوروبيين يسمون الزكام « غريب »(١) ، فأجهد نفسه لكي يتعلم تلك الكلمة حتىٰ يفتخر بأستخدامها عند محادثة الآخرين ! ولربما انتظر فصل الشتاء كثيراً وتمنىٰ لو يصاب بالزكام حتىٰ يلفظ تلك الكلمة عندما يسأله الآخرون عن حالته ، وبعد فترة طويلة حصل له ما كان يتمناه ، فسأله احد اصدقائه عن صحته ، لكن هذا المسكين نسيَ لفظة Grippe وكلما حاول ان يتذكرها خانته ذاكرته ، وفي نفس الوقت لم يكن حاضراً لأن يجيب صديقه بأنه مصاب بالزكام ، فقال لصديقه : اصبت بزكام اجنبي !!

وهنا انفجر الحاضرون بالضحك.

ايها السادة ! لا تعجبوا من ذلك ، فهناك نماذج كثيرة من هذا القبيل في بلادنا ، من الذين ينظرون الىٰ أكثر الاعمال وحشية وانحطاطاً في الغرب علىٰ انها مقدّسة لمجرد صدورها عن الغرب.

________________

(١) Grippe مرض مسري وهو علىٰ نوعين ، الأول الزكام العادي والثاني اخطر منه وهو الذي يسمىٰ انفلونزا Anfluenza

٢١٨

اقول لنفسي بعض الاحيان ، لا يُلام قادة الشعوب الغربية لو منحوا بعض متغربينا اعظم اوسمة الجهل والحماقة ، لانهم لايزالون يتوقعون ان يقوم الغرب بأصلاحات في بلداننا مع ان الغرب ومنذ عشرات السنين يقوم بنهب ثرواتنا والتسلط علىٰ بلداننا ثقافياً وسياسياً ، بشكل جعلنا متخلفين في جميع شؤون الحياة.

اين أجرة الحمار في النهاية !!

هذه السذاجة في التفكير وهذا التوقع من هؤلاء الذئاب ، شبيه بالقصه التي ينقلها المرحوم الشيخ البهائي ، وهي :

كان هناك رجلاً في بغداد قد استقرض كثيراً من الناس ، بحيث كان الجميع يطلبونه ، والحقيقة هو ان الرجل كان متحايلاً غريباً ، حتىٰ اشتكىٰ عليه غرماءه عند القاضي ، فقام القاضي بالكشف عن وضعه المالي مباشرة ، فوجد انه لا يملك شيئاً يمكن استرداده منه ، لذلك فقد شخّصه بانه مفلس وخلّصه من أيدي الطالبين ، ولكن ومن أجل ان لا يتحايل الرجل علىٰ شخص آخر ويستدين منه مالاً ، أمر القاضي بايجار حمار يطاف عليه الرجل في الاسواق ليعرف الناس انه مفلس ولا يقرضه أحد مالاً.

وبعد ان أدىٰ صاحب الحمار عمله المنهمك من الصباح الىٰ وقت المغرب ، طالب الرجل بأجرته ، فأجابه المفلس ضاحكاً : لم اشاهد من هو احمق وأسفه منك ، فأنت تدور بي منذ الصباح في المدينة وتعلن للناس انني مفلس ومدان وان لا يقرضني أحد مالاً ، ومع ذلك تطالبني الآن

٢١٩

بأجرة الحمار؟

يضحك الحاضرون ملياً.

والحقيقة ان توقعنا الحصول علىٰ خدمات ومساعدة من تلك الدول الاوروبية والاميريكية ، يشابه توقع صاحب الحمار من ذلك الرجل المفلس ، لان هؤلاء وبالاضافة الىٰ المآسي التي قاموا بها في بلداننا الاسلامية ، فان مساعداتهم المالية والقروض التي قدموها لنا لم يصلنا من اغلبها الّا الضرر ، فيما ذهبت تلك الاموال في جيوب السماسرة والمسؤولين الحكوميين.

اعتراف غريب للدكتور غوستاف لوبون

في بحث له بهذا الصدد ، يعترف الدكتور غوستاف لوبون بصراحة :

« لم تأت حضارتنا بشيء لشعوب الشرق سوىٰ الشقاء والمآسي ، ومن مصلحتهم ان يقطعوا ارتباطهم بأوروبا وشعوبها ».

ويقول في كتابه حضارة الاسلام والعرب ، بعد بحث معقد ومحيّر :

« ان كتمان هذه الحقيقة لن يؤثر شيئاً ، ولابد ان اقول بصراحة قد لايستسيغها رجال اوروبا ، ان تعاملنا نحن الاوروبيون مع شعوب الشرق ، منحط وقاسي ، بل ووحشي ».

ثم يضيف :

« ومما يؤسف له اكثر من كل شيء ، هو ان تعامل الدول الاوروبية مع الشعوب الشرقية المتحضرة مثل الصينيين والهنود وغيرهم ، ليس بأفضل

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) و أنّه في موضع التعليل لقوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) و المعنى أنّه تعالى إنّما جعل هذه المعقّبات و وكّلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره و يمنعونه من أن يهلك أو يتغيّر في شي‏ء ممّا هو عليه لأنّ سنّته جرت أن لا يغيّر ما بقوم من الأحوال حتّى يغيّروا ما بأنفسهم من الحالات الروحيّة كأن يغيّروا الشكر إلى الكفر و الطاعة إلى المعصية و الإيمان إلى الشرك فيغيّر الله النعمة إلى النقمة و الهداية إلى الإضلال و السعادة إلى الشقاء و هكذا.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ) إلخ، يدلّ بالجملة على أنّ الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان و بين الحالات النفسيّة الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة و آمنوا بالله و عملوا صالحاً أعقبهم نعم الدنيا و الآخرة كما قال:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا ) الأعراف: ٩٦ و الحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيّروا حالهم في أنفسهم غيّر الله سبحانه حالهم الخارجيّة بتغيير النعم نقما.

و من الممكن أن يستفاد من الآية العموم و هو أنّ بين حالات الإنسان النفسيّة و بين الأوضاع الخارجيّة نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشرّ فلو كان القوم على الإيمان و الطاعة و شكر النعمة عمّهم الله بنعمه الظاهرة و الباطنة و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيكفروا و يفسقوا فيغيّر الله نعمه نقما و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيؤمنوا و يطيعوا و يشكروا فيغيّر الله نقمه نعما و هكذا. هذا.

و لكن ظاهر السياق لا يساعد عليه و خاصّة ما تعقّبه من قوله( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّه أصدق شاهد على أنّه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتّى يغيّروا فالتغيير لما كان إلى السيّئة كان الأصل أعني( ما بِقَوْمٍ ) لا يراد به إلّا الحسنة فافهم ذلك.

على أنّ الله سبحانه يقول:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ

٣٤١

يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ فيذكر أنّه يعفو عن كثير من السيّئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين أعمال الإنسان و أحواله و بين الآثار الخارجيّة في جانب الشرّ بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الآية:( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) الأنفال: ٥٣.

و أمّا قوله تعالى:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّما دخل في الحديث لا بالقصد الأوّليّ لكنّه تعالى لمّا ذكر أنّ كلّ شي‏ء عنده بمقدار و أنّ لكلّ إنسان معقّبات يحفظونه بأمره من أمره و لا يدعونه يهلك أو يتغيّر أو يضطرب في وجوده و النعم الّتي اُوتيها، و هم على حالهم من الله لا يغيّرها عليهم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم وجب أن يذكر أنّ هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء و من النعمة إلى النقمة أيضاً من الاُمور المحكمة المحتومة الّتي ليس لمانع أن يمنع من تحقّقها، و إنّما أمره إلى الله لا حظّ فيه لغيره، و بذلك يتمّ أنّ الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبي الخير و الشرّ و هم مأخوذ عليهم و في قبضته.

فالمعنى: و إذا أراد الله بقوم سوء و لا يريد ذلك إلّا إذا غيّروا ما بأنفسهم من سمات معبوديّة و مقتضيات الفطرة فلا مردّ لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال.

ثمّ قوله:( وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) عطف تفسيريّ على قوله:( إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و يفيد معنى التعليل له فإنّه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلّا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد الله بهم من السوء.

فقد بان من جميع ما تقدّم أنّ معنى الآية - على ما يعطيه السياق - و الله أعلم - أنّ لكلّ من الناس على أيّ حال كان معقّبات يعقّبونه في مسيره إلى الله من بين يديه و من خلفه أي في حاضر حاله و ماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغيّر حاله بهلاك أو فساد أو شقاء بأمر آخر من الله، و هذا الأمر الآخر الّذي يغيّر الحال إنّما يؤثّر أثره إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما عندهم من نعمة و يريد بهم السوء و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له لأنّهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتّى يردّ ما أراد الله بهم من سوء.

٣٤٢

و قد تبيّن بذلك اُمور:

أحدها: أنّ الآية كالبيان التفصيلي لما تقدّم في الآيات السابقة من قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) فإنّ الجملة تفيد أنّ للأشياء حدوداً ثابتة لا تتعدّاها و لا تتخلّف عنها عندالله حتّى تعزب عن علمه، و هذه الآية تفصّل القول في الإنسان أنّ له معقّبات من بين يديه و من خلفه موكّلة عليه يحفظونه و جميع ما يتعلّق به من أن يهلك أو يتغيّر عمّا هو عليه، و لا يهلك و لا يتغيّر إلّا بأمر آخر من الله.

الثاني: أنّه ما من شي‏ء من الإنسان من نفسه و جسمه و أوصافه و أحواله و أعماله و آثاره إلّا و عليه ملك موكّل يحفظه، و لا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتّى يغيّر فالله سبحانه هو الحافظ و له ملائكة حفظة عليها، و هذه حقيقة قرآنيّة.

الثالث: أنّ هناك أمراً آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم و قد ذكر الله سبحانه من شأن هذا الأمر أنّه يؤثّر فيما إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما بهم من نعمة بهذا الأمر الّذي يرصدهم، و من موارد تأثيره مجي‏ء الأجل المسمّى الّذي لا يختلف و لا يتخلّف، قال تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و قال:( إِنَّ أَجَلَ الله إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) نوح: ٤.

الرابع: أنّ أمره تعالى هو المهيمن المتسلّط على متون الأشياء و حواشيها على أيّ حال و أنّ كلّ شي‏ء حين ثباته و حين تغيّره مطيع لأمره خاضع لعظمته، و أنّ الأمر الإلهيّ و إن كان مختلفاً بقياس بعضه إلى بعض منقسماً إلى أمر حافظ و أمر مغيّر ذو نظام واحد لا يتغيّر و قد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هود ٥٦، و قال:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الّذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣.

الخامس: أنّ من القضاء المحتوم و السنّة الجارية الإلهيّة التلازم بين الإحسان و التقوى و الشكر في كلّ قوم و بين توارد النعم و البركات الظاهريّة و الباطنيّة و نزولها من عندالله إليهم و بقاؤها و مكثها بينهم ما لم يغيّروا كما يشير إليه قوله

٣٤٣

تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف: ٩٦ و قوله:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧ و قال:( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) الرحمن: ٦٠.

هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم و دوام النعمة عليهم، و أمّا شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم و نزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن التلازم بينهما و غاية ما يفيده قوله:( لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ) جواز تغيره تعالى عند تغييرهم و إمكانه لا وجوبه و فعليّته، و لذلك غيّر السياق فقال:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و لم يقل: فيريد الله بهم من السوء ما لا مردّ له.

و يؤيّد هذا المعنى قوله:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ حيث يدلّ صريحاً على أنّ بعض التغيير عند التغيير معفوّ عنه.

و أمّا الفرد من النوع فالكلام الإلهيّ يدلّ على التلازم بين صلاح عمله و بين النعم المعنويّة و على التغيّر عند التغيّر دون التلازم بين صلاحه و النعم الجسمانيّة.

و الحكمة في ذلك كلّه ظاهرة فإنّ التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم و التوافق بين أجزاء النظام و سوق الأنواع إلى غاياتها فإنّ الله جعل للأنواع غايات و جهّزها بما يسوقها إلى غاياتها ثمّ بسط تعالى التلاؤم و التوافق بين أجزاء هذا النظام كان المجموع شيئاً واحداً لا معاندة و لا مضادّة بين أجزائه فمقتضى طباعها أن يعيش كلّ نوع في عافية و نعمة و كرامة حتّى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الإنسانيّ عن مقتضى فطرته الأصليّة و لا منحرف من الأنواع ظاهراً غيره جرى الكون على سعادته و نعمته و لم يعدم رشداً، و أمّا إذا انحرف عن ذلك و شاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون و أوجب ذلك هجرة النعمة و اختلال المعيشة و ظهور الفساد في البرّ و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما

٣٤٤

عملوا لعلّهم يرجعون.

و هذا المعنى كما لا يخفى إنّما يتمّ في النوع دون الشخص و لذلك كان التلازم بين صلاح النوع و النعم العامّة المفاضة عليهم و لا يجري في الأشخاص لأنّ الأشخاص ربّما بطلت فيها الغايات بخلاف الأنواع فإنّ بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) الدخان: ٣٨ و قد تقدّم بعض الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.

و بما تقدّم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنّها تفيد بظاهرها أنّه لا يقع تغيير النعم بقوم حتّى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أنّ ذلك خلاف ما قرّرته الشريعة من عدم جواز أخذ العامّة بذنوب الخاصّة هذا فإنّه أجنبيّ عن مفاد الآية بالكلّيّة.

هذا بعض ما يعطيه التدبّر في الآية الكريمة و للمفسّرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتّى:

من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) فمن قائل: إنّ الضمير راجع إلى( مِنْ ) في قوله:( مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ) إلخ، كما قدّمناه، و من قائل: إنّه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقّبات من بين يدي الإنسان و من خلفه يحفظونه. و فيه أنّه يستلزم اختلاف الضمائر. على أنّه يوجب وقوع الالتفات في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) من غير نكتة ظاهرة، و من قائل: إنّ الضمير للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و الآية تذكر أنّ الملائكة يحفظونه. و فيه أنّه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر و الظاهر خلافه. على أنّه يوجب عدم اتّصال الآية بسوابقها و لم يتقدّم للنبيّ- (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) ذكر.

و من قائل: إنّ الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار. و هذا أسخف الوجوه و سنعود إليه.

و من ذلك اختلافهم في معنى المعقّبات فقيل: إنّ أصله المعتقبات صار معقّبات

٣٤٥

بالنقل و الإدغام يقال: اعتقبه إذا حبسه و اعتقب القوم عليه أي تعاونوا و ردّ بأنّه خطأ، و قيل: هو من باب التفعيل و التعقيب هو أن يتبع آخر في مشيته كأنّه يطأ عقبه أي مؤخّر قدمه فقيل: إنّ المعقّبات ملائكة يعقّبون الإنسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه و يحفظونه كما تقدّم، و قيل: المعقّبات كتّاب الأعمال من ملائكة الليل و النهار يعقّب بعضهم بعضاً فملائكة الليل تعقّب ملائكة النهار و هم يعقّبون ملائكة الليل يحفظون على الإنسان عمله. و فيه: أنّه خلاف ظاهر قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) على أنّ فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه.

و قيل: المراد بالمعقّبات الأحراس و الشرط و المواكب الّذين يعقّبون الملوك و الاُمراء و المعنى: أنّ لمن هو سارب بالنهار و هم الملوك و الاُمراء معقّبات من الأحراس و الشرط يحيطون بهم و يحفظونهم من أمر الله أي قضائه و قدره توهّما منهم أنّهم يقدرون على ذلك، و هذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) فقيل: إنّه متعلّق بمعقّبات أي يعقّبونه من بين يديه و من خلفه. و فيه أنّ التعقيب لا يتحقّق إلّا من خلف، و قيل: متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و في الكلام تقديم و تأخير و الترتيب: يحفظونه من بين يديه و من خلفه من أمر الله. و فيه عدم الدليل على ذلك، و قيل: متعلّق بمقدر كالوقوع و الإحاطة و نحوهما أو بنحو التضمين و المعنى له معقّبات يحيطون به من بين يديه و من خلفه و قد تقدّم.

و من جهة اُخرى قيل: إنّ المراد بما بين يديه و ما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدّامه و خلفه يحفظونه من المهالك و المخاطر، و قيل: المراد بهما ما تقدّم من أعماله و ما تأخّر يحفظها عليه الملائكة الحفّظ و يكتبونها و لا دليل على ما في الوجهين من التخصيص، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه ما للإنسان من الشؤون الجسميّة و الروحيّة ممّا له في حاضر حاله و ما خلّفه وراءه و هو الّذي قدّمناه.

و من ذلك اختلافهم في معنى قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) فقيل هو بمعنى يحفظون

٣٤٦

عليه، و قيل: هو مطلق الحفظ، و قيل: هو الحفظ من المضارّ.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) فقيل: هو متعلّق بقوله:( مُعَقِّباتٌ ) و أنّ قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) و قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) ثلاث صفات لمعقّبات. و فيه أنّه خلاف الظاهر، و قيل: هو متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و( مِنْ ) بمعنى الباء للسببيّة أو المصاحبة و المعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله، و قيل: متعلّق بيحفظونه و( مِنْ ) للابتداء أو للنشوّ أي يحفظونه مبتدءً ذلك أو ناشئاً ذلك من أمر الله، و قيل: هو كذلك لكن( مِنْ ) بمعنى( عن ) أي يحفظونه عن أمر الله أن يحلّ به و يغشاه و فسّروا الحفظ من أمر الله بأنّ الأمر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بأن يستمهلوا كلّما أذنب و يسألوا الله سبحانه أن يؤخّر عنه المؤاخذة و العقوبة أو إمضاء شقائه لعلّه يتوب و يرجع، و فساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غنيّ عن البيان.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلخ فقيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) و قد تقدّم معناه، و قيل: متّصل بقوله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أو قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم. و قيل متّصل بقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) الآية يعني أنّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) محفوظ بالملائكة. و الحقّ أنّه متّصل بقوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) و نوع بيان له، و قد تقدّم ذكره.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ فقيل: إنّه متّصل بقوله:( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) الآية أي أنّه لا ينزل العذاب إلّا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتّى لو علم أنّ فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه ممّن سيولد و يعيش بالإيمان لم ينزل عليهم العذاب، و قيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) يعني أنّه إذا اقترف المعاصي فقد غيّر ما به من سمة العبوديّة و بطل حفظه و نزل عليه العذاب. و القولان - كما ترى - بعيدان من السياق و الحقّ أنّ قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ، تعليل لما تقدّمه من قوله:( يَحْفَظُونَهُ

٣٤٧

مِنْ أَمْرِ الله ) و قد مرّ بيانه.

قوله تعالى: ( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها و لذلك وصف بالثقال.

و الإراء إظهار ما من شأنه أن يحسّ بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية و الإبصار، و التقابل بين قوله:( يُرِيكُمُ ) و قوله:( يُنْشِئُ ) يؤيّد المعنى الأوّل.

و قوله:( خَوْفاً وَ طَمَعاً ) مفعول له أي لتخافوا و تطمعوا، و يمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير( يُرِيكُمُ ) أي خائفين و طامعين.

و المعنى: هو الّذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف و الطمع كما أنّ المسافر يخافه و الحاضر يطمع فيه، و أهل البحر يخافونه و أهل البرّ يطعمون فيه و يخاف صاعقته و يطمع في غيثه، و يخلق بإنشائه السحابات الّتي تثقل بالمياه الّتي تحملها، و في ذكر آية البرق بالإراءة و آية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) إلخ، الصواعق جمع صاعقة و هو القطعة الناريّة النازلة من السماء عن برق و رعد، و الجدل المفاوضة و المنازعة في القول على سبيل المغالبة، و أصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، و المحال بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره و قاواه ليتبيّن أيّهما أشدّ و جادله لإظهار مساويه و معايبه فقوله:( وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي الله وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) معناه - و الله أعلم - أنّ الوثنيّين - و إليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج - يجادلون في ربوبيّته تعالى بتلفيق الحجّة على ربوبيّة أربابهم كالتمسّك بدأب آبائهم و الله سبحانه شديد المماحلة لأنّه عليم بمساويهم و معايبهم قدير على إظهارها و فضاحتهم.

قوله تعالى: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعوّ إلى الداعي و يتأتّى غالبا بلفظ أو إشارة، و الاستجابة و الإجابة إقبال المدعوّ على الداعي عن دعائه،

٣٤٨

و أمّا اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة و اشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متمّمة لمعنى الدعاء و الاستجابة غير داخلة في مفهوميهما.

نعم: الدعاء إنّما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعوّ ذا نظر يمكن أن يوجّه إلى الداعي و ذا جدة و قدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء و أمّا دعاء من لا يفقه أو يفقه و لا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحقّ الدعاء و إن كان في صورته.

و لمّا كانت الآية الكريمة قرّر فيها التقابل بين قوله( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و بين قوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) إلخ، الّذي يذكر أنّ دعاء غيره خال عن الاستجابة ثمّ يصف دعاء الكافرين بأنّه في ضلال علمنا بذلك أنّ المراد بقوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) الدعوة الحقّة غير الباطلة و هي الدعوة الّتي يسمعها المدعوّ ثمّ يستجيبها ألبتّة، و هذا من صفاته تعالى و تقدّس فإنّه سميع الدعاء قريب مجيب و هو الغنيّ ذو الرحمة و قد قال:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) البقرة: ١٨٦ و قال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن: ٦٠ فأطلق و لم يشترط في الاستجابة إلّا أن تتحقّق هناك حقيقة الدعاء و أن يتعلّق ذلك الدعاء به تعالى لا غير.

فلفظة دعوة الحقّ من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقيّة بعناية أنّ الحقّ و الباطل كأنّهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحقّ و هو الّذي لا يتخلّف عن الاستجابة، و قسم منه للباطل و هو الّذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.

فهو تعالى لمّا ذكر في الآيات السابقة أنّه عليم بكلّ شي‏ء و أنّ له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أنّ له حقيقة الدعاء و الاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنّه عليم قدير، و قد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات و النفي أعني إثبات حقّ الدعاء لنفسه و نفيه عن غيره.

أمّا الأوّل فقوله:( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و تقديم الظرف يفيد الحصر و يؤيّده ما بعده من نفيه عن غيره، و أمّا الثاني فقوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) و قد أخبر فيه أنّ

٣٤٩

الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشي‏ء و قد بيّن ذلك في مواضع من كلامه فإنّ هؤلاء المدعوّين إمّا أصنام يدعوهم عامّتهم و هي أجسام ميتة لا شعور فيها و لا إرادة، و إمّا أرباب الأصنام من الملائكة أو الجنّ و روحانيّات الكواكب و البشر كما ربّما يتنبّه له خاصّتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً فكيف بغيرهم و لله الملك كلّه و له القوّة كلّها فلا مطمع عند غيره تعالى.

ثمّ استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط و هي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله:( كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) .

فإنّ الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثمّ يبسط كفّيه فيغترفه و يتناوله و يبلغ فاه و يرويه و هذا هو حقّ الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى و رشاد، و أمّا الظمآن البعيد من الماء يريد الريّ لكن لا يأتي من أسبابه بشي‏ء غير أنّه يبسط إليه كفّيه يبلغ فاه فليس يبلغ ألبتّة فاه و ليس له من طلبه إلّا صورته فقط.

و مثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ليس له من الدعاء إلّا صورته الخالية من المعنى و اسمه من غير مسمّى فهؤلاء المدعوّون من دون الله لا يستجيبون للّذين يدعونهم بشي‏ء و لا يقضون حاجتهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و يقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلّا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلّا صورة الطلب ببسط الكفّين.

و من هنا يعلم أنّ هذا الاستثناء( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ ) إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه و لا يتضمّن إلّا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإنّ مفاده أنّ الّذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء و لن يستجاب له، و بعبارة اُخرى لن ينالوا بدعائهم إلّا أن لا ينالوا شيئاً أي لن ينالوا شيئاً ألبتّة.

و هذا من لطيف كلامه تعالى و يناظر من وجه قوله تعالى الآتي:( قُلْ

٣٥٠

أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) و آكد منه كما سيجيي‏ء إن شاء الله.

و قد تبيّن بما تقدّم:

أوّلاً: أنّ قوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) المراد به حقّ الدعاء و هو الّذي يستجاب و لا يردّ ألبتّة، و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلّا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق.

و ثانياً: أنّ تقدير قوله( وَ الّذينَ يَدْعُونَ ) إلخ بإظهار الضمائر: الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب اُولئك المدعوّون للمشركين بشي‏ء.

و ثالثاً: أنّ الاستثناء من قوله:( لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) و في الكلام حذف و إيجاز و المعنى: لا يستجيبون لهم بشي‏ء و لا ينيلونهم شيئاً إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ينال من بسطه، و لعلّ الاستجابة مضمّن معنى النيل و نحوه.

ثمّ أكّد سبحانه الكلام بقوله:( وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة اُخرى و هي أنّه لا غرض لدعاء إلّا الله سبحانه فإنّه العليم القدير و الغنيّ ذو الرحمة فلا طريق له إلّا طريق التوجّه إليه تعالى فمن دعا غيره و جعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض و الغاية و خرج بذلك عن الطريق فضلّ دعاؤه فإنّ الضلال هو الخروج عن الطريق و سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.

قوله تعالى: ( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى:( وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) يوسف: ١٠٠، و قال:( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) أسرى: ١٠٧. و الواحدة منه سجدة.

و الكره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشّقة فإن حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف و ما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمّها و الطوع يقابل الكره مطلقا.

٣٥١

و قال الراغب: الغدوة و الغداة من أوّل النهار، و قوبل في القرآن الغدوّ بالآصال نحو قوله:( بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) و قوبل الغداة بالعشيّ قال:( بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ ) انتهى و الغدوّ جمع غداة كقنىّ و قناة و قال في المجمع: الآصال جمع اُصل - بضمّتين - و اُصل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنّه أصل الليل الّذي ينشأ منه و هو ما بين العصر إلى مغرب الشمس. انتهى.

و الأعمال الاجتماعيّة الّتي يؤتى بها لأغراض معنويّة كالتصدّر الّذي يمثّل به الرئاسة و التقدّم الّذي يمثّل به السيادة و الركوع الّذي يظهر به الصغر و الصغار و السجود الّذي يظهر به نهاية تذلّل الساجد و ضعته قبال تعزّز المسجود له و اعتلائه تسمّى غاياتها بأساميها كما تسمّى نفسها فكما يسمّى التقدّم تقدّماً كذلك تسمّى السيادة تقدّماً و كما أنّ الانحناء الخاصّ ركوع كذلك الصغر و الصغار الخاصّ ركوع و كما أنّ الخرور على الأرض سجود كذلك التذلّل سجود كلّ ذلك بعناية أنّ الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل.

و هذه النظرة هي الّتي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود و ما يناظره من القنوت و التسبيح و الحمد و السؤال و نحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى:( كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) البقرة: ١١٦ و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) أسرى: ٤٤ و قوله:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: ٢٩ و قوله:( وَ لله يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) النحل: ٤٩.

و الفرق بين هذه الاُمور المنسوبة إلى الأشياء الكونيّة و بينها و هي واقعة في ظرف الاجتماع الإنسانيّ أنّ الغايات موجودة في القسم الأوّل بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني فإنّها إنّما توجد فيها بنوع من الوضع و الاعتبار فذلّة المكوّنات و ضعتها تجاه ساحة العظمة و الكبرياء ذلّة وضعة حقيقيّة بخلاف الخرور على الأرض و وضع الجبهة عليها فإنّه ذلّة وضعة بحسب الوضع و الاعتبار و لذلك ربّما يتخلّف.

فقوله تعالى:( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أخذ بما تقدّم من

٣٥٢

النظر و لعلّه إنّما خصّ اُولي العقل بالذكر حيث قال:( مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) مع شمول هذه الذلّة و الضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدّمة و كما يشعر به ذيل الآية حيث قال:( وَ ظِلالُهُمْ ) إلخ، لأنّ الكلام في السورة مع المشركين و الاحتجاج عليهم فكأنّ في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات و الأرض طوعا حتّى أنّ ظلالهم تسجد له. و لذلك أيضاً تعلّقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه.

ثمّ إنّ هذا التذلّل و التواضع، الّذي هو من عامّة الموجودات لساحة ربّهم عزّ و علا، خضوع ذاتيّ لا ينفكّ عنها و لا يتخلّف فهو بالطوع ألبتّة و كيف لا و ليس لها من نفسها شي‏ء حتّى يتوهّم لها كراهة أو امتناع و جموح و قد قال تعالى:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) حم السجدة: ١١.

فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى و تقطع دابر الكره عنهم ألبتّة غير أنّ هناك عناية اُخرى ربّما صحّحت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة و هي أنّ بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهّزة بطباع ربّما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها و مبتغياتها أسباب اُخر و هي الأشياء المستقرّة في عالمنا هذا عالم المادّة الّتي ربّما زوحمت في مآربها و منعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرّقة و لا شكّ أنّ مخالف الطبع مكروه كما أنّ ما يلائمه مطلوب.

فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشؤون الراجعة إليها غير أنّها فيما يخالف طباعها كالموت و الفساد و بطلان الآثار و الآفات و العاهات و نحو ذلك ساجدة له كرها، و فيما يلائم طباعها كالحياة و البقاء و البلوغ إلى الغايات و الظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الّذين لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.

و ممّا تقدّم يظهر فساد قول بعضهم إنّ المراد بالسجدة هو الحقيقيّ منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلاً فهم جميعاً ساجدون غير أنّ المؤمن يسجد

٣٥٣

طوعاً و الكافر يسجد خوفاً من السيف و قد نسب القول به إلى الحسن.

و كذا قول بعض: إنّ المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكلّ إلّا أنّ ذلك من المؤمن خضوع طوع و من الكافر خضوع كره لما يحلّ به من الآلام و الأسقام و نسب إلى الجبائيّ.

و كذا قول آخرين: إنّ المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات و الأرض من اُولي العقل و غيرهم و التعبير بلفظ يخصّ اُولي العقل للتغليب.

و أمّا قوله:( وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإنّ الظلّ و إن كان عدميّا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلّا أنّ له آثاراً خارجيّة و هو يزيد و ينقص في طرفي النهار و يختلف اختلافاً ظاهراً للحسّ فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده و آثاره لله و يسجد له.

و هي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، و إنّما خصّ الغدوّ و الآصال بالذكر لا لما قيل: إنّ المراد بهما الدوام لأنّه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو اُريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتّى يعمّ جميع ما قبل الظهر و ما بعده كما وقع في قوله:( وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) طه: ١٣٠.

بل النكتة فيه - والله أعلم - أنّ الزيادة و النقيصة دائمتان للأظلال في الغداة و الأصيل فيمثّلان للحسّ السقوط على الأرض و ذلّة السجود، و أمّا وقت الظهيرة و أوساط النهار فربّما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت و كانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور.

و لا شكّ في أنّ سقوط الأظلال على الأرض و تمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيّؤها، و ليس النظر مقصوراً على مجرّد طاعتها التكوينيّة في جميع أحوالها و آثارها و الدليل على ذلك قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لله وَ هُمْ داخِرُونَ ) النحل: ٤٨ فإنّ العناية بذلك ظاهرة فيه.

٣٥٤

و ليس ذلك قولاً شعريّاً و تصويراً تخييليّاً يتوسّل به في الدعوة الحقّة في كلامه تعالى - و حاشاه - و قد نصّ أنّه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحسّ إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحسّ نوع ظهور و يتمثّل لها بوجه كان من الحريّ أن يستمدّ به في تعليم الأفهام الساذجة و العقول البسيطة و نقلها من مرتبة الحسّ و الخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنّه من الحسّ و الخيال الحقّ المستظهر بالحقائق المؤيّد بالحقّ فلا بأس بالركون إليه.

و من هذا الباب عدّه تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيّئة من الأجسام المنتصبة بالغدوّ و الآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من اُولي العقل.

و من هذا الباب أيضاً ما تقدّم من قوله:( وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الّذي يمثّل لساناً ناطقاً بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين و الثناء عليه لرحمته المبشّر به بالريح و السحاب و البرق مع أنّ الأشياء قاطبة مسبّحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، و هذا تسبيح ذاتيّ منهم و دلالته دلالة ذاتيّة عقليّة غير مرتبطة بالدلالات اللفظيّة الّتي توجد في الأصوات بحسب الوضع و الاعتبار لكنّ الرعد بصوته الشديد الهائل يمثّل للسمع و الخيال هذا التسبيح الذاتيّ فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتيّ الّذي يقوم بذات كلّ شي‏ء من غير صوت قارع و لا لفظ موضوع.

و يقرب من هذا الباب ما تقدّم في مفتتح السورة في قوله تعالى:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) و قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) الآية أنّ التمسّك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالاُمور المجهول أسبابها عند الحسّ ليس لأنّ سببيّته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات و الاُمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإنّ القرآن الكريم ينصّ على عموم قانون السببيّة و أنّه تعالى

٣٥٥

فوق الجميع بل لأنّ الاُمور الّتي لا تظهر أسبابها على الحسّ لبادئ نظرة تنبّه الأفهام البسيطة و تمثّل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها و ينتهي البحث لا محالة إلى سبب أوّل هو الله سبحانه، و في القرآن الكريم من ذلك شي‏ء كثير.

و بالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدوّ و الآصال على الأرض سجوداً منها لله سبحانه مبنيّة على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتيّة الّتي لها في ذواتها بمثال حسّيّ ينبّه الحسّ لمعنى السجدة الذاتيّة و يسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقليّة.

هذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى، و أمّا حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعريّة أو جعلها مجازاً مثلاً يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنّها توجد كما شاء أو القول بأنّ المراد بالظلّ هو الشخص فإنّ من يسجد يسجد ظلّه معه فإنّ هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) الآية بما تشتمل على أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة.

و ذلك أنّ الآيات السابقة تبيّن بأوضح البيان أنّ تدبير السماوات و الأرض و ما فيهما من شي‏ء إلى الله سبحانه كما أنّ خلقها منه و أنّه يملك ما يفتقر إليه الخلق و التدبير من العلم و القدرة و الرحمة و أنّ كلّ من دونه مخلوق مدبّر لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً و ينتج ذلك أنّه الربّ دون غيره.

فأمر تعالى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يسجّل عليهم نتيجة بيانه السابق و يسألهم بعد تلاوة الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحقّ لهم بقوله:( مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي من هو الّذي يملك السماوات و الأرض و ما فيهما و يدبّر أمرها؟ ثمّ أمره أن يجيب هو نفسه عن السؤال و يقول:( اللَّهُ ) لأنّهم و هم مشركون معاندون يمتنعون عن الإقرار بتوحيد الربوبيّة و في ذلك تلويح إلى أنّهم لا يعقلون حجّة

٣٥٦

و لا يفقهون حديثا.

ثمّ استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتّضح بطلان شركهم أوضح البيان و هي أنّ مقتضى ربوبيّته تعالى الثابتة بالحجج السابقة أنّه هو المالك للنفع و الضرر فكلّ من دونه لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا فكيف لغيره؟ فاتّخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء من دونه يلون أمر العباد و يملكون لهم نفعا و ضرّا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء لأنّهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟.

و هذا هو المراد بقوله مفرّعاً على السؤال السابق:( قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟ أي إذا كان الله سبحانه هو ربّ السماوات و الأرض فقد قلتم باتّخاذكم أولياء آلهة من دونه قولاً يكذّبه نفسه و هو عدم ولايتهم في عين ولايتهم و هو التناقض الصريح بأنّهم أولياء غير أولياء و أرباب لا ربوبيّة لهم.

و بالتأمّل فيما قدّمناه أنّ الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى مثل قولنا: إذا تبيّن ما تقدّم فمن ربّ السماوات و الأرض إلّا الله؟ أ فأتّخذتم من دونه أولياء لا يملكون نفعاً و لا ضرّاً؟ فالعدول عن التفريع إلى أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بقوله: قل كذا و قل كذا و تكراره مرّة بعد مرّة إنّما هو للتنزّه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل و العناد و هذا من لطيف نظم القرآن.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ ) مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجّة و إتمامها عليهم و أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يضربهما لهم يبيّن بأحدهما حال المؤمن و الكافر فالكافر بالحجّة الحقّة و الآيات البيّنات غير المسلّم لها أعمى و المؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوّي بينهما ببديهة عقله، و يبيّن بالثاني أنّ الكفر بالحقّ ظلمات كما أنّ الكافر الواقع فيها غير بصير و الإيمان بالحقّ نور كما أنّ المؤمن الأخذ به بصير و لا يستويان ألبتّة فمن الواجب على المشركين إن كان لهم عقول سليمة - كما يدعون - أن يسلّموا للحقّ

٣٥٧

و يرفضوا الباطل و يؤمنوا بالله وحده.

قوله تعالى: ( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ - إلى قوله -وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) في التعبير بقوله:( جَعَلُوا ) و( عَلَيْهِمْ ) دون أن يقال جعلتم و عليكم دليل على أنّ الكلام مصروف عنهم إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) دون أن يؤمر بإلقائه إليهم.

ثمّ العود في جواب هذا الاحتمال الّذي يتضمّنه قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) دليل على أنّ السؤال إنّما هو عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائيّ لا الإلقاء بنحو الجواب، و ليس إلّا لأنّهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨ و قد كرّر تعالى نقل ذلك عنهم.

فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكاً في الخلق و الإيجاد و إنّما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الربوبيّة لا في توحيد الاُلوهيّة بمعنى الخلق و الإيجاد، و تسليمهم توحيد الخالق المبدع و قصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبيّة و تتمّ الحجّة عليهم لأنّ اختصاص الخلق و الإيجاد بالله سبحانه ينفي استقلال الوجود و العلم و القدرة عن غيره تعالى و لا ربوبيّة مع انتفاء هذه النعوت الكماليّة.

و لذلك لم يبق لهم في القول بربوبيّة شركائهم مع الله سبحانه إلّا أن ينكروا توحّده تعالى في الخلق و الإيجاد و يثبتوا بعد الخلق و الإيجاد لآلهتهم و هم لا يفعلونه و هذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم.

فكأنّه تعالى إذ يقول:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) يقول لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): هؤلاء تمّت عليهم الحجّة في توحيد الربوبيّة من جهة اختصاصه تعالى بالخلق و الإيجاد فلم يبق لهم إلّا أن يقولوا بشركة شركائهم في

٣٥٨

الخلق و الإيجاد فهل هم قائلون بأنّ شركائهم خلقوا خلقاً كخلقه ثمّ تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيّتهم إجمالاً مع الله.

ثمّ أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يلقي إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) و الجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها أي أنّه تعالى واحد في خالقيّته لا شريك له فيها، و كيف يكون له فيها شريك و له وحدة يقهر كلّ عدد و كثرة و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ :) يوسف: ٣٩ بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهّار، و تبيّن هناك أنّ مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحديّة.

و قد بان ممّا ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) و الإعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمّل في ذلك و اعلم أنّ أكثر المفسّرين اشتبه عليهم الحال في الحجج الّتي تقيمها الآيات القرآنيّة لإثبات ربوبيّته تعالى و توحيده فيها و نفي الشريك عنه فخلطوا بينها و بين ما اُقيمت لإثبات الصانع فتنبّه لذلك.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك و تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أنا المنذر و عليّ الهادي‏ الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى الكلينيّ في الكافي، و الصدوق في المعاني، و الصفّار في البصائر، و العيّاشيّ و القمّيّ في تفسيريهما و غيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة.

و معنى قوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( أنا المنذر و عليّ الهادي) أنّي مصداق المنذر و الإنذار هداية مع دعوة و علىّ مصداق للهادي من غير دعوة و هو الإمام لا أنّ المراد بالمنذر هو رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المراد بالهادي هو عليّ (عليه السلام) فإنّ ذلك مناف لظاهر الآية ألبتّة.

٣٥٩

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة و الديلميّ و ابن عساكر و ابن النجّار قال: لمّا نزلت:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) وضع رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يده على صدره فقال: أنا المنذر و أومأ بيده إلى منكب عليّ فقال: أنت الهادي يا عليّ بك يهتدي المهتدون من بعدي:.

أقول: و رواه الثعلبيّ في الكشف، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم).

و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير عن أبي بريدة الأسلميّ قال: دعا رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالطهور و عنده عليّ بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بيد عليّ بعد ما تطهّر فألصقها بصدره ثمّ قال:( إنّما أنت منذر) و يعني نفسه ثمّ ردّها إلى صدر عليّ ثمّ قال:( و لكلّ قوم هاد) ثمّ قال له: أنت منار الأنام و غاية الهدى و أمير القرّاء أشهد على ذلك إنّك كذلك:.

أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل، و المرزبانيّ في ما نزل من القرآن في أميرالمؤمنين.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الأوسط و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و ابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب: في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: رسول الله المنذر و أنا الهادي. و في لفظ: و الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه.

أقول: و من طرق أهل السنّة في هذا المعنى روايات اُخرى كثيرة.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: كلّ إمام هاد لكلّ قوم في زمانهم.

و في الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: كلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيهم.

و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام)( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466