رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233447 / تحميل: 7999
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

المرتبطة بهذا الجزء »(١) .

ويقول الفيلسوف اليوناني اشين(٢) :

« الآن قد بلغت الشيخوخة ، كنت اتصور انني تعلمت ما كان عليّ ان اتعلمه ، ولم يبق شيء مجهول بالنسبة لي ، لكني ارىٰ انني لا افهم شيئاً ، فأنا اعجز عن ادراك وفهم الذرّة ، لكنني عندما شابّاً ورغم ان معلوماتي كانت قليلة ، كنت اتصور انني اعلم كل شيء ».

ويقول العالم الانجليزي المعروف اسحاق نيوتن(٣) :

« كأنني طفل صغير يقف علىٰ ساحل بحر ، يرىٰ احياناً حجراً أو رملاً براقاً ، لكنَّ امامه بحراً عظيماً من المعرفة مجهولاً ».

ويقول احد فلاسفة بريطانيا المعروفين وهو ليدج(٤) :

« ان الذي نعلمه حالياً ضئيل جداً مقابل ما يجب علينا معرفته ، لربما يردد هذه الكلمات البعض دون الايمان بها ، لكني اقولها مؤمناً بها تام الايمان ، والذين يرون العلم في المعلومات الحالية فقط ، هم في الحقيقة خانوا اولئك الذين ناضلوا في سبيل المعرفة ».

________________

(١) تكامل علم الفيزياء ، ص ٢٦٦.

(٢) Echin

(٣) Nivoton ، الدكتور اراني أيضاً قال بذلك ، لكنه أخذه من نيوتن.

(٤) Ledeg

٢١

لا أعلم

يقول الدكتور الكسيس كارل(١) :

( لم تتطوّر العلوم التي تتحدث عن الكائن الحيّ بشكل عام وعن الانسان علىٰ نحو خاص كثيراً ، ولا زالت في مرحلة الوصف ).

ويضيف في بحث آخر :

( مع ان البشرية بذلت جهوداً كبيرة لنفسها ، ومع اننا اليوم نرث خزائن من دراسات العلماء والفلاسفة والعرفاء والشعراء ، لكن معلوماتنا لا تزال ضئيلة ووليدة الأساليب العلمية التي اخترعناها نحن انفسنا ، ولا زالت حقيقة وجودنا مجهولة بين الاشباح التي صنعتها ايدينا ، والحقيقة ان جهلنا بانفسنا كبير ولا زالت نواح كثيرة من عالمنا الداخلي غير معروفة بالنسبة لنا ، كما لازالت اكثر التساؤلات التي يطرحها الباحثون في حياة الانسان متروكة دون جواب ).

ثم يطرح الدكتور كارل بعد ذلك تساؤلات لم يستطيع العلم المعاصر الاجابة عليها رغم تقدمه ، يقول الدكتور كارل :

( لا نزال نجهل كيفية ارتباط الاعمال النفسية بالخلايا المخية ، بل ولا زلنا نجهل الفيزيولوجيا الحقيقية لخلايا المخِّ ، فما هي حدود سيطرة الارادة علىٰ الجسم ؟ لا نعلم.

كيف يؤثر وضع الاعضاء على حالتنا النفسية ؟ لا نعلم.

ما هي العلاقة بين نمو العظام والعضلات واجزاء الجسم الاُخرىٰ بالنشاط

________________

(١) الانسان ذلك المجهول.

٢٢

النفسي والروحي ؟ لا نعلم.

وما هو العامل الذي يضمن توازن الجهاز العصبي ومقاومة الجسم امام الامراض والارهاق ؟

وما حجم الاهمية النسبية للنشاطات الفكرية والاخلاقية والجمالية والعرفانية في حياتنا ؟ لا نعلم ).

في النهاية وبعد طرحه للعديد من التساؤلات ، يقول :

( هذه والعديد من التساؤلات الاُخرىٰ التي يمكن طرحها علىٰ اساس القضايا التي تهتم بها الانسانية ولكن دون الاجابة عليها ).

بعد ذلك أيضاً يتحدّث الدكتور كارل في بحث آخر عن الفكر وتأثيره والعوامل المكونة له والقضايا المرتبطة به ويطرح تساؤلات اخرىٰ ، ثم يقول :

( هناك فلاسفة كبار في كل عصر وفي كل بلد ، صرفوا سنوات عمرهم لحلِّ هذه القضايا ، لكن أيّاً منهم لم يوفّق في حلِّ هذا اللغز ).

فيلسوف آخر من المعاصرين يقول في مقدمة كتاب له ، وبعد طرح سلسلة من التساؤلات الفلسفية المتنوعة :

( المسائل التي ذكرتها هي الموضوع في الفلسفة القديمة والجديدة ، الشرقية والغربية ، لقد ضلت هذه الافكار في مخيلة البشر منذ ظهورهم ، ومن اجل فهم هذا السرِّ استخدموا جميع الطرق من العقل والفكر والشعور والتجربة الىٰ الوهم والخيال في اليقظة والمنام ، لقد تجاوز عدد فلاسفة كل عصر عشرات بل مئات الآلاف اما وزن الكتب التي ألفوها فهو بالاطنان ، وقد بقيت منهم

٢٣

كلمات كثيرة ومتنوعة لا يمكن احصاؤها ، لكنهم يتفقون في واحدة ، وهي خلاصة وحصيلة جهودهم ، تلك الجملة هي : « لا نستطيع ان نفهم »(١) ).

أصدقائي الاعزاء !

اذا اردت ان انقل لكم نماذج من اعترافات اشهر العلماء فيما يتعلق بالمجهولات البشرية ، سوف احتاج الىٰ اطنان من الورق !

خلاصة الكلام ، فيما لو سألتم اعظم بروفسور أو فيلسوف أو افضل عالم في الكيمياء أو الفيزياء : هل هناك ما يجهله الانسان ولم يُحط به علماً ؟

بالتأكيد سوف يجيبكم مستهزئاً : ما هذا السؤال الساذج ؟ هذا سؤال الأطفال.

أيُّها السادة !

لكم الآن ان تحكموا : هذا العالم المليء بالالغاز والتعقيد ، العالم الذي يعترف كبار علمائه بالمجاهيل التي لا زال البشر لا يستطيع الوصول إليها ، كما انه لا يعرف متىٰ ستحلَّ بالنسبة له ، أليس بعيداً عن العقل والمنطق ، ان ننفي قانون مسلَّم جاء به الاسلام ، ذلك الدين المقدّس الذي لا يخفىٰ دوره في حياة الانسانية العلمي ، لمجرد إنّ أحد العلماء لم يستطيع فهمه أو انه لم يرَهُ مطابقاً

________________

(١) فيلسوفي الشرق والغرب.

٢٤

لبعض القواعد العلمية الناقصة أو بعض النظريات العلمية المعاصرة ؟!

رفيق السفر : من باب الانصاف ، الحق ما تقوله ، لكن ذلك بالنسبة للذين

يمتلكون عقلاً سليماً ، وليس لمجموعات تتحرك عقولها الناقصة بصعوبة في ضجيج الحضارة المعاصرة.

تأييد الجميع : لا يحق لأي شخص التدخل في أي عمل.

الشيخ : لا شك ان بلدنا فيه الكثير من المتعلمين والفضلاء والمتخصصين في شتىٰ المجالات ، لكن الطامّة الكبرىٰ هي ان الشخص الذي يتخصّص في احد الفروع العلمية ، يتصوّر عقله معياراً لجميع حقائق العالم ، لذلك تراه يتدخل باستعجال خاص في كل موضوع ويسمح لنفسه بالحكم فيه ! فإذا تخصّص شخص في مجال الطب وحاز علىٰ شهادة دكتوراه في الطب بعد اتمامه فترة الدراسة ، فإن بعضهم يتصوّر انه سيكون بالاضافة الىٰ انه طبيب جيد ، مهندساً وتاجراً وقاضياً ومجتهداً وسياسياً ومزارعاً و الخ ، جيداً أيضاً ، لذلك فهو يحاول حل مشكلة كلّ تخصص بعقله هو ، وإذا ما لم يستطع عقله حل تلك المشكلة أو فهمها. سوف ينفيها ولن يقبل بها ، غافلاً عن ضرورة الرجوع في كل الىٰ المتخصص فيها ، وانه لا يحق لأي شخص التدخل في اي مسألة.

خطأ اديسون(١)

يقول الدكتور الكسيس كارل ضمن احد المواضيع :

________________

(١) Edison

٢٥

« المتخصّص في مجال معين لا يحق له التدخل في مجال آخر لا يمت اليه بصلة ».

وفي موضع آخر يقول :

« العلماء الذين يمتازون علىٰ غيرهم بواسطة كشفياتهم واختراعاتهم ، يتصورون انهم متبحرون في سائر المجالات كما هو الحال في مجال تخصصهم ، علىٰ سبيل المثال ، « اديسون » احياناً كان يتحدث للناس عن الفلسفة والدين ويطرح نظريات في ذلك ، فكان الناس يستمعون باحترام الىٰ آرائه لاعتقادهم بتبحره في هذين المجالين ايضاً ، لانه كاشف ومخترع كبير.

وبهذا الشكل نرىٰ ان بعض العظماء الذين مهدوا السبيل لرقي وتقدم البشرية من خلال اختراعاتهم وعلومهم ، يصبحون من جهة اخرىٰ سداً امام ذلك التقدم عندما يتكلمون في مجالات ليست من اختصاصهم وليسوا ملمين بها جيداً »(١) .

اصدقائي الاعزاء !

في ضوء ما قلته ، اليس من العجيب ان تنظروا الىٰ الدين الاسلامي المقدس والملتزمين به نظرة تشاؤمية بهذا الشكل ؟! في حين وعلىٰ حدّ قولكم انكم لم تطالعوا علىٰ مدىٰ حياتكم كتاباً في التعاليم الدينية وكذلك لم تلتقوا بعالم دين ولا اي مسلم واع يحملان معلومات وافرة عن الاسلام.

________________

(١) الانسان ذلك المجهول.

٢٦

ورغم ذلك ، تنفرون من الاسلام وتحقدون عليه للحد الذي اغضبكم وجودي معكم لفترة يوم واحد في هذا القطار لأن مظهري يوحي بأني متدين ، بشكل اخذتم بالاستهزاء بي ، وعدم احترام شيبتي ، وصرتم تتهامسون وتتغامزون فيما بينكم ؟! فمرّة تشيرون الىٰ قبعة الصوف التي اضعها علىٰ رأسي ، واُخرىٰ تتضاحكون علىٰ لحيتي.

أيُّها السادة :

انا وكما تقولون رجعي ، أمّا أنتم المتربّون في أحضان الحضارة الغربية ، لماذا كل تلك التصرفات القبيحة وغير الصحيحة ، علىٰ رجل لم تكونوا تعرفونه ولا رأيتموه من قبل ولم يصدر منه ذنب أو خيانة ؟!

هل هذه الحضارة التي ابتلينا بها والتي لا تستطيع ان تربي ابناءها إلّا بهذا الشكل ؟!

رفاق السفر : كان لكلام الشيخ تأثير قوي في نفوسهم ، اخذ بعضهم ينظروا الىٰ بعض ويوافقون الشيخ كلامه ، واعتذر كل واحد منهم مباشرة من الشيخ بكلمات ودّ واحترام خجولة عمّا بدر منهم من قبل ، ثم قالوا : من دواعي سعادتنا ان نلتقي شخصاً عالماً مثلك ، نأمل ان نسعد ونستفيد من وجودك خلال هذه السفرة القصيرة ـ للأسف

ودار حديث بين رفقة السفر : قال أحد الرفاق :

اصدقائي ! أتصوّر انّنا اليوم اُتيحت لنا فرصة مناسبة ، بوجود هذا الشيخ

٢٧

العالم الذي يجب علينا احترامه ، للبحث والكلام الاسلام وقوانينه ، لكي نطلع علىٰ منطق الدين والمؤمنين به.

باقي الاصدقاء : أنّنا سعيدون باقتراحك هذا ، ونستقبله بكل شوق ، لان ما تحدث به الشيخ يظهر فضل هذا الرجل وسعة اطلاعه بالاسلام وغزارة علمه.

الشيخ : من دواعي الاعتزاز ان تحيطوني بكل هذا اللطف والود ، ولكن قبل البدء بالبحث ، ومن أجل تطبيق حكم الاسلام الاخلاقي في التعامل مع الاشخاص ، لابدّ من ان نتعرّف علىٰ بعضنا ، لكي نبدأ هذا البحث والمناظرة بجو من الود.

التعارف

في البداية ، اعرف لكم نفسي ، اسمي تقي رستگار من مدينة همدان ، مهني.

احد الحاحزين : انا رضا سخنوّر ، أحمل شهادة الدكتوراء في القانون.

الثاني : احمد تاجور ، ضابط برتبة عقيد.

الثالث : حسن سماوي ، طالب في كلية الطب.

الرابع : علي امامي ، موظف في دائرة المخازن ( السايلو ).

الخامس : عباس بيضاوي ، رئيس دائرة التربية والتعليم في بندر شاه.

٢٨

الشيخ : من دواعي السرور ان اكون برفقة مجموعة من المتعلمين والمطلعين علىٰ العصر ، خاصة سعادة السيد الدكتور رضا سخنور الذي يحمل شهادة في القانون والذي سنستفيد كثيراً من آرائه في بحثنا ( البحث في قوانين الدين الاسلامي المقدّس ). فهو يستطيع ، ومن خلال المامه الواسع بالقانون ، ادراك القيمة الحقيقية للقوانين الاسلامية ، من مقارنتها بقوانين الشعوب المتقدّمة في العالم.

الدكتور : يا عمّ ! أودُّ في البداية ان نتحدث حول الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وموضوع نبوته ورسالته ، لكي نتناول فيما بعد مسألة القوانين الاسلامية ، بعد ان ترتفع الشبهات العالقة في اذهاننا ( انا وسائر اصدقائي ) حول النبوة.

٢٩

محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ

الشيخ : سعادة الدكتور ! من اجل توضيح الموضوع الذي سألتموه ، لا بدّ من بحث عدة نواحي ، لكي نصل الىٰ هذه النتيجة وهي إنَّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ في تاريخ الانسانية ، ورسول من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وإنّ القوانين التي جاء بها الىٰ البشرية ، جميعها اُوحيت إليه من قبل رب العالمين ، وهذه النواحي التي لابدّ من بحثها هي بالترتيب التالي(١) :

أ ـ وضع الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل فترة الرسالة.

ب ـ البلاد التي ولد ونشأ فيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث الجغرافيا والسكان.

ج‍ ـ دراسة مختصرة في وضع القوم الذين نشأ وعاش رسول الاسلام بينهم.

الناحية الاُولىٰ : ولد محمد بن عبداللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اسرة طاهرة وشريفة في مكّة ، ولأن اُمّه آمنةعليها‌السلام لم تستطع ارضاعه لشحة حليبها ، فقد اعطاه جدّه

________________

(١) في هذا الصدد يمكنكم الرجوع الىٰ كتابنا « القادة الصديقون » ( بالفارسية ) فقد بحثت هذه المسائل بالتفصيل هناك.

٣٠

عبد المطلب إلىٰ مرضعة تسمىٰ حليمة السعدية(١) حتىٰ ترضعه ، فأخذته الىٰ قومها وبقي مع تلك القبيلة حتىٰ بلغ الخامسة من العمر ، وبعد ذلك عاش مع جدّه عبدالمطلب ثلاثة سنوات ، ومنذ سن الثامنة حيث توفي جدّه عبد المطلب ، عاش في كنف عمّه أبي طالب حتىٰ بُعث بالرسالة وهو في سن الأربعين ، إلّا انّ ما يهمنا من ذلك هو أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرسل الىٰ مدرسة ، ولم يدرس عند أي استاذ إلى أن بُعث رسولاً ، وخلال تلك الاربعين سنة لم يقرأ ويكتب سطراً واحداً ولا كان يدعي ذلك ، وهذا ما يعترف به جميع المؤرخين واصحاب السير. وانما كانت له حياته العادية كسائر العرب ( سوىٰ انه لم يرَ منه ذنب أو خيانة في كل فترة حياته ) ، وهنا يكمن السرّ ، فلو كان محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قد ذهب الىٰ مدرسة أو تتلمذ علىٰ يد احد العلماء ، لربما شُكَّ في الأحكام التي جاء بها كنبي.

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) (٢) .

وهذه القضية من أهم القضايا التي احتارت الدنيا بتفسيرها وجعلت علماء العالم يستسلمون أمامها ، لأنه لم يسبق ان رأت البشرية شخصاً اُمّيّاً ينشأ في بيئة مثل الجزيرة العربية وبعد أربعين سنة من حياة عادية ، يأتي وكرجل إلهي ومرسل من قبل الله بأحكام وقوانين لسعادة الانسان ، وبعد اربعة عشر

________________

(١) حليمة ، امرأة من قبيلة بني ساعدة التي تسكن اطراف مكة المكرمة ، وكانت قد جاءت الىٰ مكة بعد القحط الذي أصاب قبيلتها ، لأخذ طفل ترضعه ، فتنال من عملها ذلك مالاً ترمّ به معاشها.

(٢) سورة العنكبوت : ٤٨.

٣١

قرناً عجز البشر ان يأتي بمثلها وبعظمتها رغم جميع التطورات العلمية والفكرية التي حدثت.

أجل ، فهذا الأمر هو اكبر دليل علىٰ ان الرجل كان رسولاً من قبل ربّ العالمين ، وانه كان مرتبطاً بمبدأ الوحي.

٣٢

التشريع في عالمنا المعاصر

اصدقائي الاعزاء !

رغم اننا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، وقد وصل فيها البشر الىٰ كل هذا التطور العلمي ، إلّا انّ تدوين مادة قانونية في الدول المتقدّمة يحتاج الرجوع الىٰ أصحاب الاختصاص والعلماء الكبار واساتذة الجامعات ، وهؤلاء بعد مشاورات عديدة يقدمونها علىٰ شكل لائحة الىٰ البرلمان ، هناك ايضاً يطرحونها في لجانهم المختصّة(١) وبعد مداولات عديدة تطرح اللائحة في البرلمان للتصويت عليها ، فيتكلم العديد من النواب حولها(٢) ثم يصوت عليها بعد ان صرفت اموال طائلة من اجل وضعها ، هذه المادة وبعد فترة قد تكون شهراً أو بضع سنين وعندما تظهر نواقصها الواحدة بعد الاُخرىٰ ، يجبرون علىٰ الغاءها.

فهذا هو الاسلوب المتّبع في التشريع اليوم في العالم المتحضر الذي ينظر

________________

(١) Fraction

(٢) هذا الكلام يصدق في الدول التي ينتخب فيها اعضاء البرلمان بشكل حرٍّ ومن قبل الشعب ، وأن يكون الانتخاب ايضاً علىٰ اساس العلم والكفاءة والاخلاص ، وليس في الدول التي تحكمها دكتاتوريات فردية تتسلط علىٰ مقدرات الشعوب ، والتي فيها الاجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية الّا ديكورات وكاريكاتورات ليس إلّا.

٣٣

الىٰ الاُمور من زاوية العلم.

نظرة الىٰ عالم الامس

مع الأخذ بأسلوب التشريع في عالمنا المعاصر ، ننظر الىٰ الوراء الىٰ عالم الظلمات قبل الف وأربعمائة سنة ، في ذلك العصر لم يكن هناك علم ومعرفة فاكثر البلدان تطوراً آنذاك ـ مثل ايران ـ كانوا بمستوىٰ من الانحطاط الفكري بحيث يعبدون النار ، وفي ذروة تطورهم أي العصر الساساني كان تحصيل العلم والمعرفة مقتصراً علىٰ أبناء الاُمراء وعلماء الدين المجوسي ، في حين انّ بعض البلدان الاُخرىٰ كانوا يعبدون البقر! فقد كانت آفاق افكارهم محصورة بشكل يصنعون من التمر آلهة يأكلونها إذا ما جاعوا ، فكانوا يحضرون تمراً من جديد ويصنعون آلهة أُخرىٰ للاستغفار أمامها علىٰ ما قاموا به.

وفي تلك الحقبة المظلمة ظهر رجل يسمىٰ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك الماضي الذي ذكرناه عنه ، كرسول من قبل الله عزّ وجلّ ، وجاء بأحكام وقوانين للبشرية جعلت عصر الذرة الحالي يستسلم امام دقتها العلمية ، فإذا كنّا اليوم نشاهد في بعض الموارد قوانين مشابهة لقوانين الاسلام وذلك في اكثر الدول تقدّماً ، فهذا لا يبعث علىٰ العجب ، لانّنا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، في حين ان العصور الماضية كانت مظلمة مليئة بالجهل والخرافة.

فلو استطاع الشخاص اليوم التعليم وقضوا عمرهم في المدارس والجامعات وزوايا المكتبات ، فقرأوا لكبار العلماء ، ونشأوا في بيئة ساعدتهم

٣٤

في تنمية افكارهم ، هؤلاء الاشخاص لو تمكنوا من الوصول الىٰ حقائق في عالم الوجود ، او قاموا بوضع قانون ذا فائدة فهو ليس امراً مستغرباً وليس كما يسمىٰ « طفرة علمية » ، لأن عملهم ذلك يتناغم وينسجم مع المرحلة التاريخية والظروف البيئة والثقافية والاجتماعية التي يعيشونها.

لكن إذا ظهر شخص اُمّي في عصر مظلم قبل الف واربعمائة عام ومن بيئة متوحشة وملوّثة بمعنىٰ الكلمة ، وتمكن من ايجاد ذلك التغيير الفكري والعلمي في العالم الذي يتّسع شعاعه بمرور الأيام والقرون ، وكلّما اتّسعت دائرة العلم والمعرفة ، اتّضحت عظمة الاسلام العلمية مع تطور العلم في شتىٰ المجالات ، فهذا هو الذي يبعث علىٰ العجب والدهشة ، وهو الذي لم يسبق ان حدث مثله.

مثل هذه الحادثة ، ومع الأخذ بالحالة الثقافية ، والظروف التاريخية والاجتماعية لذلك العصر ، لهو دليل قاطع في ان الذي جاء بكل تلك القوانين مرسل من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وانه يوحىٰ اليه من مبدأ العلم المطلق( الله ) ، لأن ذلك غير ممكناً بالحسابات المادية ، وهو كيف يمكن لرجل أُمّي أن يؤسس ديانة علمية تتعامل وواقع العالم والانسانية ، فهذا الامر حتىٰ في البيئة العلمية والثقافية تماماً غير ممكناً.

فلو كانت القضية « نبوغاً فكرياً » وتتعلّق بالظروف البيئية ، لحدث مثل ذلك ولو لمرة اُخرىٰ في تاريخ البشرية ، لكن هذا الامر لم يحدث في اكبر واهم المراكز العلمية وبين من لهم افضل الظروف العلمية والفكرية ، فضلاً عن ذلك العصر المظلم وتلك البيئة المتخلفة ، وهذا دليل قاطع علىٰ ارتباط الذي جاء

٣٥

بتلك القوانين والاحكام بمبدأ العلم ومصدره ، أي رب العالمين ، فهو نبي وما يقوله هو وحي إلهي :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١)

اعتراف الدكتور لورافاكسيا فاغليري

الدكتور لورافاكسيا فاغليري ، البروفيسور الايطالي المعروف واستاذ جامعة نابل ، يقول في كتابه حول القرآن : ( نشاهد في هذا الكتاب خزائن وذخائر من المعرفة فوق قابليات واستعداد اذكىٰ الاشخاص واعظم الفلاسفة واقوىٰ رجال السياسة ، ولذلك لا يمكن ان يكون القرآن نتاج رجل متعلم ، افنىٰ عمره في مجتمع غير ديني ، لأن هذا الأمر لا يقوىٰ عليه رجال العلم والدين ، ذلك الرجل كان يؤكد علىٰ الدوام انه بشر مثل الآخرين ، لذا فبدون الله القادر لا يستطيع القيام بأية معجزة ، ومصدر القرآن ومنشأه لا يمكن ان يكون غير الله الذي احاط بعلمه السموات والارض وما بينهما ).

اصدقائي الاعزاء !

حقيقة الأمر هي كما قال الدكتور فاغليري ، لأنَّه إذا أراد شخص ان يصبح عالماً كبيراً ومعروفاً في عصرنا من خلال الانصراف بجميع سنوات عمره الىٰ كسب العلم ، فأن تخصصه في النهاية ايضاً سيكون في فرع معين ، فهو اما طبيب ـ مثلاً ـ أو خبير اقتصادي ، او عالم في القانون أو صاحب رتبة عالية في الجيش

________________

(١) سورة النجم : ٣.

٣٦

أو الخ ، فلا يمكن ان تجدوا اليوم في كل العالم شخصاً تخصص في مختلف الفروع والمجالات.

لكن رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان فرداً بلا مستشار ، جاء من قبل الباري عزّ وجلّ تلك القوانين المتنوعة ، من المسائل العبادية حتىٰ المسائل القانونية ، ومن الاحكام الفردية حتىٰ المسائل الاقتصادية والاجتماعية ، وجميعها علىٰ اساس مسلَّمات حقائق عالم الوجود.

أليس ذلك دليل علىٰ ان محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رسول من قبل رب العالمين ، وليس عصارة ظروف تاريخية خاصة ؟!

الدكتور : النقطة التي اشرت اليها جديرة جداً بالالتفات ، لأننا نرىٰ في اكثر دول العالم تقدماً ، يوجهون كل فرد أو مجموعة الىٰ مجال معيَّن ، فالقضايا القانونية ـ علىٰ سبيل المثال ـ يوكلونها الىٰ اصحاب الاختصاص في القانون. ولم نشاهد الرجوع اليهم في قضايا الاقتصاد او الامور العسكرية. لأنهم لا يملكون معلومات فيها. اما فيما يتعلّق بالرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكما تفضلت ، لم يحدث ذلك من قبل وهو أن يأتي شخص ويقدم للبشرية قوانين محكمة وغير قابلة للأنكار في جميع المجالات.

الشيخ : أجل ، هكذا الدين الاسلامي ، له قوانين حيّة وغنية في مختلف شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأقتصادية ، وهو ما يميّز ديننا عن سائر الأديان ، ويقدّمه عليها.

فالانجيل ـ مثلاً ـ الذي يعتبر الكتاب الديني المقدّس لجميع الدول الغربية ، اذا تصفحتموه بدقّة ستجدون اكثر احكامه اخلاقية ، ويحتوي

٣٧

علىٰ مباحث روحية ، بحيث لو تركت البلدان الغربية قوانينها الاجتماعية وارادت ان تعمل علىٰ ضوء تعاليم الانجيل ، ستشلّ وتقف عن الحركة جميع مؤسساتها ومرافقها الاجتماعية والاقتصادية ، وستسقط دفعة واحدة ، لانّه لا نجد في الانجيل كلّه حتىٰ خمسين مادة قانونية حول القضايا الاجتماعية(١) .

في حين ان الدين الاسلامي المقدس ، ليس فقط يملك اسمىٰ التعاليم الاخلاقية والروحية ، بل ان قوانينه واحكامه تشمل جميع المجالات ، مثل : الزراعة والاقتصاد والسياسة والاُمور العسكرية والجيش والصحة والثقافة والتجارة والقضاء. وبشكل عام فهو يمتلك كل وافضل القوانين التي تحتاجها اُمة متحضرة ، حتىٰ في السباقات.

محطة بندرگز

في تلك اللحظة وصل القطار الىٰ محطة بندرگز ، كانت جماعة من الناس مستعدة للركوب ، ومجموعة من المسافرين أيضاً مستعدة للنزول ، ولذلك اختل النظام العادي في القطار.

شرطي المحطة واقف الىٰ جانب السلم ، ويصيح : أيُّها السادة أرجو منكم مراعاة النظام ، افسحوا المجال للمسافرين يخرجون من داخل القطار ، ومن ثم اصعدوا.

________________

(١) لدراسة محتويات التوراة والانجيل ومقارنتها بالقرآن ، يمكنكم الرجوع إلى كتاب « الانسان وسائر الكتب السماوية ». ( بالفارسية )

٣٨

ولكن لم يكن احد يستمع اليه في تلك اللحظات ، فكرر الشرطي : أيُّها السادة ارجو ان تراعوا القانون ، لماذا تصعدون ، فلا زالوا لم ينزلوا ؟!

اهانة عقيد لسائق سيارة اجرة

أحد المسافرين كان يحمل حقيبة بيده وهو مستعد مع أخيه للصعود ، قال : دعك من هذا غفر الله لك ، اين يُراعىٰ القانون في هذا البلد ، حتىٰ يُراعىٰ هنا بجنب سلّم القطار ، إذا كان حقيقاً ما تدّعي اذهب وقل لمرؤوسيك ان لا يتصرفوا خلاف القانون.

فقال الشرطي : ما هذا الذي تقوله ؟

المسافر : ليس قول وإنّما حقيقة.

في هذا العام كان أحد أصدقاءنا يقود سيارته في احد شوارع طهران وفجأة استدارت سيارة خاصة امامه ، لم يكن يبق شيئاً ان يتصادما ، فضغط صديقنا علىٰ الكابح وأوقف السيارة قبل ان تصطدم بتلك السيارة المخالفة ، ممّا ادىٰ الىٰ جرح احد الركاب الذين كانوا معه برأسه ، فنزل من سيارته واتّجه الىٰ سائق تلك السيارة فوجده يحمل علىٰ صدره واكتافه طناً من الميداليات والأوسمة وإلىٰ جانبه سيدة نصف عارية ، فقال له : أيُّها السيد المحترم ، ما هذا الذي عملته ، لماذا استدرت هنا ؟

صدقني أيُّها الشرطي ! ما ان أتم كلامه حتىٰ أتته صفعة قوية من ذلك

٣٩

الرجل ، فردّها صديقنا المسكين إليه بصفعة مماثلة.

عند ذلك قال له الرجل : يجب ان نذهب الىٰ مركز الشرطة ، فقبل صديقنا بذلك ، وذهبوا جميعاً الىٰ هناك ، وما أن وصلوا المركز حتىٰ رأىٰ صديقنا ان جميع الضباط والشرطة قد وقفوا احتراماً لذلك الرجل ، فتبيّن ان ذلك الرجل برتبة عقيد.

فأمر الشرطة ، الذين قاموا بضرب صديقنا للحد الذي لم يتمكن النهوض من فراشه ليومين ، ثم أمرهم بحلق رأسه وسجنوه ليلة عندهم ، مع ان ضابط المرور كان قد أشار بالتقصير الىٰ العقيد ، فما كان عليه ان يستدير في ذلك المكان ، لكن سيادة العقيد لا يهمه القانون ، لانه يعتبر نفسه فوق القانون ، القانون يجب ان يكون للجميع وليس لي ولأمثالي من المساكين.

هنا قال اخو المسافر : أخي ، ما هذا الذي تقوله ، لا حاجة لنا بوجع الرأس ، فلو القوا القبض عليك الآن بتهمة الاستهزاء بالمقدّسات الوطنية ! والتجاسر علىٰ ، من الذي سينجيك ؟!

وبعد دقائق من التوقّف ، تحرك القطار ثانية وعاد النظام الىٰ ما كان عليه.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ايها السادة المحترمون !

مثل هذهِ الامور كثيرة جداً في التاريخ القضائي لبلادنا. وان ذكرها بأجمعها يحتاج الىٰ سنوات من الوقت.

والحقيقة هي ان القيود التي وضعها العالم المتحضر علىٰ القوانيين القضائية سلبتها السرعة اللازمة وجعلها كما هي الآن مضحكة ، مما ادىٰ الىٰ يأس الفئات المستضعفة من احقاق حقها بواسطة الاجهزة القضائية ، للحدّ الذي يرضىٰ اكثر المظلومين المستضعفين بغض النظر عن حقوقهم المسلّمة والقانونية على أن يرجعوا الىٰ المحاكم.

لكن الاسلام العظيم لا يرضىٰ ان يكون هناك عمل مهما كان صغيراً بعنوان طي مراحل قانونية او عناوين اُخرىٰ في دائرته القضائية ، ومع ان المحكمة الاسلامية ليس فيها الّا عضوان هما القاضي والكاتب ( الذي يحرر الحكم ) ، الّا انه في الغالب يفضّ النزاع في اول جلسة قضائية ، ويأخذ كل واحد حقه.

المحكمة القضائية الاسلامية برأي غوستاف لوبون

يقول الدكتور غوستاف لوبون حول القضاء في الاسلام :

« القضاء الاسلامي وترتيب المحاكمات وجيز وبسيط ، فهناك شخص منصب من قبل الحاكم لأمر القضاء ، يتابع جميع القضايا شخصياً ويحكم فيها ،

١٨١

وحكمه هذا قطعي ، ففي المحكمة الاسلامية ، يدعىٰ طرفي النزاع الىٰ الحضور شخصياً الىٰ المحكمة ويقومان بشرح القضية ويقدم كل طرف منهم دليله ، ثم يصدر القاضي حكمه في ذلك المجلس.

لقد حضرت مرّة في احدىٰ هذهِ المحاكم في المغرب ورأيت كيف يقوم القاضي بعمله ، كان القاضي يجلس علىٰ كرسيه في بناية متصلة بدار الحكومة ، كما ان كلّ واحد من المتداعيين أيضاً يجلس في مكانه ومعه شهوده ، وكانوا يتحدثون بألفاظ مختصرة وكلام بسيط ، فإذا كان احدهم يحكم عليه بعدّة سياط ، كان الحكم ينفذ فيه في ختام الجلسة ، واكبر فوائد هذا النوع من القضاء هو عدم ضياع وقت المتداعيين ، وعدم وجود خسائر مالية للمتداعيين بسبب المراجعات الادارية التي نراها اليوم ، ومع البساطة والايجاز الذي ذكرته فأن الاحكام الصادرة كانت عادلة ومنصفة ».

ليس في الاسلام استئناف ولا تميز

الدكتور : الشروط التي ذكرتها والالتفاتات العلمية الموجودة في القضاء الاسلامي ليس لها مثيل في قوانين القضاء الوضعية في جميع العالم ، حسب معلوماتي الشخصية ، ورغم الضجيج الاعلامي الذي تقوم به اوروبا دعاية لمؤساستها القضائية ، فليست هناك مؤسسة متطورة كما هو الحال في المؤسسات القضائية الاسلامية. لكن هناك امر في قوانين القضاء الوضعية المعاصرة لا نجدها في القوانين القضائية الاسلامية ، وتلك مرحلة الاستئناف والتميز ، اي ان القوانين القضائية المعاصرة تكون علىٰ مرحلتين ، فلو اخطأ

١٨٢

القضاة في المرحلة الاولىٰ او ارتكبوا خيانة ، تذهب القضية مباشرة الىٰ محكمة الاستئناف ومن ثم الىٰ التميز وهناك تدرس وتتابع من جديد ، في حين ان الاسلام فاقد لهذهِ الميزة القضائية ( الاستئناف والتميز ).

الشيخ : ان وجود مرحلتان قضائيتان في عالم اليوم وعدم وجود ذلك في القانون القضائي الاسلامي هو دليل هام علىٰ استحكام مباني القوانين القضائية الاسلامية ، وهشاشتها في القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ، ولان الاسلام يأخذ الحدّ الاقصىٰ من الاحتياط والدقة في المرحلة الاولىٰ وضمن الشروط الواجب توفرها في القاضي. لان تلك الشروط التي ذكرناها مسبقاً تجعل من الصعب ان يخطيء القاضي او يخون وبذلك تنتفي الحاجة الىٰ مرحلة الاستئناف والتميز.

أمّا دنيا اليوم ترىٰ ان شرط القضاء الوحيد هو الشهادة الدراسية ، دون الاخذ بالجوانب الاُخرىٰ والتي تجعل من اي شخص قاضياً لمجرد انه خريج فرع القانون ، لابد وان لا تطمئن لقضاءهم وان تجعل احتمال الخطأ والخيانة مساوياً لاحتمال الصحة في الحكم !

سعادة الدكتور ! حتىٰ لو فرضنا ان جميع القضاة عدول واتقياء ، فان الاسلوب القضائي المتبع اليوم لا يبعث علىٰ الاطمئنان ، لان الاضبارة التي يجب ان يدرسها القضاة نظمت في محلّ آخر ، ومن اين للقضاة ان يطمئنوا اليها وانها لم تطلها يد التحريف والتزوير ، وهل تستطيع تلك الاضبارة أن تعكس واقع الناس المساكين والمظلومين ؟! وهل الاحكام التي تصدر من مثل هذه الاضبارات صحيحة ويمكن الاطمئنان إليها ؟

١٨٣

سعادة الدكتور ! يحاول عالمنا المعاصر حلّ مشاكله القضائية مثل احتمال الخيانة او الخطأ ( وهو احتمال قوي جداً وفي محله ) عن طريق محكمة الاستئناف والتميز ، في حين ان هذا الامر خطأ تماماً وتصور مغلوط ، لان القضاة الكبار في محكمة الاستئناف والتميز ليسوا ملائكة ، بل من اولئك المتعلمين الذين يعتبر شرط استخدامهم الوحيد هو شهادتهم الدراسية ، اي ان قضاة الاستيناف والتميز ايضا من نفس شاكلة القضاة العاديين ، فكيف لا يطمئن الىٰ حكم المحاكم العادية ويطمئن الىٰ حكم محكمة الاستئناف والتميز ؟! فهل ان قضاة المحاكم العادية غير عدول وغير متقين ، لكن قضاة محاكم الاستيناف والتميز عدول ومتقون ؟!

أليسوا جميعاً من صنف وهيئة واحدة ، والشرط الوحيد لعملهم هو الورقة التي في ايديهم ( الشهادة الدراسية ) ؟!

أمّا الاسلام وعلىٰ الرغم من عدم وجود محكمة استئناف وتميز في تشكيلاته القضائية ، يمكن الاطمئنان الىٰ قضائه سبب الشروط التي يضعها للقضاء ، وللحد الذي يعترف بصراحة الدكتور غوستاف لوبون :

« علىٰ الرغم من بساطة عملية القضاء الاسلامي والايجاز الذي فيها ، إلّا ان جميع الاحكام الصادرة عادلة ومنصفة. على العكس من القضاء في دول اوروبا وامريكا رغم تشكيلاته العريضة والطويلة والمعقدة ».

سعادة الدكتور ! لقد اراد العالم الاوروبي والامريكي من خلال محاكم الاستئناف والتميز ، الدقّة والحيطة التي اتبعها الاسلام قبل تعيين القاضي من

١٨٤

حيث شروط القضاة والشهُود ، ولقد اثبتنا ان اجراءات الاسلام لها دور مهم وبارز في القضاء لا يمكن لمحاكم الاستئناف والتميز القيام به ، ويجب ان نعترف بأن محكمة الاستئناف والتميز ايضاً تتبع نفس الاجراءات الروتينية التي تتبعها المحاكم العادية ، وليس لها تأثير سوىٰ في المبالغ الطائلة التي تصرف سنوياً من اموال هذا الشعب المسكين !

جواب سؤال

الطالب الجامعي ، حسن : أيّها العمّ العزيز كيف لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز ، مع ان الاسلام يرىٰ احتمال نقض حكم القاضي الأوّل من قبل قاض ثان ، او ان المحكوم يطلب اعادة محاكمته عند قاضٍ آخر ؟

الشيخ : الموارد التي يمكن فيها نقض حكم القاضي ، ان المحكوم يمكنه طلب اعادة المحاكمة عند قاص آخر ، لا تشبه ما عليه في محاكم الاستئناف والتميز في عالم اليوم. لانه هناك ثلاثة مراحل قضائية في مؤسسات القضاء المعاصرة ، هي : المرحلة الاولية والاستئنافية والتميزية ، فمرحلة الاستئناف فوق مستوى المرحلة الاولىٰ والتميز فوق مرحلة الاستئناف ، من شروط عقد محكمة الاستئناف هو ان لا يمضىٰ اكثر من عشرة ايام علىٰ تاريخ صدور الحكم من قبل المحكمة الاولىٰ ، كما ان محكمة التميز تنعقد بشروط خاصة ، كما لا يوجد في انعقاد محكمة التميز ، امتيازاً بين الدعاوىٰ الجزائية او الحقوقية.

١٨٥

وتنعقد محكمة الاستئناف في حال طب المحكوم ضده ، سواءً كان يحتمل الخطأ في الحكم الصادر بحقه او متيقن من خطأه ، فالقانون يقرّ انعقاد محكمة الاستئناف لمجرد طلب الشخص الذي صدر الحكم ضده ، وسواءً قطع قضاة محكمة الاستئناف بخطأ قضاة المحكمة الاوليّة اوقطعوا بعدهم خطأهم ، واحتملوا الخطأ أو الخيانة في حكمهم ، واذا ما انعقدت محكمة الاستئناف وبعد دراستهم لأضبارة طرفي النزاع ، استنبطوا حكماً مخالفاً لأستنباط المحكمة الاولىٰ ، عند ذاك يقومون بنقض حكم المحكمة الاولىٰ ويصدرون هم حكماً محله.

موارد نقض الحكم في قوانين الاسلام القضائية

في الاسلام لا يحق لقاضٍ نقص حكم قاض قبله الّا في ثلاث موارد ، هي :

1 ـ اذا لم يرَ القاضي الثاني صلاحية وجدارة في القاضي الأول لمقام القضاء.

2 ـ فيما لو كان حكم القاضي الأول مخالفاً للأدلة القاطعة والقواعد المسلّمة في القضاء الاسلامي ، مثل : مخالفة للاجماع المحقق والثابت والخبر المتواتر وامثالها.

أمّا إذا استنبط القاضي الاول حكماً علىٰ اساس القوانين القضائية الاسلامية ، لم يستنبطه القاضي الثاني منها ، بل فهم منها شيئاً آخراً ، ففي هذه الحالة لا يحق للقاضي الثاني نقض حكم القاضي الاول.

١٨٦

3 ـ عندما يثبت تقصير القاضي الاول في دراسته للقوانين والادلة القضائية ، ولم يدقق فيها بشكل جيد.

حول طلب اعادة المحاكمة في الاسلام

أمّا الموارد التي يمكن فيها للمحكوم ضده طلب اعادة المحاكمة ، هي الادعاء بقطع خطأ القاضي في حكمه ، او انه لم يكن يمتلك صلاحية علمية للقضاء ، او انه كان فاسقاً ، او ان الشهود لم يكونوا عدول وانهم فساق ومثل هذهِ الادعاءات.

كما انه لا تعاد المحاكمة لمجرد تلك الادعاءات ، بل على المحكوم في البداية اثبات دعواه ، فلو ادعىٰ المحكوم ان القاضي قد اخطأ ، عليه اولاً ان يثبت خطأ القاضي ومن ثم طلب اعادة المحاكمة.

أمّا اذا لم يثبت المحكوم خطأ القاضي او عدم صلاحيته او عنوان آخر مما ذكرناه ، فليس له طلب اعادة المحاكمة لمجرد احتماله الخطأ وحتىٰ لو طلب ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي ان يبحث ويدرس حكم القاضي الأول.

خصوصيات المسألتين في القضائين الاسلامي والوضعي

اصدقائي الاعزاء !

أتصوّر انه ومن خلال ما ذكرته اعلاه ، يتضح الفارق بين محكمة

١٨٧

الاستئناف والتميز عن الموارد التي يمكن فيها للقاضي المسلم نقض حكم قاض آخر او التي يحق للمحكوم فيها طلب اعادة محاكمته ، وثبت عدم تشابه ما يطرحه الاسلام عما موجود في الانظمة الوضعية ( محكمة الاستئناف والتميز ) ، وبشكل عام فأن الفوارق القضائية بين الاسلام والوضعية ، هي كالتالي :

1 ـ لا توجد في المؤسسة القضائية الاسلامية ثلاثة مراحل قضائية ، خلافاً للمؤسسة القضائية الوضعية المعاصرة التي لها ثلاث مراحل قضائية ، هي : المرحلة الاولية والاستئناف والتميز.

2 ـ من منظار القوانين القضائية الاسلامية ، اذا كان استنباط احد القضاة مخالفاً لأستنباط وحكم القاضي الاول ، فليس له اي حق في نقض ذلك الحكم الاولي ، في حين ان القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ترىٰ ان استنباط قضاة محكمة الاستئناف إذا كان مخالفاً للحكم الاولي ، ينقضه ويصدر مباشرة حكم آخر في القضية.

3 ـ لا يقبل من المحكوم طلب اعادة المحاكمة ما دام لم يدعي خطأ القاضي الاول بشكل قطعي او عدم صلاحيته اوفسقه او الخ ، وحتىٰ لو طلب المتهم ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي اعادة المحاكمة او النظر في حكم القاضي الاول ، اما لو اتهم المحكوم القاضي الاول بما ذكرناه مسبقاً ، فلا تنعقد محكمة جديدة مباشرة أيضاً ، لانه عليه ان يثبت ما ادعاه اولاً ، في حين ان قوانين القضاء الوضعية تقرّ بتشكيل محكمة استئناف بمجرد طلب المحكوم لذلك ، كما ان لقضاة محكمة الاستئناف النظر في حكم المحكمة الاولىٰ ونقصه ،

١٨٨

وعلىٰ هذا لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز بالمعنىٰ الوارد في القوانين الوضعية المعاصرة ، وان عدم وجود مرحلتي الاستئناف والتميز في القانون القضائي الاسلامي لهو خير دليل علىٰ استحكام مبنىٰ القضاء في الاسلام ، ونزلزله في القضاء الوضعي.

كانت تلك جوانب من خصوصيات قوانين القضاء الاسلامي مقارنة بالقضاء الوضعي المعاصر ، وهناك الكثير من نماذج تفوق القوانين الاسلامية علىٰ غيرها مما يعمل به في عصرنا الحاضر.

ملاحظة بعض قوانين الاسلام الجزائية

الدكتور : كما اشرتم ، ان قوانين الاسلام تتفوّق علىٰ قوانين العصر الوضعية في العديد من المجالات ، وهو امر لابد من الاعتراف به ، ولكن هناك بعض القوانين الجزائية في الاسلام ، ادت الىٰ الطعن في صميم الدين وتلك هي العقوبات الشديدة التي فرضت علىٰ بعض الذنوب في الاسلام ، مثل قطع يد السارق ، او السوط بالنسبة للزاني او شارب الخمر ، فالعالم الغربي يرىٰ ان هذهِ العقوبات اعمال وحشية ، يجب ان لا تنفذ علىٰ البشر.

الشيخ : ان معرفة حقيقة معينة تحتاج الىٰ معرفة سائر القضايا التي ترتبط بها بنحوٍ ما.

أمّا إذا أردنا دراسة موضوع ما دون الاخذ بالمواضيع الاخرىٰ المتصلة به ، فلن نصل الىٰ معرفة حقيقة وصحيحة فيما يتعلق به. ومن النماذج التامة لذلك هي القوانين الجزائية الاسلامية التي سألتم عنها. والاشكالات التي

١٨٩

يواجهها البعض مع القوانين والاحكام الجزائية في الاسلام ، مصدرها ذلك الخطأ ، وهو انهم ينظرون فقط الىٰ احكام الاسلام فيما يتعلق ببعض العقوبات ، دون الاخذ بنظر الاعتبار للقوانين التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتمع من الاثم والذنب ، والتي تعد القوانين الجزائية الشديدة ، آخر علاج لها.

أمّا الخطوات والأحكام التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتع وجعله فاضلاً ، فهي كالآتي :

أ ـ العوامل التربوية :

يستند الاسلام غالباً في صيانة المجتمع وابعاده عن العصيان والذنوب الىٰ العوامل التربوية التي يطرحها ، وهذهِ العوامل واسعة وشاملة بحيث لو أنّها طبقت بشكل جيد تضمن سلامة المجتمع ونظافته وتقيه من 90% من المعاصي.

والعوامل التربوية كثيرة في الاسلام ، لكن اهمها :

1 ـ الايمان بالله.

2 ـ الالتزام والمسؤولية.

3 ـ الالتفات الىٰ الآخرة والحساب والاجر والعقاب.

4 ـ دعوة الانسان الىٰ الفضيلة ومحاربة الخصال الذميمة.

5 ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٩٠

6 ـ الصلاة بمعاينها السامية ومفاهيمها التربوية الخاصة.

7 ـ الصوم.

وعشرات العوامل الاُخرىٰ التي لها أدوار أساسية في تربية الانسان بتمام معنى الكلمة.

ب ـ العلاج من الاساس :

المسألة الاخرىٰ التي التفت اليها الاسلام من اجل تطهير المجتمع من الذنوب والمعاصي ، هي معالجة الظواهر من الاساس ، ومهاجمة العوامل الاساسية التي تؤدي الىٰ الذنب والمعصية ، وهذهِ بحد ذاتها مرحلة مهمة يجب الالتفات اليها قبل دراسة القوانين الجزائية الاسلامية الشديدة.

فالاسلام عندما حرّم الزنا ـ علىٰ سبيل المثال ـ لم يتجاهل الغريزة الجنسية للانسان او يقمعها ، بل وضع لها طرق شرعية متعددة لو طبقت سدت حاجة الانسان الجنسية.

ولو كان الاسلام شديداً في تعامله مع السارق فلأنه طرح نظاماً اقتصادياً ليست فيه فوارق طبقية وتمايزات بين البشر ، وهو يدعو الىٰ توزيع الثروات الطبيعية والدخل علىٰ اساس العدل ، وعلىٰ ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، لن يكون هناك محتاجاً في المجتمع حتىٰ يقال : لماذا يقطع الاسلام يد السارق الجائع ، الذي ما سرق إلّا ليشبع بطنه ؟! لانه سيقال في جواب ذلك اولاً ، لن يكون هناك جائع على ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، بل هو سيملك حق

١٩١

الاستفادة من جميع المصادر الطبيعية في العالم بقدر حاجته وعلىٰ اساس اصالة العمل. وثانياً متىٰ قال الاسلام بقطع يد السارق في النظام الذي يبيت فيه الاشخاص جياعاً ؟!

أجل ، ان علاج الحالات المرضية من الأساس هو الأصل الثاني المهم الذي وضعه الاسلام لتطهير المجتمع من الجريمة والمعصية ، وذلك من خلال قلع جذور الاسباب الرئيسية للجريمة.

ج ـ الاحام الجزائية في الاسلام :

وفي نهاية المطاف ، وكآخر حلّ يضع الاسلام مجموعة من العقوبات لردع الانسان العاصي والوقوف دون وقوع الجريمة ، والآن إذا أراد شخص ان ينظر الىٰ احكام العقوبات فقط وتجاهل الموردين الاوليين المهمين في الاسلام ، فأن هذا الشخص مخطئ تماماً ، لانه وكما شرحنا من قبل وضع الاسلام من جهة عوامل تربوية واسعة وشاملة تقوم ببناء شخصية الانسان من خلالها ، ويسيطر بها على الصفات الرذيلة ، لكي يرتدع الانسان من خلال امتناعه عن الذنب والمعصية.

ومن جهة اخرىٰ ، قام بقطع دابر العوامل المؤدية للذنب من الجذور ، ووضع حلولاً علمية مناسبة لجميع المشاكل وفي كل المجالات ، وفيما لو طبقت تضمن جميع متطلبات الانسان وحاجياته الطبيعية والمشروعة.

وصدقوني ان نسبة عالية من الناس لو اجتازوا هاتين المرحلتين سيكونون بكل تأكيد اشخاصاً متقين واصحاب فضائل.

١٩٢

أمّا لو بقي رغم ذلك كله شخصاً مصرّاً في اختيار الطرق الشيطانية والخصال الرديئة ، فهنا وكآخر وسيلة للعلاج ، يتعامل الاسلام معه بشدّة ويقف من خلال قوانينه واحكامه سدّاً مقابل هذه الاعمال التي تريد هدم كيان المجتمع.

وهنا لكم ان تحكموا ، أليس من غير الانصاف ان يأتي شخص ويحكم في قوانين الاسلام الجزائية ويدينها دون الاخذ بنظر الاعتبار للمسائل الاُخرىٰ المرتبطة بها ، اي تلكما المرحلتان التي ذكرتهما من قبل ؟!

الثقافة

من الضروري الالتفات الىٰ ان الاسلام يرىٰ ان العوامل التربوية والمرحلة الثانية التي هي علاج الحالات المرضية من الاساس لها دور مؤثر وقوي جداً في تطهير المجتمع وردع الاشخاص عن الذنب والعصيان ، كما ان القوانين الجزائية لو طبقت بشكل جيد يمكن ان تقف امام المعاصي وتحول دون انتشار الفساد.

أمّا الايديولوجيات الوضعية ـ وللأسف الشديد ـ لا هي تستخدم العوامل التربوية المؤثرة ولا هي تقدم حلولاً اصولية من اجل تأمين حاجات الانسان ومتطلباته المختلفة ، ولا تقدم للأسف ايضاً قوانين جزائية صارمة يمكنها مكافحة الجريمة والفساد بشكل واسع ومؤثر.

١٩٣

الذين قطعت ايديهم !!!

هنا قد يقال : لو ان السارقين تقطع اياديهم ، لفقد الكثير من الناس في المجتمع اياديهم ؟! وفي جواب ذلك ، نقول :

بل العكس فلو طبقت تلك القوانين ( خاصة مع الاخذ بالمرحلتين الاوليتين المذكورتين ) لن يكون في المجتمع مقطوعي ايدي ولا سارقين ، ومثال ذلك في عصرنا دولة السعودية ، فعلىٰ الرغم من عدم وجود عوامل تربوية صحيحة في ذلك المجتمع ونظام اقتصادي اسلامي عادل ، وعلىٰ الرغم من الفوارق العميقة الموجودة وترف ولهو وثروات الامراء والحواشي والمقربين من اموال النفط وعائداتة الطائلة ، فليس هناك سرقة ( طبعاً السرقة العادية وليست السرقات الكبيرة التي يقوم بها المسؤولون والامراء من اموال الشعب ) ولا ايدٍ مقطوعة ، لانه علىٰ الاقل تطبق الحكومة السعودية قانون قطع يد السارق ، وهذا ما يمكن التأكد منه بواسطة آلاف الحجيج الذين يذهبون سنوياً الىٰ هناك للحج ، فكم من يدٍ وجدوها مقطوعة ؟! وكم رؤوا من السرقات ؟! وحتىٰ لو شاهدوا السرقات فيه أقل بكثير مما يحدث في أي دولة اُخرىٰ.

فهذا نموذج عملي واحد عن دور القوانين الجزائية الاسلامية فيما يتعلق بالسرقة في عالمنا المعاصر ، علىٰ الرغم من ان السعودية دولة لا تطبق النظام الاقتصادية الاسلامي وليس هناك توزيع عادل للثروة ، كما انها من البلدان المتخلفة ثقافياً وحضارياً.

١٩٤

قاطعية الاسلام في مكافحة الفساد

لا يُنكر ان الاسلام واجه المذنبين والعصاة المفسدين بعقوبات شديدة ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان ذلك كله من أجل مصلحة المجتمع وبسبب خطورة المعصية اجتماعياً ، ولا يهدف الاسلام في قوانينه الجزائية إلّا المكافحة الحقيقية للمعصية.

والاسلام ليس كالعالم المعاصر وقوانينه ، الذي يسوّي المسألة مع العاصي أو المذنب ، وبهذا الشكل يتلاعب بسعادة المجتمع ومصلحته.

فالاسلام يرجح أن يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً من أجل ان يقطع دابر شرب الخمر من المجتمع ويخلصه من امراضه.

والاسلام يرجح ان يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً ولكن في المقابل يكون له ولجميع يجله رادعاً عن فعل ذلك للأبد.

والغريب ان عالمنا المعاصر وعلىٰ الرغم من اعترافاته بأضرار شرب الخمر ، فهو يقول ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وخطرة وانها تؤثر سلباً علىٰ المخ والدم والقلب والاعصاب والجلد والجهاز الهضمي و الخ ، لكنه لا يتعامل بجدية مع القضية ويتساهل مع شارب الخمر بشكل يعتبر عمله ترغيباً واشاعة للمعصية !

ولو كان العالم المعاصر يريد قلع جذور السرقة والاعتداء علىٰ اموال وممتلكات الناس ، فلماذا يتساهل مع السارق ويبدي معه تسامحاً ؟! ولو كان

١٩٥

العالم المعاصر يعتبر الاعتداء علىٰ اعراض الناس خيانة وجريمة فلماذا كل هذا التساهل مع من يفعلها ؟!

هنا لا بدّ أن نعترف وللأسف الشديد ، ان القوانين الوضعية الحالية لن تستطيع ان تلعب دوراً مهماً في قلع الفساد والمعاصي من الجذور في المجتمع فقط ، بل اجازت تلك الاعمال وأدت إلىٰ انتشارها من خلال التسامح والتساهل الذي تبديه مع مرتكبيها ، والنهج الذي تتبعه تلك القوانين الجزائية الوضعية في مكافحة الفساد والاثم ، يشبه عمل الدكتور الذي يكتفي ببعض الجرعات المسكنة مقابل مرض خطر ومسري ، علىٰ الرغم من امتلاكه جميع الوسائل والامكانيات لمكافحة المرض. وفي مثل هذه الحالة الا يقال ان هدف الدكتور هو ليس علاج الحالة المرضية بل الهاء المريض المسكين وتخديره !

أمّا الاسلام

لكن الاسلام ( وخلافاً لعالمنا المعاصر ) يسعىٰ بجدية لمكافحة جذرية للفساد والمعصية في المجتمع ، وهدف الاسلام من ذلك هو قلع الفساد والمعصية من الجذور ، علىٰ قدر المستطاع ، ولهذا نراه شديداً في وضعه للقوانين الجزائية وقوانين العقوبات وفي تنفيذها.

ولان الاسلام يريد مكافحة السرقة بشكل حقيقي ويضمن امن المجتمع من هذه الناحية ، لذلك يأمر بقطع يد السارق(1) .

________________

(1) طبعاً من الأخذ بالشروط التي وضعها الاسلام.

١٩٦

والاسلام يريد مكافحة الاعتداء علىٰ اعراض ونواميس الآخرين بشكل حقيقي ، لذلك أمر بجلد الزاني مئة سوط أمام أعين الناس ، لكي لا يعود الىٰ ذلك ويكون عبرة للآخرين وسدّاً امام اتساع دائرة المعصية في المجتمع.

والاسلام يرىٰ ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وانها تهدد أساس المجتمع وسلامته ، لذلك يأمر بضرب ذلك الشخص الذي يخاطر بسعادة نفسه وسلامتها وسعادة وسلامة جيلة ، ويشرب من هذا الشراب المهلك ، ثمانين سوطاً ، لكي يقف امام تكرار مثل هذا العمل في المجتمع.

ألا يمكن تطبيق هذه القوانين في عصرنا.

هنا يمكن القول ، علىٰ الرغم من تأثير القوانين الجزائية والعقوبات الشديدة التي وضعها الاسلام لمكافحة المعاصي والفساد من الجذور الا ان هذه القوانين غير قابلة للتطبيق في عصرنا الحاضر ، لانه يعتبرها اساليب وحشية !

فنقول : ليس لنا إلّا أن نتعجب لهذا القول ونأسف له.

أليس عجيباً ان الدنيا تصمت وتصم آذانها وهي تشاهد مئات عمليات القتل والاعتداء وقطع الاعضاء وعشرات الجرائم الاُخرىٰ ، والتي تقع بسبب السرقة او التطاول علىٰ أموال الآخرين ، ولكنها تعتبر قطع أربعة أصابع من يد خائن او معتدي وذلك أيضاً من أجل محو ظاهرة السرقة ، والوقوف أمام مئات الجرائم التي تأتي من هذه الاعتداءات والتجاوزات غير قابلة للتطبيق والاجراء ؟!

وكيف يستصعب عالم اليوم ثمانين سوطاً علىٰ جسد شارب الخمر

١٩٧

في حين انه لا يستصعب القتل والجرائم وسلب راحة المجتمع الذي ينتج عن تأثير الخمر في سلوكيات الاشخاص والمجتمع ، ويرىٰ ذلك صعب النتفيذ !

دنيا التناقضات

اليست دنيا الي نعيش فيها ، دنيا تناقضات وعصرنا عصر غريب ! فدنيانا من جهة رؤوفة وعطوفة للحد الذي لا ترضىٰ بقطع اربعة اصابع لمجرم ( من اجل الامن العام ومحو السرقة من المجتمع ) ، ومن جهة اخرىٰ ، هذه الدنيا الرؤوفة ، تستثمر وعلىٰ مدىٰ سنوات عديدة ملايين البشر الضعفاء وعشرات الشعوب الصغيرة والمحرومة ، وتعطي للاقوياء الحق في نهب ثروات المستضعفين. في حين ان اولئك المساكين يعيشون حفاة وجياعاً ويعانون من اسوء الظروف !

وكيف تبرر هذه الدنيا العطوفة التي لا ترضىٰ ان يضرب شارب الخمر أو الزاني ثمانين أو مائة سوط ، قتل مليون جزائري مسلم ليس لهم ذنب سوىٰ انهم يريدون الاستقلال والخلاص من الهيمنة الاستعمارية ؟!

وكيف قبلت هذه الدنيا بالقنبلتين الذريتين اللآتي دمرتا هيروشيما وناكازاكي في اليابان فقتل اكثر من سبعين الف شخص وتحولت الابنية والمصانع والمرافق العامة الىٰ انقاض خلال لحظات ؟ اليس من حق الانسان صاحب الضمير الحي ان يعجب امام تصرفات هذه الدنيا المتناقضة ؟!!

١٩٨

سرد موجز للجريمة في الدول المتقدمة

عالمنا الذي يرىٰ خطأ ان قوانين الاسلام الجزائية وحشية ، اراد ان يقف امام اعتدالات الانسان عن طريق وضع قوانين اقل صرامة وبعبارة اخرىٰ لينة ، وبذلك يقتلع جذور السرقة او اية جريمة اخرىٰ ، لكنه وللأسف لم يوفق في ذلك فقط ، بل اضطر الىٰ تشديد عقوباته وقوانينه الجزائية ويزيد من عدد سجونه يوماً بعد يوم.

وعلىٰ الرغم من ذلك كله ، ولسوء الحظ ، يزداد عدد السارقين والمجرمين في كل يوم للحد الذي اصبحت احصائيات الجريمة تقلق وتخيف مسؤولي اكبر الدول المتحضرة.

وهذه بعض تلك الاحصائيات المنشورة ، والتي سببها ترك قوانين الاسلام الجزائية وعدم العمل بها :

أ ـ تقرير وزير العدل :

في تقرير قدمه وزير العدل الايراني بتاريخ 2 / 1 / 1960 الىٰ البرلمان ( المجلس الوطني ) يقول :

« نحن نواجه هذه الحقيقة المرّة ، وهي التزايد المستمر لدعاوى الناس الحقوقية والجزائية ، ولابد من التفكير بحلّ لذلك ، وعلىٰ سبيل المثال : طبقاً للاحصائيات الموجودة عندي ، فان مجموع الاضبارات التي دخلت الىٰ جهاز

١٩٩

القضاء في الأشهر الستّة الاُولىٰ من سنة 1959 ، هو 362665 في حين ان المجموع للاشهر الستة الاولىٰ من هذا العام بلغ 444391 ، اي ان ما يقرب ثمانين الف اضبارة زادت عما كان عليه في العام الماضي ، وبالتأكيد فان العملية تصاعدية في السنوات السابقة أيضاً.

ونقلت الصحف آنذاك نصّ التقرير ، وهو نماذج صغير للجرائم الموجودة لبلد في طريقه الىٰ الرقيّ ، يرىٰ ان القوانين الجزائية الاسلامية وحشية ، ويريد ان يقف امام الجريمة بالقوانين التي تضعها عقول رجاله ورجال اوروبا المخمورين !!

ولا بدّ من كلمة لوزير العدل الذي يعجب للنتائج التي تعطيها قوانينهم الوضعية : ما ستراه في المستقبل اعظم بكثير ، فأنّك لا زلت في أول الطريق.

ب ـ سجن واشنطن :

طبقاً لاحد التقارير الذي نشرته صحيفة معروفة ، كانت في واشنطن سابقاً 3600 سجينة فقط ، اما هذه السنين فقد وصل عدد السجينات الىٰ ثمانية آلاف.

وفي مدينة فلادلفيا(1) يطلق سراح النساء اللواتي يصدر الحكم بسجنهن ، لان سجون النساء مكتضة ، وليس هناك مكان للسجينات الجُدد.

________________

(1) هذه الاحصائيات تعود لثمان سنوات قبل ، أمّا الآن فالله العالم.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466