رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233459 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الآيتان

( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) )

التّفسير

اليهود وعبادتهم للعجل :

في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة ، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسىعليه‌السلام إلى ميقات ربّه ، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعينا بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.

إنّ هذه القصّة مهمّة جدّا بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور ، في سورة البقرة الآية (51) و (54) و (92) و (93) ، وفي سورة النساء الآية (153) ، والأعراف الآيات المبحوثة هنا ، وفي سورة طه الآية (88) فما بعد.

٢٢١

على أنّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الاجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيّة ، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عند ما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأخرى مشهدا من الوثنية ، حيث وجدوا قوما يعبدون البقر ، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسىعليه‌السلام صنما كتلك الأصنام ، ولكن موسىعليه‌السلام وبّخهم وردّهم ، ولا مهم بشدّة.

وثالث ، تمديد مدّة ميقات موسىعليه‌السلام من ثلاثين إلى أربعين ، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسىعليه‌السلام بواسطة بعض المنافقين ، كما جاء في بعض التفاسير.

والأمر الرابع ، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خطته المشئومة ، كل هذه الأمور ساعدت على أن تقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية ، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.

وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا : إنّ قوم موسىعليه‌السلام بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا ، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه ، ولكنّه كان له صوت كصوت البقر ، واختاروه معبودا لهم :( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) .

ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحليّ) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلّا أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيرا منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده ، وبذلك كانوا شركاء في جريمته ، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.

وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل ، إلّا أنّه بالتوجه إلى الآية (159) من هذه السورة ، التي تقول :( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة

٢٢٢

هنا ليس كلّهم ، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل ، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.

كيف كان للعجل الذهبي خوار؟

و «الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل ، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي ، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.

ويقول آخرون : كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمع منه صوت على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعا بهيئة هندسية خاصّة.

أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئا من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائنا حيا ، وأخذ يخور خوارا طبيعيا فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم ، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.

وكلمة «جسدا» شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيوانا حيا ، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(1) .

وبغض النظر عن جميع هذه الأمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجل المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يشبه معجزة النّبي موسىعليه‌السلام ، ويحيي جسما ميتا ، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتما ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.

__________________

(1) راجع الآيات (8) من سورة الأنبياء ، و (34) من سورة ص.

٢٢٣

أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم ، وكان من الممكن أن يكون وسيلة لاختبار الأشخاص لا شيء آخر.

والنقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها ، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسىعليه‌السلام قد عانوا سنين عديدة من الحرمان ، مضافا إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراما خاصّا ، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه اهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.

أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإقامة أحد أعيادهن ، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون ، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(1) .

ثمّ يقول القرآن الكريم معاقبا وموبّخا : ألم ير بنو إسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء ، فكيف يعبدونه؟( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) .

يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرف ـ على الأقل ـ الحسن والقبيح ، وتكون له القدرة على هداية أتباعه ، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل ، ويعرّفهم على طريقة العبادة.

وأساسا كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئا ميتا صنعه وسوّاه بيده ، حتى لو استطاع ـ افتراضا ـ أن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده ، لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل.

إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم ، لهذا يقول في ختام الآية :

__________________

(1) راجع تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية المبحوثة هنا.

٢٢٤

( اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ ) .

بيد أنّه برجوع موسىعليه‌السلام إليهم ، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم ، وندموا على فعلهم ، وطلبوا من الله أن يغفر لهم ، وقالوا : إذا لم يرحمنا الله ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

وجملة( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي عند ما عثروا على الحقيقة ، أو عند ما وقعت نتيجة عملهم المشؤومة بأيديهم ، أو عند ما سقطت كل الحيل من أيديهم ولم يبق بأيديهم شيء في الأدب العربي كناية عن الندامة ، لأنّه عند ما يقف الإنسان على الحقائق ، ويطلع عليها ، أو يصل إلى نتائج غير مرغوب فيها ، أو تغلق في وجهه أبواب الحيلة ، فإنّه يندم بطبيعة الحال ، ولهذا يكون الندم من لوازم مفهوم هذه الجملة.

وعلى كل حال ، فقد ندم بنو إسرائيل من عملهم ، ولكن الأمر لم ينته إلى هذا الحدّ ، كما نقرأ في الآيات اللاحقة.

* * *

٢٢٥

الآيتان

( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) )

التّفسير

ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل :

في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسىعليه‌السلام وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.

يقول في البدء : ولما عاد موسىعليه‌السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل ، قال لهم : ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ

٢٢٦

غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ) (1) .

إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفا ، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسىعليه‌السلام بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) (2) .

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال لهم :( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) .

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة ، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة ، إلّا أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين ، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي ، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.

وفي هذا الوقت بالذات ، أي عند ما واجه موسىعليه‌السلام هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل ، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه ، ويثقل روحه حزن عميق ، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل ، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل ، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّا. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نغمة مخالفة شاذة ، وافقت هوى ورغبة ، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمرا ممكنا وسهلا.

فهنا لا بدّ أن يظهر موسىعليه‌السلام غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط ، كي يوقظ الأفكار المخدّرة لدى بني إسرائيل ، ويوجد انقلابا في

__________________

(1) «الأسف» كما يقول الراغب في «المفردات» بمعنى الحزن المقرون بالغضب ، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضا. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة ، ومن الطبيعي أن هذا الانزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقرونا بالغضب ، وبردة فعل غاضبة ، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد ، وقد نقل عن ابن عباس أيضا أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظا.

(2) سورة طه ، 85.

٢٢٧

ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق ، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.

إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة ، إذ يقول : إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده ، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطا غاضبا.

وكما يستفاد من آيات قرآنية أخرى ، وبخاصّة في سورة طه ، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة ، وصاح به ، لماذا قصّرت في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري(1) .

وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسىعليه‌السلام النفسية ، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم ، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية ، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.

وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحا ـ فرضا ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحا ، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية ، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الانزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب ، بل كان يعد عملا واجبا وضروريا.

ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبدا إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين ، للتوفيق بين عمل موسىعليه‌السلام هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء ، لأنّه يمكن أن يقال هنا : إنّ موسىعليه‌السلام انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجا شديدا لم يسبق له مثيل ، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ

__________________

(1) سورة طه : 92 ـ 93.

٢٢٨

المشاهد ألا وهو الانحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل ، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.

وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماما.

إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا ، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل ، فقد قلب المشهد رأسا على عقب في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة ، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.

ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفا إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني ، فإذن أنا بريء ، فلا تفعل بي ما سيكون موجبا لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

إن التعبير ب : «ابن أمّ» في الآية الحاضرة أو «يا ابن أمّ» (كما في الآية 94 من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة ، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسىعليه‌السلام في هذه الحالة الساخنة.

وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها ، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم ، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.

لقد هدأ غضب موسىعليه‌السلام بعض الشيء ، وتوجه إلى الله( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

إنّ طلب موسىعليه‌السلام العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه ، لم يكن لذنب اقترفاه ، بل كان نوعا من الخضوع لله ، والعودة إليه ، وإظهار النفرة من أعمال

٢٢٩

الوثنيين القبيحة ، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا انحرافا ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا ، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم ، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان.

مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة :

يستفاد من الآيات الحاضرة ، وآيات سورة طه أن بني إسرائيل هم الذين صنعوا العجل لا هارون ، وأنّ شخصا خاصا في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل هذا العمل ، ولكن هارون ـ أخا موسى ووزيره ومساعده ـ لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل ، حتى أنّهم كادوا أن يقتلوه لمعارضته لهم.

ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى هارون خليفة موسىعليه‌السلام ووزيره وأخيه ، إذ نقرأ في الفصل 32 من سفر الخروج من التوراة ، ما يلي :

«لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل ، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا ، فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

فلمّا نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى هارون وقال : غدا عيد للربّ (ثمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل».

٢٣٠

ثمّ تشرح التوراة قصّة رجوع موسىعليه‌السلام غاضبا إلى بني إسرائيل وإلقاء التوراة ، ثمّ تقول :

«وقال موسى لهارون : ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطيّة عظيمة؟!

فقال هارون : لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ».

إنّ ما ذكر هو قسم من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص ، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته ، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).

كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإصحاح الثامن من سفر الخروج أيضا).

وعلى كل حال ، تعترف التوراة لهارون ـ الذي كان خليفة لموسىعليه‌السلام وعارفا بتعاليم شريعته ـ بمنزلة سامية ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل ، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل ، وحتى أنّه اعتذر لموسىعليه‌السلام عليه بما هو أقبح من الذنب حيث قال : إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساسا وقد شجعتهم عليه.

في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّث بأدران الشرك والوثنية.

على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآن الكريم ساحة الأنبياء والرسل ، وتنسب التوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل الفعليين ، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.

* * *

٢٣١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) )

التّفسير

لقد فعلت ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عبدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم ، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضا (الآية 149) ومن أجل أن لا يتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة ، يضيف القرآن الكريم قائلا :( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

وهكذا لأجل أن لا يتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) .

٢٣٢

إن التعبير بـ «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية ، ولكن انتخاب عبدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية ، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فورا ، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.

أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية ، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة ، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الأرض المقدسة.

أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضا العجيبة التي كلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.

وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة ، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟

والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة ، ولكنّها ليست كل شيء.

إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة ، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات ، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة ، وكفاية يقول مرتكبها : «أستغفر الله» وينتهي كلّ شيء.

بل لا بدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة ، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.

٢٣٣

وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام :( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.

جواب على سؤالين :

1 ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسىعليه‌السلام بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟

ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل ، وارتضى بعض آخر الاحتمال الثّاني.

والذين ارتضوا الاحتمال الأوّل استدلوا بجملة( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذين ارتضوا الاحتمال الثّاني استدلوا بجملة( سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ ) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.

ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسىعليه‌السلام في تعقيب قصّة العجل ، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع ، وليس هناك ما يمنع أن يكون «إنّ ربّك» خطاب موجه إلى موسىعليه‌السلام (1) .

2 ـ لماذا جاء الإيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإيمان تتزلزل عند

__________________

(1) فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا : «قال الله لموسى أن الذين ...».

٢٣٤

ارتكاب المعصية ، ويصيبها نوع من الوهن ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية :

«لا يشرب الخمر وهو مؤمن ، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإيمان يتضاءل ضوؤه ، ويفقد أثره.

ولكن عند ما تتحقق التوبة يعود الإيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل ، وكأنّ الإيمان تجدّد مرّة أخرى.

ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا ، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا ، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة ، وإن بقيت أعباء الذنوب الأخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.

الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول : ولما سكن غضب موسىعليه‌السلام ، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها ، أخذ الألواح من الأرض ، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية ، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية ، والذين يخافون الله ، ويخضعون لأوامره وتعاليمه( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) .

* * *

٢٣٥

الآيتان

( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) )

التّفسير

مندوبو بني إسرائيل في الميقات :

في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات «الطور» في صحبة جماعة ، ويقص قسما آخر من تلك الحادثة.

٢٣٦

هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسىعليه‌السلام ميقات واحد مع ربّه ، أو أكثر من ميقات واحد؟ وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإثبات مقصوده من القرآن الكريم ، ولكنّه كما قلنا سابقا ـ في ذيل الآية (142) من هذه السورة ـ أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسىعليه‌السلام كان له ميقات واحد ، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.

وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمهعليه‌السلام ، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة. في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغشي على موسىعليه‌السلام وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشيا عليهم ، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.

إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث ـ في بادئ النظر ـ إشكالا ، وهو : كيف أشار الله تعالى أولا إلى ميقات موسىعليه‌السلام ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل ، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى مسألة الميقات؟

هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟

ولكن مع الالتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها ، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني ، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتا ، ويعمد إلى بحث ضروري آخر ، ثمّ يعود مرّة أخرى لنفس الحادثة الأولى.

بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل ، ونقول : إنّ موسىعليه‌السلام ذهب مرّة أخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للاعتذار إلى الله والتوبة ، كما قال بعض المفسّرين ، لأنّ هذا الاحتمال بغض النظر عن جهات أخرى يبدو بعيدا في

٢٣٧

النظر من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للاعتذار والتوبة ، فهل من الممكن أن يهلك الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للاعتذار إلى الله بالنيابة عن قومهم؟!

وعلى كل حال ، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا :( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) .

ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه ـ لبني إسرائيل ـ جهرة ، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة ، ووقع موسىعليه‌السلام على الأرض مغشيا عليه ، وعند ما أفاق قال : ربّاه لو شئت لأهلكتنا جميعا ، يعني بماذا أجيب قومي لو هلك هؤلاء( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ) .

ثمّ قال : ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء ، فلا تؤاخذنا بفعلهم :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) ؟

ولقد اعتبر بعض المفسّرين ـ وجود كلمة «الرجفة» في هذه الآية ، وكلمة «الصاعقة» في الآية (55) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرة ـ دليلا على التفاوت بين الميقاتين. ولكن ـ كما قلنا سابقا ـ إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة ، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة ، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة ، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية 17) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية 78).

وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.

٢٣٨

والجواب على هذا الكلام واضح أيضا ، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضا ، وإطلاق «الفعل» على «الكلام» ليس أمرا جديدا وغير متعارف ، مثلا عند ما نقول : إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا ، فإنّ من المسلّم أنّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضا.

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله : ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك ، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحقا لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقا لذلك)( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) واختبارك.

وهنا أيضا تكلّم المفسّرون في معنى «الفتنة» كثيرا وذهبوا مذاهب شتى ، ولكن بالنظر إلى أن لفظة «الفتنة» جاءت في القرآن الكريم بمعنى الاختبار والامتحان مرارا كما في الآية (28) من سورة الأنفال :( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) وكذا في الآية (2) من سورة العنكبوت ، والآية (126) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضا. لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختبارا شديدا ، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.

وفي ختام الآية يقول موسىعليه‌السلام : رباه :( أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ) .

من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسىعليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، وقصّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه ، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسىعليه‌السلام من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة ، يقول موسى :( وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ) .

٢٣٩

و «الحسنة» تعني كل خير وجمال ، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم ، وكذا التوفيق للعمل الصالح ، والمغفرة ، والجنّة ، وكل نوع من أنواع السعادة ، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب ، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا :( إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا ، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.

و «هدنا» مشتقة من مادة «هود» بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء ، وكما قال بعض اللغويين : تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضا ، وكذا من الشر إلى الخير(1) ، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.

يقول الراغب في «المفردات» نقلا عن بعض : «يهود في الأصل من قولهم : هدنا إليك ، وكان اسم مدح ، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازما لهم ، وإن لم يكن فيه معنى المدح».

ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير ، أو من الخير إلى الشر ، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال ، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.

وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم بـ «اليهود» لا يرتبط مطلقا بهذه اللفظة ، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة «يهوذا» الذي هو اسم لأحد أبناء يعقوبعليه‌السلام ثمّ تبدلت الذال إلى الدال ، وصارت يهودا ، فيطلق على المنسوب إليه يهودي(2) .

ولقد أجاب الله ـ في النهاية ـ دعاء موسىعليه‌السلام وقبل توبته ، ولكن لا بصورة

__________________

(1) تفسير المنار ، المجلد التاسع ، الصفحة 221 ، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.

(2) تفسير أبو الفتوح ، المجلد الخامس ، الصفحة 300 ، في تفسير الآية الحاضرة.

٢٤٠

مشاهد غريبة ورهيبة بين المسلمين ، فقد شوهدت جثث بعض المسلمين بلا رؤوس وهو اقل ما جرىٰ علىٰ المسلمين ، وكانت وجوه بعض المسلمين ، تثقبت مثل الغربال من الجراح والنبال التي اصابتهم ، فكانوا يلقون بأنفسهم من أعلىٰ الحصار والحصن الىٰ اسفله ، فيبقىٰ بعضهم علىٰ جراحه حتىٰ يلقون به في النار فيما ميادين مدينة القدس مليئة ، بأكوام من الرؤوس والايدي والارجل المقطعة ، حيث يعبر المسيحيين من فوقها ، وجميع ذلك جانب صغير من مجازر المسيحيين في القدس ».

ويضيف أحد القساوسة المسيح فيقول :

« قتل عشرة آلاف شخص من المسلمين كانوا قد التجأوا في احد المساجد ، وفي احد المعابد القديمة ، كان الدم بحدّ ، بحيث كانت جثث القتلىٰ المقطعة والموزعة الىٰ ايدي وارجل ورؤوس تسبح في بركة كبيرة ، لا يمكن تشخيص جثة سالمة واحدة منها ، حتىٰ ان الجنود الاوروبيين الجناة الذين قاموا بتلك المجزرة كانوا يهربون من بخار الدم الذي ملأ فضاء المعبد.

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« بعد جميع تلك المجازر التي ارتكبها الصليبيين ، كانوا يقومون بأعمال لمجرد التسلية ، شنيعة وقبيحة بحدّ ، جعل المؤرخين النصارىٰ ورغم دفاعهم عن الصليبيين ، يغضبون وينفرون من تلك الاعمال المخجلة ، فيصفون اتباع دينهم بأوصاف شديدة جداً ، علىٰ سبيل المثال ، يصفهم

٢٤١

برنارد(١) بأنهم مجانين ، ويشبههم بافدين(٢) بالحيوانات التي تسبح في بولها وغائطها » وفي وصفه لمجازر المسيحيين ضد المسلمين في الاندلس ( اسبانيا ).

يقول الدكتور لوبون :

« كانت نهاية مما قام به القادة المسيحيين الاوروبيين الذي لم يكن لهم هدف سوىٰ جمع المال والثروة ، بتدمير تلك البلاد ( الاندلس ) بسرعة عجيبة ، بعد ان كانت عامرة في ظل حكم العرب والمسلمين العقلاء.

وقد بلغت قسوة المسيحيين في الاندلس حدّاً انهم كانوا يحرقون المسلمين ، بل وصل الامر الىٰ حدّ اصدر فيه اسقف طليطلة(٣) الكبير والذي كان رئيساً للمحكمة المقدسة(٤) أيضاً ، حكماً بقتل جميع العرب رجالاً ونساءً واطفالاً ».

أيُّها السادة المحترمون !

كانت تلك نماذج من معاملة المسيحيين الاوروبيين للمسلمين عندما سيطروا علىٰ بلاد المسلمين !

________________

(١) Birnard

(٢) Bavdin

(٣) من أهم محافظات الاندلس ( اسبانيا ).

(٤) محاكم اقامها القساوسة للتحقيق في عقائد الاشخاص ، وكل من يثبت انه مسلم تصدر بحقه اشد العقوبات.

٢٤٢

لقد عاملهم المسلمون برجولة وشهامة عندما فتحوا بلدانهم ، وهو من مفاخر التاريخ العسكري والحربي الانساني ولم يشاهد مثله في اي نقطة من العالم ، لكنه عندما دارت الايام وانتصر الاوروبيون علىٰ المسلمين ، بدأوا بمجازرهم الوحشية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية حسب تعابير مؤرّخيهم.

٢٤٣

اواني الذهب والفضة

الدكتور : سيادة العقيد ، تسمح لنا الآن ، بان نشبع بطوننا الفارغة ، ببعض الاكل ؟

العقيد : مستعد ، ولكن ما الذي سنأكل ؟

الدكتور : جميع الاصدقاء مدعون للغداء معي ، لأن مضيفي البارحة اعدّ لغدائي اليوم قدراً كبيراً من الرز ، ووضع فوق الرز دجاجة كبيرة مشويّة ، وهو كاف لجميعنا.

الطالب الجامعي حسن : دكتور ، اخاف ان يكون الرز والدجاج مثل الحلويات والفاكهة التي اعدها مضيفك لك من قبل ، فضحك الجميع لذلك.

الدكتور ، وبعد ضحكة طويلة ، قال : هذه المرّة اطمئن اصدقائي الىٰ انني سأقدم لهم وجبة اكل جيدة ، ثم نهض الدكتور وفتح حقيبته فأخرج صموناً وملاعقاً ورفع غطاء القدر وبدأ بتقسيم الأكل ، ومن المصادفة كانت بعض اواني الدكتور من الفضة ، فأنتبه الشيخ الىٰ ذلك ، وخاطب الدكتور معترضاً :

سعادة الدكتور ، ارجوا ان لا تستخدم الاواني الفضية ، لأن استعمال الذهب والفضة غير جائز في الاسلام ، كبيعها وشراءها.

الدكتور : ايها الشيخ ، هل لك ان تحدثنا بشكل موجز عن فلسفة ذلك

٢٤٤

التحريم.

الشيخ : اتصوّر ان قليل من التأمّل يوضح فلسفة حرمتها ، لأن الذهب والفضة ثمن وليستا مثمنتان ، اي انها ليست كالاثاث والملابس وسائر ادواة الحياة ، فالذهب والفضة هما محور العجلة الاقتصادية في جميع العالم وعلىٰ امتداد التاريخ ، لذلك لا يسمح الاسلام بأحتكار مثل هذان الشيئان القيمان اللذان تحدد قيمة العديد من الاشياء الاخرىٰ على اساسها ، او ان يوضعا علىٰ رفوف ، فهذه الثروة تعتبر الاسلام في اقتصاد العالم وليس من الصحيح تعطيلها وخزنها في بيت غني مغرور ، في حين انه لو استخدمت بشكل صحيح في المجالات الاقتصادية ، نتاج مجالات عمل لملايين الاشخاص ، وتنجوا الآف العوائل من الفقر والضياع.

سعادة الدكتور ! وكانت في هذا البلد حكومة اسلامية قوية وحقيقية ، وقامت بأخراج تلك الاواني الذهبية والفضية من رفوف الاغنياء علىٰ الرغم منهم ، ووظفتها في السوق الاقتصادية العالمية ، ألا سيكون بأمكانها انشاء عشرات المصانع والمعامل داخل البلاد ، وتسدّ حاجة البلاد الىٰ الكثير من الواردات التي تنهال علينا من الغرب ، وفي نفس الوقت نتاج فرص العمل لآلاف الاشخاص العاطلين وبالنتيجة ستحصل مئات العوائل علىٰ مستوىٰ جيد من الرفاه ؟

أليس من المخجل في بلاد يعيش اكثر من نصفها الفقر والحرمان واغلب قراها لا تحصل علىٰ قدح واحد من ماء الشرب الصحي ، في حين ثروتها من الذهب والفضة مكدسة علىٰ شكل كؤوس واواني في بيوت الاغنياء ، يضعونها للفخر والتباهي وتكون وسيلة للعمالة والتبعية ، فلماذا لا يحرم الذهب

٢٤٥

والفضة ؟ ولماذا يحلل بيعهما وشراءهما فالذهب والفضة اكثر قيمة من الاوراق النقدية ، لأن قيمة الورقة النقدية تحدد علىٰ ضوءهما ، لانهما يوفران الدعم لها. فلو قام أحد الاغنياء بتكديس اوراقه النقدية علىٰ رفوف بيته ليفتخر بها امام ضيوفه وتكون وسيلة لعمالته ، ألا يقال ان هذا الرجل اصيب بجنون مالي ؟! اي انه حيوان مغرور ابعدته الثروة عن كل فضيلة انسانية ، فهل نتوقع من نظام لا يقبل بالتمايز اساساً ان يبقىٰ متفرجاً دون عمل مقابل تلك الاعمال الدنيئة ؟!

الاصدقاء جميعهم : كلامك صحيح ومنطقي تماماً ، ولو اجري هذا القانون الاسلامي ، لكان خطوة اقتصادية كبيرة ولوجدت آلاف الاسر المحرومة ، الحدّ الادنىٰ من متطلبات حياتها ولتخلصت من الفقر والاضطراب ، وعلىٰ اثر ذلك ، اعاد الدكتور الاواني الفضية الىٰ حقيبته ، وجلسوا يأكلون علىٰ مائدة اسلامية وبسيطة كالاخوة ، وبعد قليل من الراحة ، تابعوا حديثهم.

غاليلو يُكفّر

يعتبر غاليلو(١) من كبار علماء ايطاليا ، الذين قالوا بحركة الارض متبعاً بذلك نظرية كربونيك(٢) ، لكنه وبعد ان أظهر رأيه ذلك ، صار هدفاً للّعن وشتائهم مختلف الفئات الاوروبية ، خاصة مسؤولي الكنيسة ، فأضطر ومن اجل

________________

(١) Galilee

(٢) Copirnec

٢٤٦

الحفاظ علىٰ حياته ، ان يتوب مما قال في مجلس رسمي حضره البابا شخصياً ، ويعترف ان كلامه كان خلافاً للحقيقة !!

نص توبة غاليلو

وكان نص توبة غاليلو ، كالتالي :

« أنا غاليلو وفي السبعين من عمري ، اركع امام حضراتكم مخاطباً البابا والقساوسة ـ وفي حين امثل امام الكتاب المقدس ـ الانجيل ـ وألمسه بيدي ، اتوب وانكر واستنفر دعوتي الباطلة في حركة الارض »(١) .

ساعة المسلمين

في العصر الذي لم يكن في جميع انحاء العالم وجود يذكر للعلم والحضارة ، ظهر اول نتاج صناعي كبير علىٰ يد المسلمين في خلافة هارون الرشيد ، وكان ذلك صناعة الساعة. وقد اهدىٰ هارون الرشيد واحدة منها الىٰ شارلمان(٢) ملك فرنسا ، وكما يقول احد كبار المؤرخين الاوروبيين ، عندما وصلت الساعة الىٰ شارلمان لم يكن في فرنسا كلها من يعرف كيف تعمل تلك الساعة.

ويضيف ذلك المؤرخ : عندما نصبوا تلك الساعة التي كان لها جرس

________________

(١) تاريخ العلوم.

(٢) Charlrimagne

٢٤٧

أيضاً أعلىٰ القصر الملكي وارتفع صوت جرسها لأول مرة ، رأىٰ افراد البلاد فجأة أن اهالي باريس متّجهون نحو القصر وهم يحملون العصي والفؤوس ، فأرسل الملك مجموعة لمعرفة سبب هجومهم ، فقال لهم الباريسيون : لا نريد ان نتعرض للملك ، بل نريد تحيطم تلك الساعة ، فمنذ زمن طويل والقساوسة يحدثنوننا عن شيطان يغوينا ويدفعنا الىٰ عمل السوء ، والآن علمنا ان ذلك الشيطان موجود في تلك الساعة ، لأنه اذا لم يكن فيها شيطان ، لما خرج منها ذلك الصوت الموحش ( صوت الجرس ) ، لأن الساعة جماد ولا تستطيع بنفسها ان تخرج صوتاً ، لذلك جئنا بعصينا وفؤوسنا لنقتل ذلك الشيطان ونخلص البشرية من وجوده وشروره !!!

ويقول الدكتور غوستاف لوبون في هذا الصدد :

« كان هارون الرشيد قد ارسل هدايا كثيرة لشارلمان ملك فرنسا وامبراطور الغرب بواسطة سفرائه ، ومن اهم تلك الهدايا كانت الساعة التي يدق جرسها رأس كل ساعة ، وما ان شاهدها شارلمان وحاشيته شبه المتوحشة حتىٰ دهشوا واصبحوا في حيرة من أمرهم ، ولم يكن في فرنسا أحد يعرف كيف تعمل الساعة.

المسلمون مؤسسوا حضارة

التفت العقيد الىٰ الشيخ وقال : كلامك حول اواني الذهب والفضة مقنع تماماً ، إلّا انّ ما يبعث علىٰ التعجب ، هو انه رغم التطور العلمي في العالم الاوروبي الذي يجعلهم في مقام ومنزلة معلمي البشرية ، ورغم ان اعمالهم

٢٤٨

تعتبر قطعياً بالنسبة لنا ، الّا ان استخدام اواني الذهب والفضة شائعة هناك ، فهل يمكن انهم لم يلتفوا الىٰ ما اشرتم اليه رغم اهتمامهم بالمسائل الاقتصادية ؟!

الشيخ : سيادة العقيد ، اتصور انه لا معنىٰ لتعجبك واستغرابك ، فهل نزل الاوروبيون من السماء فيما خرجنا نحن من الارض ؟! لماذا نستصغر انفسنا الىٰ هذا الحدّ امامهم ؟ ولماذا لا نرىٰ أية قيمة لأنفسنا وافكارنا امام الاوروبيون ؟!

اصدقائي الاعزاء !

أليس عجيباً ان تستصغر اُمّة عظيمة لها تاريخ عريق وحضارة كبيرة نفسها أمام اُناس كانوا حتىٰ الامس القريب يعدون من المتوحشين الذين يسكنون الجزر ، للحد الذي نعد كل ما يصدر منهم من اعمال وحشية سنداً قاطعاً فيما ندوس علىٰ افكارنا امامهم !

واليكم ما يقوله احد كتابنا الكبار في نقده لروح التقليد من الغرب التي تشاهد في بلادنا :

« نحن لم نخرج الىٰ العالم من تحت الصخور الصماء ونتعلم اللبس من هذا وذاك ، ولم نكن مجاميع مشتتة ليس لها تاريخ(١) نسير اينما اخذتنا الرياح ، ولم تكن لنا فكره القردة(٢) حتىٰ نقلد الآخرين دون تفكير ، فجمال العالم يأتي من الذوق السليم والطبيعة اللطيفة ، لرسامينا وفنانينا ومزارعينا وفخارينا

________________

(١) كناية عن الشعب الامريكي.

(٢) اشارة الىٰ الشعب الانجليزي ونظرية دارون.

٢٤٩

ونجارينا وحائكينا ومعمارينا ومهندسينا و وهذه متاحف الدنيا من لندن وباريس وبرلين حتىٰ موسكو وفينا وروما وغيرهن من مدن الدنيا مليئة بالقديم والبالي من قطيفة كاشان والاعمال اليدوية من اصفهان والازار والآذربيجاني والجيلاني والخمار اللرَّي و من الاعمال التي يزيد عددها علىٰ عدد الرمال ويعجز عن فهمها الجهّال ، تلك الآثار الخالدة التي عجز العالم المادي الذي سخر اعماق البحار والفضاء علىٰ ان يأتي بمثلها من تناسق الوانها وتناسب اشكالها وجمالها ، وهي من صنع التاريخ الايراني وسائر الشعوب الشرقية ».

اصدقائي الاعزاء !

أقول وأنا متأكد مما ادعيه : ان مصدر العديد من الآثار الحضارية السليمة في اوروبا وامريكا هم المسلمين ، فالحضارة الاسلامية هي التي ادخلت الاوروبيين المتوحشين الى المجتمع المحتضر ، كما ان العلاقة مع المسلمين هي التي عملتهم الادب والاخلاق بعد ان كانوا بعيدين كل البعد عنها ، ففي حين كان الاوروبيون يفخرون بجهلم ويغطون فيه ، كان للمسلمين جامعات ومراكز علمية في بلدانهم ، وعندما لم يكن في اوروبا حتىٰ مكتبة واحدة ، كان المسلمين اصحاب اكبر المراكز العلمية والثقافية في العالم ، وفي تلك الفترة التي كانت اوروبا تتهم علمائها بالجنون وتحاكمهم علىٰ يد قساوستها وتعلقهم على المشانق بتهمة الكفر ، كان المسلمون يمدون البشرية ، بأكبر العلماء والفلاسفة ، ممن يعدون معلمي البشرية حتىٰ يومنا هذا ، البلاط

٢٥٠

شخص يعرف كيف صنعت تلك الساعة »(١) .

ويقول بيير روسو :

« أرسل هارون الرشيد ساعة ذات جرس الىٰ شارلمان وكانت تلك الساعة تعمل اتوماتيكياً ، فكان الاوروبيون يعدونها ثامن اعجوبة في العالم »(٢) .

ظلم الامريكيين

أيُّها السادة المحترمون ! انتبهوا بدقة الىٰ هذه القصة ، لكي تطلعوا علىٰ مدىٰ ظلم الشعب الاميركي النجيب ! والشريف ! والمحتضر ! ولتعلموا كيف يستفيد هذا الشعب النبيل من جهل بعض المسلمين وعدم اطلاعهم ، لينسبوا اعمال الآخرين الىٰ انفسهم ، خلاصة القصة ، هو انني كنت في عيادة احد الاطباء قبل فترة في قم ، وكانت في عيادته مجموعة مجلات منها مجلة بأسم اخبار الاسبوع الامريكية والتي تصدر اسبوعياً في طهران عن الجالية الامريكية ، فتناولتها لاقضي الوقت بتصفحها ، وفجأة جلبت انتباهي صورة ساعة كبيرة يقف رجل الىٰ جانبها ، واسفلها هذا الخبر : « اول ساعة في العالم صنعت علىٰ يد راهب فرنسي يدعى جربرت سنة ٩٩٠ ميلادية ، حيث اصبح ذلك الراهب فيما بعد بابا سيلوستر ، ومع ان تلك الساعة لم تكن دقيقة ، إلّا أنّها كانت افضل من الساعات اللاتي سبقتها ، وكان ذلك تطوراً مهماً في صناعة

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

(٢) تاريخ العلوم.

٢٥١

الساعات في ذلك العصر ».

اصدقائي الاعزاء !

وكما تلاحظون في الخبر الذي نقلته لكم ، لقد نسب الاميركيون النجباء !! صناعة أوّل ساعة في العالم الىٰ راهب فرنسي ، ولكن وكما يقول المثل « الكذاب كثير النسيان » ولكي يتّضح ظلمهم على ايديهم ، نلاحظ في آخر الخبر العبارة التالية « ومع ان تلك الساعة لم تكن دقيقة ، إلّا انها كانت افضل من الساعات اللاتي سبقتها » افلا يوجد من يقول لهؤلاء الامريكيين النجباء ! ايها المخادعون لماذا كل هذا التناقض ، فإذا كانت هناك ساعات صنعت قبل ساعة الراهب الفرنسي ، فماذا يعني ان ساعة الراهب أول ساعة في التاريخ ؟!

علىٰ المسلمين ان ينتبهوا

سيادة العقيد ، لقب « معلمي واساتذه البشرية » يجب ان يعطى للمسلمين ، الذين اخرجوا الاوروبيين المتوحشين من همجيتهم ووضعوهم في صف ابناء البشر ، وعلموهم الاخلاق والفضيلة ، فكل ما لدىٰ اوروبا من علم واخلاق منشأه المجتمع الاسلامي ، واستطيع ان ادعي بملء فمي انك اين ما وجدت قانوناً ذا فائدة في اوروبا أو امريكا في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية و ستجد النموذج الاكمل له في الاسلام وسأثبت لكم انهم اخذوه عن المسلمين واقتبسوه منهم.

٢٥٢

ولكي لا يتصور اصدقائي ان كلامي هو بدافع التعصب الديني ، أو هو نوع من الاسترسال والمبالغة ، سأضطر لنقل كلام احد كبار علماء اوروبا فيما يتعلق بفضل المسلمين علىٰ الاوروبيين في مجال التربية ، ومدىٰ تأثير الحضارة الاسلامية في الغرب ، ولكي تتضح حالة الشعوب الاوروبية قبل ارتباطها بالمسلمين وبعده ، والكتب والعلوم التي اخذوها من المسلمين.

فليقرأ المتيّمون بحضارة اوروبا وامريكا

يقول السيد ليبر(١) وهو من أشهر علماء اوروبا ، لو لم يكن للمسلمين وجود في التاريخ ، لتأخرت النهضة العلمية في اوروبا عدة قرون اُخرىٰ.

ويقول الدكتور غوستاف لوبون :

« في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ، أي في الفترة التي كانت الحضارة الاسلامية في اوروبا تعيش عصرها الذهبي ، كانت مراكز اوروبا العلمية ، عبارة عن قلاع رديئة متخلفة يعيش فيها اجراءنا نحن الاوروبيون ورعاياهم بحالة شبه وحشية وكان يفتخرون بجهلهم واميتهم ، وكان اعلم من فيهم الرهبان الجهلة الذين كان كل همّهم يصرف في اختيار كتب اليونان والرومان القديمة من بين كتب المكتبات الموجودة في الكنائس فيمسحون كلماتها ويدونون مكانها كلماتهم واورادهم المهملة والبربرية الاوروبية استمرت اكثر مما يجب دون ان يشعروا ، طبعاً ظهرت مشاعر بين الاوروبيين في القرن الحادي عشر ، والقرن الذي يليه خاصة ، ومنذ ان شعر بعضهم

________________

(١) Libre

٢٥٣

بضرورة فك تلك القيود والخروج من ظلمة الجهل ، اتجهوا نحو المسلمين الذين كانوا يفوقونهم وافضل منهم لأقتباس العلم والمعرفة ».

ثم يضيف الدكتور لوبون :

« وفي سنة ١١٣٠ تأسست دار للترجمة في مدينة طليطلة برئاسة الاسقف الكبير رايموند ، وبدأوا بترجمة كتب اشهر العلماء المسلمين من العربية الىٰ اللاتينية ، ونجحت تلك الترجمات في تنوير أفكار الاوروبيين وفتح عيونهم علىٰ عالم جديد ، ولم تقتصر تلك الترجمة علىٰ كتب أمثال محمد بن زكريا الرازي والتباسيس وابن سينا وابن رشد الاندلسي من علماء الاسلام ، بل ترجمة أيضاً مصنفات جالينوس وديمقراطيس وافلاطون وارسطو واقليدس وارخميدس وبطليميوس التي كان المسلمون قد ترجموها من اللاتينية الىٰ العربية من قبل ».

اعتراف غريب للدكتور ليكليرك(١)

بعد ان يذكر الدكتور ليكليرك في كتابه تاريخ الطب اسم اكثر من ثلاثمائة كتاب مشهور ترجم من العربية الىٰ اللاتينية ، يقول :

« المعلومات التي حصلنا عليها من علوم اليونان في فترة القرون الوسطىٰ كانت بواسطة هذه الترجمات العربية ، وببركة هذه الترجمات استطعنا الحصول علىٰ تصانيف اليونان القديمة ، في حين ان رهباننا كانوا لا يعرفون حتىٰ اسم اليونان ، لذلك علىٰ جميع العالم ان يعترف بالجميل الذي قام به

________________

١ ـ Liclerc

٢٥٤

المسلمون في الحفاظ علىٰ هذه الكنوز الثمينة وعلىٰ الخدمة الجليلة التي قدموها للمعرفة.

ويضيف أيضاً الدكتور لوبون بعد شرح مفصل لتأثير الحضارة الاسلامية في الغرب ، فيقول :

« إذا ثبت انه في القرن الميلادي العاشر ، لم يكن في اوروبا علىٰ سعتها سوىٰ الاندلس ( مركز حكومة المسلمين في اوروبا ) مركزاً للعلوم والمعرفة ، وفي ذلك العصر لم تكن هناك دولة ( ماعدا الدول الاسلامية في آسيا وافريقيا ) في القسم الغربي من الكرة الارضية غير الاندلس تدرس فيه العلوم والمعارف ، فحتىٰ القسطنطينية لم يكن فيها ذلك ، وكان رجال اوروبا يتجهون نحو الاندلس لتلقي العلوم عند علماء المسلمين ».

ويتكلم الدكتور غوستاف لوبون أيضاً عن مستوىٰ الانحطاط الفكري عند الاوروبيين آنذاك ، فيقول :

« قام غربرت ١١ سنة ٩٩٩ ميلادية بدراسات ، وحاز على مقام الباباوية باسم سيلوستر الثاني ، لكنه عندما اراد نشر علومه في اوروبا ، كان الامر خلافاً للطبيعة عند الاوروبيين بحيث اُتّهم ذلك المسكين بأن الشيطان حلّ في جسده وانه زاغ عن طريق رب المسيح ».

بعض كبار علماء اوروبا من تلامذة العلماء المسلمين

وفي بحث آخر يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« حتىٰ القرن الخامس عشر ، كان علماء اوروبا ينظرون الىٰ الكلام الذي

٢٥٥

لم يأخذ عن مصنفي المسلمين ، بأنه غير موثوق ».

ثم يضيف العالم المذكور :

« ويعتبر روجر بايكون(١) وليونارد دوبيس(٢) وارنافد فيلنيف(٣) ، ورايموند لول(٤) ، والقديس ثوماس(٥) ، والبرت الكبير(٦) ، والفونس العاشر(٧) ، جميعهم اما من تلامذة علماء الاسلام أو ناقلين عنهم ».

ويقول السيد رنيان(٨) :

« كل ما كان يعرفه البرت الكبير اخذه وتعلمه من ابو علي ابن سينا العالم الاسلامي المعروف ».

كما ان جميع فلسفة القديس توماس مأخوذة عن العالم المسلم ابن رشد الاندلسي ، وكانت كتب المسلمين هي المصادر الوحيدة التي تدرس في جامعاتنا الىٰ ماقبل خمسمائة أو ستمائة سنة ، وكانت علوم المسلمين علىٰ طول تلك الفترة هي محور دراستنا وعلومنا ، وفي بعض الفروع العلمية : مثل

________________

(١) Roger Bacon

(٢) Leonard de Pise

(٣) Arnavd de Villineuve

(٤) Raymond Lulle

(٥) Saint Thomas

(٦) Albert قسيس وفيلسوف الماني معروف ، كانت افكاره عاملاً في حدوث تغييرات علىٰ الساحة الاوروبية.

(٧) Alphonse

(٨) Renan

٢٥٦

الطب لا تزال نظريات الاطباء المسلمين باقية ، ففي فرنسا بقيت مصنفات ابن سينا حتىٰ القرن الماضي ( التاسع عشر ) وكتبت عليها شروح وتعليقات ايضاً ، وكانت هيمنة علوم العرب في اوروبا إلى درجة كانوا يرجعون الىٰ مصنفاتهم حتىٰ في العلوم التي لم يكونوا متبحرين فيها ، ومنذ بداية القرن الثالث عشر اصبحت فلسفة العالم المسلم ابن رشد الاندلسي جزءً من المقرر الدراسي في مدارس اوروبا.

وفي سنة ١٤٧٣ ميلادية حيث اقر الملك لويس الحادي عشر(١) منهجاً دراسياً ، أمر بتدريس مصنفات ابن رشد في الفلسفة ، وفي جامعات ايطاليا ، خاصة جامعة بادو(٢) لم يكن نفوذ وهيمنة العلوم الاسلامية اقل من سائر الانحاء ».

________________

(١) Lovis

(٢) Padove

٢٥٧

التأثير الاخلاقي للمسلمين في اوروبا

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تحدثنا فيما سبق عن اخلاق امراء ونبلاء النصارىٰ والاوروبيين ، وفي المقابل ماكان للمسلمين من صفات مميزة ، واثبتنا ان اسلافنا نحن الاوروبيين تركوا بربريتهم بعد ما عاشروا المسلمين وخالطوهم ، والمسلمون هو الذين علموا الشعوب الاوروبية اعطاء قيمة للأخلاق ووظائفة مثل الشفقة والعطف علىٰ الزوجة والاولاد والوفاء للعهد والالتزام بالقسم وامثالهم ، وقد اثبتت الشعوب الاوروبية في الحروب الصليبية انها مختلفة في الفضائل الانسانية فراسخ عن المسلمين ».

وفي كتابه القرآن ، يقول السيد بارثيلمي القديس هيلر(١) :

« لقد صلحت اخلاق امراءنا واشرافنا نحن الاوروبيون وكذلك عاداتهم الرديئة ، نتيجة لمعاشرتهم للعرب وتقليدهم عن المسلمين في القرون الوسطىٰ ، لقد تعلم الاوروبيون من المسلمين الصفات الحميدة التي تمتلكها الشعوب الحيّة ، وللحضارة الاسلامية تأثير محير للعقول علىٰ جميع العالم ، وبذلك ادخلت الشعوب الاوروبية المتوحشة الىٰ دائرة المدنية ، وكان تأثير ونفوذ المسلمين العقلي في العلوم والفنون والفلسفة واضحاً حيث كان الاوروبيون آنذاك جاهلون بها تماماً ، ولقد بقي المسلمون علىٰ مدىٰ ستمائة

________________

(١) Renaissance

٢٥٨

سنة اساتذة لنا نحن الاوروبيين ».

وفي بحث للدكتور غوستاف لوبون حول ، فيما لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ جميع اوروبا ؟ ويقول :

« من مشاهدة الاندلس يمكن معرفة ما كان سيحدث لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ كل اوروبا ، لأنه عندما نشاهد الاندلس ( مركز حكومة المسلمين في اوروبا ) في ذروة رقيها ، وتحضرها تحت سلطة المسلمين في الوقت الذي كانت فيه اوروبا متوحشة جميعها ، يمكن القول ، لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ كل اوروبا ، لاستفادة الشعوب الاوروبية كثيراً من حكمهم ولم يكن ينلهم اي ضرر أو خسارة من ذلك ، ولعدلت الرحمة والشفقة الموجودة في الاسلام خشونة الشعوب الاوروبية ، ولخلّصتهم من الدماء والمجازر وظلم محاكم التفتيش العقائدي التي ذهبت ضحية احكامها ملايين الاوروبيين ».

ثم يضيف الدكتور المذكور :

« لقد اخرجت الحروب الصليبية هذه اوروبا من خلاقها وعاداتها الرذيلة واطوارها الوحشية ، وهيأت لها الارضية بعد ذلك نقل علوم المسلمين ومعارفهم ومن ثم بسطها في جامعاتها ، وكان ذلك السبب الرئيسي في النهضة الاوروبية »(١) .

وفي آخر كتابه يقول الدكتور لوبون في هذا الصدد :

________________

(١) لمزيد الاطلاع حول نص تلك المعاهدات ، رجع : تاريخ العالم الحديث الاسلام ، تأليف الدكتور لوثروب ستودارد ( الاميركي ).

٢٥٩

« يجب ان نعلم اولاً أنه قلما يوجد قوم في العالم يفوقون اتباع الدين الاسلامي من الزاوية الحضارية ، كما ان التطور الكبير الذي بلغوه في العلوم لم يتسير لغيرهم من الشعوب في مثل تلك الفترة القصيرة ، وقد تمكنوا من ايجاد ديانة كبيرة لا تزال من اكثر ديانات العالم حيوية ، ومن حيث الخصوصيات العقلانية والاخلاقية فيكفي انهم هم الذين ربّوا اوروبا وادخلوها الىٰ دائرة الحضارة ».

اسبانيا في ظل حكم المسلمين

في حديثه عن تأثير الحضارة الاسلامية في اسبانيا وسائر انحاء اوروبا ، يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تقدم العرب كثيراً خاصة في اواخر فتوحاتهم ، وعلىٰ مدىٰ قرن في الاندلس التي كانت مركز حكمهم في اوروبا ، قاموا باحياء الاراضي الموات وشيدوا العمارات واوجدوا شبكة من العلاقات التجارية لهم مع سائر الشعوب والاقوام ، ثم قاموا باشاعة العلم والفنون ، فترجموا الكتب اليونانية واللاتينية واسسوا المراكز العلمية والجامعات التي بقيت يستفيد منها الاوروبيون سنوات ممتدة ، كما ان احد أهم خصوصيات الحضارة الاسلامية ، هو شوقها المفرط للعلوم والفنون ، ولذلك تراهم يؤسسون المراكز العلمية والادبية والمكتبات في اي بقعة يحلّون فيها ، وقد بذلوا جهوداً كبيرة في علوم الهندسة والهيئة والطبيعيات والفيزياء والكيمياء ، وسنشرح فيما بعد التطور والتقدم الذي حصل عليه علماء المسلمين في العلوم والفنون ، وقد نجحوا في القيام باكتشافات مهمة جداً.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466