رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233458 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الآيتان

( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) )

التّفسير

اليهود وعبادتهم للعجل :

في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة ، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسىعليه‌السلام إلى ميقات ربّه ، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعينا بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.

إنّ هذه القصّة مهمّة جدّا بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور ، في سورة البقرة الآية (51) و (54) و (92) و (93) ، وفي سورة النساء الآية (153) ، والأعراف الآيات المبحوثة هنا ، وفي سورة طه الآية (88) فما بعد.

٢٢١

على أنّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الاجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيّة ، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عند ما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأخرى مشهدا من الوثنية ، حيث وجدوا قوما يعبدون البقر ، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسىعليه‌السلام صنما كتلك الأصنام ، ولكن موسىعليه‌السلام وبّخهم وردّهم ، ولا مهم بشدّة.

وثالث ، تمديد مدّة ميقات موسىعليه‌السلام من ثلاثين إلى أربعين ، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسىعليه‌السلام بواسطة بعض المنافقين ، كما جاء في بعض التفاسير.

والأمر الرابع ، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خطته المشئومة ، كل هذه الأمور ساعدت على أن تقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية ، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.

وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا : إنّ قوم موسىعليه‌السلام بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا ، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه ، ولكنّه كان له صوت كصوت البقر ، واختاروه معبودا لهم :( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) .

ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحليّ) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلّا أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيرا منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده ، وبذلك كانوا شركاء في جريمته ، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.

وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل ، إلّا أنّه بالتوجه إلى الآية (159) من هذه السورة ، التي تقول :( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة

٢٢٢

هنا ليس كلّهم ، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل ، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.

كيف كان للعجل الذهبي خوار؟

و «الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل ، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي ، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.

ويقول آخرون : كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمع منه صوت على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعا بهيئة هندسية خاصّة.

أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئا من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائنا حيا ، وأخذ يخور خوارا طبيعيا فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم ، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.

وكلمة «جسدا» شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيوانا حيا ، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(1) .

وبغض النظر عن جميع هذه الأمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجل المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يشبه معجزة النّبي موسىعليه‌السلام ، ويحيي جسما ميتا ، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتما ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.

__________________

(1) راجع الآيات (8) من سورة الأنبياء ، و (34) من سورة ص.

٢٢٣

أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم ، وكان من الممكن أن يكون وسيلة لاختبار الأشخاص لا شيء آخر.

والنقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها ، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسىعليه‌السلام قد عانوا سنين عديدة من الحرمان ، مضافا إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراما خاصّا ، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه اهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.

أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإقامة أحد أعيادهن ، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون ، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(1) .

ثمّ يقول القرآن الكريم معاقبا وموبّخا : ألم ير بنو إسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء ، فكيف يعبدونه؟( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) .

يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرف ـ على الأقل ـ الحسن والقبيح ، وتكون له القدرة على هداية أتباعه ، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل ، ويعرّفهم على طريقة العبادة.

وأساسا كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئا ميتا صنعه وسوّاه بيده ، حتى لو استطاع ـ افتراضا ـ أن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده ، لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل.

إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم ، لهذا يقول في ختام الآية :

__________________

(1) راجع تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية المبحوثة هنا.

٢٢٤

( اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ ) .

بيد أنّه برجوع موسىعليه‌السلام إليهم ، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم ، وندموا على فعلهم ، وطلبوا من الله أن يغفر لهم ، وقالوا : إذا لم يرحمنا الله ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

وجملة( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي عند ما عثروا على الحقيقة ، أو عند ما وقعت نتيجة عملهم المشؤومة بأيديهم ، أو عند ما سقطت كل الحيل من أيديهم ولم يبق بأيديهم شيء في الأدب العربي كناية عن الندامة ، لأنّه عند ما يقف الإنسان على الحقائق ، ويطلع عليها ، أو يصل إلى نتائج غير مرغوب فيها ، أو تغلق في وجهه أبواب الحيلة ، فإنّه يندم بطبيعة الحال ، ولهذا يكون الندم من لوازم مفهوم هذه الجملة.

وعلى كل حال ، فقد ندم بنو إسرائيل من عملهم ، ولكن الأمر لم ينته إلى هذا الحدّ ، كما نقرأ في الآيات اللاحقة.

* * *

٢٢٥

الآيتان

( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) )

التّفسير

ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل :

في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسىعليه‌السلام وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.

يقول في البدء : ولما عاد موسىعليه‌السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل ، قال لهم : ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ

٢٢٦

غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ) (1) .

إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفا ، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسىعليه‌السلام بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) (2) .

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال لهم :( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) .

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة ، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة ، إلّا أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين ، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي ، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.

وفي هذا الوقت بالذات ، أي عند ما واجه موسىعليه‌السلام هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل ، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه ، ويثقل روحه حزن عميق ، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل ، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل ، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّا. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نغمة مخالفة شاذة ، وافقت هوى ورغبة ، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمرا ممكنا وسهلا.

فهنا لا بدّ أن يظهر موسىعليه‌السلام غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط ، كي يوقظ الأفكار المخدّرة لدى بني إسرائيل ، ويوجد انقلابا في

__________________

(1) «الأسف» كما يقول الراغب في «المفردات» بمعنى الحزن المقرون بالغضب ، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضا. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة ، ومن الطبيعي أن هذا الانزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقرونا بالغضب ، وبردة فعل غاضبة ، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد ، وقد نقل عن ابن عباس أيضا أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظا.

(2) سورة طه ، 85.

٢٢٧

ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق ، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.

إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة ، إذ يقول : إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده ، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطا غاضبا.

وكما يستفاد من آيات قرآنية أخرى ، وبخاصّة في سورة طه ، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة ، وصاح به ، لماذا قصّرت في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري(1) .

وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسىعليه‌السلام النفسية ، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم ، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية ، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.

وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحا ـ فرضا ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحا ، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية ، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الانزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب ، بل كان يعد عملا واجبا وضروريا.

ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبدا إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين ، للتوفيق بين عمل موسىعليه‌السلام هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء ، لأنّه يمكن أن يقال هنا : إنّ موسىعليه‌السلام انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجا شديدا لم يسبق له مثيل ، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ

__________________

(1) سورة طه : 92 ـ 93.

٢٢٨

المشاهد ألا وهو الانحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل ، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.

وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماما.

إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا ، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل ، فقد قلب المشهد رأسا على عقب في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة ، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.

ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفا إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني ، فإذن أنا بريء ، فلا تفعل بي ما سيكون موجبا لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

إن التعبير ب : «ابن أمّ» في الآية الحاضرة أو «يا ابن أمّ» (كما في الآية 94 من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة ، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسىعليه‌السلام في هذه الحالة الساخنة.

وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها ، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم ، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.

لقد هدأ غضب موسىعليه‌السلام بعض الشيء ، وتوجه إلى الله( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

إنّ طلب موسىعليه‌السلام العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه ، لم يكن لذنب اقترفاه ، بل كان نوعا من الخضوع لله ، والعودة إليه ، وإظهار النفرة من أعمال

٢٢٩

الوثنيين القبيحة ، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا انحرافا ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا ، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم ، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان.

مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة :

يستفاد من الآيات الحاضرة ، وآيات سورة طه أن بني إسرائيل هم الذين صنعوا العجل لا هارون ، وأنّ شخصا خاصا في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل هذا العمل ، ولكن هارون ـ أخا موسى ووزيره ومساعده ـ لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل ، حتى أنّهم كادوا أن يقتلوه لمعارضته لهم.

ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى هارون خليفة موسىعليه‌السلام ووزيره وأخيه ، إذ نقرأ في الفصل 32 من سفر الخروج من التوراة ، ما يلي :

«لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل ، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا ، فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

فلمّا نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى هارون وقال : غدا عيد للربّ (ثمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل».

٢٣٠

ثمّ تشرح التوراة قصّة رجوع موسىعليه‌السلام غاضبا إلى بني إسرائيل وإلقاء التوراة ، ثمّ تقول :

«وقال موسى لهارون : ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطيّة عظيمة؟!

فقال هارون : لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ».

إنّ ما ذكر هو قسم من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص ، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته ، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).

كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإصحاح الثامن من سفر الخروج أيضا).

وعلى كل حال ، تعترف التوراة لهارون ـ الذي كان خليفة لموسىعليه‌السلام وعارفا بتعاليم شريعته ـ بمنزلة سامية ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل ، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل ، وحتى أنّه اعتذر لموسىعليه‌السلام عليه بما هو أقبح من الذنب حيث قال : إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساسا وقد شجعتهم عليه.

في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّث بأدران الشرك والوثنية.

على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآن الكريم ساحة الأنبياء والرسل ، وتنسب التوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل الفعليين ، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.

* * *

٢٣١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) )

التّفسير

لقد فعلت ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عبدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم ، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضا (الآية 149) ومن أجل أن لا يتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة ، يضيف القرآن الكريم قائلا :( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

وهكذا لأجل أن لا يتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) .

٢٣٢

إن التعبير بـ «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية ، ولكن انتخاب عبدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية ، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فورا ، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.

أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية ، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة ، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الأرض المقدسة.

أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضا العجيبة التي كلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.

وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة ، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟

والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة ، ولكنّها ليست كل شيء.

إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة ، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات ، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة ، وكفاية يقول مرتكبها : «أستغفر الله» وينتهي كلّ شيء.

بل لا بدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة ، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.

٢٣٣

وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام :( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.

جواب على سؤالين :

1 ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسىعليه‌السلام بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟

ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل ، وارتضى بعض آخر الاحتمال الثّاني.

والذين ارتضوا الاحتمال الأوّل استدلوا بجملة( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذين ارتضوا الاحتمال الثّاني استدلوا بجملة( سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ ) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.

ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسىعليه‌السلام في تعقيب قصّة العجل ، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع ، وليس هناك ما يمنع أن يكون «إنّ ربّك» خطاب موجه إلى موسىعليه‌السلام (1) .

2 ـ لماذا جاء الإيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإيمان تتزلزل عند

__________________

(1) فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا : «قال الله لموسى أن الذين ...».

٢٣٤

ارتكاب المعصية ، ويصيبها نوع من الوهن ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية :

«لا يشرب الخمر وهو مؤمن ، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإيمان يتضاءل ضوؤه ، ويفقد أثره.

ولكن عند ما تتحقق التوبة يعود الإيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل ، وكأنّ الإيمان تجدّد مرّة أخرى.

ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا ، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا ، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة ، وإن بقيت أعباء الذنوب الأخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.

الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول : ولما سكن غضب موسىعليه‌السلام ، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها ، أخذ الألواح من الأرض ، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية ، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية ، والذين يخافون الله ، ويخضعون لأوامره وتعاليمه( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) .

* * *

٢٣٥

الآيتان

( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) )

التّفسير

مندوبو بني إسرائيل في الميقات :

في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات «الطور» في صحبة جماعة ، ويقص قسما آخر من تلك الحادثة.

٢٣٦

هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسىعليه‌السلام ميقات واحد مع ربّه ، أو أكثر من ميقات واحد؟ وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإثبات مقصوده من القرآن الكريم ، ولكنّه كما قلنا سابقا ـ في ذيل الآية (142) من هذه السورة ـ أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسىعليه‌السلام كان له ميقات واحد ، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.

وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمهعليه‌السلام ، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة. في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغشي على موسىعليه‌السلام وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشيا عليهم ، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.

إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث ـ في بادئ النظر ـ إشكالا ، وهو : كيف أشار الله تعالى أولا إلى ميقات موسىعليه‌السلام ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل ، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى مسألة الميقات؟

هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟

ولكن مع الالتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها ، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني ، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتا ، ويعمد إلى بحث ضروري آخر ، ثمّ يعود مرّة أخرى لنفس الحادثة الأولى.

بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل ، ونقول : إنّ موسىعليه‌السلام ذهب مرّة أخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للاعتذار إلى الله والتوبة ، كما قال بعض المفسّرين ، لأنّ هذا الاحتمال بغض النظر عن جهات أخرى يبدو بعيدا في

٢٣٧

النظر من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للاعتذار والتوبة ، فهل من الممكن أن يهلك الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للاعتذار إلى الله بالنيابة عن قومهم؟!

وعلى كل حال ، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا :( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) .

ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه ـ لبني إسرائيل ـ جهرة ، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة ، ووقع موسىعليه‌السلام على الأرض مغشيا عليه ، وعند ما أفاق قال : ربّاه لو شئت لأهلكتنا جميعا ، يعني بماذا أجيب قومي لو هلك هؤلاء( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ) .

ثمّ قال : ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء ، فلا تؤاخذنا بفعلهم :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) ؟

ولقد اعتبر بعض المفسّرين ـ وجود كلمة «الرجفة» في هذه الآية ، وكلمة «الصاعقة» في الآية (55) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرة ـ دليلا على التفاوت بين الميقاتين. ولكن ـ كما قلنا سابقا ـ إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة ، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة ، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة ، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية 17) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية 78).

وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.

٢٣٨

والجواب على هذا الكلام واضح أيضا ، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضا ، وإطلاق «الفعل» على «الكلام» ليس أمرا جديدا وغير متعارف ، مثلا عند ما نقول : إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا ، فإنّ من المسلّم أنّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضا.

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله : ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك ، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحقا لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقا لذلك)( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) واختبارك.

وهنا أيضا تكلّم المفسّرون في معنى «الفتنة» كثيرا وذهبوا مذاهب شتى ، ولكن بالنظر إلى أن لفظة «الفتنة» جاءت في القرآن الكريم بمعنى الاختبار والامتحان مرارا كما في الآية (28) من سورة الأنفال :( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) وكذا في الآية (2) من سورة العنكبوت ، والآية (126) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضا. لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختبارا شديدا ، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.

وفي ختام الآية يقول موسىعليه‌السلام : رباه :( أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ) .

من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسىعليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، وقصّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه ، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسىعليه‌السلام من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة ، يقول موسى :( وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ) .

٢٣٩

و «الحسنة» تعني كل خير وجمال ، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم ، وكذا التوفيق للعمل الصالح ، والمغفرة ، والجنّة ، وكل نوع من أنواع السعادة ، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب ، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا :( إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا ، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.

و «هدنا» مشتقة من مادة «هود» بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء ، وكما قال بعض اللغويين : تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضا ، وكذا من الشر إلى الخير(1) ، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.

يقول الراغب في «المفردات» نقلا عن بعض : «يهود في الأصل من قولهم : هدنا إليك ، وكان اسم مدح ، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازما لهم ، وإن لم يكن فيه معنى المدح».

ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير ، أو من الخير إلى الشر ، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال ، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.

وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم بـ «اليهود» لا يرتبط مطلقا بهذه اللفظة ، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة «يهوذا» الذي هو اسم لأحد أبناء يعقوبعليه‌السلام ثمّ تبدلت الذال إلى الدال ، وصارت يهودا ، فيطلق على المنسوب إليه يهودي(2) .

ولقد أجاب الله ـ في النهاية ـ دعاء موسىعليه‌السلام وقبل توبته ، ولكن لا بصورة

__________________

(1) تفسير المنار ، المجلد التاسع ، الصفحة 221 ، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.

(2) تفسير أبو الفتوح ، المجلد الخامس ، الصفحة 300 ، في تفسير الآية الحاضرة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

واكبر خدمة قدمها المسلمون في الرياضيات ، هو اكتشاف ( Sin = جيب ) وادلتها ، وان اول من اثبت قضاياها وادلتها هو الفيلسوف المسلم ابو نصر الفارابي.

ويعد نصير الدين الطوسي وهو من كبار فقهاء الشيعة ومن اشهر الفلاسفة والرياضيين ، اول من طرح المثلثات كعلم مستقل ، والمسلمون هم اول من اكتشف ال‍ ( Sin = جيب ) وابو ريحان البيروني هو العالم المسلم الذي تحدث عنه وشرح قضاياه.

أمّا « رغيومونتانوس » و « يوهاس مولر » فقد استطاعا تأليف كتبا في هذا المجال بعد دراسة مؤلفات نصير الدين الطوسي ، فكان ذلك اساس التكامل ومبنىٰ التقدم في الغرب »(١) .

________________

(١) نشرة « نور دانس » السنوية ، لسنة ١٩٢٦ ، ( بالفارسية ).

٣٠١

تقدم المسلمين في الهيئة والفلك

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« الهيئة من العلوم التي نشرها المسلمون منذ البداية في بغداد ، وقد بقيت مراكز التعليم العالي المهمة في علم الهيئة ببغداد من سنة ٧٥٠ م الىٰ ١٤٥٠ اي علىٰ مدىٰ ٧٠٠ سنة ، ومن هنا يمكن القول : المسلمون هم الذين نشروا الهيئة في جميع بلدان العالم »(١) .

ويقول جوزيف ماك كاب :

« كان المسلمون يستخدمون انابيب طويلة لرؤية النجوم ، وكانوا يعتقدون تماماً بكروية الارض ، كما انهم اكتشفوا زاويتي الخسوف والكسوف وقاسوهما ، وبعبارة اخرىٰ ، لقد اكتشف المسلمون كل ما يمكن اكتشافه قبل اختراع تلسكوب ، واستطاعوا صنع افضل واجمل ادوات ووسائل الرصد ، كما صنعوا كرات يبلغ قطر الواحدة منها ثمانية اذرع وان اسطرلاباتهم مشهورة في جميع انحاء اوروبا وكتبوا في هذا المجال من الكتب بحيث كان في مكتبة القاهرة لوحدها ستة آلاف كتاب في الهيئة والرياضيات فقط ، اضافة الىٰ كرتين فلكيتين كبيرتين »(٢) .

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

(٢) المصدر نفسه.

٣٠٢

يقول السيد لالاند :

يعتر محمد بن جابر التباني ، العالم المسلم ومؤلف كتاب « علم النجوم » الذي ترجم الىٰ اللاتينية أيضاً ، والمعروف في الوسط الاوروبي ، واحداً من عشرين عالم هيئة مشهور في العالم كله »(١) .

ويذكر المؤرخ الفرنسي « سديلون » :

« أن بيضوية مدارات الكواكب ، وحركة الارض حول الشمس من المسائل التي اكتشفها علماء المسلمين قبل زمن « كبلر » و « كوبرنيك »(٢) ».

يقول البارون :

« لقد بلغ المسلمون في علم الفلك اعلىٰ مدارج العلم في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ، ومن علماء المسلمين الذين اشتهروا في اوروبا ، الفلكي « الفرغاني » ويعدّ كتابه في الفلك من المؤلفات الاسلامية الثمنية التي بقيت متداولة في الغرب »(٣) .

ويذكر جورجي زيدان :

« اكتشف المسلمون اسلوباً جديداً في المراصد واخترعوا ادوات ووسائل عديدة فيها »(٤) .

________________

(١) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(٢) العالم الاسلامي.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) تاريخ الحضارة الاسلامية.

٣٠٣

تقدم المسلمين في الجغرافيا

يذكر الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد كان المسلمون شجعان علىٰ الدوام في قيادة السفن والابحار ، ولم يكونوا يخافون طول المسافات وبعدها ، فكانت لهم في اوائل الحكومة الاسلامية علاقات تجارية واسعة مع دول بعيدة مثل الصين وبعض انحاء روسيا ، ومناطق من افريقيا لم تكن معروفة من قبل بالنسبة للاوروبيين ».

بعد ذلك يذكر الدكتور لوبون قصص عديدة عن الاسفار التي قام بها المسلمون عن طريق البحر ، منها ما ينقله عن احد التجار العرب والذي يدعىٰ « سليمان » ، فيقول :

« لقد نشر سليمان مذكرات سفره ، وان هذا الكتاب هو اول كتاب يصدر في اوروبا ويتحدث عن الصين ، وترجم هذا الكتاب الىٰ الفرنسية أيضاً في بدايات هذا القرن ».

وبعد ، يضيف الدكتور لوبون :

ابن حوقل ، أحد كبار علماء المسلمين الجغرافيين ، يقول في كتابه : « لقد شرحت في هذا الكتاب كل شيء ، وبينت فيه جميع الدول وحدود البلاد الاسلامية ، والحقت به خارطة لكل بلد تبيّن مختلف مناطقه ، من مدن وقصبات وشطوط وانهار وبحار ومحاصيل زراعية ، والطرق ومسافة ذلك البلد

٣٠٤

عن البلدان التي تجاوره واهم بضائعه التي يستوردها او يصدرها ، وكل ما يحبّذه السلاطين والامراء أو سائر الاشخاص من اُمور في علم الجغرافيا ، فجميع ذلك اوردته في هذا الكتاب ».

ثم يذكر الدكتور لوبون اسماء مجموعة من علماء المسلمين الذين عملوا في مجال الجغرافيا ، منهم ابو ريحان البيروني ، وابن بطوطة وابو الحسن ، ويضيف :

« وقد تقدّم المسلمون كثيراً في الجغرافيا وسبب ذلك يعود الىٰ امرين ، الاول ، الاسفار التي قاموا بها وجولاتهم السياحية ، والثاني المعلومات التي كانو يملكونها عن علم الهيئة »(١) .

ويقول السويسري ، جورج ريفار :

« اقدم كتاب جغرافي للمسلمين ، هو كتاب « انهار البصرة » الذي صدر سنة ٧٤٠ م وهو موجود حالياً في مكتبة باريس الحكومية ، وبعد ذلك كتاب « الاستخري وسليمان » وكاتبه احد التجار المسلمين الذين سافروا الى الهند والصين ويعود تاريخ تأليفه الىٰ قرن التاسع الميلادي ، وقد ترجم سنة ١٨٥٤ م الىٰ الفرنسية في مجلّدين على يد السيد رينو ونشر في اوروبا »(٢) .

ويضيف ريفار قائلاً :

« للأعمال التي قام بها العلماء المسلمون تأثير في اكتشاف امريكا ،

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

(٢) صورة الاسلام.

٣٠٥

وهناك رسالة من كريستوف كولومبس ، يعود تاريخها الىٰ تشرين الاول ( اكتوبر ) ١٤٩٨ م يذكر فيها اسم « أبو الفوارس » احد الجغرافيين المسلمين ، من جملة الكتّاب الذين توقعوا وجود عالم جديد ( اي ؛ الامريكيتان واستراليا ) »(١) .

ويقول الدكتور ب فودوارد :

« لقد تحدّث أبو علي سينا عن طبقات الارض وتكوّنها كدليل علىٰ انجماد الارض في عصور متمادية »(٢) .

________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) عظمة المسلمين في اسبانيا.

٣٠٦

تقدم المسلمين في الصناعات الجميلة

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« من خلال مشاهدة عامة للمساجد والمراكز العلمية ودور استراحة المسافرين يتضح ان التدين والتحضر قد امتزجا في الاسلام بحيث لا يمكن فصل احدهما عن الآخر.

ويمكن معرفة قريحة أي شعب ما وأية اُمّة من خلال الاقتباسات التي تقوم بها ، والتغيرات السريعة ، التي تقوم بها في تلك المقتبسات حسب متطلباتها ، فتجعلها علىٰ صبغتها وتضفي عليها طابعها ، فتكون قد ابتكرت شيئاً جديداً ، وعلىٰ ضوء الادلة التي نمتلكها فليس هناك اُمّة استطاعت ان تفوق المسلمين في هذا الأمر وتتقدّم عليهم ، فمن خلال مشاهدة ابنيتهم وعماراتهم يمكن معرفة قوة ابداعهم واختراعهم وافضل مثال علىٰ ذلك ، مسجد قرطبة في الاندلس ، الذي استفيد في بنائه من معماريين محليين ، لكنهم في نفس الوقت امروهم بادخال طراز جديد وبديع ، منها ما شاهده المسلمون من قصر اعمدة المعابد القديمة في قرطبة بحيث ان البناء الذي يأتي عليها ، يكون غير مناسب لها من حيث الحجم ، لذلك أمروا المعماريين أن يصنعوا عمودين ( لزيادة الارتفاع ) ومن ثم تغطية مفاصل هذه الاعمدة بنقوش ومواد زينة ، لكي يراها

٣٠٧

المشاهد واحدة »(١) .

ثمّ يذكر الدكتور لوبون امثلة عديدة علىٰ جمال اعمال المسلمين في العمارات والابنية التي شيدوها في اوروبا.

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٣٠٨

تقدم المسلمين في مجال الفنون(١)

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« كان عمل المسلمين في ميدان الفنون مصحوباً بأبحاث علمية ، ومن خلال تلك المعلومات العلمية نشاهد تلك الابداعات في نتاجاتهم الفنية ، ورغم عدم وصول شيء من كتب العرب ومصنفاتهم في الفنون والمهن الينا ، لكن نتاجات تلك العلوم التي دونوها موجودة ، لقد شاهدنا مهاراتهم في استخراج معادن ، مثل : الذهب والحديد والنحاس والكبريت والزئبق ، وكذلك في صناعة الاصباغ ، ومن سيوف طليطلة يتّضح المستوىٰ الذي بلغه المسلمون في هذا المجال.

أمّا منسوجاتهم واسلحتهم وجلودهم وورقهم فهي من المنتوجات المشهورة في العالم ، وفي العديد من الامور لم يستطع الاوروبيون التفوق عليهم ».

كما ان أوّل مدفعية استخدمت في العالم ، كانت علىٰ يد المسلمين.

وخدمات المسلمين لا تنحصر بتطويرهم للعلوم من خلال البحث والاكتشاف ، وضخ روح خاصة فيه ، بل تشمل ايضاً امراً هاماً جداً ، وهو

________________

(١) المقصود بالفنانين ، هم اصحاب المشاغل والحرف الدقيقة والظريفة ، وليس ما يسمونه بالفنانين وهم الراقصون والراقصات و ...!!

٣٠٩

تدوين وتأليف الكثير من الكتب وتأسيس مدارس عالية لنشره في جميع ارجاء العالم ، وبهذا الشكل احسنوا الىٰ العلوم الاوروبية الىٰ حدّ لا يمكن تصوره »(١) .

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٠

تقدم المسلمين في صناعات الاخشاب والعاج

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« ومن الصناعات التي طورها المسلمون هي ترصيع الخشب او العاج والصدف ، وقد تركوا لنا آثار عديدة من ابواب جميلة في المساجد القديمة ، والمنابر المرصعة بالاحجار الكريمة ، والسقوف المزينة بالمرايا والكاشي والشبابيك المصنوعة علىٰ شكل زخارف واشكال هندسية متنوعة ، حيث لا يمكن صنع مثيلات لها اليوم الّا بصرف مبالغ طائلة ».

وكان المسلمون ماهرين في الحك علىٰ العاج ايضاً ، والشاهد علىٰ ذلك منضدة كنيسة القديس ايزديلون(١) والصندوق الصغير الذي صنعوه في القرن الحادي عشر لملك اشبيلية ، وكذلك محفظة عاجية تعود لكنيسة بايفا(٢) صنعت في القرن الثاني عشر والظاهر ان الاوروبيين جاؤا بها من مصر في زمن الحروب الصليبية ، والمحفظة المذكورة مطلية ومنقوش عليها بالفضة والذهب وعليها صور لانواع الطيور خاصة الطاووس ، ويلاحظ في صناعات المسلمين في الاخشاب والعاج والاحجار الكريمة امراً غريباً ، وهو انهم يستخدمون ادوات خشنة وقاسية في اعمال ظريفة ودقيقة ، وهذا دليل على فطنتهم وذوقهم الفني ، ومع ان ادوات الزينة والمرصعات الموجودة حالياً في القاهرة

________________

(١) Saint Isedeleon

(٢) Baeva

٣١١

أو دمشق لا يمكن مقارنتها بما كان في عصر الخلفاء المسلمين ، لكنه يمكننا القول انه لا يوجد في اوروبا اليوم مَن يستطيع عمل شيء من أباريق أو أساور أو تخوت مرصعة ومنقوشة ومزينة ، بأدوات قديمة لا تزال تستخدم في بلدان الشرق »(١) .

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٢

تقدم المسلمين في صناعة الكاشي

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تقدم المسلمون في صناعة الكاشي ـ مثل العمران ـ خطوات كبيرة ، والصناعة التي تعلمونها من اقوام اخرىٰ طوروها بشكل لم يستطع احد مجاراتهم فيها ، وفي بدايات القرن العاشر الميلادي شرع المسلمون باستعمال الكاشي مزّين والمرصّع بمادة المينا وقد احدثوا لهذا الامر مصانعاً كانت تصدر منتوجاتها الىٰ جميع انحاء العالم ، فالكاشي المزين بالمينا والمصنوع في القرن الثالث عشر استخدم بشكل ليس له مثيل في قصر الحمراء ، وكان ذلك الكاشي برّاقاً مثل الكاشي الذي صنع فيما بعد في ايطاليا وعرف باسم « مجالكا » ولفظة مجالكا مشتقة من ميورقة(١) وهي اسم واحدة من اكبر مصانع الكاشي التي شيّدها المسلمون ، وهذا دليل علىٰ ان الايطاليين اخذوا هذا الفن من المسلمين.

ومن أعظم آثار المسلمين في فن الكاشي أو السيراميك ، سندانة الورد المعروفة في قصر الحمراء ، ويبلغ ارتفاع هذه السندانة متر ونصف المتر ، ولونها أبيض يميل الىٰ الصفار نقشت عليها شجيرات ورد زرقاء ، بالاضافة الىٰ نقوش اُخرىٰ وصوراً لحيوانات غريبة ، منها واحدة تشبه الغزال ، وهي قمة في الابداع مثل سائر ابداعات المسلمين »(٢) .

________________

(١) جزيرة في الجانب الشرقي.

(٢) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٣

اختراع المسلمين للورق القطني

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

«كانت كتابات الاوروبيين الىٰ فترة من القرون الوسطىٰ تتم علىٰ الجلود ، وكانت قيمته الباهضة تحول دون انتشار الكتب واشاعتها ، بالاضافة الىٰ انها وبعد فترة اصبحت نادرة ويصعب الحصول عليها ، فقام جماعة من الرهبان الروم واليونان بجمع التصانيف القديمة والضخمة جداً ، فكانوا يحكون احرفها وكلماتها ويكتبون عليها من جديد مسائلهم الدينية ، ولو لم يخترع المسلمون الورق لأتىٰ الرهبان علىٰ جميع تلك الكتب القديمة التي كانت في حوزتهم ، واختراع المسلمين هذا قدم خدمة جليلة لعالم العلم ».

لقد وجد كاسيري(١) كتاباً من الورق في مكتبة ايسكيريال(٢) كتب في سنة ١٠٠٩ ويُعد من أقدم النسخ الخطية في مكتبات اوروبا ، ويتّضح من ذلك ان المسلمين استخدموا الورق بدل الجلود قبل الآخرين.

وفي مقابل القائلين بأن الصينيين هم الذين اخترعوا الورق الحريري ، وبعد اعترافه بذلك ، يقول :

« لم يكن الورق المصنوع من الحرير ذا فائدة لاوروبا آنذاك ، لأنه لم

________________

(١) Casierie

(٢) Eskerial

٣١٤

يكن هناك حرير في اوروبا ، بل كان هناك قطن ، والمسلمون هم الذين اخترعوا الورق المصنوع من القطن ، وبهذا تكون اوروبا مدينة لهم في علمها ، كما يتّضح من كتب المسلمين القديمة ، انهم طوّروا هذا الفن حتىٰ اعلىٰ درجاته ، فلم يصنع احد افضل من الورق الذي صنعوه ، ويشهد لهم التاريخ بأنهم صنعوا الورق حتىٰ من الملابس البالية علىٰ الرغم من صعوبة ذلك ، والاعمال العديدة التي يتطلبها والتي لم يكن يقوىٰ علىٰ مثلها إلّا المسلمون »(١) .

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٥

تقدم المسلمين في علم الميكانيك

يذكر الدكتور غوستاف لوبون :

«كانت معلومات المسلمين في مجال رفع الاثقال متطورة جداً ، ومن خلال بعض الادوات التي وصلتنا والكتب القديمة التي دوّنوها تتّضح قوّة اُسس التطوّر الصناعي الذي كان للمسلمين ».

ويقول الدكتور برنارد(١) استاذ جامعة اكسفور(٢) : « ان استخدم الرقّاص في الساعة هو من اختراعات المسلمين »(٣) .

يقول درابر استاذ جامعة نيويورك : «كان المسلمون مطّلعين في علوم الميكانيك ، وقد وضعوا قوانيناً لحركة الاجسام ، وكانوا ملمّين بجميع خصوصيات الميكانيك ( علم الحركات ) »(٤) .

________________

(١) Bernard

(٢) Oxford

(٣) حضارة الاسلام والعرب.

(٤) موسوعة فريد وجدي ، حرف العين.

٣١٦

تقدم المسلمين في صناعة الزجاج

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« تنسب صناعة الزجاج الىٰ الفينيقين ، وبعد ذلك تعلمتها جميع الشعوب الآسيوية ، وقامت كل واحدة منهم بتطويرها ، خاصة المسلمون الايرانيون ، والمصريون ، حيث بلغوا مدارج رفيعة في هذا الفن ، وقد تم الكشف عن أواني زجاجية في نينوى ( شمال غرب العراق حالياً ) يعود تاريخها الىٰ القرن السابع أو الثامن الميلادي.

وفي عصر الرومان قَدِمَ الكثير من صنّاع الزجاج في الاسكندرية الىٰ روما ، فكانوا يصنعون كؤوساً مزينة بـ ( المينا ) جميلة جداً ، ولكن لا بد ان نعلم ، ان هذه الصناعة القديمة بلغت ذروتها علىٰ يد المسلمين الذين اشتهروا بهذا الفن ، والنماذج التي بقيت من اعمال المسلمين دليل علىٰ مستوىٰ المهارة التي بلغوها في صناعة الزجاج ، وقد ترك المسلمون في هذا الميدان آثاراً خالدة ، منها ابريق من الكريستال موجود حالياً في متحف باريس.

ويرىٰ أكثر المؤرّخون ان اهالي البندقية الذين كانت لهم علاقات جيدة بالمسلمين تعلموا هذه الصناعة منهم ، ولهذا السبب حصلت أدوات مورانو(١) الكريستالية علىٰ شهرة واسعة(٢) .

________________

(١) Murano

(٢) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٧

استعمال المسلمين للبوصلة في البحر

يذكر الدكتور غوستاف لوبون :

« يتّفق الجميع علىٰ ان الصينيين هم الذين اخترعوا البوصلة ، لكنه ليس من الواضح انهم استخدموها أيضاً في رحلاتهم البحرية ، لانهم لم يكونوا ماهرين في المواصلات البحرية وماكانوا يبتعدون عن سواحلهم كثيراً.

في حين ان للمسلمين باع طويل في المواصلات البحرية ، وكانت لهم علاقات تجارية مع الصين منذ ذلك الوقت ، في حين ان اوروبا كانت آنذاك لا تعلم بوجود بلاد الصين اساساً. ومما لا شك فيه ان الاوروبيين اطلعوا علىٰ البوصلة من خلال المسلمين ، فلم يكن الاوروبيون يعرفون استخدامها لفترة طويلة ، وبالتحديد حتى بدايات القرن الثالث عشر الميلادي ، في حين أن المؤرخ الاسلامي « الادريسي » يذكر في اواسط القرن الثاني عشر ان استخدام البوصلة شائع بين المسلمين(١) ».

________________

(١) المصدر نفسه.

٣١٨

تقدم المسلمين في مجال التعليم

يقول بنيامين تودل :

« في الاسكندرية وحدها شاهدت عشرون مركزاً تعليماً ، بالاضافة الىٰ مراكز التعليم العامة في بغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة وغيرها من المدن الاسلامية.

أمّا الجامعات التي أسسها المسلمون فكانت فيها مختبرات(١) ومراصد ومكتبات كبيرة وسائر ادوات ووسائل البحث ».

ويذكر الدكتور غوستاف لوبون :

«كان في مكتبة الحاكم الثاني في قرطبة ( عاصمة المسلمين في اوروبا ) ، ستمائة الف كتاب ، منها اربع واربعين مجلداً خاصاً بفهرس المكتبة ».

ثمّ يضيف الدكتور لوبون نقلاً عن أحد كبار علماء اوروبا ، انه قال :

« بعد اربعمائة عام ، وعندما اسس شارل الحكيم(٢) مكتبة باريس الحكومية ، لم يتسطع جمع اكثر من تسعمائة كتاب ، ثلثها من الكتب الدينية ، وذلك رغم الجهود الكبيرة التي بذلها.

________________

ـ Bineamin de Tudele

(١) Laborotoire

(٢) Charles Lesage

٣١٩

ملخّص القول ، أنّ تقدّم المسلمين في مجال التعلم بلغ مستوىٰ جعل العالم يمد اليهم يد السؤال علىٰ مدىٰ تسعة قرون.

ويقول البحار المعروف ومكتشف القارة الامريكية ، كريستوف كولومبس :

« لقد نجحت في اكتشاف جزيرة امريكا عن طريق الهند ، في حين انني وجدت الطريق الىٰ الهند من خلال ماكتبه العالم المسلم ابن رشد الاندلسي ».

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466