رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233492 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

المرتبطة بهذا الجزء »(١) .

ويقول الفيلسوف اليوناني اشين(٢) :

« الآن قد بلغت الشيخوخة ، كنت اتصور انني تعلمت ما كان عليّ ان اتعلمه ، ولم يبق شيء مجهول بالنسبة لي ، لكني ارىٰ انني لا افهم شيئاً ، فأنا اعجز عن ادراك وفهم الذرّة ، لكنني عندما شابّاً ورغم ان معلوماتي كانت قليلة ، كنت اتصور انني اعلم كل شيء ».

ويقول العالم الانجليزي المعروف اسحاق نيوتن(٣) :

« كأنني طفل صغير يقف علىٰ ساحل بحر ، يرىٰ احياناً حجراً أو رملاً براقاً ، لكنَّ امامه بحراً عظيماً من المعرفة مجهولاً ».

ويقول احد فلاسفة بريطانيا المعروفين وهو ليدج(٤) :

« ان الذي نعلمه حالياً ضئيل جداً مقابل ما يجب علينا معرفته ، لربما يردد هذه الكلمات البعض دون الايمان بها ، لكني اقولها مؤمناً بها تام الايمان ، والذين يرون العلم في المعلومات الحالية فقط ، هم في الحقيقة خانوا اولئك الذين ناضلوا في سبيل المعرفة ».

________________

(١) تكامل علم الفيزياء ، ص ٢٦٦.

(٢) Echin

(٣) Nivoton ، الدكتور اراني أيضاً قال بذلك ، لكنه أخذه من نيوتن.

(٤) Ledeg

٢١

لا أعلم

يقول الدكتور الكسيس كارل(١) :

( لم تتطوّر العلوم التي تتحدث عن الكائن الحيّ بشكل عام وعن الانسان علىٰ نحو خاص كثيراً ، ولا زالت في مرحلة الوصف ).

ويضيف في بحث آخر :

( مع ان البشرية بذلت جهوداً كبيرة لنفسها ، ومع اننا اليوم نرث خزائن من دراسات العلماء والفلاسفة والعرفاء والشعراء ، لكن معلوماتنا لا تزال ضئيلة ووليدة الأساليب العلمية التي اخترعناها نحن انفسنا ، ولا زالت حقيقة وجودنا مجهولة بين الاشباح التي صنعتها ايدينا ، والحقيقة ان جهلنا بانفسنا كبير ولا زالت نواح كثيرة من عالمنا الداخلي غير معروفة بالنسبة لنا ، كما لازالت اكثر التساؤلات التي يطرحها الباحثون في حياة الانسان متروكة دون جواب ).

ثم يطرح الدكتور كارل بعد ذلك تساؤلات لم يستطيع العلم المعاصر الاجابة عليها رغم تقدمه ، يقول الدكتور كارل :

( لا نزال نجهل كيفية ارتباط الاعمال النفسية بالخلايا المخية ، بل ولا زلنا نجهل الفيزيولوجيا الحقيقية لخلايا المخِّ ، فما هي حدود سيطرة الارادة علىٰ الجسم ؟ لا نعلم.

كيف يؤثر وضع الاعضاء على حالتنا النفسية ؟ لا نعلم.

ما هي العلاقة بين نمو العظام والعضلات واجزاء الجسم الاُخرىٰ بالنشاط

________________

(١) الانسان ذلك المجهول.

٢٢

النفسي والروحي ؟ لا نعلم.

وما هو العامل الذي يضمن توازن الجهاز العصبي ومقاومة الجسم امام الامراض والارهاق ؟

وما حجم الاهمية النسبية للنشاطات الفكرية والاخلاقية والجمالية والعرفانية في حياتنا ؟ لا نعلم ).

في النهاية وبعد طرحه للعديد من التساؤلات ، يقول :

( هذه والعديد من التساؤلات الاُخرىٰ التي يمكن طرحها علىٰ اساس القضايا التي تهتم بها الانسانية ولكن دون الاجابة عليها ).

بعد ذلك أيضاً يتحدّث الدكتور كارل في بحث آخر عن الفكر وتأثيره والعوامل المكونة له والقضايا المرتبطة به ويطرح تساؤلات اخرىٰ ، ثم يقول :

( هناك فلاسفة كبار في كل عصر وفي كل بلد ، صرفوا سنوات عمرهم لحلِّ هذه القضايا ، لكن أيّاً منهم لم يوفّق في حلِّ هذا اللغز ).

فيلسوف آخر من المعاصرين يقول في مقدمة كتاب له ، وبعد طرح سلسلة من التساؤلات الفلسفية المتنوعة :

( المسائل التي ذكرتها هي الموضوع في الفلسفة القديمة والجديدة ، الشرقية والغربية ، لقد ضلت هذه الافكار في مخيلة البشر منذ ظهورهم ، ومن اجل فهم هذا السرِّ استخدموا جميع الطرق من العقل والفكر والشعور والتجربة الىٰ الوهم والخيال في اليقظة والمنام ، لقد تجاوز عدد فلاسفة كل عصر عشرات بل مئات الآلاف اما وزن الكتب التي ألفوها فهو بالاطنان ، وقد بقيت منهم

٢٣

كلمات كثيرة ومتنوعة لا يمكن احصاؤها ، لكنهم يتفقون في واحدة ، وهي خلاصة وحصيلة جهودهم ، تلك الجملة هي : « لا نستطيع ان نفهم »(١) ).

أصدقائي الاعزاء !

اذا اردت ان انقل لكم نماذج من اعترافات اشهر العلماء فيما يتعلق بالمجهولات البشرية ، سوف احتاج الىٰ اطنان من الورق !

خلاصة الكلام ، فيما لو سألتم اعظم بروفسور أو فيلسوف أو افضل عالم في الكيمياء أو الفيزياء : هل هناك ما يجهله الانسان ولم يُحط به علماً ؟

بالتأكيد سوف يجيبكم مستهزئاً : ما هذا السؤال الساذج ؟ هذا سؤال الأطفال.

أيُّها السادة !

لكم الآن ان تحكموا : هذا العالم المليء بالالغاز والتعقيد ، العالم الذي يعترف كبار علمائه بالمجاهيل التي لا زال البشر لا يستطيع الوصول إليها ، كما انه لا يعرف متىٰ ستحلَّ بالنسبة له ، أليس بعيداً عن العقل والمنطق ، ان ننفي قانون مسلَّم جاء به الاسلام ، ذلك الدين المقدّس الذي لا يخفىٰ دوره في حياة الانسانية العلمي ، لمجرد إنّ أحد العلماء لم يستطيع فهمه أو انه لم يرَهُ مطابقاً

________________

(١) فيلسوفي الشرق والغرب.

٢٤

لبعض القواعد العلمية الناقصة أو بعض النظريات العلمية المعاصرة ؟!

رفيق السفر : من باب الانصاف ، الحق ما تقوله ، لكن ذلك بالنسبة للذين

يمتلكون عقلاً سليماً ، وليس لمجموعات تتحرك عقولها الناقصة بصعوبة في ضجيج الحضارة المعاصرة.

تأييد الجميع : لا يحق لأي شخص التدخل في أي عمل.

الشيخ : لا شك ان بلدنا فيه الكثير من المتعلمين والفضلاء والمتخصصين في شتىٰ المجالات ، لكن الطامّة الكبرىٰ هي ان الشخص الذي يتخصّص في احد الفروع العلمية ، يتصوّر عقله معياراً لجميع حقائق العالم ، لذلك تراه يتدخل باستعجال خاص في كل موضوع ويسمح لنفسه بالحكم فيه ! فإذا تخصّص شخص في مجال الطب وحاز علىٰ شهادة دكتوراه في الطب بعد اتمامه فترة الدراسة ، فإن بعضهم يتصوّر انه سيكون بالاضافة الىٰ انه طبيب جيد ، مهندساً وتاجراً وقاضياً ومجتهداً وسياسياً ومزارعاً و الخ ، جيداً أيضاً ، لذلك فهو يحاول حل مشكلة كلّ تخصص بعقله هو ، وإذا ما لم يستطع عقله حل تلك المشكلة أو فهمها. سوف ينفيها ولن يقبل بها ، غافلاً عن ضرورة الرجوع في كل الىٰ المتخصص فيها ، وانه لا يحق لأي شخص التدخل في اي مسألة.

خطأ اديسون(١)

يقول الدكتور الكسيس كارل ضمن احد المواضيع :

________________

(١) Edison

٢٥

« المتخصّص في مجال معين لا يحق له التدخل في مجال آخر لا يمت اليه بصلة ».

وفي موضع آخر يقول :

« العلماء الذين يمتازون علىٰ غيرهم بواسطة كشفياتهم واختراعاتهم ، يتصورون انهم متبحرون في سائر المجالات كما هو الحال في مجال تخصصهم ، علىٰ سبيل المثال ، « اديسون » احياناً كان يتحدث للناس عن الفلسفة والدين ويطرح نظريات في ذلك ، فكان الناس يستمعون باحترام الىٰ آرائه لاعتقادهم بتبحره في هذين المجالين ايضاً ، لانه كاشف ومخترع كبير.

وبهذا الشكل نرىٰ ان بعض العظماء الذين مهدوا السبيل لرقي وتقدم البشرية من خلال اختراعاتهم وعلومهم ، يصبحون من جهة اخرىٰ سداً امام ذلك التقدم عندما يتكلمون في مجالات ليست من اختصاصهم وليسوا ملمين بها جيداً »(١) .

اصدقائي الاعزاء !

في ضوء ما قلته ، اليس من العجيب ان تنظروا الىٰ الدين الاسلامي المقدس والملتزمين به نظرة تشاؤمية بهذا الشكل ؟! في حين وعلىٰ حدّ قولكم انكم لم تطالعوا علىٰ مدىٰ حياتكم كتاباً في التعاليم الدينية وكذلك لم تلتقوا بعالم دين ولا اي مسلم واع يحملان معلومات وافرة عن الاسلام.

________________

(١) الانسان ذلك المجهول.

٢٦

ورغم ذلك ، تنفرون من الاسلام وتحقدون عليه للحد الذي اغضبكم وجودي معكم لفترة يوم واحد في هذا القطار لأن مظهري يوحي بأني متدين ، بشكل اخذتم بالاستهزاء بي ، وعدم احترام شيبتي ، وصرتم تتهامسون وتتغامزون فيما بينكم ؟! فمرّة تشيرون الىٰ قبعة الصوف التي اضعها علىٰ رأسي ، واُخرىٰ تتضاحكون علىٰ لحيتي.

أيُّها السادة :

انا وكما تقولون رجعي ، أمّا أنتم المتربّون في أحضان الحضارة الغربية ، لماذا كل تلك التصرفات القبيحة وغير الصحيحة ، علىٰ رجل لم تكونوا تعرفونه ولا رأيتموه من قبل ولم يصدر منه ذنب أو خيانة ؟!

هل هذه الحضارة التي ابتلينا بها والتي لا تستطيع ان تربي ابناءها إلّا بهذا الشكل ؟!

رفاق السفر : كان لكلام الشيخ تأثير قوي في نفوسهم ، اخذ بعضهم ينظروا الىٰ بعض ويوافقون الشيخ كلامه ، واعتذر كل واحد منهم مباشرة من الشيخ بكلمات ودّ واحترام خجولة عمّا بدر منهم من قبل ، ثم قالوا : من دواعي سعادتنا ان نلتقي شخصاً عالماً مثلك ، نأمل ان نسعد ونستفيد من وجودك خلال هذه السفرة القصيرة ـ للأسف

ودار حديث بين رفقة السفر : قال أحد الرفاق :

اصدقائي ! أتصوّر انّنا اليوم اُتيحت لنا فرصة مناسبة ، بوجود هذا الشيخ

٢٧

العالم الذي يجب علينا احترامه ، للبحث والكلام الاسلام وقوانينه ، لكي نطلع علىٰ منطق الدين والمؤمنين به.

باقي الاصدقاء : أنّنا سعيدون باقتراحك هذا ، ونستقبله بكل شوق ، لان ما تحدث به الشيخ يظهر فضل هذا الرجل وسعة اطلاعه بالاسلام وغزارة علمه.

الشيخ : من دواعي الاعتزاز ان تحيطوني بكل هذا اللطف والود ، ولكن قبل البدء بالبحث ، ومن أجل تطبيق حكم الاسلام الاخلاقي في التعامل مع الاشخاص ، لابدّ من ان نتعرّف علىٰ بعضنا ، لكي نبدأ هذا البحث والمناظرة بجو من الود.

التعارف

في البداية ، اعرف لكم نفسي ، اسمي تقي رستگار من مدينة همدان ، مهني.

احد الحاحزين : انا رضا سخنوّر ، أحمل شهادة الدكتوراء في القانون.

الثاني : احمد تاجور ، ضابط برتبة عقيد.

الثالث : حسن سماوي ، طالب في كلية الطب.

الرابع : علي امامي ، موظف في دائرة المخازن ( السايلو ).

الخامس : عباس بيضاوي ، رئيس دائرة التربية والتعليم في بندر شاه.

٢٨

الشيخ : من دواعي السرور ان اكون برفقة مجموعة من المتعلمين والمطلعين علىٰ العصر ، خاصة سعادة السيد الدكتور رضا سخنور الذي يحمل شهادة في القانون والذي سنستفيد كثيراً من آرائه في بحثنا ( البحث في قوانين الدين الاسلامي المقدّس ). فهو يستطيع ، ومن خلال المامه الواسع بالقانون ، ادراك القيمة الحقيقية للقوانين الاسلامية ، من مقارنتها بقوانين الشعوب المتقدّمة في العالم.

الدكتور : يا عمّ ! أودُّ في البداية ان نتحدث حول الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وموضوع نبوته ورسالته ، لكي نتناول فيما بعد مسألة القوانين الاسلامية ، بعد ان ترتفع الشبهات العالقة في اذهاننا ( انا وسائر اصدقائي ) حول النبوة.

٢٩

محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ

الشيخ : سعادة الدكتور ! من اجل توضيح الموضوع الذي سألتموه ، لا بدّ من بحث عدة نواحي ، لكي نصل الىٰ هذه النتيجة وهي إنَّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ في تاريخ الانسانية ، ورسول من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وإنّ القوانين التي جاء بها الىٰ البشرية ، جميعها اُوحيت إليه من قبل رب العالمين ، وهذه النواحي التي لابدّ من بحثها هي بالترتيب التالي(١) :

أ ـ وضع الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل فترة الرسالة.

ب ـ البلاد التي ولد ونشأ فيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث الجغرافيا والسكان.

ج‍ ـ دراسة مختصرة في وضع القوم الذين نشأ وعاش رسول الاسلام بينهم.

الناحية الاُولىٰ : ولد محمد بن عبداللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اسرة طاهرة وشريفة في مكّة ، ولأن اُمّه آمنةعليها‌السلام لم تستطع ارضاعه لشحة حليبها ، فقد اعطاه جدّه

________________

(١) في هذا الصدد يمكنكم الرجوع الىٰ كتابنا « القادة الصديقون » ( بالفارسية ) فقد بحثت هذه المسائل بالتفصيل هناك.

٣٠

عبد المطلب إلىٰ مرضعة تسمىٰ حليمة السعدية(١) حتىٰ ترضعه ، فأخذته الىٰ قومها وبقي مع تلك القبيلة حتىٰ بلغ الخامسة من العمر ، وبعد ذلك عاش مع جدّه عبدالمطلب ثلاثة سنوات ، ومنذ سن الثامنة حيث توفي جدّه عبد المطلب ، عاش في كنف عمّه أبي طالب حتىٰ بُعث بالرسالة وهو في سن الأربعين ، إلّا انّ ما يهمنا من ذلك هو أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرسل الىٰ مدرسة ، ولم يدرس عند أي استاذ إلى أن بُعث رسولاً ، وخلال تلك الاربعين سنة لم يقرأ ويكتب سطراً واحداً ولا كان يدعي ذلك ، وهذا ما يعترف به جميع المؤرخين واصحاب السير. وانما كانت له حياته العادية كسائر العرب ( سوىٰ انه لم يرَ منه ذنب أو خيانة في كل فترة حياته ) ، وهنا يكمن السرّ ، فلو كان محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قد ذهب الىٰ مدرسة أو تتلمذ علىٰ يد احد العلماء ، لربما شُكَّ في الأحكام التي جاء بها كنبي.

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) (٢) .

وهذه القضية من أهم القضايا التي احتارت الدنيا بتفسيرها وجعلت علماء العالم يستسلمون أمامها ، لأنه لم يسبق ان رأت البشرية شخصاً اُمّيّاً ينشأ في بيئة مثل الجزيرة العربية وبعد أربعين سنة من حياة عادية ، يأتي وكرجل إلهي ومرسل من قبل الله بأحكام وقوانين لسعادة الانسان ، وبعد اربعة عشر

________________

(١) حليمة ، امرأة من قبيلة بني ساعدة التي تسكن اطراف مكة المكرمة ، وكانت قد جاءت الىٰ مكة بعد القحط الذي أصاب قبيلتها ، لأخذ طفل ترضعه ، فتنال من عملها ذلك مالاً ترمّ به معاشها.

(٢) سورة العنكبوت : ٤٨.

٣١

قرناً عجز البشر ان يأتي بمثلها وبعظمتها رغم جميع التطورات العلمية والفكرية التي حدثت.

أجل ، فهذا الأمر هو اكبر دليل علىٰ ان الرجل كان رسولاً من قبل ربّ العالمين ، وانه كان مرتبطاً بمبدأ الوحي.

٣٢

التشريع في عالمنا المعاصر

اصدقائي الاعزاء !

رغم اننا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، وقد وصل فيها البشر الىٰ كل هذا التطور العلمي ، إلّا انّ تدوين مادة قانونية في الدول المتقدّمة يحتاج الرجوع الىٰ أصحاب الاختصاص والعلماء الكبار واساتذة الجامعات ، وهؤلاء بعد مشاورات عديدة يقدمونها علىٰ شكل لائحة الىٰ البرلمان ، هناك ايضاً يطرحونها في لجانهم المختصّة(١) وبعد مداولات عديدة تطرح اللائحة في البرلمان للتصويت عليها ، فيتكلم العديد من النواب حولها(٢) ثم يصوت عليها بعد ان صرفت اموال طائلة من اجل وضعها ، هذه المادة وبعد فترة قد تكون شهراً أو بضع سنين وعندما تظهر نواقصها الواحدة بعد الاُخرىٰ ، يجبرون علىٰ الغاءها.

فهذا هو الاسلوب المتّبع في التشريع اليوم في العالم المتحضر الذي ينظر

________________

(١) Fraction

(٢) هذا الكلام يصدق في الدول التي ينتخب فيها اعضاء البرلمان بشكل حرٍّ ومن قبل الشعب ، وأن يكون الانتخاب ايضاً علىٰ اساس العلم والكفاءة والاخلاص ، وليس في الدول التي تحكمها دكتاتوريات فردية تتسلط علىٰ مقدرات الشعوب ، والتي فيها الاجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية الّا ديكورات وكاريكاتورات ليس إلّا.

٣٣

الىٰ الاُمور من زاوية العلم.

نظرة الىٰ عالم الامس

مع الأخذ بأسلوب التشريع في عالمنا المعاصر ، ننظر الىٰ الوراء الىٰ عالم الظلمات قبل الف وأربعمائة سنة ، في ذلك العصر لم يكن هناك علم ومعرفة فاكثر البلدان تطوراً آنذاك ـ مثل ايران ـ كانوا بمستوىٰ من الانحطاط الفكري بحيث يعبدون النار ، وفي ذروة تطورهم أي العصر الساساني كان تحصيل العلم والمعرفة مقتصراً علىٰ أبناء الاُمراء وعلماء الدين المجوسي ، في حين انّ بعض البلدان الاُخرىٰ كانوا يعبدون البقر! فقد كانت آفاق افكارهم محصورة بشكل يصنعون من التمر آلهة يأكلونها إذا ما جاعوا ، فكانوا يحضرون تمراً من جديد ويصنعون آلهة أُخرىٰ للاستغفار أمامها علىٰ ما قاموا به.

وفي تلك الحقبة المظلمة ظهر رجل يسمىٰ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك الماضي الذي ذكرناه عنه ، كرسول من قبل الله عزّ وجلّ ، وجاء بأحكام وقوانين للبشرية جعلت عصر الذرة الحالي يستسلم امام دقتها العلمية ، فإذا كنّا اليوم نشاهد في بعض الموارد قوانين مشابهة لقوانين الاسلام وذلك في اكثر الدول تقدّماً ، فهذا لا يبعث علىٰ العجب ، لانّنا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، في حين ان العصور الماضية كانت مظلمة مليئة بالجهل والخرافة.

فلو استطاع الشخاص اليوم التعليم وقضوا عمرهم في المدارس والجامعات وزوايا المكتبات ، فقرأوا لكبار العلماء ، ونشأوا في بيئة ساعدتهم

٣٤

في تنمية افكارهم ، هؤلاء الاشخاص لو تمكنوا من الوصول الىٰ حقائق في عالم الوجود ، او قاموا بوضع قانون ذا فائدة فهو ليس امراً مستغرباً وليس كما يسمىٰ « طفرة علمية » ، لأن عملهم ذلك يتناغم وينسجم مع المرحلة التاريخية والظروف البيئة والثقافية والاجتماعية التي يعيشونها.

لكن إذا ظهر شخص اُمّي في عصر مظلم قبل الف واربعمائة عام ومن بيئة متوحشة وملوّثة بمعنىٰ الكلمة ، وتمكن من ايجاد ذلك التغيير الفكري والعلمي في العالم الذي يتّسع شعاعه بمرور الأيام والقرون ، وكلّما اتّسعت دائرة العلم والمعرفة ، اتّضحت عظمة الاسلام العلمية مع تطور العلم في شتىٰ المجالات ، فهذا هو الذي يبعث علىٰ العجب والدهشة ، وهو الذي لم يسبق ان حدث مثله.

مثل هذه الحادثة ، ومع الأخذ بالحالة الثقافية ، والظروف التاريخية والاجتماعية لذلك العصر ، لهو دليل قاطع في ان الذي جاء بكل تلك القوانين مرسل من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وانه يوحىٰ اليه من مبدأ العلم المطلق( الله ) ، لأن ذلك غير ممكناً بالحسابات المادية ، وهو كيف يمكن لرجل أُمّي أن يؤسس ديانة علمية تتعامل وواقع العالم والانسانية ، فهذا الامر حتىٰ في البيئة العلمية والثقافية تماماً غير ممكناً.

فلو كانت القضية « نبوغاً فكرياً » وتتعلّق بالظروف البيئية ، لحدث مثل ذلك ولو لمرة اُخرىٰ في تاريخ البشرية ، لكن هذا الامر لم يحدث في اكبر واهم المراكز العلمية وبين من لهم افضل الظروف العلمية والفكرية ، فضلاً عن ذلك العصر المظلم وتلك البيئة المتخلفة ، وهذا دليل قاطع علىٰ ارتباط الذي جاء

٣٥

بتلك القوانين والاحكام بمبدأ العلم ومصدره ، أي رب العالمين ، فهو نبي وما يقوله هو وحي إلهي :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١)

اعتراف الدكتور لورافاكسيا فاغليري

الدكتور لورافاكسيا فاغليري ، البروفيسور الايطالي المعروف واستاذ جامعة نابل ، يقول في كتابه حول القرآن : ( نشاهد في هذا الكتاب خزائن وذخائر من المعرفة فوق قابليات واستعداد اذكىٰ الاشخاص واعظم الفلاسفة واقوىٰ رجال السياسة ، ولذلك لا يمكن ان يكون القرآن نتاج رجل متعلم ، افنىٰ عمره في مجتمع غير ديني ، لأن هذا الأمر لا يقوىٰ عليه رجال العلم والدين ، ذلك الرجل كان يؤكد علىٰ الدوام انه بشر مثل الآخرين ، لذا فبدون الله القادر لا يستطيع القيام بأية معجزة ، ومصدر القرآن ومنشأه لا يمكن ان يكون غير الله الذي احاط بعلمه السموات والارض وما بينهما ).

اصدقائي الاعزاء !

حقيقة الأمر هي كما قال الدكتور فاغليري ، لأنَّه إذا أراد شخص ان يصبح عالماً كبيراً ومعروفاً في عصرنا من خلال الانصراف بجميع سنوات عمره الىٰ كسب العلم ، فأن تخصصه في النهاية ايضاً سيكون في فرع معين ، فهو اما طبيب ـ مثلاً ـ أو خبير اقتصادي ، او عالم في القانون أو صاحب رتبة عالية في الجيش

________________

(١) سورة النجم : ٣.

٣٦

أو الخ ، فلا يمكن ان تجدوا اليوم في كل العالم شخصاً تخصص في مختلف الفروع والمجالات.

لكن رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان فرداً بلا مستشار ، جاء من قبل الباري عزّ وجلّ تلك القوانين المتنوعة ، من المسائل العبادية حتىٰ المسائل القانونية ، ومن الاحكام الفردية حتىٰ المسائل الاقتصادية والاجتماعية ، وجميعها علىٰ اساس مسلَّمات حقائق عالم الوجود.

أليس ذلك دليل علىٰ ان محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رسول من قبل رب العالمين ، وليس عصارة ظروف تاريخية خاصة ؟!

الدكتور : النقطة التي اشرت اليها جديرة جداً بالالتفات ، لأننا نرىٰ في اكثر دول العالم تقدماً ، يوجهون كل فرد أو مجموعة الىٰ مجال معيَّن ، فالقضايا القانونية ـ علىٰ سبيل المثال ـ يوكلونها الىٰ اصحاب الاختصاص في القانون. ولم نشاهد الرجوع اليهم في قضايا الاقتصاد او الامور العسكرية. لأنهم لا يملكون معلومات فيها. اما فيما يتعلّق بالرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكما تفضلت ، لم يحدث ذلك من قبل وهو أن يأتي شخص ويقدم للبشرية قوانين محكمة وغير قابلة للأنكار في جميع المجالات.

الشيخ : أجل ، هكذا الدين الاسلامي ، له قوانين حيّة وغنية في مختلف شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأقتصادية ، وهو ما يميّز ديننا عن سائر الأديان ، ويقدّمه عليها.

فالانجيل ـ مثلاً ـ الذي يعتبر الكتاب الديني المقدّس لجميع الدول الغربية ، اذا تصفحتموه بدقّة ستجدون اكثر احكامه اخلاقية ، ويحتوي

٣٧

علىٰ مباحث روحية ، بحيث لو تركت البلدان الغربية قوانينها الاجتماعية وارادت ان تعمل علىٰ ضوء تعاليم الانجيل ، ستشلّ وتقف عن الحركة جميع مؤسساتها ومرافقها الاجتماعية والاقتصادية ، وستسقط دفعة واحدة ، لانّه لا نجد في الانجيل كلّه حتىٰ خمسين مادة قانونية حول القضايا الاجتماعية(١) .

في حين ان الدين الاسلامي المقدس ، ليس فقط يملك اسمىٰ التعاليم الاخلاقية والروحية ، بل ان قوانينه واحكامه تشمل جميع المجالات ، مثل : الزراعة والاقتصاد والسياسة والاُمور العسكرية والجيش والصحة والثقافة والتجارة والقضاء. وبشكل عام فهو يمتلك كل وافضل القوانين التي تحتاجها اُمة متحضرة ، حتىٰ في السباقات.

محطة بندرگز

في تلك اللحظة وصل القطار الىٰ محطة بندرگز ، كانت جماعة من الناس مستعدة للركوب ، ومجموعة من المسافرين أيضاً مستعدة للنزول ، ولذلك اختل النظام العادي في القطار.

شرطي المحطة واقف الىٰ جانب السلم ، ويصيح : أيُّها السادة أرجو منكم مراعاة النظام ، افسحوا المجال للمسافرين يخرجون من داخل القطار ، ومن ثم اصعدوا.

________________

(١) لدراسة محتويات التوراة والانجيل ومقارنتها بالقرآن ، يمكنكم الرجوع إلى كتاب « الانسان وسائر الكتب السماوية ». ( بالفارسية )

٣٨

ولكن لم يكن احد يستمع اليه في تلك اللحظات ، فكرر الشرطي : أيُّها السادة ارجو ان تراعوا القانون ، لماذا تصعدون ، فلا زالوا لم ينزلوا ؟!

اهانة عقيد لسائق سيارة اجرة

أحد المسافرين كان يحمل حقيبة بيده وهو مستعد مع أخيه للصعود ، قال : دعك من هذا غفر الله لك ، اين يُراعىٰ القانون في هذا البلد ، حتىٰ يُراعىٰ هنا بجنب سلّم القطار ، إذا كان حقيقاً ما تدّعي اذهب وقل لمرؤوسيك ان لا يتصرفوا خلاف القانون.

فقال الشرطي : ما هذا الذي تقوله ؟

المسافر : ليس قول وإنّما حقيقة.

في هذا العام كان أحد أصدقاءنا يقود سيارته في احد شوارع طهران وفجأة استدارت سيارة خاصة امامه ، لم يكن يبق شيئاً ان يتصادما ، فضغط صديقنا علىٰ الكابح وأوقف السيارة قبل ان تصطدم بتلك السيارة المخالفة ، ممّا ادىٰ الىٰ جرح احد الركاب الذين كانوا معه برأسه ، فنزل من سيارته واتّجه الىٰ سائق تلك السيارة فوجده يحمل علىٰ صدره واكتافه طناً من الميداليات والأوسمة وإلىٰ جانبه سيدة نصف عارية ، فقال له : أيُّها السيد المحترم ، ما هذا الذي عملته ، لماذا استدرت هنا ؟

صدقني أيُّها الشرطي ! ما ان أتم كلامه حتىٰ أتته صفعة قوية من ذلك

٣٩

الرجل ، فردّها صديقنا المسكين إليه بصفعة مماثلة.

عند ذلك قال له الرجل : يجب ان نذهب الىٰ مركز الشرطة ، فقبل صديقنا بذلك ، وذهبوا جميعاً الىٰ هناك ، وما أن وصلوا المركز حتىٰ رأىٰ صديقنا ان جميع الضباط والشرطة قد وقفوا احتراماً لذلك الرجل ، فتبيّن ان ذلك الرجل برتبة عقيد.

فأمر الشرطة ، الذين قاموا بضرب صديقنا للحد الذي لم يتمكن النهوض من فراشه ليومين ، ثم أمرهم بحلق رأسه وسجنوه ليلة عندهم ، مع ان ضابط المرور كان قد أشار بالتقصير الىٰ العقيد ، فما كان عليه ان يستدير في ذلك المكان ، لكن سيادة العقيد لا يهمه القانون ، لانه يعتبر نفسه فوق القانون ، القانون يجب ان يكون للجميع وليس لي ولأمثالي من المساكين.

هنا قال اخو المسافر : أخي ، ما هذا الذي تقوله ، لا حاجة لنا بوجع الرأس ، فلو القوا القبض عليك الآن بتهمة الاستهزاء بالمقدّسات الوطنية ! والتجاسر علىٰ ، من الذي سينجيك ؟!

وبعد دقائق من التوقّف ، تحرك القطار ثانية وعاد النظام الىٰ ما كان عليه.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466