رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233628 / تحميل: 8001
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

تقدم المسلمين في مجال الاقتصاد السياسي وعلم النفس والعلوم الاجتماعية

في هذا الصدد يقول الكاتب المسيحي جورجي زيدان :

« الغريب هو ان الاوروبيين يتصوّرن انفسهم مؤسسوا علم « الاقتصاد السياسي » ، في حين ان الفارابي العالم المسلم الشهير كتب قبل الف سنة كتاب « السياسية المدنية » وبحث في ذلك ، كما ان « ابن خلدون » العالم المسلم الآخر بحث الموضوع أيضاً(١) .

ويذكر «ميلير» : المسلمون هم أول من اخترع علم النفس(٢) .

ويقول احد العلماء الاوروبيون : مؤسس العلوم الاجتماعية هو الفيلسوف المسلم الكبير « ابن الجاثب »(٣) .

مصطلحات المسلمين وكلماتهم في اوروبا

يقول السيد سديلو(٤) :

________________

(١) تاريخ الحضارة الاسلامية.

(٢) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) Mr. Sedillot

٣٢١

« بما ان المسلمين استطاعوا السيطرة علىٰ البحر المتوسط منذ القرن الثامن الميلادي ، فان اغلب المصطلحات الالفاظ المستخدمة في المجال البحري في اللغتين الفرنسية والايطالية ، مأخوذة عن مفردات عربية بالاساس ، مثل : اميرال(١) وساكادر(٢) وفلوت(٣) وفرجال وكورفت(٤) وكرافل(٥) وكذلك بوسورل(٦) التي يتصورها الكثير خطأ مأخوذة عن الصينيين في حين ان المسلمين هم الذين جاؤا بها الىٰ اوروبا ، كما ان الجيوش الاوروبية عندما عرفت النظام والمراتب في داخلها فقد تعلمت الرتب والمناصب العسكرية وكذلك الصياح في ساحة القتال من المسلمين كما ان كلمات مثال : البارود والقنبلة والهاون ( نوع من المدفعية ) ، اصلها عربي ، وكذلك العديد من المصطلحات الادارية ، مثل : معون وغابل وتاي وتاريف ودوآن وبازا وغيرها من الكلمات التي دخلت القاموس اللغوي الاوروبي من بغداد وقرطبة.

________________

(١) جنرال في القوة البحرية.

(٢) Escadre ( سرب ) ، مجموعة سفن قتال بحرية يقودها شخص واحد.

(٣) Flutte آلة موسيقية.

(٤) Caracelle

(٥) Cravelle

(٦) Biussule ( بوصلة ).

٣٢٢

اسباب تقدّم المسلمين ورقيهم

الدكتور : ايها الشيخ ! صحيح أن هؤلاء الأوروبيين الذين يفتخرون علينا اليوم إلى هذا الحدّ كانوا تلامذتنا بالامس ؟! كانوا يستجدوننا العلم للحد الذي اصبحوا يختالون بما كسبوه من علومنا ، ويمتصون دماءنا بهذا الشكل ، نهاية في الوقاحة وعدم الوفاء ؟ ولست أعجب من ذلك ، بل أعجب للسبيل الذي جاء به المسلمون من خلاله كل هذا المجد والعظمة ؟

الشيخ : مجد المسلمين وعظمتهم بالامس كانت في تمسكهم بدينهم واحكام الاسلام ، وهذا الأمر لا يدعوا إلى العجب ، لأن الباري عزّ وجلّ وعد عباده بذلك في القرآن فقال جلّ شأنه :

( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .

سعادة الدكتور ! أن سبب تقدّم المسلمين وتعاليهم هو ما ذكرناه من تمسكهم بالاسلام ، لانه وكما اشرنا في مباحث سابقة ، ليس الاسلام كالمسيحية ، دين رهبانية وعزلة ، أو مجموعة من النصائح الاخلاقية فقط ، فالاسلام دين يدعو ويُرغّب إلى طلب العلم ، ومن الناحية القانونية يمتلك مجموعة متكاملة في جميع شؤون الحياة المادية منها والمعنوية.

اذن ، فأتباع مثل هذا الدين الطبيعي أن تكون نتيجته التكامل على جميع الأصعدة. ولبيان العوامل والاسباب التي ادت إلى تقدم المسلمين وتكاملهم

٣٢٣

بهذا الشكل السريع ، نشير إلى بعضها مما ورد القرآن الكريم ، وبشكل مجمل :

قَسَمُ القرآن :

القسم والايمان التي جاءت في القرآن هي احدى الدوافع التي رغبت المسلمين في الماضي لتلقّي العلوم ، وعادة يكون ما يُقسم به مقدّساً عند الشخص الذي يقسم ، وكلما كان الطرف الذي يقسم جليلاً وعظيماً ، ازدادت قدسية وعظمة ما يُقسم به.

والقسم في القرآن يصدر عن الله عزّ وجلّ ومع ذلك نجده يقسم بالظواهر الطبيعية في العالم ، مثل : الشمس والقمر والسماء والأرض والبحر والليل والنهار والزيتون والقلم و الخ.

أجل هذا القسم القرآني ، هدفه لفت انتباه الانسان إلى عظمة الوجود وظاهره ، والحث على دراسة ذلك والتأمل فيه ، والغريب ! هو أن القرآن يقسم بالقلم في عصر مظلم كانت الجزيرة العربية تعيشه قبل اربعة عشر قرناً ، وليس بالقلم فحسب بل وما يصدر عنه ، قال تعالى :

( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .

ومثل هذا القسم غير موجود اليوم حتى في أكثر بلدان العالم تقدّماً.

٣٢٤

ظواهر الوجود ومعرفة الله

تعلمون أن الأصل العقائدي الأول في الاسلام هو معرفة الله ، لكن أهم سبيل يعرضه القرآن لمعرفة الله هو التأمل في اسرار الخلق ، وظواهر الوجود. ولمعرفة رب العالمين الحكيم والقادر ، يدعو القرآن الانسان إلى البحث والدراسة في السماوات والارض واسرارهما وللتأمل في خلق الحيوان والنبات والقوانين المعقدة الموجودة في الوجود وكذلك التأمل في الانسان نفسه كمخلوق من قبل الباري عزّ وجلّ.

أجل ففي ذلك العصر الذي لم يكن فيه شيء يذكر عن علم التربة وعلم النبات وعلم الحيوان والفيزيولوجيا والتشريح وعلم الفلك بمفاهيمها العلمية الحديثة.

في ذلك العصر كان القرآن الكريم يدعو البشرية إلى تعلم مثل هذه المسائل ومعرفة حقائق العالم العلمية.

مكانة العلم والعلماء من منظار القرآن

العالم الثالث الذي جعل المسلمون يتجهون نحو العلم والمعرفة العلمية للعالم ، هي التعابير التي طرحها القرآن الكريم عن العلم والعلماء. ففي موارد عديدة عبّر القرآن الكريم عن العلم والمعرفة بالنور ، واعتبر الجهل ظلمة ، قال بأن العلماء هم المبصرون والجهلة هي العمي ، وقد اختصّ القرآن الكريم

٣٢٥

العلماء المتقون بالاجلال والرفعة ، وقد استخدم في ذلك تشابيه جميلة وتعابير ظريفة.

الترغيب والحثّ المثمر

وقد اثمرت بسرعة هذه العوامل الثلاث التي ذكرناه بالاضافة إلى ترغيب وحث القرآن وائمة المسلمين لتعلم العلم ، ولم يمض أكثر من نصف قرن على ظهور الاسلام ونشوء المجتمع الاسلامي ، حتى شهد التاريخ أكبر عملية نهوض معرفية في شتى مجالات المعرفة بين المسلمين ، وكان التقدّم سريعاً للحدّ الذي تمكن من تنشأ مجموعة كبيرة من العلماء البارزين في مختلف المجالات العلمية ومن جميع المناطق التي دخلها الاسلام.

هؤلاء العلماء الذين يعد كل منهم نابغة عصره في مجال تخصصه ، والذين انتشر العلم على ايديهم في العالم.

٣٢٦

ماذا يعني حرمة التشبه بالكفار ؟

اصدقائي الأعزاء !

لا يدفع الاسلام الانسان المؤمن إلى تعلم العلم والمعرفة بجميع فروعها فقط ، بل أنه ألزم المسلمين لتتبع العلم وتعلمه من خلال احكام وأوامر دينية بسيطة في تعابيرها ، لكي يقطع بذلك تبعية المجتمع المسلم إلى غيره من المجتمعات ، وهذه الاحكام كثيرة جداً ، سأكتفي بنقل واحدة منها سمعناها جميعاً ، ولربما ضحكنا منها استهزئنا بها ، واعتبرناها مقولات رجعية ؟ وذلك الحكم ، هو « حرمة التشبّه بالكفار » ومن أجل بيان أفضل للقضية ، وسأقدم لكم هذا الإيضاح :

اصدقائي الأعزاء !

لو ان شعباً غير مسلم ( كافر ) صنع اليوم ـ على سبيل المثال ـ نوع من القبعات سيكون حراماً على المسلمين استعماله ما دام يعتبر وضعه على الرأس تشبّهاً ـ ذلك الشعب الكافر ـ ولكن لو أن مسلماً كان قد اخترع قبعة مشابهة لذلك الطراز ، فان استعامله جائزاً.

وهنا يتّضح أن هذف الاسلام الاساسي من هذا الحكم هو ليس منع المسلمين من استعمال هذا الطراز من القبعات ، بدليل انه كان سيمنعه حتى لو

٣٢٧

كان مخترعه مسلماً ، في حين أن الامر يختلف عن ذلك وأن هدف الاسلام من ذلك التحريم وهذا التجويز هو ايجاد وخلق روح الاستقلال والاعتماد على الذات بين المسلمين ، وتخليصهم من تبعات الحاجة إلى الاخرين وتقليد الشعوب الاجنبية ( الكافرة ) حتى في شؤون حياتهم العادية ، مثل الملابس و الخ.

اصدقاي الأعزاء !

اترك لكم الحكم في هذه القضية ! لو أن المسلمين عملوا بهذا الحكم واحيوه بشكل حقيقي ، أي أنهم أحيوا روح الاستقلال والاعتماد على الذات وعدم التبعية للكافرين ، ألم يكن هذا كافياً لضمان سيادتهم وعزّهم ؟! ولو كانوا عملوا بهذا الأمر المقدس ( عدم التشبه بالكفار ) هل كانوا بحاجة لأن يمدّوا أيديهم نحو الناهبين الدوليين يستعبدونهم ؟! ألم يكن تطبيق هذا الحكم الديني البسيط ، كافياً ، لأن يجعل المسلمين يمتلكون ادواتهم الحضارية دون الحاجة للاخرين ؟ ألم يكن بوسع هذا القانون البسيط أن يجعل المسلمين يخترعون بأنفسهم كل ما يحتاجونه من طائرات وسفن وغواصات و الخ ، كما تمكن المسلمون في الماضي ، ومن خلال فهمهم لحقيقة الحكم المقدس وتطبيقه ، ليس فقط اختراع كل ما يحتاجونه من ادوات ووسائل في حياتهم بل ضمن لهم سيادتهم ومجدهم وعظمتهم على جميع انحاء العالم.

العقيد : كلامك منطقي وصحيح ، ولكن المسلمون اليوم ضعفاء ومضطرون إلى استجداء الدول الأوروبية لتأمين حاجاتهم ومتطلبات حياتهم اليومية.

الشيخ : هذا كلام خاطيء تماماً ، لأنه حتى الدول الصغيرة اليوم تستطيع

٣٢٨

أن تعتمد على نفسها وتقف على قدميها ، وتقطع تبعيتها للعالم الأوروبي المستعمر ، وأن تصنع كل ما تحتاجه بنفسها من خلال عمل جاد وفكر خلّاق ، وأكبر شاهد على ذلك ، دولة اليابان التي تعتبر دولة شرقية صغيرة مقارنة بالكثير من الدول الكبيرة التي لا زالت متخلفة ، فهذا الشعب ومن خلال روح الاستقلال والاعتماد على الذات التي يمتلكها استطاع أن يصنع كل ما يحتاجه ( ويحتاجه الاخرون ! ) في حياتهم اليومية من الابرة حتى السيارة والقطار والسفينة والطائرة و وعشرات البضائع التي تغزوا جميع العالم اليوم. مع أن هذه الدولة الشرقية تمتلك نفس الشروط التي نمتلكها نحن بل وربما اصعب منا ، كما أن عدد سكانها لا يزيد على ثلاثة وثمانون مليون نسمة أيضاً !

لقد قدمت اليابان لجميع الدول الصغيرة درساً في الاعتماد على الذات والروح الاستقلالية من اجل قطع التبعية والخلاص من التخلف ، ( وهو ما أمر به الاسلام قبل قرون من عدم التشبّه بالكفار ) ، وبالاضافة إلى ذلك فالبلدان الاسلامية اليوم تمتلك امكانيات كثيرة بشرية وطبيعية ، وظروفها الاقتصادية والثقافية مساعدة جداً للنهوض والتحرر الحقيقي ، لكنها وبسبب ابتعادها عن الاسلام الحقيقي ، لم تستطع تفعيل امكانيتها وقدراتها العظيمة تلك ، والمؤسف حقاً أن هذه الامكانيات والقدرات اصبحت بذاتها بلاءً على الاُمّة الاسلامية والشعوب المسلمة.

قصة غريبة عن السيد جمال الدين في مصر

حسن ، الطالب الجامعي : بتصوري ان حالة المسلمين اليوم وصلت إلى

٣٢٩

حدّ اليأس من الخلاص والتحرر من هذا العار والذل ، لأنهم ، لم يكتفوا بتقليد اعمى لتلامذة امسهم والتسابق على ذلك ، بل فقدوا جميع قدراتهم البشرية والالهية امامهم وفسحوا المجال بانفسهم للغرب المستعمر أن يتدخل في بلادهم وينفذ في مؤسساتهم كالطاعون ، ومن المستحيل أن تستطيع هذه السفينة المترهلة أن تصل يوماً إلى ساحل الأمان.

الشيخ : اليأس وفقدان الأمل من الذنوب الكبيرة في الاسلام ، وباعتقادي لو رجع الناس إلى الاسلام فانهم يستطيعون تلافي ما فات ، والوقوف امام قوى الاعداء ، بالعمل والسعي المتواصل ، فالاسلام دين الحيوية والنشاط والالهام ، ويمكن أن يبعث الروح في اجساد الشعوب الساكنة ، ولاثبات ما ادعيته لارجع بكم إلى صدر الاسلام حيث تمكن عدّة قليلة لا تتجاوز الثلاثمائة وثلاثة عشر فرداً لا تملك شيئاً يذكر من السلاح والعدّة ، أن تقف امام قوّة كبيرة تفوقها اضعافاً مضاعفة في العدد ومدججة بالسلاح والعتاد ، بل وتنتصر عليها وتهزمها هزيمة فادحة ، بل أروي لكي قصّة غريبة عن ثورة السيد جمال الدين الافغاني في مصر ، والتي حدثت في أواخر القرن الماضي بداية عصر النهضة الذي نشهده حالياً.

تأمّلوا بدقّة ما تقرأون

ملخّص القصّة ، هو أنه في سنة ١٣٠٠ هجرية كانت جميع الدول الاسلامية تخضع لسيطرة مباشرة من قبل الدول الاوروبية ، وكان الخناق يشتدّ يوماً بعد يوم على المسلمين فيها ، ولم تكن من بين تلك الدول إلّا ايران وتركيا لا

٣٣٠

تخضعان بشكل مباشر للسيطرة الاستعمارية ، وكانتا مستقلّتان اسميّاً.

في تلك الحقبة المظلمة قام أحد المسلمين الغيارى وأحد العلماء الأجلاء ، وهو السيد جمال الدين الاسدآبادي « الافغاني » بحركة نهضوية ، بعد رحلات قام بها في ارجاء العالم الاسلامي واطّلع من قرب على المحنة التي يعاني منها المسلمون ، فدعى المسلمين إلى الثورة على واقعهم والخلاص من الانحطاط الذي يعيشونه ، لكن دعوته تلك لم يستجيب لها احد ، سوى الشيخ محمد عبده ، مفتي الديار المصرية فيما بعد ، فسافر مع السيد جمال الدين إلى باريس واخذا يصدران من هناك مجلة « العروة الوثقى » ، وبالمقالات الثورية التي كانا يكتبانها في المجلة التي كانت ترسل إلى الدول العربية والاسلامية ، كانا يحثان المسلمين على النهوض والخروج من جمودهم وغفلتهم ، ولأن تلك الكلمات كانت تخرج من قلوب متحرّقة على الاسلام ووضع المسلمين ، بدأت تجد اثرها في قلوب وعقول الناس شيئاً فشيئاً ، لكن والدول الاستعمارية التفتتبسرعة إلى الأمر وحالت دون وصول المجلة إلى البلدان الاسلامية ( الدول التي كانت تخضع للسيطرة البريطانية والفرنسية ) ، وبهذا فشلت الخطوة الاُولى التي قام بها السيد جمال الدين لتحرير البلدان الاسلامية ، ولكن هذا الفشل لم يجعله ييأس ، لذلك تحرك مباشرة من باريس ومعه الشيخ محمد عبده وحلّوا في مصر ، وقاما هناك بتأسيس جمعية اسمياها « الجمعية الوطنية » ودعيا الشعب المصري للأنخراط في صفوفها ، ولأن الجمعية لم تكن مثل سائر الجميعات والاحزاب في العالم ، لم يكن فيها مكان للبذيئين والسارقين والمنافقين ، كانت الجميعية خلافاً لجميع الاحزاب السياسية لا تسعى لتسلّم السلطة والجلوس على كرسي الحكم ، أو لدعم والحفاظ على سلطة الآخرين

٣٣١

ومن الشخصيات العميلة والضحلة ، لذلك لم ينخرط فيها من كل مصر سوى اربعين شخصاً فهموا معنى التضحية.

وفي الجلسة الخامسة عشر للجمعية الوطنية ، وبحضور جميع الأعضاء ، قام السيد جمال الدين خطيباً فيهم وقال :

ملخّص كلمة السيد جمال الدين

« الهي ، صدقت حيث قلت :( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ، وقولك حقّ ، فقد تأسست هذه الجمعية المقدّسة باسمك ولنصرة دينك ».

ثم خاطب اعضاء الجمعية فقال :

« ايها السادة الأعزاء : القرآن هو الدستور المقدّس الذي يعتبر دليل حقانية الاسلام حتى يوم القيامة وهو أيضاً ضمان سعادة الانسانية.

آه آه ، على هذا القرآن المقدّس الذي غفل المسلمون عنه فأصبح مهجوراً ، هذا القرآن المقدّس الذي تمكن عالم الامس على الرغم من انحطاطه أن يصل إلى تلك المرتبة الحضارية على ضوء تعاليمه النوارنية.

آه آه على القرآن الذي أصبح يستفاد منه فقط فيما يلي :

تلاوته على قبور الموتى في ليالي الجمعة ، امرار وقت الصائمين ، كفارة الذنوب ، العوبة « المكتبخانات »(١) ، دفع الحسد ، القسم الكاذب ، للاستجداء به

________________

(١) المدارس القديمة أو الملا.

٣٣٢

على ارصفة الطرق ، زينة قماط الطفل ، قلائد للعرائس و الخ.

آه ، على هذا الكتاب السماوي الذي اصبح الاهتمام به اليوم اقل من الاهتمام بديوان حافظ وكتاب المثنوي وديوان الشاعر السعدي ، فلو قرأ شيء من تلك الدواوين في محفل ، لرأيت القوم يشهقون ويزفرون ويفتحون قلوبهم فضلاً عن عيونهم واسماعهم ، وكم هي استفادتهم من المعاني العرشية ! والعرفانية ! والخيالية ! الموجودة في تلك الأبيات.

أي وحقّك اللّهمَّ أنت القائل وقولك الحقّ :( نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) .

سبحانك اللّهمَّ أنت القائل وقولك حقّ :( إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .

لقد ادرنا اوجه قلوبنا عن طاعتك المقدّسة ، فأبدلت سعادتنا وعزّنا بالذلِّ والشقاء ».

بعد ذلك نزل السيد جمال الدين من على المنبر ، فيما كان العديد من اعضاء الجمعية قد اغمي عليهم من شدّة البكاء والآخرون أيضاً يبكون ، والسيد جمال الدين كان يبكي أيضاً ويكرر هذه الجملة :

أي وحقِّك اللّهمَّ ، نسيناك ، فأنسينا انفسنا ، حتى اغمي عليه ووقع على الأرض ، وبقي على تلك الحالة ثلاثة ساعات ، فيما كان اعضاء الجمعية في بكاء ونحيب ، بعد ذلك قام السيد جمال الدين من غيبوبته بعد ان دعي له بطبيب ، فرجع اعضاء الجمعية إلى حالتهم الاُولى واستأنفت الجلسة الرسمية.

٣٣٣

المواد السبعة عشر التي ادت إلى ثورة مصر

ثم عادوا للتباحث ، واقترحوا حلولاً للخروج من ذلك الواقع المرّ والمأساوي ، واتّفق الجميع إلى أن عظمة المسلمين ومجدهم السابق كان بسبب تطبيقهم لاحكام الاسلام المقدّسة ، كما أن العامل الوحيد الذي انتهى بهم إلى هذا الشقاء ، هو ابتعادهم عن الاسلام واحكامه ، وعلى هذا الاساس ، فالعلاج الوحيد للحالة المأساوية هو العمل باحكام الاسلام وقوانينه السامية ، ولهذا تم اقرار برنامج عمل يتضمّن سبع عشرة مادّة ، وتعهّد جميع اعضاء الجمعية العمل على تطبيق ذلك البرنامج بمنتهى الجدّية والدقّة ، وهذا نص البرنامج :

١ ـ على كلِّ واحد من اعضاء الجمعية قراءة ما لا يقل عن حزب واحد من القرآن الكريم بدقّة وتأمّل في اليوم.

٢ ـ اقامة الصلوات اليومية ( الواجبة ) جماعة.

٣ ـ عدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٤ ـ دعوة غير المسلمين إلى الاسلام.

٥ ـ الجدل بالّتي هي أحسن مع المبشرين النصارى.

٦ ـ الاحسان للفقراء قدر المستطاع.

٧ ـ القيام بأي عمل مشروع يطلب منهم ، أو انهم يقومون بالعمل فور علمهم به حتى لو لم يطلب منهم ذلك.

٣٣٤

٨ ـ عدم الاغفال عن صلة الرحم وزيارة الأقرباء.

٩ ـ عيادة المرضى.

١٠ ـ السؤال عن المسلم الذي يفتقد في السوق أو المسجد ، وسبب غيابه ، حتى لو كانت لديه مشكلة ، يسعون في حلّها.

١١ ـ زيادة الاشخاص الذين يعودون من سفر مشروع.

١٢ ـ دفع الحقوق ( المالية ) لمستحقيها.

١٣ ـ لا يقصروا في ارشاد الناس بقوانين الدين أو شؤوناته.

١٤ ـ تربية انفسهم وترويضها على الابتعاد عن الصفات الرذيلة خاصة التكبّر والانانية والعجب وحبّ الرئاسة.

١٥ ـ العفو عن اخطاء وزلّات اخوتهم المسلمين.

١٦ ـ التعامل بلين مع الناس ومداراتهم.

١٧ ـ الاحجام عن عمل أو قول ليس فيه نفع مادي أو معنوي لهم أو لسائر المسلمين.

وكان كل عضو يحمل معه دفتراً صغيراً يسجل فيه ما عمله من تلك المواد السبعة عشر ، لكي تسجل جميعها في سجل الجمعية ، ولأن تنفيذ بعض المواد كان يحتاج إلى ميزانية مالية ، لذلك قرّر هؤلاء الاربعون وبشكل أولي بيع كل ما في حياتهم من تجمّلات وتقنعوا باقل العيش واندر الأكل ، لكي يمولوا صندوق الجمعية بتلك الأموال ، لكي لا تتوقّف النشاطات بسبب العجر المالي.

٣٣٥

ابرز اعمال الجمعية الوطنية المصرية لفترة شهر

عمل اعضاء الجمعية الوطنية المصرية بقيادة السيد جمال الدين الاسدآبادي ( الافغاني ) لمدّة شهر واحد بمنتهى الدقّة على ضوء تلك المواد ، وكانت نتيجة العمل وابرز النشاطات كالتالي :

١ ـ عيادة الف وخمسمائة مريض.

٢ ـ زيارة الفين وسبمعمائة مسافر.

٣ ـ تفقّد خمسمائة مسلم غابوا عن المحافل العامة.

٤ ـ قضاء حاجة اثناء عشرة الف محتاج.

٥ ـ تاب على ايديهم ثمانمائة سكّير ( معتاد على شرب الخمرة ).

٦ ـ ادخال الف وثلاثمائة شخص إلى دائرة المصلّين بعد أن كانوا لا يصلّون.

٧ ـ تابت على ايديهم اربعمائة امرأة من الفاحشات والمنحرفات.

٨ ـ ونتيجة لنصحهم ، استقال ثمانون شخصاً عن العمل في الدوائر البريطانية.

٩ ـ جعلوا خمسمائة ثري مصري يتقاعد عن شراء اشياء للزينة كانت تأتي من الخارج ، خاصة من بريطانيا.

١٠ ـ منحوا خمسة وسبعين شخصاً متضرراً ، رأسمال للعمل.

٣٣٦

١١ ـ أمَّنوا مؤونة مئتين وستّة فقير حقيقي لمدّة سنة.

١٢ ـ اسلم على ايديهم ٣٥ نصرانيّاً و ١٥ يهوديّاً و ٧٠ وثني.

١٣ ـ اقاموا اربع واربعين مجلس مناظرة مع مبشري النصارى الذين كانوا مسنودين من قبل الحكومة الانجليزية في مصر ، وأوردوا عليهم ١٢٠ اشكال لم يستطيعوا الاجابة عليها.

كانت هذه اُمّهات اعمال الجمعية التي لا يزيد عددها على اربعين شخصاً ولمدّة شهر واحد فقط.

ردود الفعل على نشاط الجمعية الذي استمر شهراً واحداً

اصدقائي الأعزاء !

إذا اردتم أن تعرفوا كيف أن مجرد العمل بقوانين الاسلام تكون نتيجتها المجد والعظمة للمسلمين واندحار اعداءهم ، انتبهوا إلى ردود الفعل التي حصلت على نشاطات الجميعة الوطنية المصرية والتي استمرت شهراً واحداً :

شاهد اللورد كرومر المستشار المالي البريطاني في مصر ، أن نفوذ بريطانيا في مصر قلّ دفعة واحدة إلى ٤٥% ، فيما تدنّت التجارة البريطانية ٣٥% ، واستقال عن العمل في الدوائر البريطانية ثمانين موظفاً مسلماً مدرّباً ، وليس هناك أحد يتقدّم للعمل في الوظائف الشاغرة ، كما رأى اللورد كرومر وهو لا يصدق من شدّة التعجب ، أن ممثلي الشركات البريطانية وخاصة تلك التي تبيع وسائل الزينة والإناقة والترف ، ارتفعت اصواتهم لعدم وجود

٣٣٧

مستهلكين ، ويقولون أن عوائدنا اقل حتى من ايجارات محلاتنا واجور عمالنا وموظفينا ، كما أن عدداً من المأمورين المصريين المسؤولين عن اخذ الضرائب من محلات المشروبات الكحولية ودور البغاء الرسمية والسينمات والمسارح ، قدموا استقالات عن العمل ، ولاحظ اللورد كرومر نشاطات المبشرين على مدى خمسة وثلاثين سنة لا تعادل ١٦/١ من نشاطات الجمعية الوطنية المصرية خلال فترة شهر ، كل ذلك خلق عنده وساوس وخوف كبير ، فبعث مباشرة بتقارير مهولة إلى لندن.

تقارير اللورد كرومر

يقول اللورد كرومر في أحد تقاريره التي بعث بها إلى لندن :

« وبهذا اُحذّر قادة بريطانيا من خطر داهم ، فلو بقيت نشاطات الجمعية الوطنية بقيادة السيد جمال الدين سنة اُخرى ، لن تتلاشى سياسة وتجارة الحكومة البريطانية في آسيا وافريقيا فقط ، بل نخاف من وقوع نفوذ جميع الدول الأوروبية بخطر في جميع انحاء العالم ».

ويقول في تقرير ثاني :

« الجمعية الوطنية المصرية ، أسوء صاعقة تقف امام مخطّطاتنا ، لذا يجب اصدار امر عاجل بتشتيت افرادها وحلّها ».

وفي تقرير ثالث له ، يقول :

« الجمعية الوطنية المصرية خير دليل على تسلّط المسلمين المحيّر

٣٣٨

للعقول على ثلث بلدان العالم قبل ثلاثة عشر قرناً ، بفترة قصيرة ».

وفي تقرير لاحد المبشرين النصارى رفعه إلى كنيسة سان بول التي كانت أكبر كنيسة في ذلك العصر ، يقول :

« ليس هناك اغرب من هذه الحادثة ، وهي تقهقر سبعمائة مليون مسيحي من ابناء الانجيل امام اربعين مسلماً يحملون بين جنباتهم روح عالم دين هو السيد جمال ».

وأيضاً ، يذكر أحد الأطباء الاجانب الذي كان يعمل في مستشفى بور سعيد ، في كتابه الصادر في ذلك الوقت والذي يحمل عنوان « فلسفة الجمعيات » :

« لو استمرت نشاطات الجمعية الوطنية المصرية على شكلها المحيّر للعقول هذا ، إلى عشرين سنة اُخرى ، ستحوّل العالم كلّه ميداناً لأفكارها ».

وفي رسالة بعث يها رئيس البرلمان البريطاني في مصر إلى أحد كبار الصيارفة في لندن ، جاء فيها :

« ومن عجائب العصر ، هو أن السياسة الأوروبية في مصر اليوم ، وغداً في جميع انحاء العالم ، سحقت على يد اربعين نفر من المسلمين ، الذين لا يملكون سلاحاً سوى الدين والعمل بالقوانين الدينيّة ».

ويكتب أحد المسؤولين الانجليز إلى زوجته في لندن ، فيقول :

« ان روح السعادة التي تنتشر في المجتمع الاسلامي اسرع من البرق ، ستؤثر على الشعوب الأوروبية بوجه عام والشعب البريطاني بالخصوص ليس

٣٣٩

فقط التخلي عن مستعمراتهم ، بل حصر انفسهم بقلعة حصينة في مركز العالم بين الشمال والجنوب ».

وجراء كثرة التقارير المرفوعة ، رأت الحكومة البريطانية ان افساح المجال امام هذه الجمعية للعمل سنوات اُخرى ، مع هذا البرنامج الذي تمتلكه الجمعية ، سيجعل من الصعب على أية قوة الوقوف امام قدراتها الخارقة ، لذلك ابرقت إلى الحكومة في مصر امراً بسرعة حلّ الجمعية وتشتيت شمل افرادها ومعاقبتهم بأشد العقوبات ، وكانت النتيجة نفي السيد جمال الدين من مصر بعد ان اعلنت الاحكام العرفية هناك ، وحكم على الشيخ محمد عبده بثلاث سنوات سجن.

أمّا سائر أعضاء الجمعية فتعرضوا لضغوطات وأحكام مشابهة بشكل يندى له جبين الانسانية ، وبهذا الشكل أفل النجم الذي سطع لشهر واحد في سماء المسلمين ، وعادت بريطانيا إلى نهب خيرات المسلمين وامتصاص دماءهم دون ان يزعجها احد أو يقض مضجعها.

اصدقائي الاعزاء !

والآن الحكم لكم ، فلو كان اربعون مسلماً ومن خلال تمسكهم بتعاليم الاسلام المقدّسة أن يتحولوا إلى قوة بهذا الحجم ترعب الأعداء ، فكيف لو تمسك ستمائة مليون مسلم في عصرنا الحاضر باسلامهم وأحكام دينهم ، ألا يستطيعون اعادة مجدهم وعظمتهم السالفة وينشروا حكومتهم على جميع العالم ؟

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466