رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233627 / تحميل: 8001
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وبذلك سيستهزيء بالاسلام واحكامه ، ولن يكون حريصاً في تعليمه للطلاب ، فهل نترك ابناءنا يتعلمون ويفهمون الاسلام من خلال هؤلاء.

هذه يا سيد بيضاوي مادة التربية الدينية التي تدرّس في مدارسنا !!

عباس بيضاوي : فيما يتعلق بالتربية الدينية ، كلامك صحيح ، لكن يجب ان لا نغفل ان التربية والتعليم في بلادنا تقدمت خطوات واسعة وقامت بانجازات كثيرة.

الشيخ : سيد البيضاوي ! ارىٰ انه من الافضل لك ان تترك الدفاع عن مؤسسات التربية والتعليم الىٰ شخص آخر ! فما هي الخطوات الواسعة والانجازات التي تمت في مجال التربية والتعليم ، ولو ترىٰ شبابنا يسيرون في الاتّجاه الصحيح ، فهو سبب نبوغهم الذاتي واصالتهم وجهود بعض الخيّرين من الاساتذة وعلماء الدين ، وليس سببه برامج التربية والتعليم التي تقررها الوزارة ، خاصة في ضوء الظروف الحالية السائدة في البلاد وتكاليف الدراسة التي ستجعل العلم في هذا البلد أيضاً محصوراً بابناء التجار والمستثمرين.

داء بلا دواء

ولو تركنا هذا كله ، فهناك مشكلة كبيرة ومهمة ستواجه البلد في المستقبل ، وهذهِ المشكلة هي من صنع الثقافة السائدة والتربية والتعليم الحالي ، وهي عدم وجود عدد لازم من الفروع والجمعيات الصناعية والمهنية ، لان طلابنا لا يحلمون الّا بمنضدة وكرسي في احدىٰ الدوائر المكيّفة جيداً وان يكون احد موظفي الدولة ، ولا يفكر احد بمجالات اخرىٰ مثل : الزراعة

٣٦١

والميكانيك وغيرها من الفروع المنتجة والمفيدة للمجتمع.

اصدقائي الاعزاء !

من خلال هذا التفكير السائد ، ومع الاخذ بان جميع ابناءنا سيذهبون يوماً ما الىٰ المدارس والثانويات والجامعات ، ارجو أن تحكموا علىٰ مستقبل البلاد ومصيرها ، لان جيلنا القادم جميعه يريد وظائف حكومية ، وسنضطر في السنوات القادنة الىٰ استيراد التجار والمزارعين والخياطين والخبازين و من الخارج ونضيفهم الىٰ جدول وارداتنا التي لا يمكن احصاءها ، وطبيعي فان الذنب في ذلك يعود الىٰ برامج التربية والتعليم. والآن يا أخي بيضاوي ! اذ قلنا هذهِ الثقافة لو لم تكن نتيجتها انحطاط البلاد وتبعية البلاد للأجانب علىٰ الاقل ، فأنها ثقافة ناقصة لا قيمة لها ؟

ـ تأييد الجميع واقرارهم.

٣٦٢

الموسيقىٰ من الناحيتين الصحّيّة والنفسية

في هذهِ اللحظة ارتفع فجأة صوت موسيقىٰ صاخبة من الغرفة المجاورة ، وكانت مرتفعة بحيث لم يكن بالاستطاعة سماع كلام الشيخ. فغضب اصدقاءه جميعاً ، اما الدكتور فنهض الىٰ الغرفة المجاورة ، وعندما فتح بابها ، خاطب الشخص الذي كان بحمل مذياعاً : أيُّها السيد المحترم ! لو كنت تحب سماع الموسيقىٰ. فلماذا تزعج الآخرين ؟ لربما هناك في الغرفة المجاورة مريض او شخصاً يشكو من الصداع او ضعف عصبي. أمّا صاحب المذياع الذي كان في الظاهر شاباً مؤدباً ، لكنه وللأسف في حقيقته بعيد عن كل أدب ونزاهة فما ان سمع كلام الدكتور المنطقي ، قال بخشونة : ما الذي تقوله ؟ نحن أحرار في هذا البلد نستطيع عمل كل ما يحلو لنا.

فقال له الدكتور : عزيزي ، اي قانون اعطاك كل تلك الحرية ، بحيث يمكنك سلب راحة الآخرين وحقوقهم ؟! ألا تعلم ان حرية الفرد للحد الذي لا تضر بحريات الآخرين وحقوقهم ، وأيضاً فالسيارة والقطار من الاماكن العامة التي لا يحق للشخص عمل ما يزعج الآخرين فيها ؟! وبغض النظر عن كل ذلك. ما هذا الذي تقوم به ، انت تتلف اعصابك وقواك بهذهِ الايقاعات البشعة ؟!

فقال الشاب للدكتور : الظاهر انك رجعي ، فما المانع من سماع الموسيقىٰ ، أليست الروح أيضاً بحاجة الىٰ غذاء.

٣٦٣

فأجابه الدكتور : لو كنت تريد معرفة تأثير الموسيقىٰ السلبي علىٰ الروح والعقل تعالى الىٰ غرفتنا واستمع الىٰ بحث يقدمه شيخ عالم في هذا الموضوع.

بعد هذا الاقتراح نهض الشاب مع الدكتور وجاء الىٰ الغرفة التي اجتمع فيها الشيخ واصدقاءه ، فسلما وجلسا ، ثم توجه الدكتور الىٰ الشيخ وقال له : ايها العم العزيز ، هذا الشاب يريد ان يعرف تأثير الموسيقىٰ في الصحة والنفس ، في ضوء آخر نظريات كبار العلماء.

الشيخ : كثيرة هي الاضرار التي تتركها الموسيقىٰ علىٰ الصحة والنفس ، ولكن ، قبل الخوض في تأثيرات الموسيقى السلبية ، لابد من الاشارة الىٰ ان علماء الفسيولوجيا قسمّوا الجهاز العصبي عند الانسان الىٰ قسمين :

١ ـ الاعصاب الارتباطية.

٢ ـ الاعصاب النباتية.

والاعصاب النباتية تنقسم بدورها الىٰ قسمين هما : السمباتيك والباراسمباتيك.

والاعصاب السمباتيك في الجسم هي : تضييق الاوردة والشرايين ، بسط العضلات ، منع الترشح ، رفع ضغط الدم.

أمّا وظيفة الباراسمباتيك ، فهي تماماً عكس الاولىٰ ، مثل : توسيع الاوردة والشرايين ، قبض العضلات ، ايجاد الترشح ، تخفيض ضغط الدم.

٣٦٤

وما دامت هاتان المجموعتان العصبيتان بدون محرك خارجي ، فانهما تعملان بشكل منظم معاً وتشتركان في الحفاظ علىٰ تعادل الجسم ، ولكن اذا كان هناك محرك خارجي ، فانهما تخرجان من حالتهما الطبيعية وتكون النتيجة اضطرابات نفسية وجسدية عديدة.

ومن أهم العوامل الخارجية المحركة والتي تخلّ بتعادل السمباتيك مع الباراسمباتيك هي الارتعاشات الموسقية. فالموسيقىٰ وعلىٰ شكليها الحزين والمُسرّ تؤثر احياناً علىٰ تعادل هاتين المجموعتين العصبيتين بحيث تخلّ بالكثير من اعمال الجسم الطبيعة مثل : الدفع والترشح وضغط الدم وضربات القلب و مما يعرض الشخص الىٰ الكثير من الامراض. فالموسيقىٰ الصاخبة ونتيجة لتحريك الاعصاب النباتية ، قد تؤدي احياناً الىٰ اضطرابات نفسية تجعل الشخص يقوم بحركات ونشاطات مفاجئة ولا ارادية كالضحك والثرثرة والفرح المفرط والهيجان وقد ينتهي به الامر الىٰ نوع من الجنون يتميز بالانفعال الشديد(١) .

اصدقائي الاعزاء !

بعد هذهِ المقدّمة سأوضح لكم الآثار السلبية للموسيقىٰ بالتفصيل ، وهي عبارة عن :

١ ـ الموسيقىٰ سبب رئيسي في الانهيار العصبي :

________________

(١) mania

٣٦٥

اهم تأثير للموسيقىٰ هو اضعفاها للأعصاب ودورها في الانهيار العصبي ، واهمية هذا الامر جعلت عالمنا المعاصر يعيش حالة من الرعب ، لان ضعف الاعصاب يعد العامل الرئيسي ومصدراً لكل والوكعات الجسمية والنفسية ، ويعدّ ضعف الاعصاب من الامراض التي يصعب علاجها اليوم وهو اخطر من مرض السلّ كما انه شائع اليوم في جميع انحاء العالم خاصة الدول الغربية ، ولهذا قامت دراسات وابحاث عديدة حوله من قبل المحافل والمؤسسات الطبية وقد بينت النتائج ان الموسيقىٰ الصاخبة هي السبب الرئيسي له.

وهد أكّد هذا الرأي العديد من علماء اوروبا وامريكا ، وقبل به الجميع بالتدريج ، للحد الذي قام فيه عدد من المثقفين والكتاب والعلماء الامريكيين ، بأعداد لائحة وقدموها الىٰ مجلس الشيوخ الامريكي. لمنع اقامة حفلات موسيقية صاخبة في الاماكن العامة ، لأنها السبب في الكثير من الامراض ، وخاصة ضعف الاعصاب.(١)

٢ ـ الموسيقىٰ سبب ضعف الارادة والالتفات غير الطبيعي :

ومن التأثيرات السلبية الاُخرىٰ للموسيقى ، هو تضعيف الارادة وايجاد التفاته غير طبيعية عند المستمع ، لان الموسيقىٰ وبسبب التأثيرات الصوتية والارتعاشات توجد حالة من البهتة والالتفات غير الطبيعي عند المستمع ، مما يؤدي بدوره الىٰ تأثيرات مبهمة في المخ علىٰ حدّ قول علماء النفس(٢) ، وهو

________________

(١) الاسلام والموسيقىٰ ، نقلاً عن مجلة « ديمانش ايولستر » الباريسية.

(٢) psychologie

٣٦٦

عامل رئيسي في ضعف الارادة ، لأن المستع وكأنما يركز كل قواه في اُذنيه وبذلك يفقد السيطرة علىٰ سائر اعضاء جسمه ، ولهذا نشاهد احياناً حركات يقوم بها المستمع للموسيقىٰ ، دون ارادة ، وهو في الحقيقة نوع من الرقص الخفيف.

٣ ـ الموسيقىٰ سبب في جمود الذهن :

ومن التأثيرات التي تتركها الموسيقىٰ علىٰ الانسان ، هو الركود والجمود الفكري والذهني ، للحد الذي سميت فيه الموسيقىٰ بحجاب العقل ، لان الانجذاب الروحي الذي يحدث عند الشخص الذي يسمع الموسيقىٰ ، يؤدي به الىٰ نوع من الصمت والتحجر العقلي ، بحيث انه حتىٰ لو كان من كبار المفكرين ، في تلك اللحظة ، يصبح عقله غير منتج ، ولو كان من كبار القضاة فسيعجز في تلك اللحظة عن البتّ في ابسط حادث ، بعبارة اخرىٰ ستتأثر قواه العقلية بالاصوات الموسيقية الىٰ حد يعجز عن استخدام عقله في المجالات العلمية ومن اجل حلّ المعضلات الاجتماعية ، ولذلك فكبار المفكرين وبعض الاحيان الطلبة الجامعيين الذين يسمعون الموسيقىٰ بكثرة ، بطيئون في الامور الفكرية ومتخلفون في مجال الرياضيات.(١)

٤ ـ الموسيقىٰ سبب ارتفاع ضغط الدم :

التأثير الرابع للموسيقىٰ ، هو انها احد اسباب ارتفاع ضغط الدم ، فقد قام احد الاطباء الاوروبيين بتجربة لمعرفة العلاقة بين الموسيقىٰ وارتفاع ضغط الدم فوضع جهازاً لقياس الضغط علىٰ يديه وفتح المذياع يستمع

________________

(١) الاسلام والموسيقىٰ.

٣٦٧

لمختلف البرامج الموسيقية ، فتوصل من خلال تلك التجربة الىٰ النتائج التالية :

أ ـ كلما كانت الموسيقىٰ عنيفة اكثر ، ازداد ضغط الدم ، وعندما كان يستمع لموسيقىٰ خاملة تؤدي للكسل والانحلال. كان انخفاض مؤشر الضغط بحدّ ارعب فيه الطبيب.

ب ـ بعض البرامج الموسيقية ، لم تكن مؤثرة في المستمع بأي نحو من الانحاء.

ج ـ كان لبعض الموسيقىٰ تأثير مهدىء ، وباستمرارها لفترة جعلت الضغط ينخفض اقل من الحدّ الطبيعي.

د ـ وكانت هناك نوع من الموسيقىٰ ، لها تأثير علىٰ ضغط دم الدكتور بحيث اعتبرت تهديداً حقيقياً علىٰ صحته.(١)

٥ ـ الموسيقىٰ من عوامل الجنون :

في بعض سجون روسيا الخاصة بالسجناء السياسيين هناك تعذيب خاص يسمىٰ « هومة او باتيك ». وعلىٰ غرار ذلك ، قاموا في احد سجون « روسيا » بتعريض سجين سياسي الىٰ موسيقىٰ وطنية منها النشيد الوطني الروسي. وذلك كي يعلموه حب الوطن ! لكن المسكين جُنَّ بعد خمسة اشهر فقط.(٢)

________________

(١) الاسلام والموسيقىٰ ، نقلاً عن مجلة « ريدرز ايجست » ، ترجمة الدكتور صائبي.

(٢) الاسلام والموسيقىٰ ، ترجمة ، جينور.

٣٦٨

٦ ـ الموسيقىٰ سبب في الفجور :

ومن اهم التأثيرات الموسيقىٰ السيئة ، هي انها تسوق المستمع خاصة الفتيان والفتيات نحو الفاحشة ، لانها تحرك قواهم الشهوانية ، لأن الشباب وقبل سماعهم الموسيقىٰ ربما يعيشون حالة حياء وخجل او عوامل اخلاقية اخرىٰ لذلك لا يرضون بارتكاب اعمال حيوانية منافية للعفّة ، لكنهم يكونون مستعدين للقيام بأقبح الاعمال تحت تأثير الموسيقىٰ الصاخبة ، ولذلك يمكن القول ان الموسيقىٰ وخاصة الصاخبة منها لها دور كبير في اشاعة الفحشاء والمنكر اليوم.

٧ ـ الموسيقىٰ تميت العواطف :

من تأثيرات الموسيقىٰ الاُخرىٰ ، انها تميت العاطفة والاحاسيس في مستمعها ، ولقد شوهد اشخاص كثيرون كانوا علىٰ درجة عالية من العاطفة والاحساس والشعور وكانوا يتأثرون لمشاهدة ابسط منظر ، لكنهم فقدوا تلك العاطفة وذلك الشعور بعد ان استمعوا للموسيقىٰ بشكل مستمر ، بحيث اصبحت اعنف المواقف لا تأثر فيهم قيد انملة ، وكلما ازداد سماع الموسيقىٰ قلّت العاطفة.

وهنا لابد من الاشارة الىٰ اننا قد نشاهد تأثر اهل الموسيقىٰ الشديد لمشهد بسيط يشاهدونه وقد يبكون أيضاً عليه ، ولكن هذا التأثر والبكاء سببه ضعف الارادة وعدم وجود تعادل لديهم ، لهذا علينا ان نفرّق بين العاطفة وضعف الارادة والاعصاب.

٣٦٩

اصدقائي الاعزاء !

هذهِ بعض اضرار الموسيقىٰ الصحية والنفسية ، والآن لنسمع نظريات بعض اشهر علماء اوروبا حول تأثيرات الموسيقىٰ السلبية :

رأي الدكتور ولف :(١)

ذكرت مجلة « ديمانش ايلوستر » التي تصدر في باريس :

« علىٰ الرغم من ان علماء القرن الاخير ، التفتوا الىٰ التأثيرات السيئة التي تتركها الموسيقىٰ في الانسان ، لكنه لا يزال العديد من الناس يجهلون ذلك ، حتىٰ اثبت الدكتور ولف پروفسور في جامعة كولومبيا(٢) قبل سنوات ان افضل واكثر الالحان الموسيقية جذابيّة هي اكثرها تأثيراً علىٰ اعصاب الانسان ، خاصة اذا كان الطقس حاراً فان تأثيراتها المخربة تزداد ، وفي مناطق حاره مثل السعودية وبعض نواحي ايران فان تأثيرها سيء للغاية ».(٣)

رأي الدكتور الكسيس كارل(٤)

يقول الدكتور كارل ، عالم الفسيولوجيا الفرنسي الكبير :

________________

(١) Wolf

(٢) Colombia

(٣) الاسلام والموسيقى.

(٤) Dr, A. carril

٣٧٠

« لربما ينتج عن ارضاء بعض الشهوات نوع من الاهمية ، ولكن ليس هناك شيء اسفه من الحياة التي لا تعرف سوىٰ الرقص والتجوال بالسيارات ومشاهدة الافلام وسمع الموسيقىٰ » !!

ويضيف : « العديد من العمال الشباب يملأون اوقات فراغهم بالذهاب لدور السينما والديسكوهات والنوادي الليلية ، او قراءة القصص السخيفة والهذيان مع بعضهم ، او سماع اكاذيب المذياع ، وبعض الطلاب لا يستطيعون حفظ دروسهم الّا عن طريق المذياع ، والمذياع ايضاً كالسينما والموسيقىٰ يجعل الذين يولعون به في غاية الكسل. ومع ان التنزه اكثر من الحدّ الطبيعي ، لا ينسجم مع الحياة. لأن الحياة عمل ، الّا ان اغلب الطلاب والموظفين والعمال و يعتبرون النزهة الشرط الوحيد في الحياة ! »

وفي بحث آخر يقول الدكتور كارل :

« ان اتجاه العمال المفرط نحو المشروبات الكحولية دمرّ مجتمعنا ، والبرامج الرياضية الرديئة التي تبث من الاذاعة او التلفزة ، اخذت بمعنويات ابناءنا ، ومع ان الحكومات منعت منذ زمن تناول لحم الحيوانات المصابة بالسلّ وأمراض اخرىٰ ، إلّا اننا بحاجة اليوم الىٰ قوانين تحدّ من انتشار تناول المشروبات الروحية المفرط والسفلس والامراض النفسية التي تسببها الافلام السينمائية والاذاعة والتلفزة والمجلات ، ولان اتلاف الوقت بمشاهدة الافلام السينمائية وسماع المذياع يقللان من الذكاء.(١)

________________

(١) الاسلام والموسيقىٰ.

٣٧١

افضل جائزة لأفضل مغني !

اصدقائي الاعزاء !

وبعد ان سمعتم بالتأثيرات السيئة التي تتركها الموسيقىٰ علىٰ صحة الانسان وسلامته النفسية ، وكذلك الىٰ نظريات كبار علماء اوروبا وامريكا في هذا الصدد ، أليس من المؤسف ان تقدم في بلادنا سنوياً جائزة لافضل ملحّن ومغني وعازف ، تبلغ قيمتها ستون الف تومان(١) في حين ان جائزة افضل كتاب في السنة لا تتعدىٰ خمسة آلاف تومان فقط ؟! ألن يتساءل العالم : ما الذي يحدث في ايران حتىٰ انها تفضل المغنين والملحنيين علىٰ العلماء ، تفضل الشاب او الشابة الذي لا يعرف سوىٰ الغناء او العزف وتلهية الشعب المسكين واغفاله ، علىٰ العالم الذي قضىٰ جلّ حياته في طلب العلم والبحث العلمي ، وفي مثل هذا البلد ما هو مصير العلماء والعلم. فهل سيتقدم ويتطور بلد تكون فيه الراقصات اكثر قيمة من العلماء ؟! واذن ، علام كل هذهِ المهاترات والتبجحات ، بدعم العلم والثقافة ؟! بالاضافة الىٰ ذلك ، أليس في هذا البلد من هو احق بمثل تلك الجوائز ؟! وأما كان من الافضل ان يعطىٰ هذا المبلغ لافضل مزارع ، حتىٰ ينتج محاصيل جيدة ، او الىٰ موظف يخدم بلده وشعبه بصدق ، او الىٰ عامل ومهني مبدع ؟! ألا يحق للانسان الذي يشاهد هذهِ الاعمال التي تجري في البلدان يقول لو اننا متخلفون عن الغرب خمسين سنة صناعياً ، فاننا وبعض حكامنا متخلفون اكثر من ذلك عن الغرب فكرياً. فالكثير من اعمال

________________

(١) صحيفة اطلاعات ، العدد ١٠١٣٣.

٣٧٢

التي قام بها الغرب في الخمسين سنة الماضية تركها اليوم بعد ان وقف علىٰ مضارها الصحية والاجتماعية. في حين ان بلادنا لا زالت تريد الاتجاه نحو تلك الاشياء التي نبذها الغرب ، وتخصص لها جوائز باسم الفن ! والظاهر ان الفن الايراني هذه الايام اقتصر علىٰ الغناء والرقص فقط !!

الاسلام لا يمانع من استخدام المذياع او التلفاز

ولكن.. ارحموا اطفالكم وابناءكم

ايها المسلمون الغيارىٰ ! وايها الطامحون بسعادة انفسهم وأسرهم ! ويا من لا زال ضجيج حضارة الغرب لم يصمّ اسماعهم ويستطيعون سماع الحقائق واتباعها ! تعالوا وارحموا اطفالكم وصغاركم الذين لا ذنب لهم ، واذا لم تستطيعوا السيطرة علىٰ المذياع والتلفاز داخل البيت فالافضل ان لا تدخلوهما اليه.

ايها المسلمون الغيارىٰ ! أتعلمون عظمة الذنب الذي ترتكبونه وانتم تأخذون مثل هذهِ الاجهزة الىٰ منازلكم ( مع الاخذ بالبرامج الاستعمارية التي تبثها القنوات الاستعمارية في بلادنا ) ، فبشراءكم لهذهِ الاجهزة وادخالها للبيت دون السيطرة عليها ، تجعلون افكار وعقول نساءكم وابناءكم بيد حفنة من المغنين والمغنيات والراقصات !.

ايها المسلمون الشرفاء ، كيف ترضون بأن تصبح عقول ابناءكم مراتع لأفكار هؤلاء المنحطين والفاسقين ، الذين سيبعدون ابناءكم واهليكم عن كل فضيلة وخُلُق. وبالنتيجة سيجدون بعد فترة ورغم انكم منعتم اطفالكم

٣٧٣

وابناءكم من الاختلاط بمثل هؤلاء الناس. الّا انهم يعرفون كل انواع الرقص والغناء ، أتدرون من اين تعلموا ذلك ؟ نعم انا اقول لكم ، لقد تعلموا هذا الدرس القبيح والسيء من الراديو والتلفاز الذي ادخلتموه بأيديكم الىٰ البيت.

الاذاعة والتلفزة اللتان يقع عليهما جزء كبير من مسؤولية ارشاد الناس وتوجيههم بالمعنىٰ الحقيقي ، اصبحا اداة بيد الحكومات لكي تلقن الشعب ما ترتضيه هي ، وهذه الادوات في بلادنا اصبحت تعرّف لنا الراقصات والاميين والمستبدين بعناوين مختلفة مثل الفنانات والشخصيات البارزة والرجال العظماء و...!

اصدقائي الاعزاء !

ألا تعلمون ان الجهاز الاعلامي في بلادنا اصبح من اهم اسباب شقاء المجتمع وتعاسته ، ويقوم بتوجيه شبابنا وصغارنا ( جيل المستقبل ) نحو الرذيلة والفساد والشقاء دون ضجّة وبأعصاب باردة جداً ، وللأسف الشديد نشاهد انتشار هذين الجهازين ( المذياع والتلفاز ) في جميع الاماكن ، فالاسر التي لا تجد لقمة عيش تسدّ بها جوع اطفالها ، لابد ان تشتري احد هذين وخاصة التلفاز لانه اصبح من ضروريات الحياة الحديثة كما يقولون !!! وارجو ان لا نتصور ان الاسلام يحرم المذياع او التلفاز بحد ذاتها ، فهذان الجهازان قيمان جداً ، ويمكن الاستفادة منهما كثيراً في تثقيف الناس ورفع المستوىٰ العلمي ، اما عدم جوازه للجميع فهو بسبب البرامج التي تبثها هذهِ الاجهزة

٣٧٤

اليوم ، ولانهما اصبحا منطلقاً لتنفيذ مخططات الاعداء في افساد الشاب وتدمير ثقافة الامة والشعب ، ولان الاذاعة والتلفزة اصبحتا مركزاً للهو والفساد والغناء ، وهما من عوامل تخلف الناس فكرياً وروحياً ، ولهذا السبب يعتبر امتلاك المذياع والتلفاز غير جائز للجميع ، لانهما فارغان من البرامج المفيدة وليس فيها الا اغنية تتلوها اغنية اخرىٰ ورقص يتلوه رقص آخر و... هكذا ، فهل وصل هذا الشعب المسكين الىٰ هذهِ الدرجة من السعادة في العيش ، بحيثُ لابد ان يقضي ساعات طويلة من يومه بالغناء والرقص !!

اجل كل ذلك من اجل خنق صوت الشعب ، واغفاله عن التفكير بثرواته التي تنهب ، ومن اجل ان لا يلتفت الىٰ حياة الذل التي يعيشها ، وحتىٰ لا يفكر : الىٰ متىٰ نكون تبعاً للأجانب الذين يقضون في كل شاردة وواردة عندنا ، في حين ان العديد من شعبنا يموت لانه لا يمتلك ما يأكله او حتىٰ جرعة ماء مصفّىٰ يشربها ، والظاهر ان الاجانب وعملاؤهم لم يجدوا افضل من هذهِ الوسائل لاغفال الناس وألهاءهم ، وليس هناك افضل من تلك الاصوات العذبة ! والراقصات ( الفنانات ) الجميلات ! لهذا الغرض.

أليست هذهِ الالحان الراقصة والملهية ، هي ـ علىٰ الاقل ـ مصداقاً بارزاً لـ « اللهو واللعب » الذي ينهىٰ عنه القرآن الكريم.

٣٧٥

المشروبات الكحولية

آه يا ناس ادركوني قتلني هذا النذل هذا الساقط

بمجرد سماعهم لهذهِ الكلمات نهض الركاب من مكانهم وخرجوا من غرفهم ليعرفوا حقيقة الامر وما الذي حدث ، وهكذا خرج الشيخ واصدقاءه ليروا ما الامر ، لكن ازدحام المسافرين الذين كانوا ينظرون الىٰ حادث وقع ، حال دون مشاهدتهم ، لكن شرطة القطار قامت بتفريق المسافرين وادخالهم الىٰ غرفهم ، وبما ان غرفة الشيخ كانت قريبة من مكان الحادث ، لذلك تمكنوا من ان يشاهدوا جثة شاب ملقات علىٰ الأرض تسبح بدمائها فيما الشرطة تمسك بشاب آخر ثمل واقتادته الىٰ جهة اخرىٰ من القطار. وعندما سأل الشيخ واصدقاءه عن الحادث ، قال بعض المسافرين : ان هذين الشابان كان يلعبان القمار وهما ثملين وبعد ربح وخسارة لكل منهما اخذا يتمازحان ، لكن مزاحهم انتهىٰ الىٰ العراك ، ولم نسمع إلّا واحدهما ينادي : آه يا ناس ادركوني قتلني هذا النذل هذا الساقط ، فخرجنا ورأينا ما شاهدتموه انتم أيضاً ، فتأثر الشيخ واصدقاءه كثيراً لهذا الحادث واقفلوا راجعين الىٰ غرفهم.

الدكتور : لا ادري اي مرض هذا القمار والخمر الذي ينتشر بين هذا الشعب المسكين ، ومسؤولي البلد غافلون ولا يعملون شيئاً لتخليص الناس منه.

٣٧٦

عباس بيضاوي : ماذا تفعل الدولة ، فالمشروب لا يمكن اجتثاثه ، لانه ضروري في بعض الاحيان ! وعلىٰ الناس ان لا يفرطوا في تناوله.

الشيخ : اتدري ماذا تقول يا سيد بيضاوي ، فهل تريد ان يبقىٰ هذا السمّ المهلك في البلد ؟! اتدري ما الذي تفعله المشروبات بأجسام هذا الشعب المسكين والشقيّ ؟

عباس بيضاوي : اعلم بعض مضاره ، ولكن ليست بحد الذي ادعوا لاجتثاثه من البلد ، فإذا تفضلت علينا برأي الصحة والطب فيه ، لربما اشاركك الرأي في منعه تماماً.

الشيخ : ان مضار المشروبات الكحولية اكثر من ان احصيها في هذه العجالة ، لكني سأتحدث عنها باختصار :

١ ـ المعتادون علىٰ المشروبات الكحولية اعمارهم قصيرة :

اثبت الدكتور باركر احد اشهر اطباء نيويورك. ان موت خمسين شاباً ( ٢١ ـ ٢٢ سنة ) من المدمنين علىٰ شرب المسكر ، يقابله موت اقل من عشرة شباب غير مدمنين عليه.

وكذلك ، طبقاً للابحاث التي قام بها الانجليزي المشهُور بيسون ، فإن الشباب الذين يتصور انهم يعيشون الىٰ سنّ الخمسين سنة. لا تستمر اعمارهم اكثر من خمس وثلاثين سنة بسبب تناول المشروبات الكحولية.

ويقول السيد « توماس هويتغر » ان شركات التأمين علىٰ الحياة ، ثبت لديها ان اعمار الاشخاص المدمنين علىٰ تناول المشروبات الكحولية اقل من

٣٧٧

اعمار الآخرين بنسبة ٢٥ الىٰ ٣٠ بالمئة ؛ أي لو كان متوسط اعمار غير المدمنين اربعين سنة ، فان متوسط اعمار المدمنين سيكون ثلاثون او ثمان وعشرون سنة.(١)

ويقول وزير الصحة الفرنسي ( برناردشنو ) في احصائية مدهشة حول خسائر المشروبات الكحولية :

« ان خسائر الافراط في تناول المشروبات الكحولية بلغ سنة ١٩٥٦ عشريف الف شخص »(٢) .

ويقول الامين العام للجنة الدولية لمكافحة المسكرات :

ان ٢٥% من الاخطار والسوانح التي تظهر في العمل ، و ٥٧% من حوادث السيارات في فرنسا سببها استعمال المشروبات الكحولية.(٣)

٢ ـ المشروبات يؤدي الىٰ مرض الكحولية :

يقول الطبيب الفرنسي المعروف ، السيد دوبوي ، في كتابه « الطب الحديث » : تسوق المشروبات متناوليها نحو مرض يسمىٰ الكحولية ( Alcoholism ) ، فالسكران يشعر في بداية الامر بنوع من اللذة والنشوة ، لكن تلك اللذة تتحول بسرعة الىٰ ألم وضعف ، ولكن هذهِ اللذة السريعة هي التي تجعل الاشخاص يدمنون علىٰ شرب المسكر ، وهذا الادمان والافراط في شرب المسكر يؤدي بهم الىٰ نوع من التسمم يسري في جميع الاعضاء والدم و

________________

(١) مضار المشروبات الكحولية.

(٢) مجلة الصحة ، العدد ١٢.

(٣) المصدر نفسه.

٣٧٨

يصل الامر الىٰ سوء الهضم وتعطل عمل المعدة والكبد ، وتسوء حالة المجاري التنفسية وكذلك المجاري البولية ، ويظهر اختلال في الاعصاب ، وبالنهاية يؤدي الىٰ الجنون والخرف ، وفي بعض الاحيان يموت الشخص قبل تلك الحالة ؟

يقول الدكتور « غاليته بواسيه » الفرنسي :

في جميع المشروبات الكحولية سمّ يدعىٰ الكحول ( Alcohol ) وطبيعي كلما كان الحكول كثيراً في المشروبات ازدادت اضراره أيضاً.

ولهذا فالخمرة التي يوجد في كل عشرين غرام منها ٨ ـ ١٠ غرامات كحول تكون اكثر ضراراً من سائر المشروبات الروحية.

والكحولية : هي التسمم الذي ينشأ عن الافراط في تناول المشروبات الكحولية والتي تؤدي الىٰ تلف احشاء المريض وتوقف العديد من اعضائه ، فيتجه المدمن نحو الموت دون ان يشعر ، والكحولية لا تحدث فجأة ، بل تظهر بالتدريج »(١) .

٣ ـ تأثير المشروبات الكحولية علىٰ الدورة الدموية :

ان تناول الكحول يؤدي الىٰ الاخلال في عمل الدم وايصاله الغذاء الىٰ انسجة الجسم. كما تؤدي الىٰ تراكم الدهنيات المحيطة بالقلب مما يضعّف حركة القلب ، لذلك ، فان نبض المدمنين علىٰ الكحول بطيء في الغالب وغير منظم ، وهو السبب في اكثر امراض القلب ، كما ان الكحول يؤدي الىٰ

________________

(١) مضار المشروبات الكحولية.

٣٧٩

تصلب الشرايين وبالنتيجة الىٰ ارتفاع ضغط الدم ، وقد ينتهي الامر بتمزق الشراين.(١)

٤ ـ تأثير المشروبات الكحولية علىٰ القلب :

ذكر استاذ كلية الطب ورئيس مستشفىٰ « سينا » في خطاب له :

« مع ان للقلب عصبان : احدهما. « بنومونماستريك » الذي يبطيء الانقباضات او يجعلها معتدلة ، والآخر ، « سمباتيك » الذي يسرّع الانقباضات ، فلو قطع هذين العصبين ، لأستمر القلب في نشاطه ، بشرط أن لا يكون الشخص مدمناً علىٰ الكحول اولاً ، ومصاباً بمرض السفلس ثانياً »(٢)

٥ ـ تأثير المشروبات الكحولية علىٰ الجهاز التنفسي :

ان المشروبات الكحولية تؤدي الىٰ تورم الحنجرة والقصبة الهوائية فيخشن صوته ويزداد عنده السعال نتيجة للتحريكات التي تحصل في القصبة.

كما ان المشروبات الكحولية تجعل الانسان المستعد يصاب بمرض السلّ ، فالاحصائيات اشارت الىٰ ان اغلب المسلولين هم من المدمنين علىٰ المشروبات الكحولية.

وقد اثبت « البروفسور ماس » ان لمرض السلّ الرئوي ارتباط وثيق

________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) م. ن.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466