رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233430 / تحميل: 7998
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يثبت أن فرعون ونظراءه من أدعياء الرّبوبية يكذبون جميعا في ادعائهم ، وأن ربّ العالمين هو الله فقط ، لا فرعون ولا غيره من البشر.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى عقيب دعوى الرسالة من جانب الله قال : فالآن إذ أنا رسول ربّ العالمين ينبغي ألا أقول عن الله إلّا الحق ، لأنّ المرسل من قبل الله المنزّه عن جميع العيوب لا يمكن أن يكون كاذبا( حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ ) .

ثمّ لأجل توثيق دعواه للنّبوة ، أضاف : أنا لا أدعي ما أدّعيه من دون دليل ، بل إنّ معي أدلة واضحة من جانب الله( قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

فإذا كان الأمر هكذا( فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

وكان هذا في الحقيقة قسما من رسالة موسى بن عمران الذي حرّر بني إسرائيل من قبضة الاستعمار الفرعوني ، ووضع عنهم إصرهم وأغلال العبودية التي كانت تكبّل أيديهم وأرجلهم ، لأنّ بني إسرائيل كانوا في ذلك الزمان عبيدا أذلّاء بأيدي القبطيين (أهالي مصر) فكانوا يستفيدون منهم في القيام بالأعمال السافلة والصعبة والثقلية.

ويستفاد من الآيات القادمة ـ وكذا الآيات القرآنية الأخرى بوضوح وجلاء أنّ موسى كان مكلفا بدعوة فرعون وغيره من سكان أرض مصر إلى دينه ، يعني أن رسالته لم تكن منحصرة في بني إسرائيل.

فقال فرعون بمجرّد سماع هذه العبارة ـ (أي قوله : قد جئتكم ببيّنة) ـ هات الآية التي معك من جانب الله إن كنت صادقا( قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

وبهذه العبارة اتّخذ فرعون ـ ضمن إظهار التشكيك في صدق موسى ـ هيئة الطالب للحق المتحري للحقيقة ظاهرا ، كما يفعل أي متحر للحقيقة باحث عن الحق.

١٤١

ومن دون تأخير أخرج موسى معجزتيه العظيمتين التي كانت إحداهما مظهر «الخوف» والأخرى مظهر «الأمل» وكانتا تكملان مقام إنذاره ومقام تبشيره ، وألقى في البداية عصاه :( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) (1) .

والتعبير بـ «المبين» إشارة إلى أنّ تلك العصا التي تبدلت إلى ثعبان حقّا ، ولم يكن سحرا وشعبذة وما شاكل ذلك ، على العكس من فعل السحرة لأنّه يقول في شأنهم : إنّهم مارسوا الشعبذة والسحر ، وعملوا ما تصوره الناس حيات تتحرك ، وما هي بحيات حقيقة وواقعا.

إنّ ذكر هذه النقطة أمر ضروري ، وهي أنّنا نقرأ في الآية (10) من سورة النمل ، والآية (31) من سورة القصص ، أن العصا تحركت كالجانّ ، و «الجانّ» هي الحيات الصغيرة السريعة السير ، وإنّ هذا التعبير لا ينسجم مع عبارة «ثعبان» التي تعني الحية العظيمة ظاهرا.

ولكن مع الالتفات إلى أنّ تينك الآيتين ترتبطان ببداية بعثة موسى ، والآية المبحوثة هنا ترتبط بحين مواجهته لفرعون ، تنحل المشكلة ، وكأن الله أراد أن يوقف موسى على هذه المعجزة العظيمة تدريجا فهي تظهر في البداية أصغر ، وفي الموقف اللاحق تظهر أعظم.

هل يمكن قلب العصا إلى حية عظيمة؟!

على كل حال لا شك في أنّ تبديل «العصا» إلى حية عظيمة معجزة ، ولا يمكن تفسيرها بالتحليلات المادية المتعارفة ، بل هي من وجهة نظر الإلهي الموحد ـ الذي يعتبر جميع قوانين المادة محكومة للمشيئة الربانية ـ ليس فيها ما يدعو للعجب فلا عجب أن تتبدل قطعة من الخشب إلى حيوان بقوة ما فوق

__________________

(1) احتمل «الراغب» في «المفردات» أن تكون كلمة ثعبان متخذة من مادة «ثعب» بمعنى جريان الماء ، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهر التي تجري بصورة ملتوية.

١٤٢

الطبيعة.

ويجب أن لا ننسى أن جميع الحيوانات في عالم الطبيعة توجد من التراب ، والأخشاب والنباتات هي الأخرى من التراب ، غاية ما هنالك أن تبديل التراب إلى حية عظيمة يحتاج عادة إلى ملايين السنين ، ولكن في ضوء الإعجاز تقصر هذه المدّة إلى درجة تتحقق كل تلك التحولات والتكاملات في لحظة واحدة وبسرعة ، فتتخذ القطعة من الخشب ـ التي تستطيع وفق الموازين الطبيعية أن تغير بهذه الصورة بعد مضي ملايين السنين ـ تتخذ مثل هذه الصورة في عدّة لحظات.

والذين يحاولون أن يجدوا لمعاجز الأنبياء تفسيرات طبيعية ومادية ـ وينفوا طابعها الإعجازي ، ويظهروها في صورة سلسلة من المسائل العادية مهما كانت هذه التفاسير مخالفة لصريح الكتب السماوية. إنّ هؤلاء يجب أن يوضحوا موقفهم : هل يؤمنون بالله وقدرته ويعتبرونه حاكما على قوانين الطبيعة ، أم لا؟ فإذا كانوا لا يؤمنون به وبقدرته ، لم يكن كلام الأنبياء ومعجزاتهم إلّا لغوا لديهم.

وإذا كانوا مؤمنين بذلك ، فما الداعي لنحت ، مثل هذه التّفسيرات والتبريرات المقرونة بالتكلف والمخالفة لصريح الآيات القرآنية. (وإن لم نر أحدا من المفسّرين ـ على ما بينهم من اختلاف السليقة ـ عمد إلى هذا التّفسير المادي ، ولكن ما قلناه قاعدة كلية).

ثمّ إنّ الآية اللاحقة تشير إلى المعجزة الثّانية للنّبي موسىعليه‌السلام التي لها طابع الرجاء والبشارة ، يقول تعالى :( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) .

«نزع» تعني في الأصل أخذ شيء من مكان ، مثلا أخذ العباءة من الكتف واللباس عن البدن يعبر عنه في اللغة العربية بالنزع فيقال : نزع ثوبه ونزع عباءته ، وهكذا أخذ الروح من البدن يطلق عليه النزع. وبهذه المناسبة قد يستعمل في الاستخراج ، وقد جاءت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بهذا المعنى.

ومع أنّ هذه الآية لم يرد فيها أي حديث عن محل إخراج اليد ، ولكن من

١٤٣

الآية (32) من سورة القصص( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ ) يستفاد أنّ موسى كان يدخل يده في جيبه ثمّ يخرجها ولها بياض خاص ، ثمّ تعود إلى سيرتها وحالتها الأولى.

ونقرأ في بعض الأحاديث والرّوايات والتفاسير أنّ يد موسى كانت مضافا إلى بياضها تشعّ بشدّة ، ولكن الآيات القرآنية ساكتة عن هذا الموضوع ، مع عدم تناف بينهما.

إنّ هذه المعجزة والمعجزة السابقة حول العصا ـ كما قلنا سابقا ـ ليس لها جانب طبيعي وعادي ، بل هي من صنف خوارق العادة التي كان يقوم بها الأنبياء ، وهي غير ممكنة من دون تدخل قوة فوق طبيعية في الأمر.

وهكذا أراد موسى بإظهار هذه المعجزة أن يوضح هذه الحقيقة ، وهي أن برامجه ليس لها جانب الترهيب والتهديد ، بل الترهيب والتهديد للمخالفين والمعارضين ، والتشويق والإصلاح والبناء والنورانية للمؤمنين.

* * *

١٤٤

الآيات

( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) )

التّفسير

بدء المواجهة :

في هذه الآيات جاء الحديث عن أوّل ردّ فعل لفرعون وجهازه في مقابل دعوة موسىعليه‌السلام ومعجزاته.

الآية الأولى تذكر عن ملأ فرعون أنّهم بمجرّد مشاهدتهم لأعمال موسى الخارقة للعادة اتهموه بالسحر ، وقالوا : هذا ساحر عليم ماهر في سحره :( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ) .

ولكن يستفاد من آيات سورة الشعراء الآية (34) أن هذا الكلام قاله فرعون حول موسى :( قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ) .

ولكن لا منافاة بين هاتين الآيتين ، لأنّه لا يبعد أن يكون فرعون قال هذا

١٤٥

الكلام في البداية ، وحيث أن عيون الملأ كانت متوجهة إليه ، ولم يكن لهذا الملأ المتملق المتزلف هدف إلّا رضى رئيسه وسيده ، وما ينعكس على محياه ، وما توحي به إشارته ، كرّر هو أيضا ما قاله الرّئيس ، فقالوا : أجل ، إن هذا لساحر عليم.

وهذا السلوك لا يختص بفرعون وحواشيه ، بل هو دأب جميع الجبارين في العالم وحواشيهم.

ثمّ أضافوا : إنّ هدف هذا الرجل أن يخرجكم من وطنكم( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ) .

يعني أنّه لا يهدف إلّا استعماركم واستثماركم ، وإنّ الحكومة على الناس ، وغصب أراضي الآخرين ، وهذه الأعمال الخارقة للعادة وادعاء النّبوة كلّها لأجل الوصول إلى هذا الهدف.

ثمّ قالوا بعد ذلك : مع ملاحظة هذه الأوضاع فما هو رأيكم :( فَما ذا تَأْمُرُونَ ) ؟يعني أنّهم جلسوا يتشاورون في أمر موسى ، ويتبادلون الرأي فيما يجب عليهم اتّخاذه تجاهه ، لأنّ مادة «أمر» لا تعني دائما الإيجاب والفرض ، بل تأتي ـ أيضا ـ بمعنى التشاور.

وهنا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذه الجملة وردت في سورة الشعراء الآية (35) أيضا ، وذلك عن لسان فرعون ، حيث قال لملائه : فما ذا تأمرون. وقد قلنا : إنّه لا منافاة بين هذين.

وقد احتمل بعض المفسّرين ـ أيضا ـ أن تكون جملة «فما ذا تأمرون» في الآية الحاضرة خطابا وجهه ملأ فرعون وحاشيته إلى فرعون ، وصيغة الجمع إنما هي لرعاية التعظيم ، ولكن الاحتمال الأوّل ـ وهو كون هذا الخطاب موجها من ملأ فرعون إلى الناس ـ أقرب إلى النظر.

وعلى كل حال فقد قال الجميع لفرعون : لا تعجل في أمر موسى وهارون ، وأجلّ قرارك بشأنهما إلى ما بعد ، ولكن ابعث من يجمع لك السحرة من جميع

١٤٦

أنحاء البلاد( قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ) .

نعم ابعث من يجمع لك كل ساحر ماهر في حرفته عليم في سحره( يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) .

فهل هذا الاقتراح من جانب حاشية فرعون كان لأجل أنّهم كانوا يحتملون صدق ادعاء موسى للنّبوة ، وكانوا يريدون اختباره؟

أو أنّهم على العكس كانوا يعتبرونه كاذبا في دعواه ، ويريدون افتعال ذريعة سياسية لأي موقف سيتخذونه ضد موسى كما كانوا يفعلون ذلك في بقية مواقفهم ونشاطاتهم الشخصية؟ ولهذا اقترحوا ارجاء أمر قتل موسى وأخيه نظرا لمعجزتيه اللتين أورثتا رغبة في مجموعة كبيرة من الناس في دعوته وانحيازهم إليه ، ومزجت صورة «نبوته» بصورة «المظلومية والشهادة» وأضفت بضم الثّانية إلى الأولى ـ مسحة من القداسة والجاذبية عليه وعلى دعوته.

ولهذا فكروا في بداية الأمر في إجهاض عمله بأعمال خارقة للعادة مماثلة ، ويسقطوا اعتباره بهذه الطريقة ، ثمّ يأمرون بقتله لتنسى قصة موسى وهارون وتمحى عن الأذهان إلى الأبد.

يبدو أن الاحتمال الثّاني بالنظر إلى القرائن الموجودة في الآيات ـ أقرب إلى النظر.

* * *

١٤٧

الآيات

( وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) )( فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) )

التّفسير

كيف انتصر الحقّ في النهاية؟

في هذه الآيات جرى الحديث حول المواجهة بين النّبي موسىعليه‌السلام ، وبين السحرة ، وما آل إليه أمرهم في هذه المواجهة ، وفي البداية تقول الآية : إنّ السحرة

١٤٨

بادروا إلى فرعون بدعوته ، وكان أوّل ما دار بينهم وبين فرعون هو : هل لنا من أجر إذا غلبنا العدوّ( وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ) ؟!

وكلمة «الأجر» وإن كانت تعني أي نوع من أنواع الثواب ، ولكن نظرا إلى ورودها هنا في صورة «النكرة» ، و «النكرة» في هذه الموارد إنّما تكون لتعظيم الموضوع وإبراز أهميته بسبب إخفاء ماهيته ونوعيته ، لهذا يكون الأجر هنا بمعنى الأجر المهم والعظيم وبخاصّة أنّه لم يكن ثمّة نزاع في أصل استحقاقهم للأجر والمثوبة ، فالمطلوب من فرعون هو الوعد بإعطائهم أجرا عظيما وعوضا مهمّا.

فوعدهم فرعون ـ فورا ـ وعدا جيدا وقال : إنّكم لن تحصلوا على الأجر السخي فقط ، بل ستكونون من المقرّبين عندي( قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) .

وبهذه الطريقة أعطاهم وعدا بالمال ووعدا بمنصب كبير لديه ، ويستفاد من هذه الآية أنّ التقرب إلى فرعون في ذلك المحيط ، وتلك البيئة كان أعلى وأسمى وأهم من المال والثروة ، لأنّه كان يعني منزلة معنوية كان من الممكن أن تصبح منشأ لأموال كثيرة وثروات كبيرة.

وفي المآل حدّد موعد معين لمواجهة السحرة لموسى ، وكما جاء في سورة «طه» و «الشعراء» دعي جميع الناس لمشاهدة هذا النزال ، وهذا يدل على أنّ فرعون كان مؤمنا بانتصاره على موسىعليه‌السلام .

وحلّ اليوم الموعود ، وهيّأ السحرة كل مقدمات العمل حفنة من العصىّ والحبال التي يبدو أنّها كانت معبأة بمواد كيمياوية خاصّة ، تبعث على حركتها إذا سطعت عليها الشمس ، لأنّها تتحول إلى غازات خفيفة تحرّك تلك العصي والحبال المجوفة.

وكانت واقعة عجيبة ، فموسى وحده (ليس معه إلّا أخوه) يواجه تلك

١٤٩

المجموعة الهائلة من السحرة ، وذلك الحشد الهائل من الناس المتفرجين الذين كانوا على الأغلب من أنصار السحرة ومؤيديهم.

فالتفت السحرة في غرور خاص وكبير إلى موسىعليه‌السلام وقالوا : إمّا أن تشرع فتلقي عصاك ، وإمّا أن نشرع نحن فنلقي عصيّنا؟( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) .

فقال موسىعليه‌السلام بمنتهى الثقة والاطمئنان : بل اشرعوا أنتم( قالَ أَلْقُوا ) .

وعند ما ألقى السحرة بحبالهم وعصيّهم في وسط الميدان سحروا أعين الناس ، وأوجدوا بأعمالهم وأقاويلهم المهرجة ومبالغاتهم وهرطقاتهم خوفا في قلوب المتفرجين ، وأظهروا سحرا كبيرا رهيبا :( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) .

وكلمة «السحر» ـ كما مرّ في المجلد الأوّل من هذه الموسوعة التفسيرية ، عند تفسير الآية (102) من سورة البقرة ـ تعني في الأساس الخداع والشعبذية ، وقد يطلق أيضا على كل عامل غامض ، ودافع غير مرئي.

وعلى هذا الأساس ، فإن هذه الجماعة كانت توجد أفعالا عجيبة بالاعتماد على سرعة حركة الأيدي ، والمهارة الفائقة في تحريك الأشياء لتبدو وكأنّها أمور خارقة للعادة وكذلك الأشخاص الذين يستفيدون من الخواص الكيمياوية والفيزياوية الغامضة الموجودة في الأشياء والمواد ، فيظهرون أعمالا مختلفة خارقة للعادة. كل هؤلاء يدخلون تحت عنوان «الساحر».

هذا علاوة على أن السحرة يستفيدون ـ عادة ـ من سلسلة من الإيحاءات المؤثرة في مستمعيهم ، ومن العبارات والجمل المبالغة ، وربّما الرهيبة المخوفة لتكميل عملهم ، والتي تترك آثارا جدّ عجيبة في مستمعيهم ومتفرجيهم وجمهورهم.

ويستفاد من آيات مختلفة في هذه السورة ومن سور قرآنية أخرى حول

١٥٠

قصة سحرة فرعون ، أنّهم استخدموا كل هذه العوامل والأدوات ، وعبارة «سحروا أعين الناس» وجملة «استرهبوهم» أو تعبيرات أخرى في سور «طه» و «الشعراء» جميعها شواهد على هذه الحقيقة.

* * *

بحوث

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطتين :

1 ـ المشهد العجيب لسحر السّاحرين

لقد أشار القرآن الكريم إشارة إجمالية من خلال عبارة( وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) إلى الحقيقة التالية وهي : أنّ المشهد الذي أوجده السحرة كان عظيما ومهما ، ومدروسا ومهيبا ، وإلّا لما استعمل القرآن الكريم لفظة «عظيم» هنا.

ويستفاد من كتب التاريخ ومن روايات وأحاديث المفسّرين في ذيل هذه الآية ، وكذا من آيات مشابهة ـ بوضوح ـ سعة أبعاد ذلك المشهد.

فبناء على ما قاله بعض المفسّرين كان عدد السحرة يبلغ عشرات الألوف ، وكانت الأجهزة والوسائل المستعملة كذلك تبلغ عشرات الآلاف ، ونظرا إلى أن السحرة المهرة والمحترفين لهذا الفن في مصر كانوا في ذلك العصر كثيرين جدّا ، لهذا لا يكون هذا الكلام موضع استغراب وتعجب. خاصّة أنّ القرآن الكريم في سورة «طه» الآية (67) يقول :( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ) أي أنّ المشهد كان عظيما جدّا ورهيبا إلى درجة أن موسى شعر بالخوف قليلا ، وإن كان ذلك الخوف ـ حسب تصريح نهج البلاغة ـ(1) لأجل أنّه خشي أن من الممكن أن

__________________

(1) الخطبة ، 4.

١٥١

يتأثر الناس بذلك المشهد العظيم ، فيكون إرجاعهم إلى الحق صعبا ، وعلى أي حال فإنّ ذلك يكشف عن عظمة ذلك المشهد ورهبته.

2 ـ الاستفادة من السلاح المشابه

من هذا البحث يستفاد ـ بجلاء ووضوح ـ أنّ فرعون بالنظر إلى حكومته العريضة في أرض مصر ، كانت له سياسات شيطانية مدروسة ، فهو لم يستخدم لمواجهة موسى وأخيه هارون من سلاح التهديد والإرعاب ، بل سعى للاستفادة من أسلحة مشابهة ـ كما يظن ـ في مواجهة موسى ، ومن المسلّم أنّه لو نجح في خطّته لما بقي من موسى ودينه أي أثر أو خبر ، ولكان قتل موسىعليه‌السلام في تلك الصورة أمرا سهلا جدا ، بل وموافقا للرأي العام ، جهلا منه بأنّ موسى لا يعتمد على قوة إنسانية يمكن معارضتها ومقاومتها ، بل يعتمد على قوّة أزلية إلهية مطلقة ، تحطّم كلّ مقاومة ، وتقضي على كل معارضة.

وعلى أية حال ، فإنّ الاستفادة من السلاح المشابه أفضل طريق الإنتصار على العدو المتصلّب ، وتحطيم القوى المادية.

في هذه اللحظة التي اعترت الناس فيها حالة من النشاط والفرح ، وتعالت صيحات الابتهاج من كل صوب ، وعلت وجوه فرعون وملائه ابتسامة الرضى ، ولمع في عيونهم بريق الفرح ، أدرك الوحي الإلهي موسىعليه‌السلام وأمره بإلقاء العصى ، وفجأة انقلب المشهد وتغير ، وبدت الدهشة على الوجوه ، وتزعزت مفاصل فرعون وأصحابه كما يقول القرآن الكريم :( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ) .

و «تلقف» مشتقة من مادة «لقف» (على وزن سقف) بمعنى أخذ شيء بقوة وسرعة ، سواء بواسطة الفم ، والأسنان ، أو بواسطة الأيدي ، ولكن تأتي في بعض الموارد بمعنى البلع والابتلاع أيضا ، والظاهر أنّها جاءت في الآية الحاضرة بهذا

١٥٢

المعنى.

و «يأفكون» مشقّة من مادة «إفك» على وزن «مسك» وهي تعني في الأصل الانصراف : عن الشيء ، وحيث أن الكذب يصرف الإنسان من الحق أطلق على الكذب لفظ «الإفك».

وهناك احتمال آخر في معنى الآية ذهب إليه بعض المفسّرين ، وهو أن عصا موسى بعد أن تحولت إلى حيّة عظيمة لم تبتلع أدوات سحر السحرة ، بل عطّلها عن العمل والحركة وأعادها إلى حالتها الأولى. وبذلك أوصد هذا العمل طريق الخطأ على الناس ، في حين أن الابتلاع لا يمكنه أن يقنع الناس بأنّ موسى لم يكن ساحرا أقوى منهم.

ولكن هذا الاحتمال لا يناسب جملة «تلقف» كما لا يناسب مطالب الآية ، لأنّ «تلقف» ـ كما أسلفنا ـ تعني أخذ شيء بدقة وسرعة لا قلب الشيء وتغييره.

هذا مضافا إلى أنّه لو كان المقرر أن يظهر إعجاز موسىعليه‌السلام عن طريق إبطال سحر السحرة ، لم تكن حاجة إلى أن تتحول العصى إلى حيّة عظيمة ، كما قال القرآن الكريم في بداية هذه القصّة.

وبغض النظر عن كل هذا ، لو كان المطلوب هو إيجاد الشك والوسوسة في نفوس المتفرجين ، لكانت عودة وسائل السحرة وأدواتهم إلى هيئتها الأولى ـ أيضا ـ قابلة للشك والترديد ، لأنّه من الممكن أن يحتمل أن موسى بارع في السحر براعة كبرى بحيث أنّه استطاع إبطال سحر الآخرين وإعادتها إلى هيئتها الأولى.

بل إن الذي تسبب في أن يعلم الناس بأن عمل موسى أمر خارق للعادة ، وأنّه عمل إلهي تحقق بالاعتماد على القدرة والإلهية المطلقة ، هو أنّه كان في مصر آنذاك مجموعة كبيرة من السحرة الماهرين جدّا ، وكان أساتذه هذا الفن وجوها معروفة في تلك البيئة ، في حين أن موسى الذي لم يكن متصفا بأي واحدة من

١٥٣

هذه الصفات ، وكان ـ في الظاهر ـ رجلا مغمورا ، نهض من بين بني إسرائيل ، وأقدم على مثل ذلك العمل الذي عجز أمامه الجميع. ومن هنا علم أن هناك قوة غيّبة تدخلت في عمل موسى ، وأن موسى ليس رجلا عاديا.

وفي هذا الوقت ظهر الحق ، وبطلت أعمالهم المزّيفة( فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) . لأنّ عمل موسى كان عملا واقعيا ، وكانت أعمالهم حفنة من الحيل ومن أعمال الشعبذة ، ولا شك أنّه لا يستطيع أي باطل أن يقاوم الحق دائما.

وهذه هي أوّل ضربة توجهت إلى أساس السلطان الفرعوني الجبّار.

ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة : وبهذه الطريقة ظهرت آثار الهزيمة فيهم ، وصاروا جميعا أذلاء :( فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ ) .

وبالرغم من أنّ المؤرخين ذكروا في كتب التاريخ قضايا كثيرة حول هذه الواقعة ، ولكن حتّى من دون نقل ما جاء في التواريخ يمكن الحدس أيضا بما حدث في هذه الساعة من اضطراب في الجماهير المتفرجة فجماعة خالفوا بشدّة بحيث أنّهم فرّوا وهربوا ، وأخذ آخرون يصيحون من شدّة الفزع ، وبعض أغمي عليه.

وأخذ فرعون وملأه ينظرون إلى ذلك المشهد مبهوتين مستوحشين ، وقد تحدّرت على وجوههم قطرات العرق من الخجل والفشل ، فأجمعوا يفكرون في مستقبلهم الغامض المبهم ، ولم يدر في خلدهم أنّهم سيواجهون مثل هذا المشهد الرهيب الذي لا يجدون له حلّا.

والضربة الأقوى كانت عند ما تغير مشهد مواجهة السحرة لموسىعليه‌السلام تغييرا كلّيا ، وذلك عند ما وقع السحرة فجأة على الأرض ساجدين لعظمة الله( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ) .

ثمّ نادوا بأعلى صوتهم و( قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ) .

وبذكر هذه الجملة بينوا ـ بصراحة ـ الحقيقة التالية وهي : أنّنا آمنا بربّ هو

١٥٤

غير الربّ المختلق ، المصطنع ، إنّه الربّ الحقيقي.

بل لم يكتفوا بلفظة «ربّ العالمين» أيضا ، لأنّ فرعون كان يدعي أنّه ربّ العالمين ، لهذا أضافوا : «ربّ موسى وهارون» حتى يقطعوا الطريق على كل استغلال.

ولم يكن فرعون والملأ يتوقعون هذا الأمر مطلقا ، يعني أنّ الجماعة التي كان يعلّق الجميع آمالهم عليها للقضاء على موسى ودعوته ، أصبحت في الطليعة من المؤمنين بموسى ودعوته ، ووقعوا ساجدين لله أمام أعين الناس عامّة ، وأعلنوا عن تسليمهم المطلق وغير المشروط لدعوة موسىعليه‌السلام .

على أنّ هذا الموضوع الذي غيّر أناسا بمثل هذه الصورة ، يجب أن لا يكون موضوع استغراب وتعجب ، لأنّ نور الإيمان والتوحيد موجود في جميع القلوب ، ويمكن أن تخفيه بعض الموانع والحجب الاجتماعية مدّة طويلة أو قصيرة ، ولكن عند ما تهب بعض العواصف بين حين وآخر تنزاح تلك الحجب ، ويتجلّى ذلك النور ويأخذ بالأبصار.

وبخاصّة أن السحرة المذكورين كانوا أساتذة مهرة في صناعتهم ، وكانوا أعرف من غيرهم بفنون عملهم ورموز سحرهم ، فكانوا يعرفون ـ جيدا ـ الفرق بين «المعجزة» و «السحر» فالأمر الذي يحتاج الآخرون لمعرفته إلى المطالعة الطويلة والدقة الكبيرة ، كان واضحا عند السحرة وبينا ، بل أوضح وأبين من الشمس في رابعة النهار.

إنّهم مع معرفتهم بفنون ورموز السحر الذي تعلموه طوال سنوات ، عرفوا وأدركوا أن عمل موسى لم يكن يشبه ـ أبدا ـ السحر ، وأنّه لم يكن نابعا من قدرة البشر ، بل كان نابعا من قدرة فوق الطبيعة وفوق البشر ، وبذلك لا مجال للاستغراب والتعجب في اعلانهم إيمانهم بموسى بمثل تلك السرعة والصراحة والشجاعة وعدم الخوف من المستقبل.

١٥٥

وجملة «ألقى السحرة» التي جاءت في صيغة الفعل المبني للمجهول ، شاهد ناطق على الاستقبال البالغ لدعوة موسى وتسليم السحرة المطلق لهعليه‌السلام . يعني أنّ جاذبية موسى كان لها من الأثر القوي البالغ في قلوب ونفوس أولئك السحرة ، بحيث أنّهم سقطوا على الأرض من دون اختيار ، ودفعهم ذلك إلى الإقرار والاعتراف.

* * *

١٥٦

الآيات

( قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) )

التّفسير

التّهديدات الفرعونية الجوفاء :

عند ما توجهت ضربة جديدة ـ بانتصار موسى على السحرة وإيمانهم به ـ إلى أركان السلطة الفرعونية ، استوحش فرعون واضطرب بشدّة ورأى أنّه إذا لم يظهر أي ردّ فعل في مقابل هذا المشهد ، فسيؤمن بموسى كل الناس أو أكثرهم ، وستكون السيطرة على الأوضاع غير ممكنة ، لهذا عمد فورا إلى عملين مبتكرين : في البداية وجه اتهاما (لعلّه مرغوب عند السواد من الناس) إلى السحرة ، ثمّ

١٥٧

هددهم بأشدّ التهديدات ، ولكن على العكس من توقعات فرعون أظهر السحرة مقاومة عجيبة تجاه هذين الموقفين ، مقاومة أغرقت فرعون وجهازه في تعجب شديد ، وأفشلت جميع خططه. وبهذه الطريقة وجهوا ضربة ثالثة إلى أركان السلطان الفرعوني المتزلزل ، وقد رسمت الآيات اللاحقة هذا المشهد بصورة رائعة.

في البداية يقول : إنّ فرعونا قال للسحرة : هل آمنتم بموسى قبل أن آذن لكم( قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) ؟!

وكأنّ التغيير بـ «به» لأجل تحقير موسى والازدراء به ، وكأنّه بجملة «قبل أن آذن لكم» أراد أن يظهر أنّه يتحرى الحقيقة ويطلب الحق ، فلو كان عمل موسىعليه‌السلام يتسم بالحقيقة والواقعية لأذنت أنا للناس بأن يؤمنوا به ، ولكن استعجالكم كشفت عن زيفكم ، وأنّ هناك مؤامرة مبيّنة ضد شعب مصر.

وعلى أية حال ، أفادت الجملة أعلاه أنّ فرعون الجبار الغارق في جنون السلطة كان يدعي أن لا يحق للشعب أن يتصرف أو يعمل أو يقول شيئا من دون إجازته وإذنه ، بل لا يحق لهم أن يفكروا ويؤمنوا بدون أمره وإذنه أيضا!!

وهذه هي أعلى درجات الاستعباد والاستحمار ، أن يكون شعب من الشعوب أسيرا وعبدا بحيث لا يحق له حتى التفكير والإيمان القلبي بأحد أو بعقيدة.

وهذا هو البرنامج الذي يواصله «الاستعمار الجديد» ، يعني أنّ المستعمرين لا يكتفون بالاستعمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، بل يسعون إلى تقوية جذورهم عن طريق الاستعمار الفكري.

وتتجلى مظاهر هذا الاستعباد الفكري في البلاد الشيوعية أكثر فأكثر ، بالحدود المغلقة ، والأسوار الحديدية والرقابة الشديدة المفروضة على كل شيء ، وبخاصّة على الأجهزة الثقافية.

١٥٨

ولكن في البلاد الرأسمالية الغربية التي يظن البعض أنّه لا يوجد استعباد فكري وثقافي على الأقل وأن لكل أحد أن يفكر ويختار بحرية ، يمارس الاستعباد بنحو آخر ، لأنّ الرأسماليين الكبار بتسلّطهم الكامل على الصحف المهمّة ، والإذاعات ، ومحطات التلفزيون ، وجميع سبل الارتباط الجمعي ووسائل الإعلام ، يفرضون على المجتمع أفكارهم وآراءهم في لباس الحرية الفكرية ، ويوجهون المجتمع ـ عن طريق عملية غسيل دماغ واسعة ومستمرة ـ إلى الوجهة التي يريدون ، وهذا بلاء عظيم يعاني منه عصرنا الحاضر.

ثمّ يضيف فرعون قائلا( إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها ) .

ونظرا إلى الآية (71) من سورة «طه» التي تقول( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) يتّضح أنّ مراد فرعون هو أنّ هناك مؤامرة مدروسة وتواطؤا مبيّنا قد دبرتموه قبل مدّة للسيطرة على أوضاع مصر واستلام زمام السلطة ، لا أنّكم دبرتموه للتو وقبل قليل في لقاء محتمل بينكم وبين موسى.

ومن هنا يتّضح أنّ المراد من «المدينة» هو مجموع القطر المصري ، والألف واللام ألف ولام الجنس ، والمراد من «لتخرجوا منها أهلها» هو تسلط موسىعليه‌السلام وبني إسرائيل على أوضاع مصر ، وإقصاء حاشية فرعون وأعوانه عن جميع المناصب الحساسة ، أو إبعاد بعضهم إلى النقاط البعيدة من البلاد ، والآية (110) في هذه السورة شاهدة على ذلك أيضا.

وعلى كل حال ، فإنّ هذه التهمة كانت خاوية ومفضوحة ، إلى درجة أنّه لم يكن يقتنع بها إلّا العوام والجهلة من الناس ، لأنّ موسىعليه‌السلام لم يكن حاضرا في مصر ، ولم يلتق بأحد من السحرة من قبل ، ولو كان أستاذهم وكبيرهم الذي علمهم السحر ، لوجب أن يكون معروفا ومشهورا في جميع الأماكن ، وأن يعرفه أكثر الناس ، وهذه لم تكن أمورا يمكن إخفاؤها وكتمانها ، لأنّ التواطؤ مع

١٥٩

أشخاص المنتشرين في شتى مناطق مصر على أمر بهذا القدر من الاهمية غير ممكن عملا.

ثمّ إنّ فرعون هدّدهم بتهديد غامض ولكنّه شديد ومحكم ، إذ قال :( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) !!

وفي الآية اللاحقة بيّن تفاصيل ذلك التهديد الذي هدّد به السحرة فاقسم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم ، إذ قال :( لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وفي الحقيقة كان مراده أن يقتلهم بالتعذيب والتنكيل ، ويجعل من هذا المشهد الرهيب درسا للآخرين ، لأن قطع الأيدي والأرجل ، ثمّ الصلب على الشجر أمام الناس ، ومنظر تدفق الدم من أجسامهم وما يرافق هذا من حالات النزع فوق المشانق إلى أن يموتوا ، سيكون عبرة لمن يعتبر (ولا بدّ من ملاحظة أن الصلب في ذلك الزمان لم يكن يتمّ على النحو الذي يتمّ به الآن ، وهو تعليق المشنوق بوضع الحبل في عنقه ، بل كان الحبل يوضع تحت كتفيه حتى لا يموت بسرعة).

ولعل قطع اليد والرجل من خلاف ، كان لأجل أن هذا العمل يتسبب في أن يموتوا بصورة أبطأ ، ويتحملوا قدرا أكثر من الألم والعذاب.

والجدير بالتأمل أن البرامج التي انتهجها فرعون لمكافحة السحرة الذين آمنوا بموسى ، كانت برامج عامّة في مكافحة الجبارين وتعاملهم الوحشي الرخيص مع أنصار الحق والمنادين به ، فهم من جانب يستخدمون حربة التهمة حتى يزعزعوا مكانة أنصار الحق في نفوس الجماهير ، ومن جانب آخر يتوسلون بسلاح القوة والقهر والتهديد لتحطيم إرادتهم ، ولكن ـ كما نقرأ في ذيل قصّة موسى ـ لم يستطع هذان السلاحان أن يفعلا شيئا في نفوس أنصار الحق ، ولن يفعلا.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

المجتمع ، مثل :

( إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (١) .

ومثل هذه التعابير كثيرة في آيات القران والروايات الاسلامية ، وفي جميعها اعتبر « العلماء » فئة خاصة تقع عليها مسؤولية جسمية في المجتمع. اذن ، لا شك في وجود فئة معيّنة في الامة الاسلامية باسم « الروحانيون » او بالتعبير الاسلامي « العلماء ».

من المنظار الاسلامي

ان ظاهرة التخصص امر طبيعي في العلم ( خصوصاً في عالمنا المعاصر ) ، وهذا التخصص يرفع من مستوىٰ الاعمال ويجعلها متّقنة ودقيقة للغاية ، كما انه لا يمكن لاحد ان يتخصص في اكثر من مجالين كأقصىٰ شيء. وفلسفة هذا التقسيم والتخصيص واضحة ايضاً ، لان تطور العلوم واتّساعها يجعل من الصعب علىٰ الشخص الإلمام بجميع العلوم ، مثل : الطب والنهدسة والفيزياء والكيمياء والزراعة والخياطة والتجارة الخ.

اذن لا بدّ ان يقسم المجتمع الىٰ فئات ومجموعات مختلفة في تخصصها واعمالها ، ولهذا تجد ظهور مختلف الفئات علىٰ مدىٰ آلاف السنين

________________

(١) سورة فاطر : ٢٨.

٤٢١

من تاريخ البشرية ، مع ان هذه التقسيمات اصبحت اكثر بروزاً في عصرنا الحاضر وادقّ من الناحية العلمية ، اذن وفيما يتعلق بالدين والايديولوجية الاسلامية فنحن بحاجة الىٰ فئة متخصصة في معارفه وعلومه التي تشمل جميع مجالات الحياة ، ومن خلال هذه الفئة نستطيع توجيه وقيادة المجتمع أيديولوجياً ، وضمان المتطلبات الحياتية للأمة ، لانه وكما هو الحال مع سائر المواضيع التي يحتاجها المجتمع ، لا يستطيع كل شخص ان يجتهد بنفسه في المسائل الاسلامية ويتبحّر فيها.

اصدقائي الاعزاء !

ومع الاخذ بما قلته من ضرورة التخصص في العلوم باعتبارها ضرورة عصرية تتطلبها سعة العلوم وتعقيدات الحياة ، فان المسائل الدينية والايديولوجية ايضاً تحتاج الىٰ اشخاص مختصين بالمعارف الدينية ومتفقهين فيها وهؤلاء هم « الروحانيون » او حسب التعبير الاسلامي « العلماء » ، ولكن كيف قبلتم بوجود متخصصين في جميع الفروع ، مثل : الطب والهندسة والاقتصاد والاجتماع والقانون واعتبرتموه ضرورة لابد منها ، بينما عندما وصل الامر الىٰ المعارف والعلوم الاسلامية تساءلتم عن فلسفة ظهور هذه الفئة التي تسمىٰ بـ « العلماء » ؟

بيضاوي : الفارق بين الاسلام والمجالات التي ذكرتها مثل الطب ، هو ان الدين يخص جميع الناس.

الشيخ : ايّها السيد بيضاوي ، أليس الطب ايضاً لجميع الناس والكل

٤٢٢

بحاجة اليه ؟! وما هو وجه التمايز في ذلك بين الدين والمجالات الاخرىٰ ؟! وكون الدين لكل الناس ، لا يعني ان كل الناس يستطيعون ان يلمّوا بجميع جوانبه ويطعلوا علىٰ كل معارفه ، وبحيث يمكنهم تقديم اجوبة لكل ما يواجههم في حياتهم من تساؤلات دينية لان هذا الامر غير ممكناً. ولهذا ظهرت الحاجة الىٰ فئة خاصة في المجتمع الاسلامي متخصصة في المعارف الاسلامية تسمىٰ بـ « الروحانيين » او « العلماء ».

الاساس هو التخصص العلمي لا الملابس

ولابدّ هنا من التذكير بهذه النقطة ، وهي ان البحث عن الروحانيين يستهدف تخصصهم العلمي بعنوان فئة معيّنة في المسائل الاسلامية وننظر فيه الىٰ ملابسهم ، وهذا ما امر به القرآن من تفقه مجموعة من الاشخاص في الدين ، وما املته الضرورات الاجتماعية والعلمية ، بهذا الشكل ظهرت شريحة الروحانيون او العلماء ، اما الملابس فهي قضية عرضية وليست في القضايا الاسلامية ، لكنهم حساسون من ملابس العلماء ، لانه وكما يعبر عن ذلك الدكتور شريعتي ، هذه الحساسية تشبه الحالات النفسية التي تعاني منها المرأة الحامل.

أي انه نوع من الشعور الفردي ، لا علاقة لنا به.

٤٢٣

ملابس الروحانيين

اصدقائي الاعزاء !

اساس بحثنا حول العلماء ، هو التخصّص العلمي الذي يمتلكوه في المسائل الاسلامية وليست الملابس ولكن هناك حقيقة اُخرىٰ تواجهنا وهي الحساسية من نوع ملابسهم ، لانه :

اولاً ـ اذا كان الآخرون احراراً في اختيار ملابسهم وتراهم احياناً يجعلون الغرب قدوتهم في ذلك ، فلماذا نسلب هذا الحق من العلماء ، ونطالبهم بعدم لبس العمامة والجبة والعباءة ؟!

وكونهم يلبسون ما يرونه مناسباً لهم ، فقد جعلوا الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة المعصومينعليهم‌السلام اسوتهم في الملابس ، لانه وحسب الوثائق التاريخية والاسلامية ، ليس هناك شك من انهم كانوا يلبسون العمامة والعباءة والملابس الطويلة ، ومع ذلك فالعلماء احرار في اختيار نوع ملابسهم ، والنموذج الذي اختاروه هي تلك الملابس المحلية التي كان يرتدي مثلها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة المعصومونعليهم‌السلام من بعده ، وقد ذكرناها بأنها محلية لانه ليست في الاسلام ملابس خاصة.

ثانياً ـ موضع امتلاك كل مجموعة متخصصة نوع محدد من الملابس ، هي قضية مطروحة في عالمنا الحاضر ، وهذا الامر يسهّل وصول الناس لهم ، كالاطباء والممرضين الذين يرتدون لون محدد من الملابس ، لذلك يمكن لمراجعي المستشفيات التعرف عليهم ببساطة ، وهكذا بالنسبة للعلماء فزيّهم

٤٢٤

المعروف يسهل عملية رجوع الناس اليهم لمعرفة احكام الشريعة.

ثالثاً ـ وجود زيّ خاص ، وبالخصوص في عصرنا الحاضر ، يعد حائلاً امام تلبس كل مخادع ومتمايل بثياب العلماء ، ولو حذف هذا الزي ، فان عملية ادعاء كل خائن ومزيف بأنه من العلماء والروحانيين ، ولأزداد عدد المنحرفين والمزيفين بين فئة العلماء ـ مع وجود قلتهم حالياً ـ فلماذا كل هذا التحسس من زيّ العلماء ، مما ينتهي الىٰ نتائج لا تحمد عواقبها.

الروحاني الحقيقي

حسن ، الطالب الجامعي : يا عمّ ! كلامك حول العلماء منطقي تماماً ، ونحن نقبله ابتداءً ، ولكن هل انت تدافع عن جميع الروحانيين ؟! في حين ان اكثرهم يعانون من نقاط ضعف كثيرة وفي بعض الاحيان اضروا بالاسلام كثيراً.

الشيخ : أبداً ، انا لا ادافع عن العلماء بشكل مطلق ، لان هذا العمل لا يرتضيه الاسلام ولا قادته ، كما لا يقبل به العقل والمنطق السليم.

وما اقصده هنا هو بيان هذه الحقيقة وهي : ان انتقاد الروحانيين بشكل عام وكلّي بعيد عن المنطق والانصاف ، وهنا أيضاً ذكر مقولة للدكتور علي شريعتي ، حيث يقول في احدىٰ خطاباته :

« المستقلّون فكرياً ، والذين يصدرون الاحكام بعد بحث وتمحيص يعلمون جيداً الدور الذي لعبه العلماء والدين والمسجد والبازار في انتفاضات

٤٢٥

وثورات القرن الاخير ، ولابدّ ان تعلموا انه انه لا يوجد في الاسلام جهاز روحاني موحّد كما هو الحال في المسيحية ، حتىٰ يمكن الحكم عليه بشكل عام ، بل العلماء في الاسلام ، هم نخبة طبيعية من الجماهير والمجتمع ، ولكل واحد منهم شخصيته المستقلة ، لذا لا يوجد في الاسلام طبقة موحّدة ومنظّمة باسم « الروحانية » ، فالحديث عنها والحكم عليها ، لا يكون إلّا بسبب الجهل بها.

وعلىٰ الرغم من وجود اشخاص منحطّين ، وحتىٰ عملاء للسلطة بينهم ، إلّا انه ليس من المنطق مقارنتهم بتشكيلات الروحانية المسيحية الوسطىٰ »(١) .

نعم ، هناك حقيقة قائمة وهي ان العلماء تيار استمر علىٰ مدىٰ تاريخ الاسلام وسيبقىٰ مستمراً ، وان الذي يريد مهاجمته بشكل عام دون تمييز ، يكون قد انحرف وزلّ عن الطريق القويم ، كما ان المدافعين عنهم دون قيد او شرط مخطئون أيضاً ، مع ان القرآن والروايات امتدحت العلماء والروحانيين وحظوا بتفضيل من قبل الله عزّ وجلّ.

لكن تبقىٰ هذه الحقيقة في الاسلام ، وهو ان قيمة العالم ومكانته تكون في تحمله لمسؤولياته الجسمية والوفاء بعهده والتزاماته امام الله عزّ وجل ، فلو انحرف عن هذا الطريق سيكون من اسوء الناس ، كما يقول امير المؤمنين الامام عليعليه‌السلام :

« العلماء اُمناء الله علىٰ حلاله وحرامه مالم يأتوا أبواب السلاطين » .

________________

(١) « القاسطين والمارقين والناكثين » : ٢٤١.

٤٢٦

أو ما حدد الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله من وظيفة للعلماء وهي مكافحة البدع والقوانين الباطلة ، من خلال توعية الناس وارشادهم ، ثم اضاف :

« إذا ظهرت البدع فعلىٰ العالم ان يظهر علمه وإلّا فعليه لعنة الله » .

وعندما سُئِل الامام عليعليه‌السلام : مَن خير الخلق بعد ائمة الهدىٰعليهم‌السلام ؟

قال : العلماء اذا صلحوا.

قيل : فمن شرار خلق الله بعد ابليس ؟

قال : العلماء اذا فسدوا(١) .

أو كما يقول القرآن الكريم :

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (٢) .

ومع الأخذ بهذه الحقائق والعديد من النماذج الاسلامية الاُخرىٰ فيما يتعلق بموضوع بحثناً ، لا يمكن لي ولا لأي مسلم مطّلع علىٰ الاسلام واحكامه ، ان يدافع عن الروحانيين بشكل مطلق لأنّ مثل هذا العمل لم يقم به أي مدافع علىٰ الاسلام ، ولا يقبل به المنطق والعقل أيضاً.

والعلماء الشيعة علىٰ قسمين ( رغم انه لا يمكن مقارنتهم بعلماء اهل السنة ) :

________________

(١) تفسير البرهان : ١ / ١١٨.

(٢) سورة البقرة : ١٥٩.

٤٢٧

القسم الاول :

رسالي وملتزم ومسؤول ومجاهد ، يقف علىٰ الدوام بوجه الطغاة وينصر المظلومين ، وهؤلاء هم الذين نذروا حياتهم للمحرومين وفي سبيل الله ، ومن اجل ارشاد الناس الىٰ الله ، فدخلوا السجون ، وتحمّلوا التعذيب وصعوبات كثيرة ، وارتقىٰ بعضهم اعواد المشانق ونال الشهادة ، وهؤلاء هم المنادون بالحق والوارثون للانبياء ، فهم العلماء والروحانيون الذين يمتدحهم القرآن الكريم والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والائمةعليهم‌السلام في الآيات والاحاديث ، وهم الذين يقول فيهم أمير المؤمنين عليعليه‌السلام :

« وما اخذ الله علىٰ العلماء ان لا يقاروا علىٰ كظة ظالم ولا سغب مظلوم »(١) .

أجل ، هؤلاء هم العلماء والروحانيون الحقيقيون ، الذين يجدر بي وبغيري ان ندافع عنهم.

القسم الثاني :

وهم الأقلية التي نست وظيفتها ومسؤوليتها ، وباعت دينها بدنياها ، اولئك الذين نسوا مكانتهم عند الله والناس ووقفوا بجانب الجبابرة أو هيّئوا الأرضية لتعدّي الجبابرة والظلمة علىٰ حقوق الناس والقانون من خلال حيادهم ووقوفهم موقف المتفرّج على ما يحدث في المجتمع.

________________

(١) نهج البلاغة.

٤٢٨

هؤلاء لا يجدر بنا ان نسمّيهم علماء أو روحانيون ، وليست لهم أية كرامة او مكانة جليلة ، بل هم من الذين شخّصهم الحديث النبوي الشريف ، « رأوا الفتنة ولم يظهروا علمهم ، فعليهم لعنة الله ».

اغلبية أم اقلية ؟

حسن ، الطالب الجامعي : نشكرك علىٰ بيانكم الجميل والمنطقي ، ولكن ، هل لكم ان تقولوا لنا رأيكم في الاغلبية منهم ؟

الشيخ : برأيي ان الاغلبية تقريباً هي ضمن الاتجاه الصحيح او قريبة منه ، لان اكثر الروحانيون هم من طلاب الحوزة المضحّين والاتقياء ، الذين يعيشون ظروفاً معيشية صعبة ( مقارنة بالاخوة طلاب الجامعات ) ـ علىٰ الرغم من ان حقوق الفئتين « الحوزويين والجامعيين » مهدورة كباقي فئات المجتمع ـ.

واكثر الطلبة الحوزويين يفتقدون ابسط لوازم الدراسة من المدارس نفسها حتىٰ الاقسام الداخلية والامكانيات الرياضية واماكن النزهة المكتبات ، لكنهم علىٰ الرغم من ذلك جادون في دراستهم وطلبهم للعلم وبناء شخصيتهم الروحية لكي يتحملوا في المستقبل مسؤوليتهم الجسمية ( التي يشعر بها ويعيها العديد منهم ).

وما عدىٰ هذه الاغلبية ، هناك بين الروحانيين الآخرين ، خاصة الوعاظ منهم ، عدد لا بأس به ممن يأخذ علىٰ عاتقه مسؤولية تربية الناس وارشادهم فكرياً.

٤٢٩

ولكن ، بني حسن ، أنت طالب جامعي ، وعندما نقول : « وعاظ » أو « علماء رساليون » تتصور مستوىٰ معين من الفكر ، وكأن جميع الناس في هذا البلد طلاب جامعين مثلك ، في حين ان هذه التصور خاطئ ؛ لانه يجب ان لا ننسىٰ وجود نسبة كبيرة واكثرية محرومة وفقيرة في بلادنا ، وهؤلاء يحتاجون الىٰ لغة اخرىٰ في الخطاب ، غير لغة المثقفين والجامعيين ، هؤلاء بحاجة الىٰ من يخاطبهم بلسانهم ، والروحانيون يمتلكون هذه القدرة في الخطاب لانهم من ابناء هذا الشعب المحروم وقريبون منه ، ولان شعبنا متدين يسمع لحديث اهل الدين والعلماء ، لان الدين عنده متأصّل في الاعماق ، فلماذا ننسىٰ هذه الاغلبية المحرومة ونتركها فريسة للأعلام والتضليل الاستكباري الكافر.

ان نجاح اية حركة ثورية او اصلاحية هي رهن نفوذ افكارهم وعقائدها في الجماهير الحقيقية وتحريكها ، فليس هناك شك في ضرورة الاستفادة من هذه القوة الجماهير الجبابرة لخدمة الاسلام والمسلمين المحرومين ، فهل يستطيع العلماء الذين يتكلمون بلغة المثقفين والجامعيين القيام بهذه المهمة ؟! وهل تستطيع تلك الجماهير المسلمة القروية فهم ما يقوله اولئك العلماء الذين يتحدثون بلغة النخبة ؟ طبعاً لا ، اذن ، ومن اجل توعية تلك الجماهير التي جعلتها سياسات المستعمر متخلّفة فكرياً ، لابدّ م الاستفادة من روحانيين يتكلمون لغة بسيطة وليسوا من الطراز الأول ، وهؤلاء الروحانيون هم الذين يمدون جسور العلاقة مع تلك الجماهير المليونية وتوجههم نحو مسيرة الكلمال.

أجل يا بني العزيز حسن ، لا تنسىٰ ان شعبنا ليس جميعه طلاب

٤٣٠

جامعات ، كما ان العلماء الذين يستطيعون مخاطبتهم بلغتهم ليسوا اولئك العلماء الذين يؤمنون في التكامل مع الجامعيين ومتطلباتهم الايديولوجية.

وعلىٰ هذا الاساس فإن عدداً قليلاً من الروحانيين ، لا يؤمنون بأي عمل ، أو انهم يقومون بدور سلبي ، مخالف لما اوجبته عليهم الرسالة ، وهؤلاء الاقلية كما يعبّر عنهم الامام العسكريعليه‌السلام : « هم اضرّ علىٰ ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد عليه اللعنة والعذاب علىٰ الحسين بن عليعليه‌السلام واصحابه »(١) .

دور العلماء في حركة الانسان التكاملية

بيضاوي : ايّها الشيخ ، مع اننا فهمنا من خلال كلامكم دور العلماء والمسؤولية الملقاة علىٰ عاتقهم ، لكنني اود ان اتعرّف علىٰ الخدمات التي قدموها والالتزامات التي انجزوها.

الشيخ : ان دور العلماء الحقيقيين يمكن تلخيصه بأن طريقهم طريق الانبياء ومسؤولياتهم تجاه الناس هي من نفس نوع مسؤولية الانبياء ، اي ان مسؤوليتهم هي ارشاد وقيادة المجتمع نحو الله والتكامل وتعبئة الناس للتطور وتطبيق النظام التوحيدي الذي تضمن فيه العدالة والمساواة والنمو الفكري والعلمي والثقافي ، والاستفادة العادلة من جميع الامكانيات والقدرات الالهية والمصادر الطبيعية لجميع البشر.

بعبارة اخرىٰ تحريك الجتمع لتكامل شامل ، مادي ومعنوي وعلمي

________________

(١) تفسير البرهان : ١ / ١١٨.

٤٣١

وانساني ، ولانه من الطبيعي ان يصطدموا في هذا المسير مع قوىٰ مستبدة وموانع ، كان من الضروري ان يعبئوا جميع الامكانيات والطاقات لازالة هذه الموانع الشيطانية والاستمرار في المسيرة ، وبهذا الشكل تكون مسؤولية العلماء الاساسية هي توعية الناس وترشيدهم لاقامة نظام الهي وحكومة اسلامية تضمن للجميع امكانيات التعالي والرقي من خلال القسط والعدل الاسلامي ، وكذلك محاربة الحكومات المستبدة والطاغوتية من اجل اجتثاثها وارساء اسس نظام اسلامي عادل علىٰ انقاضها.

حسن ، الطالب الجامعي : هذه المسؤولية التي رأيتموها للعلماء ، هي من اسمىٰ الاعمال التي يقوم بها العالم ويسعىٰ اليها ، ولكن هل هناك من العلماء من قام بخطوات حقيقية في هذا الطريق ؟

الشيخ : تاريخ العلماء علىٰ مدىٰ قرون يثبت ذلك.

اصدقائي الاعزاء !

الكلام عن العلماء الحقيقيين والدور الذي قاموا به ، يدعونا الىٰ العودة للتاريخ ، ومن هناك يمكننا فهم قيمة التضحيات التي قدموها في سبيل الاهداف الكبرىٰ والانسانية وفي سبيل مسيرة التكامل التي حدد معالمها الانبياء ، لان تاريخ كفاح ومقارعة « علماء الشيعة » للجبابرة في عصرهم ومن اجل اقامة الحكم الاسلامي يعود الىٰ ما بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، ولان أباذر والمقداد وسلمان وعمار ومن تلاهم من امثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وسعيد بن جبير من شهداء الاسلام الاوائل ، جميعهم من علماء

٤٣٢

الاسلام ، ولم يكونوا مسلمين عاديين.

أجل ان تاريخ علماء الشيعة الحقيقيين ، هو طريق يمرّ بين النار والدماء ومستمر هكذا الىٰ الآن ، ولو اردنا حساب عدد شهداء الاسلام من العلماء الشيعة ( دون الذين سقطوا في فترة حياة الائمةعليهم‌السلام ) لتجاوز عددهم المئات ، وفي ذلك يمكنكم الرجوع الىٰ كتاب « شهداء الفضيلة » للعلامة الامينيرحمه‌الله ، الذي ذكر فيه بالتفصيل شهداء علماء الشيعة علىٰ مدىٰ التاريخ ، مع انه اختار فقط كبار العلماء الذين كانوا يجارون علماء عصره ، ولو اضفنا الىٰ ذلك سائر طلاب العلوم الدينية والفضلاء الذين سقطوا شهداء في مواجهات مع قوىٰ البغي ، لأرتفع العدد كثيراً جداً.

الحفاظ علىٰ مصادر الثقافة الاسلامية

ان اهم ما قام به علماء الشيعة علىٰ مدىٰ تاريخهم هو حفظهم وصيانتهم بأحسن وجه لتراث الشيعة الثقافي والمصادر الاولية للأيديولوجية الاسلامية ، وقد استطاع علماء الشيعة جمع مصادر التشريع الاسلامية الاساسية ( باستثناء القرآن ) والحفاظ عليها ، ويُعد نهج البلاغة واحداً منها. وبتأمّل بسيط لأمكانيات ذلك العصر والوسائل المتاحة في السفر والتنقل بالاضافة الىٰ الضغوطات التي كان يواجهها علماء الشيعة من اخوانهم السنّة وحكوماتهم ، لعرفنا قيمة ما انجزه علماء الشيعة الكبار الاوائل ، والجهد الذي بذلوه لحفظ التراث الاسلامي الصحيح ، من خلال جمع وتأليف اهم الكتب الحديثية والفقهية والتفسيرية والعقائدية مثل : اصول الكافي ، وفروع الكافي

٤٣٣

ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار ، ومئات الكتب الاُخرىٰ ، وأن الفضل الذي جعلنا اليوم نمتلك العديد من الكتب التي تتناول مختلف المسائل الاسلامية يعود الىٰ تلك المصادر الأوّلية التي جمعها وكتبها وحفظها اولئك العلماء الافاضل ، الذين بذلوا جهوداً جبارة في تأليفها وتحمّلوا صعوبات جمّة في حفظها الآن.

أليس من غير الانصاف ، ان نتساءل ونحن نرىٰ ما تركوه لنا من تراث : ما الذي فعله العلماء لنشر ثقافة الاسلام الاصلية ؟! في حين انه لا يعلم ان كل ما يكتب اليوم وينتشر ما هو إلّا اقتباس واستنباط من تلك المصادر الأولية التي جمعها وألفها وحفظها علماء الاسلام اولئك.

فأحدىٰ الاساطير تقول ان سمكة كانت تسبح وسط الماء وهي تقول : « من قال ان السمكة لا تستطيع ان تعيش خارج الماء » ؟ أو مثل الشخص الذي يقوم بطبخ مواد أوّلية جمعها آخرون بعناء من اماكن بعيدة ونائية وبعد ان يشعر بنشوة اللذة ينسىٰ اولئك الذين هيّئوا له تلك المواد ويتجاهلهم ! فالذين يقفون من العلماء مثل هذه المواقف يفقدون لصفة الانصاف والعدل ، وللأسف الشديد تلاحظ هذه الصفة حالياً بيننا ، فبعض الاشخاص ومن خلال بعض الخدمات التي يقدمونها ، يقومون بتجاهل خدمات الآخرين وانجازاتهم ، في حين ان القرآن يأمر المسلمين الجدد باحترام المسلمين الاوائل واعطاءهم حق السبق في الايمان والسعي لتحقيق الاهداف الربانية ، يقول القرآن في هذا الصدد :

( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ) (١)

________________

(١) سورة الحشر : ١٠.

٤٣٤

العلماء والحركات الثورية

من أهم الاصعدة التي يبرز فيها دور العلماء والرساليون هي الحركات الثورية في المنطقة الاسلامية ، للحد الذي يمكن القول ، انه ليست هناك ثورة في البلدان الاسلامية ، إلّا وكان للعلماء الحقيقيين فيها دور القيادة ، او ادوار حساسة ومهمة جداً ، وهذه حقيقة يمكن دركها من خلال الرجوع الىٰ تاريخ البلدان الاسلامية سواءً في آسيا او افريقياً.

ولإثبات هذه الحقيقية ، ليست هناك حاجة للرجوع الىٰ القرون الاولىٰ من التاريخ الاسلامي ، بل نستقرىء تاريخنا المعاصر وبالتحديد القرن الذي نعيش فيه ، فهناك ، فهناك شخصيات علمائية ثورية كثيرة ظهرت في هذا القرن وتولت قيادة ثورات وانتفاضات عظيمة في تاريخنا السياسي المعاصر ، مثل آية الله الميرزا الشيرازي الكبير ، قائد ثورة التنباك ، والسيد جمال الدين الاسد آبادي ( الافغاني ) وآية الله الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي اصدر فتوىٰ الجهاد ضد الانجليز في العراق ، بالاضافة الىٰ العديد من العلماء والمجتهدين الذين توجهوا بأنفسهم الىٰ ساحات القتال آنذاك حتىٰ حصلوا علىٰ استقلال العراق ، وآية الله السيد شرف الدين العاملي ، قائد الشيعة في حروب استقلال في لبنان ، والذي كان يشارك في القتال بنفسه ، حتىٰ ان احد ابناءه استشهد في احدىٰ المعارك التي كان يقودها هو ، او الميرزا كوچك خان الذي قادر ثورة الغابة في منطقة جيلان في ايران ، او العلماء الذين قادوا ثورة الدستور سنة ١٩٠٦ و الخ حتىٰ يصل الامر الىٰ شمس هذا العصر الساطعة

٤٣٥

والشخص الذي لا يمكن معرفة قيمة تحركه الثوري والاسلامي إلّا بمرور الزمان وكذلك الشخصيات الاخرىٰ التي سارت خلفه في هذه الثورة الاسلامية المباركة منذ البداية.

أجل ، لقد كانت الروحانية الحقيقية هي الركن الذي تستند اليه الجماهير المسلمة او المحرومة في مقارعتها للأنظمة الجائرة ، فكان العلماء هم المدافعون عن القانون الالهي والمسلمين علىٰ مدىٰ التاريخ الاسلامي ، ونظراً لسعة مجال البحث وعدم امكانية سرد مختصر لكل الثورات والانتفاضات التي قادها العلماء ، لذلك سنكتفي بملخص لقصة التنباك.

فتوىٰ تحريم التنباك

قامت حكومة الملك ناصر الدين شاه القاجاري ، الظالمة والمستبدة في سنة ١٨٩٠ بأعطاء امتياز احتكار في بيع وشراء التنباك لشركة بريطانية بأسم جي. اف طالبوت(١) ، وهذا العقد الذي وقع في ٩ آيار من نفس السنة في السفارة البريطانية بطهران ، كان في الحقيقة وثيقة لتسلط الاجانب علىٰ الشعب الايراني اقتصادياً وسياسياً ، وبواسطة هذه الوثيقة كانت بريطانيا تستطيع بسط سيطرتها علىٰ جميع الاراضي الزراعية ، وبالاضافة الىٰ عشرات المفاسد السياسية والاقتصادية والثقافية ، وكان بامكانها اجراء سياسة المحصول الواحد بالتدريج ، وبهذه الطريقة يتهيء الوضع لسلطة المستعمر علىٰ البلاد بشكل عام.

________________

(١) G. F.Talbot

٤٣٦

وفي تلك الظروف الحساسة ، قام المرجع آية الله الشيرازي الكبير ، باصدار فتواه التاريخية ، بعد ان أحسّ بالخطر المحدق وادرك مسؤوليته الجسمية في درء الخطر ، فحرّم استعمال التنباك ، لقد استطاع الشيرازي الكبير ان يقلب المعادلة سطر واحد ، فلم يعد استعمال التنباك محضوراً في المدن الايرانية جميعها ، بل وصل الامر الىٰ بيت الملك نفسه الىٰ نسائه وخدمه ، وكانوا يقولون له بصراحة ان استعمال التنباك حرام.

لقد كانت الحركة التي قام بها المرجع الشيرازي مباغتة للملك ناصر الدين شاه ، واسياده البريطانيين إلى الحدّ الذي اذهلتهم ، فحاولوا بشتىٰ الطرق مواجهتها ، فتارة بالتطميع وتارة بالتهديد ، ولقد طلب الشاه مراراً من المرحوم آية الله الاشتياني قائد الحركة في طهران ان يستعمل ( النارجيلة ) لكي ينقض عملياً فتوىٰ المرجع الشيرازي ، لكنه لم يستسلم امام تهديد وتطميع الشاه ! وقال : « لن استعمل التنباك إلّا ان يفتي الميرزا الشيرازي بذلك » ، فاظطر ناصر الدين شاه في النهاية الىٰ الغاء ذلك العقد ، وعاد للناس مرّة ثانية الحق في زرع وبيع وشراء التنباك ، وقد دفعت الدولة مبلغ نصف ميلون جنيه استرليني من اموال الشعب المسكين ، كغرامة مالية لشركة طالبوت(١) .

وحول فتوىٰ تحريم التنباك ، يقول احد الكتاب المشهورين :

في القرن التاسع عشر ، كانت البلاد الاسلامية تعيش حالة ثورة عامة وغير منظمة ضد الاستعمار والتسلط الغربي ، وكانت هذه الثورات جماهيرية وبقيادة العلماء المسلمين ، ففي ايران قامت ثورة التنباك التي لا زلنا لا نعرف

________________

(١) ثورة ايران ، تأليف ادوارد براون.

٤٣٧

قيمتها الحقيقية ! لقد بدأت هذه الثورة بفتوىٰ قصيرة من الميرزا حسن الشيرازي ، وكان اصدار تلك الفتوى بتأثير رسالة السيد جمال الدين التي بعث بها الىٰ المرجع الشيرازي وحذره فيها من ان القضية ليست مجرد تنباك ، فهؤلاء اي البريطانيين ـ لا يريدون تنباكنا فقط ، بل يريدون عزتنا واستقلالنا ووجودنا واصالتنا ! لقد شيّدوا في طهران بناية للشركة ، انظروا اليها ! فلماذا هذا الحصار الكبير والحيطان التي يبلغ ارتفاعها عدة امتار ؟ فالتنباك لا يحتاج الىٰ مثل هذه القلاع ، والحقيقة ان هذه قواعد سياسية وعسكرية وليست مجرد شركات.

لقد احسّ الميرزا الشيرازي بالمسؤولية ، فأعلن فتواه انظروا كيف ان الدين والدينا لا يقبلان الفصل في الاسلام ! وانه لا يمكن اساساً التفريق بينها ، وكيف ان الاستعمار نجح في القاء تلك الاكذوبة في افواهنا ، وكيف قام بعض المثقفين بترديدها دون وعي ، يتصورون انهم يقومون بدور المثقفين الاوروبيين مقابل الكنيسة ، غافلين من هذا القياس مع الفارق.

أمّا فتوىٰ الشيرازي الكبير ، فهذا نصّها :

« من الآن استعمال التنباك بأي نحو كان في حكم محاربة امام الزمان عج » !

الامير كامران ميرزا ولي العهد ووزير الحرب ( الدفاع ) يقول لاحد غلمانه : جئني بالنارجيلة ! لكن الغلام لا يطيع ! فيطلب ذلك من زوجته ، إلّا انها هي الاخرىٰ تمتنع ! لقد حطم حرم الملك في يوم واحد جميع ادوات استعمال التنباك ، علىٰ اساس فتوىٰ المرجع الشيرازي ! ألم تكن المقاومة السلبية التي قام بها غاندي بعد ذلك بتأثير وايحاء من هذه الحركة ؟ لقد كانت حركة الميرزا الشيرازي ضد الاستعمار الاقتصادي الذي دخل ايران بواسطة

٤٣٨

شركة رجي ( شبيهة بشركة الهند الشرقية في شبه القارة الهندية ) ، حركة مقاومة سلبية ، فلم يقاتل احد ولا قام شخص بعمل ، والعمل الوحيد الذي قاموا به هو انهم لم يستعملوا التنباك واضربوا عنه ، هذه الحركة اجتثت اول نبتة استعمارية غرسوها وارادوا لها ان تتأصّل في عمق ارضنا ، وقد صرفوا الملايين لكي يسيطروا بالتدريج علىٰ اسواقنا وثرواتنا ، ورأيتم كيف ان فتوىٰ مختصرة قلبت المعادلة ووعت الناس وافهمت الاجنبني بحراجة موقفة ، وفي ذلك الوقت لم يكن شعبنا مثقفاً ؟

وبعد هذه الثورة قام غاندي بحركة المقاومة السلبية ضد المنتوجات البريطانية في الهند ، في جميع انحاء الهند ، فاستطاع شل حركة الاستعمار البريطاني ، وبذلك فقدت بريطانيا تلك المنطقة الغنية بمصادرها وهي في ذروة قوتها.

فالاستعمار يستمر بالحياة وينمو عندما يكون اهل المناطق المستعمرة مستهلكين لبضاعة ومنتوجاته ، ولو قام هؤلاء ، ولم يبقوا علىٰ بضائعهم ، لمات الاستعمار ، فالمستعمرون قاموا في البداية بتشويه حضارتنا ومن ثم صعدوا علىٰ اكتافنا(١) .

العلماء الرساليون في جميع الجبهات

ومن خلال ذلك التوضيح الذي قدمناه ، تبين ان الروحانيين الرساليين

________________

(١) « اقبال » : ٥٩.

٤٣٩

فقط ، هم الذين سجلوا حضروهم علىٰ جميع الميادين والجبهات : الايديولوجية والثقافية والاسلامية وفي مجال الهداية وفي مجال جمع وصياغة المصادر الاسلامية في التشريع وفي مجال مقارعة الظلمة والمستعمرين ، وفي حروب الاستقلال التي خاضتها اغلب البلدان الاسلامية ، وفي النهاية من اجل تطبيق النظام التوحيدي والحكومة الاسلامية في المجتمع ، ولم يكن حضورهم في هذه الميادين والجبهات عادياً بل كانوا القادة والطليعة في التحرك.

ولقد استطاع العلماء الرساليون حفظ ونشر المعتقدات الاسلامية علىٰ مدىٰ كل هذه القرون ونقل هذا التراث الفكري والعقائدي من نسل الىٰ آخر ، بحيث لا يشك اي انسان منصف بأن العلماء الرساليين هم الذين كانوا السبب في بقاء الاسلام وعلومه وثقافته بعد زمن الائمة المعصومينعليهم‌السلام وحتىٰ يومنا الحاضر ، فكانوا من جهة يحرسون الثقافة الاسلامية ويحافظون عليها ، ومن جهة اخرىٰ يردون علىٰ الافتراءات والاباطيل التي ينشرها الآخرون ضد الاسلام والتشيع ، فكتبوا في ذلك مئات الكتب واقاموا عشرات المحاججات والمناظرات ( واكثرها موجود لحد الآن ) ، وقد نُشر بعضها علىٰ يد بعض الكتاب المعاصرين فتلقفها الناس وتصوروا انها حديثة ومن ابداعات هؤلاء الناشرين !

والعجيب ان بعضهم كان يتساءل عما يفعله العلماء وما قدموه للاسلام ؟! لانهم غير مطلعين علىٰ ان ما وصل اليهم هو ببركة اقلام وجهود العلماء وليس غيرهم.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466