رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233464 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

السباق في الاسلام

الدكتور ، وهو يلتفت نحو الشيخ ، قال : تذكر انك قلت بأن الاسلام دين جامع ، وان قوانينه شملت حتىٰ السباق ، هل كلامك ذلك حقيقة أم مزحة ؟

الشيخ : لم يكن ذلك مزحة ، ففي الفقه الاسلامي ، هناك كتاب بعنوان السبق والرماية ، يتحدّث في مجموعة من قوانين السباق ، حتىٰ انه اقرّ جوائز للفائزين.

والسباقات في الاسلام مع انها اعمال رياضية وترويحية تماماً ، فهي توجد روح الشجاعة والشهامة عند الاشخاص ، فالسباق في الاسلام هو اسلوب صحيح واساسي لتربية جندي شجاع ومقاتل.

والسباقات في الاسلام هادفة ، وليست مجرد احتراف ، فسباق الرماية والفروسية في الاسلام ، هما سباقان حقيقيان ، لكنهما في الوقت نفسه ، يربيان رجالاً شجعان وشباباً مقاتلين وسباقاتهما ليست كما في سباقات عالم اليوم.

فصاح الرفاق جميعاً : أيُّها العم ! هنا لم تكن منصفاً ، لان عالم اليوم جدير بالاحترام والتقدير من حيث الرياضات المفيدة والسباقات الصحيحة التي نراها فيه !

الشيخ : ما يدعوني للأسف كثيراً ، هو أن ارىٰ العديد من المثقفين

٤١

والمتعلمين ايضاً ، لا يستطيعون معرفة حقيقة الظواهر الاستعمارية المعاصرة من خلف اقنعتها التي تتستر بها ، ومواجهة الحقيقة كما هي بعيداً عن الضجيج الاعلامي الخادع الذي يحيط بها.

وللأسف ، نشاهد في عالمنا المعاصر ، هذه الحقيقة المرّة وهي ان الألعاب الرياضية والسباقات اصحبت وسائل واوراق ضغط بيد القوىٰ الاستعمارية ، فتشغل الشباب المستعد عن الالتفات الىٰ اصل القضايا والمسائل المهمة في الحياة ، فضلاً عن الأموال الباهضة التي تصرفها الدول في هذه المجالات لتربية ابطال ومحترفين ، في حين ان شعوبهم يعانون من الفقر والمشاكل الاقتصادية الاخرىٰ.

وان جميع ما ذكرناه يرجع الىٰ طرف واحد من العملة ، أي الالعاب التي يمكن ان تسمىٰ صحيحة ، اما الوجه الآخر لهذه العملة ، فلا يكن تسميتها الّا « أعمال وحشية وخيانة » مثل : الملاكمة والمصارعة و ، تشاهدون في التلفاز وتقرأون في الصحف ، انهم يدعون اثنين من الشباب الاقوياء ، والاصحاء باسم سباق الملاكمة ، فيبدأون بتوجيه ضربات ولكمات الىٰ جسدي بعضهما امام أعين آلاف المشاهدين مباشرة وملايين آخرين من خلال التلفاز ، وبعد عدة ادوار من الدماء والآلام ، يعلن احدهما فائزاً علىٰ الآخر ، وتقدم له جوائز تقدّر بملايين الدولارات ، لكي يرغب وبحث من جديد علىٰ علىٰ جريمة اخرىٰ. فهل شاهدتم ، حتىٰ في العصر الحجري ( سوىٰ في تاريخ العبيد الذين يقاتلون حتىٰ الموت ) ان يصفق للمجرم ، ويرغَّب علىٰ جريمة اُخرىٰ بالجوائز التي تعطىٰ له علىٰ جريمته الاُولىٰ ؟!

٤٢

فهل يمكن تسمية ذلك غير الجريمة ؟! وهل هذه وسائر الأعمال الوحشية الاُخرى ، مثل المصارعة ، نماذج للسباقات المفيدة والصحيحة !! الموجودة في عالمنا ، في حين ان الناس لا يسمحون لانفسهم النظر في حقيقتها الاستعمارية ، لأنها جاءت الينا باسم الحضارة والعصر الذهبي وعصر الذرّة !

حسن ، طالب الطب : صحيح ما تقوله ياعمّ ، هناك من السباقات والالعاب الرياضية اليوم ، كما وصفتها لكننا وللأمانة لا يمكننا انكار الالعاب المفيدة والصحية التي تمارس اليوم ، وهي مفيدة جداً لسلامة الجسم وقوة الاشخاص.

الشيخ : اساساً ، هذه الالعاب الصحيحة التي ذكرتها ، ليست جذابة ، والحقيقة هي ان الرياضات الحديثة المفيدة أيضاً لم تستطع ان تلعب دوراً مؤثراً في تقوية الشباب ، في حين ان مجموعة الالعاب الشعبية التي كان الناس يمارسونها بالامس اكثر تأثيراً في تقوية العضلات وتربية شباب اصحاء.

هنا ، نورد كلاماً من العالم الفرنسي الدكتور الكسيس كارل ، يقول الدكتور كارل في احدىٰ كتاباته :

( هناك اختلاف في الالعاب الحديثة رغم تنوعها مع الالعاب القديمة ولابدّ من الاشارة الىٰ ان طول اعمار الرياضيين والانسان الحديث لا يزيد علىٰ اعمار الناس السابقين ، ولربما كانت اقصر منها ، كما ان قدرتهم في مواجهة الصعوبات ليست اكبر من الماضيين ، ولربما يمكننا القول ان الاشخاص الذين يستفيدون اليوم من تجارب الماضين في تقوية عضلاتهم واجسامهم اكثر

٤٣

نجاحاً من غيرهم واقوىٰ في مواجهة الاعمال الشاقة وتغيرات الطقس ، في حين ان رياضيينا المعاصرين ومع مراعاتهم للاُمور الطبية في النوم والأكل والتمرين اليومي الّا ان اعصابهم تضعف يوماً بعد يوم ويصبحون حساسين اكثر فلا يطيقون الاضطرابات العادية ولا الصعوبات التي تواجههم في العمل ، وبهذا كأنما فوز ونجاح التربية الحديثة أيضاً ليس كبيراً كما يرىٰ في الوهلة الاُولىٰ )(١) .

هذا اعتراف احد كبار علماء اوروبا فيما يخص الالعاب الصحيحة والتمارين المفيدة في عالمنا المعاصر ، في حين ان اعمالهم الوحشية الاخرىٰ ، مثل : المصارعة أو الملاكمة وما شابهها ، لها حسابها الخاص.

اصدقائي الاعزاء !

نعود الىٰ موضوعنا السابق ، الىٰ ما قبل الف والربعمائة عام ، أي الىٰ ذلك العالم المظلم الذي لم يصله بصيص من العلم والمعرفة ، ففي تلك البيئة المتخلفة ، يظهر فرد اُمي يقدم للبشرية قوانيناً واحكاماً في جميع مجالات حياتها في السباق والرياضة ، أليس ذلك غريباً وأليست هذه معجزة ؟!

أليس من الحق ، ان يخضع له ويستسلم امامه العديد من كبار علماء العالم ، لكونه انساناً فذاً ورجلاً لم ترَ البشرية مثله علىٰ مرِّ تاريخها ؟!

________________

(١) الانسان ذلك المجهول.

٤٤

ارض الجزيرة العربية

الدكتور : الحقيقة ان مثل هذا الرجل فذّ لا نظير له ، بشهادة التاريخ وجميع أدوار العالم ، حتىٰ في الدول المتطورة والبلدان التي كانت مهد العلم والمعرفة ، فضلاً عن أرض الحجاز القاحلة.

الشيخ : أجل ، ذلك الحدث عجيب ، خاصة في بيئة مثل الجزيرة العربية ، لأن البيئة لها تأثير كبير في تربية الافكار ، وهذا الموضوع ، اي الكلام عن اوضاع الجزيرة العربية من الناحية الاجتماعية ، هو المبحث الثاني ، الذي وعدتكم بالحديث عنه.

سعادة الدكتور ، تعلمون جيداً دور البيئة في تربية الافكار ونمو العقول وتأهيل اشخاص نوابغ ، فبعض المناطق تنمي خصال معينة في الانسان.

اما الجزيرة العربية ، فهي صحراء جرداء لاذعة ، جعلت شدّة الحرارة الحياة فيها صعبة للغاية ، وهي بيئة جهل وخرافة ، لا نجد في تاريخها الكثير من العلماء والنوابغ ، فنتاجها يعد من النماذج السلبية في عالم الانسانية ، كانوا يعدون من ابطال التوحش والبربرية ، ومن مثل تلك البيئة ظهر رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي اختار الله لهداية البشرية وارشادها.

أجل ، لقد عاش الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك البيئة ، بين اولئك الذين كان وأد البنات من اعمالهم العادية ـ وتعلمون أيُّها الدكتور ـ ان الذي يكبر في بيئة

٤٥

معينة ، لابدّ وان يصطبغ بلونها فلا يمكنه ان يتجاوز آداب الناس واخلاقياتهم.

يقول الدكتور الكسيس كارل في هذا الصدد :

( قوة وضعف الظواهر النفسية في كل شخص تحدده بيئته النفسية ، فاذا كانت البيئة فقيرة ، لا ينمو بها ذكاؤه وحسن اخلاقه ، وإذا كانت البيئة سيئة ، فستكون تصرفاته كذلك.

فنحن في بيئتنا الاجتماعية نمثل الخلايا في داخل جسم الانسان ، فلا تستطيع تلك الخلايا تجاوز الظروف المحيطة ، فأعضاء الانسان تستطيع حفظه امام الهجمات المادية اكثر مما يحافظ عليه الشعور امام المحيط النفسي ، لأن عناصر الهجوم المادي تواجه الجلد كجدار محافظ للجسد وتواجه ايضاً افرازات الغدد المترشحة داخلياً وخارجياً ، في حين ان الحدود الشعورية علىٰ العكس ، مفتوحة علىٰ الدوام ، والروح الانسانية معرضة باستمرار لهجوم انواع العوامل الفكرية والروحية والاجتماعية التي تأتي من البيئة ، فتتكون شخصية علىٰ اساس طبيعتها ، اما صحيحة وسليمة أو مريضة وغير مستوية )(١) .

ويقول ايضاً في بحث آخر :

( بلا أدنىٰ شك يتأثر الفرد بالاشخاص الذين يعيش معهم فإذا كان معاشراً المجرمين والجهلة منذ الصغر ، فإنه سيكون ايضاً في المستقبل مجرماً أو جاهلاً ).

وعلىٰ اساس حساباتنا الطبيعية والعلمية ، فرجل مثل رسول الاسلام

________________

(١) المصدر نفسه.

٤٦

عاش اربعين سنة بين هؤلاء القوم المجرمين والمعطشين للدماء ، القوم الذين كان الشراب والقماء والنهب والقتل من اعمالهم اليومية ، لا بد ان يكون علىٰ شاكلتهم.

لكن العجيب ان رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم تتلوث شخصيته رغم تلك الفترة الطويلة التي عاشها مع اولئك الناس ، وفضلاً عن انه لم يَنَلْهُ الانحراف ، فقد كان بينهم وفي جميع تلك البيئة المتخلفة والخائنة وعند جميع القبائل العربية ، معروفاً بالامين ، والجميع يؤمنون بطهارته وأمانته وتعففه.

٤٧

قوانين الاسلام خالدة لا تبلىٰ

الدكتور : الىٰ هنا كلامك قويم وغير قابل للأنكار ، لكننا نقول ان قوانين الاسلام مع كونها سماوية واصيلة واستطاعت ان تقود الانسان نحو السعادة علىٰ مدىٰ قرون ، لكنها بالنهاية تعود الىٰ اربع عشر قرناً ماضية ، والقانون الذي يمضي عليه الف واربعمائة سنة لا يمكنه هداية عالم اليوم ، وضمان سعادته ، فهو وكما يصطلح قديم.

الشيخ : اعجب لهذا الكلام منكم اصدقائي ! فهل مجرد مضي عدة قرون علىٰ قانون يجعله قديماً وغير قابل للتطبيق ؟! ومن اجل تبيين هذه الحقيقة وهي انه ليست كل القوانين تفقد قيمتها بعد مضي فترة علىٰ تشريعها ، من الضروري الالتفات الىٰ نقطة عامة.

ما هو القانون الذي يصبح قديماً بمرور الزمن ، واي قانون يحافظ علىٰ قيمته حتى إذا مضىٰ علىٰ تشريعه آلاف السنين ؟

الرفاق جميعهم : نشكرك كثيراً لو بينت لنا ذلك.

وفي تلك اللحظة ، يُفتح باب الغرفة ، ويدخل عامل مطعم القطار ، وهو يحمل بيديه طبق الشاي ، فينادي بصوته المزعج : شاي شاي ثم التفت الىٰ شيخ واصدقاءه ، وقال : أيُّها السادة شاي جديد وحار.

قال الدكتور : لا نريد شاياً ، ولكن هل شايك جديد ـ حقيقةً ـ ، أم انه

٤٨

كشاي بعض المقاهي التي علىٰ طريق مدينة مشهد ، ففي احدىٰ السفرات الىٰ مشهد ، توقفت السيارة عند احدىٰ تلك المقاهي للغداء ، فنزل المسافرون جميعاً ، أنا أيضاً نزلت مع صديقي وجلسنا داخل المقهىٰ ، فجاءنا صاحب المقهىٰ بالشاي ، وقال : شاي جيد ، عملته قبل دقائق.

وضع الشاي علىٰ المنضدة وذهب ، قلت لصديقي ، لون الشاي يوحي بأنه بقي علىٰ النار أربع وعشرين ساعة ! فقال صديقي : تعال سأكتشف لك الحقيقة ، ذهبنا الىٰ صاحب المقهىٰ معاً ، فتقدم إليه صديقي وقال له بصوت منخفض ، أنا مريض وقد أوصاني الطبيب ان الشاي الذي اشربه لا بدّ وان يكون قد مضىٰ عليه ثلاثة أيام ، أرجو ان تستبدل لنا الشاي الذي جلبته ، وتأتينا بشاي قديم ، فما ان سمع صاحب المقهىٰ كلام صاحبنا حتىٰ أشار بيده نحو القبلة وقال : وربُّ الكعبة هذا الشاي جميعه ، شاي الاسبوع الماضي ! وهنا ضحك الحاضرون بشدة.

عامل مطعم القطار ايضاً أخذ يضحك لكلام الدكتور ، وهو خارج من الغرفة ، فسدوا باب الغرفة وبدأ الشيخ يكمل حديثه.

فقال : تلك القاعدة العامة التي اردت الاشارة اليها ، هي : في بعض الأحيان يكون القانون مقطعياً ولفترة معينة من التاريخ ، مثل اغلب القوانين التي تشرعها مختلف دول العالم في الماضي والحاضر لأنظمتها الاجتماعية ( طبقاً في تلك الدول التي يهتم فيها المشرعون بمصالحهم القومية ، لا مصالح اسيادهم في الداخل والخارج !!! ) وهذا النوع من القوانين ، يفقد قدرته وقيمته التنفيذية في مراحل وفترات اخرىٰ ، لأنه يتبع ظروفاً خاصة وحاجة مرحلة تاريخية

٤٩

معينة ، لذلك ، نشاهد جهازاً تشريعياً مستقلاً لكل دولة في الماضي والحاضر ، لكي يضع مشرعوا تلك الدولة قوانينهم بشكل يتناسب مع ثقافة الشعب وروحه ومع الأخذ ايضاً بالظروف التاريخية ومتطلبات البلد. واغلب هذه القوانين ليست غير مفيدة فقط في بلد آخر ، بل ستفقد قيمتها في نفس البلد بسبب تغيّر الظروف والمتطلبات. وهذه القوانين كالوصفات المؤقتة التي يقدمها الطبيب لمريضه مع الأخذ بحالته الخاصة ، وطبيعي ان تتغير كما تتغير وصفات الطبيب بعد فترة من استخدام المريض للوصفات السابقة.

ولكن هناك نوع من القوانين في العالم ، تكون في عداد قوانين العالم الطبيعية ومن جملة سنن الخلق ، وهذا النوع من القوانين باقية ، ما بقي الدهر.

مثل قانون الجاذبية وتركيب الماء من جزئيتين من الهيدروجين وجزئية من الاوكسيجين ، وملايين القوانين والقواعد العلمية الاخرىٰ في العالم ، فهل يحق لنا القول ان مرور الزمن سيجعل هذه القوانين بالية واذن لابدّ من تغييرها ؟! بالتأكيد لا ، لأن في هذا النوع من القوانين ، ليست هناك حدود للزمان ولا للمكان.

الدكتور : المثال الذي ذكرته صحيح. لان القوانين الطبيعية غير قابلة للتغير ، لكن ما علاقة ذلك بالقوانين الاسلامية ؟

الشيخ : لا تستعجلوا ! لو سمحتم لي ، سأوضح تلك العلاقة.

الدكتور : ارجو المعذرة ، لقد تسرعت بعض الشيء ، فهذه الحياة الآليّة التي نعيشها افقدتنا القابلية علىٰ الصبر.

٥٠

الشيخ : جميع قوانين الاسلام « العامة » و « الاصولية » هي من نوع القوانين الطبيعية ، ولها قيمة قانونية لجميع الناس وفي جميع مراحل التاريخ ، فلم تكن قوانين الاسلام العامة والاصولية خاصة بأهل ذلك العصر ومجتمع الجزيرة العربية فقط ، حتىٰ يقال انها اصبحت قديمة بعد مرور اربعة عشر قرناً عليها وانها فقدت قيمتها في التطبيق ، أو بعبارة اوضح اصبحت « قديمة ».

بل ان اصول الاسلام جميعها طبيعية تماماً وهي جزء من الفطرة الانسانية السليمة ، ومطابقة لناموس الخليقة ، لقد عرّف رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الكذاب بأنه عدو رب العالمين ، واعتبر الكذب نوع من الخيانة ، فهل يمكن القول : ان الكذب خيانة ولكن للذين عاشوا قبل اربعة عشر قرناً.

أما اليوم وفي عصر التطور والتعالي البشري ، دنيا الكهرباء والبخار ، ليس هناك كذب أو خيانة ، وان ذلك كلام قديم ؟!

ينقل رسول الاسلام عن لسان الوحي الالهي :

( لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) (١) .

وان علىٰ الناس احترام حقوق بعضهم البعض الآخر ، وان لا يسرقوا ولا يبخسوا الميزان وان لا يجمعوا المال بطرق غير مشروعة ، بل تكون بطرق مشروعة ، أي العمل الحلال(٢) ، وان يصلوا الفقراء.

________________

(١) سورة البقرة : ١٨٨.

(٢) ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴾ سورة النجم : ٤٠.

يرى البعض أن العمل يعني الانتاج الاقتصادي فقط ، في حين أن ذلك يعني أن الكثير من فئات المجتمع الذين يعملون في مجالات الثقافة أو الخدمات ـ مثلاً ـ عاطلون ، وهذا كلام غير دقيق ، لأن الخدمات والثقافة و أيضاً أعمال مشروعة.

٥١

أيُّها السادة المحترمون !

أليس من السفاهة القول ان السرقة والنهب والاعتداء علىٰ حقوق الآخرين ، تعتبر خيانة بالنسبة لعصر مضىٰ عليه الف واربعمائة سنة ، وانه بالنسبة لعصرنا الحاضر عصر الذرة ، لايعد خيانة ؟! فهل يمكن القول ان هذا القانون قديم وغير قابل للتطبيق لانه مضىٰ عليه أربعة عشر قرناً ؟!

واعتبر رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله الاعتداء علىٰ نواميس الغير ذنباً ، وحذّر الناس من عمل هذا الذنب ، فهل يمكن القول ان هذا القانون اصبح قديماً بمرور الايام ، وان عالمنا لا يعترف بحدود اسمها الاسرة ! وان الاعتداء علىٰ نواميس الغير ليست خيانة ؟!

لقد اعتبر الاسلام السكوت امام الظلم ذنب ، وقال : عادوا الظالمين ودافعوا عن المظلومين ، ويصرح القرآن الكريم في هذا الصدد :

( إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (١) .

( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

ويقول أيضاً :

( لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ) (٣) .

وفي مكان آخر يقول القرآن :

________________

(١) سورة البقرة : ١٩٠.

(٢) سورة آل عمران : ٥٧.

(٣) سورة النساء : ١٤٨.

٥٢

( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) (١)

أي الذين يقاتلون في سبيل المظلومين ومن اجل الحرية واستيفاء حقوقهم.

والآن يا اصدقائي ألا ترون من السفاهة إذا قلنا ان هذا الكلام يختص بعصر يعود الىٰ الف واربعمائة سنة ماضية ، وان هذا الكلام اكل الدهر عليه وشرب ؟! وهل يمكن حصر هذه المسائل بظروف ومراحل تاريخية معينة ؟!

والاسلام لا يميّز في تشريعه بين الاعراف والفئات والطبقات ، فليس هناك أبيض وأسود ، أو عرب وعجم ، أو حاكم ورعيّة ، أو عامل ورب العمل ، فالجميع لديه متساوون ولا يرىٰ لأحد منهم امتيازاً علىٰ الآخر ، فهل نستطيع القول ان مرور الزمان يغيّر ذلك « الأصل » وان علينا نفي وانكار « اصل المساواة بين البشر » أو « اصل الغاء جميع التمايزات » ؟!

فقد أكد الاسلام كثيراً علىٰ عيادة المرضىٰ ومراعاة حق الجار ، وبشكل عام مراعاة حقوق الجميع ورفع مشاكلهم ، فهل يمكن القول ان هذه القوانين لا يمكن تطبيقها اليوم لأنها تعود علىٰ اربعة عشر قرناً ماضية ؟!

أيُّها السادة المحترمون !

جميع القوانين العامة والاصولية في الاسلام هي من هذا النوع ، وجميعها جزء من فطرة الانسان طبقاً لنظام الخلقة ، وبالنتيجة هي فوق الظروف

________________

(١) سورة الصف : ٤.

٥٣

التاريخية الخاصة ، ومع الأخذ بذلك ، فهل يوجد في العالم ايديولوجية افضل من الاسلام واكثر منه طبيعية ، حتىٰ نترك هذه القوانين ونتمسك بغيرها اكمل منها ؟! وهل يستطيع الزمان التأثير علىٰ طراوة وحيوية مثل هذه القوانين ؟!

أمّا كيف يمكن للاسلام الاجابة علىٰ متطلبات المجتمع رغم التطوّرات والتغيرات التي تحدث بشكل لا ارادي في مسيرة الانسان التكاملية ومختلف مراحل التاريخ البشري ، فهذا يحتاج الىٰ توضيح مختصر.

هناك قوانين في الاسلام مطروحة بشكل عام واصولي ، وهي التي تحدد الخطوط العامة لجميع قوانين المجتمع العامة وحركته ، مثل : « اصالة العمل » ونفي الاسلام « للعلاقة الاستعمارية » في مسألة الانتاج والتوزيع ، وطبيعي ان تكون هذه الاصول ( كما هو الحال في جميع الاصول والقوانين الكلية ) ثابتة وغير قابلة للتغيير ، سواء كان البشر في مرحلة الزراعة ، أو في مرحلة الصناعة ، فهذه القوانين ابدية ، ولا بدّ أن تشكل الاساس لجميع تلك القوانين التي يضعها المتخصصون في القضايا الاسلامية ( اي المجتهدون الواعون والعارفون بظروف المجتمع والعصر ) حسب متطلبات العصر ، وطبيعي فأن هذا الاصل ثابت لا يتغير.

أما المتغير فهو كيفية الانتاج والتوزيع التي تتناسب وكل زمان أو مكان ، لكن الانتاج والتوزيع يجب ان يكون في النهاية علىٰ اساس نفي الاستثمار واصالة العمل.

لقد نفىٰ الاسلام ولم يعترف بأية علاقة انسانية يكون فيها احد الاطراف

٥٤

متضرراً ، فقال : « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام »(١) سواء كانت هذه العلاقة « الضررية » علىٰ مستوىٰ الاسرة أو في القضايا المالية أو في أية علاقة اخرىٰ ـ طبقاً لاشك ان هناك اختلاف بين متطلبات كل عصر وزمان ، لكن هذه المسؤولية تقع علىٰ عاتق المجتهد الواعي والمتخصص في المسائل الاسلامية ، والمطّلع علىٰ احوال العصر ، لكي يستنبط الخطوط العامة والمحورية فيما يتعلق « بالحوادث الواقعة » والمستجدات من المسائل من خلال الرجوع الىٰ تلك القوانين العامة والقواعد الاسلامية الثابتة ، وبذلك يمكنه الاجابة علىٰ التساؤلات المستجدة ، او بعبارة اخرىٰ « ارجاع الفروع الىٰ الاصول » ، ولا شك ان المتغير هنا هي هذه « الفروع » و « الحوادث الواقعة » أو مقتضيات الزمان ، لكن الاصول والمحاور تبقىٰ ثابتة دائماً.

فالاسلام ـ مثلاً ـ حرّم الكذب ، سواءً كان بالكلام مباشرة مع شخص ، او من خلال مكبر صوت. أو من خلال الكلام في المذياع والتلفاز ، فالذي تغير هنا هو كيفية الكلام وليس اصله ، فكان مرّة بشكل طبيعي واُخرىٰ بمكبر الصوت وثالثة من خلال البث الاذاعي والمرئي الذي يخاطب ملايين الناس ، ويبقىٰ الاصل الثابت في جميع الاحوال هو عدم جواز الكذب وحرمته.

ومن خلال الشرح والايضاح الذي قدمناه ، تبين بشكل جيد ان الثابت في الاسلام هو القوانين والاُصول العامة التي تعد محاور واسس جميع القوانين الاخرىٰ ، والمتغير هو متطلبات العصر والمستجدات من الظروف والحالات.

________________

(١) وسائل الشيعة : كتاب الارث ، الباب الأول ، الرواية ٩.

٥٥

كما تبين لنا الدور الذي تلعبه عملية « الاجتهاد » واستنباط الحكم هنا ؟ وكيف بجب علىٰ المجتهد المطّلع علىٰ احوال الزمان ، تقديم اجوبة واقعية للتساؤلات المستجدة ومتطلّبات العصر مع الأخذ بالاُصول والعموميات الثابتة في الاسلام.

وهنا يتبين السرّ في حيوية الاسلام وطراوته الدائمة ، فلو لم يكن هناك « اجتهاد » بمعناه الصحيح والاسلامي ، لما استطاع البشر الاجابة علىٰ متطلباتهم الحديثة والمتسجدة بشكل صحيح.

الذين جلبوا العار لتاريخ المسلمين

الشيخ : اطمئنوا اذا لم يكن الاسلام طبيعياً وفطرياً ، لم يكن ليبقىٰ بعد الف واربعمائة سنة بهذه الصورة الحية والمتكاملة ، ولهضمته الأحداث كما تقضم الشاة نبتة الربيع.

اتعلمون ان سّر بقاء الدين الىٰ اليوم ، هي تلك النقطة التي اشرت اليها ؟

الدكتور : ارجوا ان تتكلّم أكثر بهذا الصدد !

الشيخ : ان بقاء اي نظام في العالم مرهون بعوامل مادية او معنوية ، لكن الاسلام فضلاً عن عدم امتلاكه العوامل المادية والمعنوية لبقاءه ، فأنه كانت هناك عوامل عديدة لسقوطه ، وهذه العوامل الاخيرة موجودة حالياً أيضاً ، لانه ، وبشهادة التاريخ ، تغيّرت مسيرة الدين بعد رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والشخص

٥٦

الذي عينه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لخلافته وزعامة المسلمين بأمر من الباري عزّ وجلّ ( أي الامام عليعليه‌السلام ) لم يعطىٰ زمام الامور.

لقد قامت أيدي المنافقين منصب زعامة المسلمين الىٰ اعدائه الداخليين ، الذين شكلوا بدورهم عصابة خطرة ، وهؤلاء اغتصبوا مقام خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله واحداً بعد الآخر وجعلوها ملكاً يدار بأيديهم يرثونه ، حتىٰ وصل الأمر إلىٰ بني اُمية وبني العباس.

ان الاعمال التي قام بها هؤلاء ( بني اُمية وبني العباس ) جعلت من عهديهما من اسوء مراحل التاريخ الاسلامي ، فقد تحولت الخلافة الىٰ سلطان ، واستبدلت الروحانية والزهد ، بمجالس اللهو والطرب والخمر. واستبدل قراء القرآن والمؤذنون ، بالجواري الجميلات والمغنون ، واصبحت مجالس اللهو و القمار وموائد الخمرة تقام في قصور خلفاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الغاصبين ! وقد وصل الامر الىٰ حدّ ، نهي فيه الوليد من الافراط في شرب الخمرة من قبل ندماءه والمقرّبين منه ، لانه يخالف نصّ القرآن وليس لخليفة المسلمين ان يتصرف بهذا الشكل.

فقال الوليد : اريد ان اعرف عاقبة امري ، عليَّ بالقرآن استفئل به ، ففتح القرآن وبدت له الآية( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) ، فاشتاط غضباً برؤيتها ، ثم فتح القرآن ثانية فكانت الآية الشريفة( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ ) (٢) فلم يستطع أن يتمالك نفسه من شدة الغضب ، فأخذ قوساً ونبالاً وصار يرمي بها ________________

(١) سورة الشعراء : ٢٢٧.

(٢) سورة ابراهيم : ١٥.

٥٧

القرآن وهو ينشد أبياته المعروفة :

اتوعد كل جبارٍ عنيد

فها انا ذاك جبار عنيدُ

اذا لاقيت ربك يوم حشرٍ

فقل يا ربِّ مزقني الوليدُ

لقد وصل الامر للحد الذي وقف فيه عامل ( امير ) الكوفة في محراب المسجد ليأم الناس صلاة الصبح وهو ثمل ، فصلىٰ اربع ركعات ، وعندما اعترض الناس علىٰ ذلك ، أجابهم : هل ازيد.

وقد وصلت الفضيحة لدرجة اصبح الغلمان والمردة يحلّون مكان الجواري والنساء.

هذه الفتن التي تعرض لها الاسلام بعد رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله استمرت حتىٰ أتىٰ هولاكو علىٰ خلافة بني العباس ، اما المعتصم آخر خلفاءهم فقد سحق بأمر من شيخ الاسلام العظيم الخواجة نصير الدين الطوسي.

وبعد ذلك لم تأتي حكومة مقتدرة تخفظ بلاد المسلمين الممتدة وتوحّدها. ولو تجاوزنا ذلك فالمساعي التي تبذلها العناصر المعارضة للأسلام ( اي الاستعمار ) والتي تعتبر المسيحية احدىٰ مظاهرها ، واسعة جداً وهدفها تدمير واسقاط النظام الاسلامي الصحيح. اما المبالغ التي تصرف لتشويه صورة الدين والاعلام المضاد له ، فلا احد يعلم بمقدارها إلّا الله ! فأكثر القساوسة و الآباء اليسوعيين وبالدعم الذي يتلقونه ، متشرون في الدول الاسلامية بهدف التبشير من جهة وتدمير الدين الاسلامي واسقاطه من جهة اخرىٰ.

٥٨

حديث من السيد جمال الدين

ومن اكبر هذه العوامل تأثيراً في سقوط الدين ، هو تصرف المسلمين ، وقوة هذا العامل تصل لحدّ ، ان بأمكانه تخريب شبكة تنظيمية واسعة بمفرده ، لأن العالم ينظر الىٰ الاسلام من خلال تصرفات المسلمين ، وللأسف الشديد ، فأن تصرفات المسلمين مهينة للحد الذي يخجل الانسان من ذكرها.

كم من القلوب الطاهرة استسلمت امام قوانين الاسلام النورانية دون اختيار ، واصبحت علىٰ شرف اعتناق الاسلام ، الّا انها انصرفت عن ذلك بمشاهدة تصرفات بعض المسلمين.

اتذكر ، ان احد العلماء المسيح صرّح رسمياً قبل فترة ، بأن المانع الوحيد امامه لقبول الاسلام هو اعمال وتصرفات المسلمين المهينة !

وعلىٰ حدّ قول السيد جمال الدين الافغاني

« اذا اردنا دعوة الغرب للأسلام ، علينا ان نثبت اولاً اننا لسنا مسلمون ، ومن ثم نبدأ الدعوة ».

أليس من المؤسف ان يصل الأمر بالمسلمين الىٰ هذا الحدّ ، وهم الذين كانوا في يوم من الأيام مثلاً للفضيلة والأنسانية ! كما أن البعض ـ وللأسف ـ من الذين لا يستطيعون التفريق بين « الاسلام » و « المسلمين » ، وان يدركوا هذه الحقيقة وهي ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء بالاسلام من جانب الله وليس بالمسلمون ، لذلك فهم ينسبون الانحراف في تصرف المسلم الىٰ الدين ويحملون نظرة سيئة عن الاسلام.

٥٩

هذه وعشرات العوامل القوية الاخرىٰ جزء من الموانع التي تقف بوجه الدين.

اصدقائي الاعزاء !

اتصدقون انه مع الأخذ بالاسباب والعوامل التي ذكرناها هنا وبعض العوامل الاخرىٰ التي لم نذكرها ، كان لا بدّ أن لا يبقىٰ ذكر للأسلام في العالم ، لكن والحسن الحظ لم تجتذب قوانينه قلوب العالم فقط ، بل ان شعاع نوره ينتشر كل يوم اكثر واكثر ، للحد الذي يندر ان نجد مفكراً أو عالماً درس وبحث حول الاسلام ولم يستسلم امام عظمة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينحني له تعظيماً.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ايها السادة المحترمون !

مثل هذهِ الامور كثيرة جداً في التاريخ القضائي لبلادنا. وان ذكرها بأجمعها يحتاج الىٰ سنوات من الوقت.

والحقيقة هي ان القيود التي وضعها العالم المتحضر علىٰ القوانيين القضائية سلبتها السرعة اللازمة وجعلها كما هي الآن مضحكة ، مما ادىٰ الىٰ يأس الفئات المستضعفة من احقاق حقها بواسطة الاجهزة القضائية ، للحدّ الذي يرضىٰ اكثر المظلومين المستضعفين بغض النظر عن حقوقهم المسلّمة والقانونية على أن يرجعوا الىٰ المحاكم.

لكن الاسلام العظيم لا يرضىٰ ان يكون هناك عمل مهما كان صغيراً بعنوان طي مراحل قانونية او عناوين اُخرىٰ في دائرته القضائية ، ومع ان المحكمة الاسلامية ليس فيها الّا عضوان هما القاضي والكاتب ( الذي يحرر الحكم ) ، الّا انه في الغالب يفضّ النزاع في اول جلسة قضائية ، ويأخذ كل واحد حقه.

المحكمة القضائية الاسلامية برأي غوستاف لوبون

يقول الدكتور غوستاف لوبون حول القضاء في الاسلام :

« القضاء الاسلامي وترتيب المحاكمات وجيز وبسيط ، فهناك شخص منصب من قبل الحاكم لأمر القضاء ، يتابع جميع القضايا شخصياً ويحكم فيها ،

١٨١

وحكمه هذا قطعي ، ففي المحكمة الاسلامية ، يدعىٰ طرفي النزاع الىٰ الحضور شخصياً الىٰ المحكمة ويقومان بشرح القضية ويقدم كل طرف منهم دليله ، ثم يصدر القاضي حكمه في ذلك المجلس.

لقد حضرت مرّة في احدىٰ هذهِ المحاكم في المغرب ورأيت كيف يقوم القاضي بعمله ، كان القاضي يجلس علىٰ كرسيه في بناية متصلة بدار الحكومة ، كما ان كلّ واحد من المتداعيين أيضاً يجلس في مكانه ومعه شهوده ، وكانوا يتحدثون بألفاظ مختصرة وكلام بسيط ، فإذا كان احدهم يحكم عليه بعدّة سياط ، كان الحكم ينفذ فيه في ختام الجلسة ، واكبر فوائد هذا النوع من القضاء هو عدم ضياع وقت المتداعيين ، وعدم وجود خسائر مالية للمتداعيين بسبب المراجعات الادارية التي نراها اليوم ، ومع البساطة والايجاز الذي ذكرته فأن الاحكام الصادرة كانت عادلة ومنصفة ».

ليس في الاسلام استئناف ولا تميز

الدكتور : الشروط التي ذكرتها والالتفاتات العلمية الموجودة في القضاء الاسلامي ليس لها مثيل في قوانين القضاء الوضعية في جميع العالم ، حسب معلوماتي الشخصية ، ورغم الضجيج الاعلامي الذي تقوم به اوروبا دعاية لمؤساستها القضائية ، فليست هناك مؤسسة متطورة كما هو الحال في المؤسسات القضائية الاسلامية. لكن هناك امر في قوانين القضاء الوضعية المعاصرة لا نجدها في القوانين القضائية الاسلامية ، وتلك مرحلة الاستئناف والتميز ، اي ان القوانين القضائية المعاصرة تكون علىٰ مرحلتين ، فلو اخطأ

١٨٢

القضاة في المرحلة الاولىٰ او ارتكبوا خيانة ، تذهب القضية مباشرة الىٰ محكمة الاستئناف ومن ثم الىٰ التميز وهناك تدرس وتتابع من جديد ، في حين ان الاسلام فاقد لهذهِ الميزة القضائية ( الاستئناف والتميز ).

الشيخ : ان وجود مرحلتان قضائيتان في عالم اليوم وعدم وجود ذلك في القانون القضائي الاسلامي هو دليل هام علىٰ استحكام مباني القوانين القضائية الاسلامية ، وهشاشتها في القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ، ولان الاسلام يأخذ الحدّ الاقصىٰ من الاحتياط والدقة في المرحلة الاولىٰ وضمن الشروط الواجب توفرها في القاضي. لان تلك الشروط التي ذكرناها مسبقاً تجعل من الصعب ان يخطيء القاضي او يخون وبذلك تنتفي الحاجة الىٰ مرحلة الاستئناف والتميز.

أمّا دنيا اليوم ترىٰ ان شرط القضاء الوحيد هو الشهادة الدراسية ، دون الاخذ بالجوانب الاُخرىٰ والتي تجعل من اي شخص قاضياً لمجرد انه خريج فرع القانون ، لابد وان لا تطمئن لقضاءهم وان تجعل احتمال الخطأ والخيانة مساوياً لاحتمال الصحة في الحكم !

سعادة الدكتور ! حتىٰ لو فرضنا ان جميع القضاة عدول واتقياء ، فان الاسلوب القضائي المتبع اليوم لا يبعث علىٰ الاطمئنان ، لان الاضبارة التي يجب ان يدرسها القضاة نظمت في محلّ آخر ، ومن اين للقضاة ان يطمئنوا اليها وانها لم تطلها يد التحريف والتزوير ، وهل تستطيع تلك الاضبارة أن تعكس واقع الناس المساكين والمظلومين ؟! وهل الاحكام التي تصدر من مثل هذه الاضبارات صحيحة ويمكن الاطمئنان إليها ؟

١٨٣

سعادة الدكتور ! يحاول عالمنا المعاصر حلّ مشاكله القضائية مثل احتمال الخيانة او الخطأ ( وهو احتمال قوي جداً وفي محله ) عن طريق محكمة الاستئناف والتميز ، في حين ان هذا الامر خطأ تماماً وتصور مغلوط ، لان القضاة الكبار في محكمة الاستئناف والتميز ليسوا ملائكة ، بل من اولئك المتعلمين الذين يعتبر شرط استخدامهم الوحيد هو شهادتهم الدراسية ، اي ان قضاة الاستيناف والتميز ايضا من نفس شاكلة القضاة العاديين ، فكيف لا يطمئن الىٰ حكم المحاكم العادية ويطمئن الىٰ حكم محكمة الاستئناف والتميز ؟! فهل ان قضاة المحاكم العادية غير عدول وغير متقين ، لكن قضاة محاكم الاستيناف والتميز عدول ومتقون ؟!

أليسوا جميعاً من صنف وهيئة واحدة ، والشرط الوحيد لعملهم هو الورقة التي في ايديهم ( الشهادة الدراسية ) ؟!

أمّا الاسلام وعلىٰ الرغم من عدم وجود محكمة استئناف وتميز في تشكيلاته القضائية ، يمكن الاطمئنان الىٰ قضائه سبب الشروط التي يضعها للقضاء ، وللحد الذي يعترف بصراحة الدكتور غوستاف لوبون :

« علىٰ الرغم من بساطة عملية القضاء الاسلامي والايجاز الذي فيها ، إلّا ان جميع الاحكام الصادرة عادلة ومنصفة. على العكس من القضاء في دول اوروبا وامريكا رغم تشكيلاته العريضة والطويلة والمعقدة ».

سعادة الدكتور ! لقد اراد العالم الاوروبي والامريكي من خلال محاكم الاستئناف والتميز ، الدقّة والحيطة التي اتبعها الاسلام قبل تعيين القاضي من

١٨٤

حيث شروط القضاة والشهُود ، ولقد اثبتنا ان اجراءات الاسلام لها دور مهم وبارز في القضاء لا يمكن لمحاكم الاستئناف والتميز القيام به ، ويجب ان نعترف بأن محكمة الاستئناف والتميز ايضاً تتبع نفس الاجراءات الروتينية التي تتبعها المحاكم العادية ، وليس لها تأثير سوىٰ في المبالغ الطائلة التي تصرف سنوياً من اموال هذا الشعب المسكين !

جواب سؤال

الطالب الجامعي ، حسن : أيّها العمّ العزيز كيف لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز ، مع ان الاسلام يرىٰ احتمال نقض حكم القاضي الأوّل من قبل قاض ثان ، او ان المحكوم يطلب اعادة محاكمته عند قاضٍ آخر ؟

الشيخ : الموارد التي يمكن فيها نقض حكم القاضي ، ان المحكوم يمكنه طلب اعادة المحاكمة عند قاص آخر ، لا تشبه ما عليه في محاكم الاستئناف والتميز في عالم اليوم. لانه هناك ثلاثة مراحل قضائية في مؤسسات القضاء المعاصرة ، هي : المرحلة الاولية والاستئنافية والتميزية ، فمرحلة الاستئناف فوق مستوى المرحلة الاولىٰ والتميز فوق مرحلة الاستئناف ، من شروط عقد محكمة الاستئناف هو ان لا يمضىٰ اكثر من عشرة ايام علىٰ تاريخ صدور الحكم من قبل المحكمة الاولىٰ ، كما ان محكمة التميز تنعقد بشروط خاصة ، كما لا يوجد في انعقاد محكمة التميز ، امتيازاً بين الدعاوىٰ الجزائية او الحقوقية.

١٨٥

وتنعقد محكمة الاستئناف في حال طب المحكوم ضده ، سواءً كان يحتمل الخطأ في الحكم الصادر بحقه او متيقن من خطأه ، فالقانون يقرّ انعقاد محكمة الاستئناف لمجرد طلب الشخص الذي صدر الحكم ضده ، وسواءً قطع قضاة محكمة الاستئناف بخطأ قضاة المحكمة الاوليّة اوقطعوا بعدهم خطأهم ، واحتملوا الخطأ أو الخيانة في حكمهم ، واذا ما انعقدت محكمة الاستئناف وبعد دراستهم لأضبارة طرفي النزاع ، استنبطوا حكماً مخالفاً لأستنباط المحكمة الاولىٰ ، عند ذاك يقومون بنقض حكم المحكمة الاولىٰ ويصدرون هم حكماً محله.

موارد نقض الحكم في قوانين الاسلام القضائية

في الاسلام لا يحق لقاضٍ نقص حكم قاض قبله الّا في ثلاث موارد ، هي :

1 ـ اذا لم يرَ القاضي الثاني صلاحية وجدارة في القاضي الأول لمقام القضاء.

2 ـ فيما لو كان حكم القاضي الأول مخالفاً للأدلة القاطعة والقواعد المسلّمة في القضاء الاسلامي ، مثل : مخالفة للاجماع المحقق والثابت والخبر المتواتر وامثالها.

أمّا إذا استنبط القاضي الاول حكماً علىٰ اساس القوانين القضائية الاسلامية ، لم يستنبطه القاضي الثاني منها ، بل فهم منها شيئاً آخراً ، ففي هذه الحالة لا يحق للقاضي الثاني نقض حكم القاضي الاول.

١٨٦

3 ـ عندما يثبت تقصير القاضي الاول في دراسته للقوانين والادلة القضائية ، ولم يدقق فيها بشكل جيد.

حول طلب اعادة المحاكمة في الاسلام

أمّا الموارد التي يمكن فيها للمحكوم ضده طلب اعادة المحاكمة ، هي الادعاء بقطع خطأ القاضي في حكمه ، او انه لم يكن يمتلك صلاحية علمية للقضاء ، او انه كان فاسقاً ، او ان الشهود لم يكونوا عدول وانهم فساق ومثل هذهِ الادعاءات.

كما انه لا تعاد المحاكمة لمجرد تلك الادعاءات ، بل على المحكوم في البداية اثبات دعواه ، فلو ادعىٰ المحكوم ان القاضي قد اخطأ ، عليه اولاً ان يثبت خطأ القاضي ومن ثم طلب اعادة المحاكمة.

أمّا اذا لم يثبت المحكوم خطأ القاضي او عدم صلاحيته او عنوان آخر مما ذكرناه ، فليس له طلب اعادة المحاكمة لمجرد احتماله الخطأ وحتىٰ لو طلب ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي ان يبحث ويدرس حكم القاضي الأول.

خصوصيات المسألتين في القضائين الاسلامي والوضعي

اصدقائي الاعزاء !

أتصوّر انه ومن خلال ما ذكرته اعلاه ، يتضح الفارق بين محكمة

١٨٧

الاستئناف والتميز عن الموارد التي يمكن فيها للقاضي المسلم نقض حكم قاض آخر او التي يحق للمحكوم فيها طلب اعادة محاكمته ، وثبت عدم تشابه ما يطرحه الاسلام عما موجود في الانظمة الوضعية ( محكمة الاستئناف والتميز ) ، وبشكل عام فأن الفوارق القضائية بين الاسلام والوضعية ، هي كالتالي :

1 ـ لا توجد في المؤسسة القضائية الاسلامية ثلاثة مراحل قضائية ، خلافاً للمؤسسة القضائية الوضعية المعاصرة التي لها ثلاث مراحل قضائية ، هي : المرحلة الاولية والاستئناف والتميز.

2 ـ من منظار القوانين القضائية الاسلامية ، اذا كان استنباط احد القضاة مخالفاً لأستنباط وحكم القاضي الاول ، فليس له اي حق في نقض ذلك الحكم الاولي ، في حين ان القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ترىٰ ان استنباط قضاة محكمة الاستئناف إذا كان مخالفاً للحكم الاولي ، ينقضه ويصدر مباشرة حكم آخر في القضية.

3 ـ لا يقبل من المحكوم طلب اعادة المحاكمة ما دام لم يدعي خطأ القاضي الاول بشكل قطعي او عدم صلاحيته اوفسقه او الخ ، وحتىٰ لو طلب المتهم ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي اعادة المحاكمة او النظر في حكم القاضي الاول ، اما لو اتهم المحكوم القاضي الاول بما ذكرناه مسبقاً ، فلا تنعقد محكمة جديدة مباشرة أيضاً ، لانه عليه ان يثبت ما ادعاه اولاً ، في حين ان قوانين القضاء الوضعية تقرّ بتشكيل محكمة استئناف بمجرد طلب المحكوم لذلك ، كما ان لقضاة محكمة الاستئناف النظر في حكم المحكمة الاولىٰ ونقصه ،

١٨٨

وعلىٰ هذا لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز بالمعنىٰ الوارد في القوانين الوضعية المعاصرة ، وان عدم وجود مرحلتي الاستئناف والتميز في القانون القضائي الاسلامي لهو خير دليل علىٰ استحكام مبنىٰ القضاء في الاسلام ، ونزلزله في القضاء الوضعي.

كانت تلك جوانب من خصوصيات قوانين القضاء الاسلامي مقارنة بالقضاء الوضعي المعاصر ، وهناك الكثير من نماذج تفوق القوانين الاسلامية علىٰ غيرها مما يعمل به في عصرنا الحاضر.

ملاحظة بعض قوانين الاسلام الجزائية

الدكتور : كما اشرتم ، ان قوانين الاسلام تتفوّق علىٰ قوانين العصر الوضعية في العديد من المجالات ، وهو امر لابد من الاعتراف به ، ولكن هناك بعض القوانين الجزائية في الاسلام ، ادت الىٰ الطعن في صميم الدين وتلك هي العقوبات الشديدة التي فرضت علىٰ بعض الذنوب في الاسلام ، مثل قطع يد السارق ، او السوط بالنسبة للزاني او شارب الخمر ، فالعالم الغربي يرىٰ ان هذهِ العقوبات اعمال وحشية ، يجب ان لا تنفذ علىٰ البشر.

الشيخ : ان معرفة حقيقة معينة تحتاج الىٰ معرفة سائر القضايا التي ترتبط بها بنحوٍ ما.

أمّا إذا أردنا دراسة موضوع ما دون الاخذ بالمواضيع الاخرىٰ المتصلة به ، فلن نصل الىٰ معرفة حقيقة وصحيحة فيما يتعلق به. ومن النماذج التامة لذلك هي القوانين الجزائية الاسلامية التي سألتم عنها. والاشكالات التي

١٨٩

يواجهها البعض مع القوانين والاحكام الجزائية في الاسلام ، مصدرها ذلك الخطأ ، وهو انهم ينظرون فقط الىٰ احكام الاسلام فيما يتعلق ببعض العقوبات ، دون الاخذ بنظر الاعتبار للقوانين التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتمع من الاثم والذنب ، والتي تعد القوانين الجزائية الشديدة ، آخر علاج لها.

أمّا الخطوات والأحكام التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتع وجعله فاضلاً ، فهي كالآتي :

أ ـ العوامل التربوية :

يستند الاسلام غالباً في صيانة المجتمع وابعاده عن العصيان والذنوب الىٰ العوامل التربوية التي يطرحها ، وهذهِ العوامل واسعة وشاملة بحيث لو أنّها طبقت بشكل جيد تضمن سلامة المجتمع ونظافته وتقيه من 90% من المعاصي.

والعوامل التربوية كثيرة في الاسلام ، لكن اهمها :

1 ـ الايمان بالله.

2 ـ الالتزام والمسؤولية.

3 ـ الالتفات الىٰ الآخرة والحساب والاجر والعقاب.

4 ـ دعوة الانسان الىٰ الفضيلة ومحاربة الخصال الذميمة.

5 ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٩٠

6 ـ الصلاة بمعاينها السامية ومفاهيمها التربوية الخاصة.

7 ـ الصوم.

وعشرات العوامل الاُخرىٰ التي لها أدوار أساسية في تربية الانسان بتمام معنى الكلمة.

ب ـ العلاج من الاساس :

المسألة الاخرىٰ التي التفت اليها الاسلام من اجل تطهير المجتمع من الذنوب والمعاصي ، هي معالجة الظواهر من الاساس ، ومهاجمة العوامل الاساسية التي تؤدي الىٰ الذنب والمعصية ، وهذهِ بحد ذاتها مرحلة مهمة يجب الالتفات اليها قبل دراسة القوانين الجزائية الاسلامية الشديدة.

فالاسلام عندما حرّم الزنا ـ علىٰ سبيل المثال ـ لم يتجاهل الغريزة الجنسية للانسان او يقمعها ، بل وضع لها طرق شرعية متعددة لو طبقت سدت حاجة الانسان الجنسية.

ولو كان الاسلام شديداً في تعامله مع السارق فلأنه طرح نظاماً اقتصادياً ليست فيه فوارق طبقية وتمايزات بين البشر ، وهو يدعو الىٰ توزيع الثروات الطبيعية والدخل علىٰ اساس العدل ، وعلىٰ ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، لن يكون هناك محتاجاً في المجتمع حتىٰ يقال : لماذا يقطع الاسلام يد السارق الجائع ، الذي ما سرق إلّا ليشبع بطنه ؟! لانه سيقال في جواب ذلك اولاً ، لن يكون هناك جائع على ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، بل هو سيملك حق

١٩١

الاستفادة من جميع المصادر الطبيعية في العالم بقدر حاجته وعلىٰ اساس اصالة العمل. وثانياً متىٰ قال الاسلام بقطع يد السارق في النظام الذي يبيت فيه الاشخاص جياعاً ؟!

أجل ، ان علاج الحالات المرضية من الأساس هو الأصل الثاني المهم الذي وضعه الاسلام لتطهير المجتمع من الجريمة والمعصية ، وذلك من خلال قلع جذور الاسباب الرئيسية للجريمة.

ج ـ الاحام الجزائية في الاسلام :

وفي نهاية المطاف ، وكآخر حلّ يضع الاسلام مجموعة من العقوبات لردع الانسان العاصي والوقوف دون وقوع الجريمة ، والآن إذا أراد شخص ان ينظر الىٰ احكام العقوبات فقط وتجاهل الموردين الاوليين المهمين في الاسلام ، فأن هذا الشخص مخطئ تماماً ، لانه وكما شرحنا من قبل وضع الاسلام من جهة عوامل تربوية واسعة وشاملة تقوم ببناء شخصية الانسان من خلالها ، ويسيطر بها على الصفات الرذيلة ، لكي يرتدع الانسان من خلال امتناعه عن الذنب والمعصية.

ومن جهة اخرىٰ ، قام بقطع دابر العوامل المؤدية للذنب من الجذور ، ووضع حلولاً علمية مناسبة لجميع المشاكل وفي كل المجالات ، وفيما لو طبقت تضمن جميع متطلبات الانسان وحاجياته الطبيعية والمشروعة.

وصدقوني ان نسبة عالية من الناس لو اجتازوا هاتين المرحلتين سيكونون بكل تأكيد اشخاصاً متقين واصحاب فضائل.

١٩٢

أمّا لو بقي رغم ذلك كله شخصاً مصرّاً في اختيار الطرق الشيطانية والخصال الرديئة ، فهنا وكآخر وسيلة للعلاج ، يتعامل الاسلام معه بشدّة ويقف من خلال قوانينه واحكامه سدّاً مقابل هذه الاعمال التي تريد هدم كيان المجتمع.

وهنا لكم ان تحكموا ، أليس من غير الانصاف ان يأتي شخص ويحكم في قوانين الاسلام الجزائية ويدينها دون الاخذ بنظر الاعتبار للمسائل الاُخرىٰ المرتبطة بها ، اي تلكما المرحلتان التي ذكرتهما من قبل ؟!

الثقافة

من الضروري الالتفات الىٰ ان الاسلام يرىٰ ان العوامل التربوية والمرحلة الثانية التي هي علاج الحالات المرضية من الاساس لها دور مؤثر وقوي جداً في تطهير المجتمع وردع الاشخاص عن الذنب والعصيان ، كما ان القوانين الجزائية لو طبقت بشكل جيد يمكن ان تقف امام المعاصي وتحول دون انتشار الفساد.

أمّا الايديولوجيات الوضعية ـ وللأسف الشديد ـ لا هي تستخدم العوامل التربوية المؤثرة ولا هي تقدم حلولاً اصولية من اجل تأمين حاجات الانسان ومتطلباته المختلفة ، ولا تقدم للأسف ايضاً قوانين جزائية صارمة يمكنها مكافحة الجريمة والفساد بشكل واسع ومؤثر.

١٩٣

الذين قطعت ايديهم !!!

هنا قد يقال : لو ان السارقين تقطع اياديهم ، لفقد الكثير من الناس في المجتمع اياديهم ؟! وفي جواب ذلك ، نقول :

بل العكس فلو طبقت تلك القوانين ( خاصة مع الاخذ بالمرحلتين الاوليتين المذكورتين ) لن يكون في المجتمع مقطوعي ايدي ولا سارقين ، ومثال ذلك في عصرنا دولة السعودية ، فعلىٰ الرغم من عدم وجود عوامل تربوية صحيحة في ذلك المجتمع ونظام اقتصادي اسلامي عادل ، وعلىٰ الرغم من الفوارق العميقة الموجودة وترف ولهو وثروات الامراء والحواشي والمقربين من اموال النفط وعائداتة الطائلة ، فليس هناك سرقة ( طبعاً السرقة العادية وليست السرقات الكبيرة التي يقوم بها المسؤولون والامراء من اموال الشعب ) ولا ايدٍ مقطوعة ، لانه علىٰ الاقل تطبق الحكومة السعودية قانون قطع يد السارق ، وهذا ما يمكن التأكد منه بواسطة آلاف الحجيج الذين يذهبون سنوياً الىٰ هناك للحج ، فكم من يدٍ وجدوها مقطوعة ؟! وكم رؤوا من السرقات ؟! وحتىٰ لو شاهدوا السرقات فيه أقل بكثير مما يحدث في أي دولة اُخرىٰ.

فهذا نموذج عملي واحد عن دور القوانين الجزائية الاسلامية فيما يتعلق بالسرقة في عالمنا المعاصر ، علىٰ الرغم من ان السعودية دولة لا تطبق النظام الاقتصادية الاسلامي وليس هناك توزيع عادل للثروة ، كما انها من البلدان المتخلفة ثقافياً وحضارياً.

١٩٤

قاطعية الاسلام في مكافحة الفساد

لا يُنكر ان الاسلام واجه المذنبين والعصاة المفسدين بعقوبات شديدة ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان ذلك كله من أجل مصلحة المجتمع وبسبب خطورة المعصية اجتماعياً ، ولا يهدف الاسلام في قوانينه الجزائية إلّا المكافحة الحقيقية للمعصية.

والاسلام ليس كالعالم المعاصر وقوانينه ، الذي يسوّي المسألة مع العاصي أو المذنب ، وبهذا الشكل يتلاعب بسعادة المجتمع ومصلحته.

فالاسلام يرجح أن يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً من أجل ان يقطع دابر شرب الخمر من المجتمع ويخلصه من امراضه.

والاسلام يرجح ان يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً ولكن في المقابل يكون له ولجميع يجله رادعاً عن فعل ذلك للأبد.

والغريب ان عالمنا المعاصر وعلىٰ الرغم من اعترافاته بأضرار شرب الخمر ، فهو يقول ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وخطرة وانها تؤثر سلباً علىٰ المخ والدم والقلب والاعصاب والجلد والجهاز الهضمي و الخ ، لكنه لا يتعامل بجدية مع القضية ويتساهل مع شارب الخمر بشكل يعتبر عمله ترغيباً واشاعة للمعصية !

ولو كان العالم المعاصر يريد قلع جذور السرقة والاعتداء علىٰ اموال وممتلكات الناس ، فلماذا يتساهل مع السارق ويبدي معه تسامحاً ؟! ولو كان

١٩٥

العالم المعاصر يعتبر الاعتداء علىٰ اعراض الناس خيانة وجريمة فلماذا كل هذا التساهل مع من يفعلها ؟!

هنا لا بدّ أن نعترف وللأسف الشديد ، ان القوانين الوضعية الحالية لن تستطيع ان تلعب دوراً مهماً في قلع الفساد والمعاصي من الجذور في المجتمع فقط ، بل اجازت تلك الاعمال وأدت إلىٰ انتشارها من خلال التسامح والتساهل الذي تبديه مع مرتكبيها ، والنهج الذي تتبعه تلك القوانين الجزائية الوضعية في مكافحة الفساد والاثم ، يشبه عمل الدكتور الذي يكتفي ببعض الجرعات المسكنة مقابل مرض خطر ومسري ، علىٰ الرغم من امتلاكه جميع الوسائل والامكانيات لمكافحة المرض. وفي مثل هذه الحالة الا يقال ان هدف الدكتور هو ليس علاج الحالة المرضية بل الهاء المريض المسكين وتخديره !

أمّا الاسلام

لكن الاسلام ( وخلافاً لعالمنا المعاصر ) يسعىٰ بجدية لمكافحة جذرية للفساد والمعصية في المجتمع ، وهدف الاسلام من ذلك هو قلع الفساد والمعصية من الجذور ، علىٰ قدر المستطاع ، ولهذا نراه شديداً في وضعه للقوانين الجزائية وقوانين العقوبات وفي تنفيذها.

ولان الاسلام يريد مكافحة السرقة بشكل حقيقي ويضمن امن المجتمع من هذه الناحية ، لذلك يأمر بقطع يد السارق(1) .

________________

(1) طبعاً من الأخذ بالشروط التي وضعها الاسلام.

١٩٦

والاسلام يريد مكافحة الاعتداء علىٰ اعراض ونواميس الآخرين بشكل حقيقي ، لذلك أمر بجلد الزاني مئة سوط أمام أعين الناس ، لكي لا يعود الىٰ ذلك ويكون عبرة للآخرين وسدّاً امام اتساع دائرة المعصية في المجتمع.

والاسلام يرىٰ ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وانها تهدد أساس المجتمع وسلامته ، لذلك يأمر بضرب ذلك الشخص الذي يخاطر بسعادة نفسه وسلامتها وسعادة وسلامة جيلة ، ويشرب من هذا الشراب المهلك ، ثمانين سوطاً ، لكي يقف امام تكرار مثل هذا العمل في المجتمع.

ألا يمكن تطبيق هذه القوانين في عصرنا.

هنا يمكن القول ، علىٰ الرغم من تأثير القوانين الجزائية والعقوبات الشديدة التي وضعها الاسلام لمكافحة المعاصي والفساد من الجذور الا ان هذه القوانين غير قابلة للتطبيق في عصرنا الحاضر ، لانه يعتبرها اساليب وحشية !

فنقول : ليس لنا إلّا أن نتعجب لهذا القول ونأسف له.

أليس عجيباً ان الدنيا تصمت وتصم آذانها وهي تشاهد مئات عمليات القتل والاعتداء وقطع الاعضاء وعشرات الجرائم الاُخرىٰ ، والتي تقع بسبب السرقة او التطاول علىٰ أموال الآخرين ، ولكنها تعتبر قطع أربعة أصابع من يد خائن او معتدي وذلك أيضاً من أجل محو ظاهرة السرقة ، والوقوف أمام مئات الجرائم التي تأتي من هذه الاعتداءات والتجاوزات غير قابلة للتطبيق والاجراء ؟!

وكيف يستصعب عالم اليوم ثمانين سوطاً علىٰ جسد شارب الخمر

١٩٧

في حين انه لا يستصعب القتل والجرائم وسلب راحة المجتمع الذي ينتج عن تأثير الخمر في سلوكيات الاشخاص والمجتمع ، ويرىٰ ذلك صعب النتفيذ !

دنيا التناقضات

اليست دنيا الي نعيش فيها ، دنيا تناقضات وعصرنا عصر غريب ! فدنيانا من جهة رؤوفة وعطوفة للحد الذي لا ترضىٰ بقطع اربعة اصابع لمجرم ( من اجل الامن العام ومحو السرقة من المجتمع ) ، ومن جهة اخرىٰ ، هذه الدنيا الرؤوفة ، تستثمر وعلىٰ مدىٰ سنوات عديدة ملايين البشر الضعفاء وعشرات الشعوب الصغيرة والمحرومة ، وتعطي للاقوياء الحق في نهب ثروات المستضعفين. في حين ان اولئك المساكين يعيشون حفاة وجياعاً ويعانون من اسوء الظروف !

وكيف تبرر هذه الدنيا العطوفة التي لا ترضىٰ ان يضرب شارب الخمر أو الزاني ثمانين أو مائة سوط ، قتل مليون جزائري مسلم ليس لهم ذنب سوىٰ انهم يريدون الاستقلال والخلاص من الهيمنة الاستعمارية ؟!

وكيف قبلت هذه الدنيا بالقنبلتين الذريتين اللآتي دمرتا هيروشيما وناكازاكي في اليابان فقتل اكثر من سبعين الف شخص وتحولت الابنية والمصانع والمرافق العامة الىٰ انقاض خلال لحظات ؟ اليس من حق الانسان صاحب الضمير الحي ان يعجب امام تصرفات هذه الدنيا المتناقضة ؟!!

١٩٨

سرد موجز للجريمة في الدول المتقدمة

عالمنا الذي يرىٰ خطأ ان قوانين الاسلام الجزائية وحشية ، اراد ان يقف امام اعتدالات الانسان عن طريق وضع قوانين اقل صرامة وبعبارة اخرىٰ لينة ، وبذلك يقتلع جذور السرقة او اية جريمة اخرىٰ ، لكنه وللأسف لم يوفق في ذلك فقط ، بل اضطر الىٰ تشديد عقوباته وقوانينه الجزائية ويزيد من عدد سجونه يوماً بعد يوم.

وعلىٰ الرغم من ذلك كله ، ولسوء الحظ ، يزداد عدد السارقين والمجرمين في كل يوم للحد الذي اصبحت احصائيات الجريمة تقلق وتخيف مسؤولي اكبر الدول المتحضرة.

وهذه بعض تلك الاحصائيات المنشورة ، والتي سببها ترك قوانين الاسلام الجزائية وعدم العمل بها :

أ ـ تقرير وزير العدل :

في تقرير قدمه وزير العدل الايراني بتاريخ 2 / 1 / 1960 الىٰ البرلمان ( المجلس الوطني ) يقول :

« نحن نواجه هذه الحقيقة المرّة ، وهي التزايد المستمر لدعاوى الناس الحقوقية والجزائية ، ولابد من التفكير بحلّ لذلك ، وعلىٰ سبيل المثال : طبقاً للاحصائيات الموجودة عندي ، فان مجموع الاضبارات التي دخلت الىٰ جهاز

١٩٩

القضاء في الأشهر الستّة الاُولىٰ من سنة 1959 ، هو 362665 في حين ان المجموع للاشهر الستة الاولىٰ من هذا العام بلغ 444391 ، اي ان ما يقرب ثمانين الف اضبارة زادت عما كان عليه في العام الماضي ، وبالتأكيد فان العملية تصاعدية في السنوات السابقة أيضاً.

ونقلت الصحف آنذاك نصّ التقرير ، وهو نماذج صغير للجرائم الموجودة لبلد في طريقه الىٰ الرقيّ ، يرىٰ ان القوانين الجزائية الاسلامية وحشية ، ويريد ان يقف امام الجريمة بالقوانين التي تضعها عقول رجاله ورجال اوروبا المخمورين !!

ولا بدّ من كلمة لوزير العدل الذي يعجب للنتائج التي تعطيها قوانينهم الوضعية : ما ستراه في المستقبل اعظم بكثير ، فأنّك لا زلت في أول الطريق.

ب ـ سجن واشنطن :

طبقاً لاحد التقارير الذي نشرته صحيفة معروفة ، كانت في واشنطن سابقاً 3600 سجينة فقط ، اما هذه السنين فقد وصل عدد السجينات الىٰ ثمانية آلاف.

وفي مدينة فلادلفيا(1) يطلق سراح النساء اللواتي يصدر الحكم بسجنهن ، لان سجون النساء مكتضة ، وليس هناك مكان للسجينات الجُدد.

________________

(1) هذه الاحصائيات تعود لثمان سنوات قبل ، أمّا الآن فالله العالم.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466