رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 233429 / تحميل: 7998
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

١
٢

٣

٤

لابدّ من هذه المقدّمة قبل قراءة الكتاب

الكتاب الذي بين ايديكم كتبته قبل عشرين سنة وصدر بعنوان« مناظرة بين الدكتور والشيخ » . وقد تلقّفه الشباب المسلم آنذاك بحيث طبع للمرّة التاسعة بعد فترة قصيرة من صدوره.

لكن وللأسف عُرِّض الكتاب لآفة في تلك الايام حالت دون طبعه من جديد ( بشكل علني علىٰ الاقل ). وتلك الآفة هي من خصوصيات دول معينة تنال المطبوعات والصحافة.

لكن اليوم وبعد مرور سنين حيث تغيرت الظروف لحد ما بالنسبة لمثل هذه الكتابات ، وبسبب اصرار بعض الأصدقاء حاولت طبعه من جديد ، لكن المشكلة هي ان كتاب« مناظرة بين الدكتور والشيخ » كتب قبل عشرين سنة وطبيعي فهو يحمل خصوصيات الكاتب الفكرية في تلك المرحلة ، كما أنه يجمل أيضاً أجواء تلك الفترة من حياة المجتمع الفكرية والسياسية ، التي تختلف كثيراً عن الظروف المعاصرة ، لذلك كان من الضروري اعادة نظر اساسية

٥

في مواضيع الكتاب لكي يكون منسجماً مع متطلبات ومستوىٰ وعي المجتمع حالياً.

ومن جهة أُخرىٰ فإن هذا الأمر يحتاج إلىٰ عمل وفرصة كبيرة ، لكي نقوم بتغيير جذري في المسائل التي يطرحها الكتاب ، وللأسف الشديد إن الوقت بالنسبة لي ضيق جداً والفرصة غير سانحة ، لذلك اخترت حلاً وسطاً لهذا الأمر واكتفيت في الوقت الحاضر بأعادة نظر عابرة وسريعة ، بأمل اتاحة فرصة مناسبة لي ـ ان شاء الله ـ لكي أقوم بطرح جميع مواضيع الكتاب علىٰ اساس جديد ، بشكل يتناسب والجو الفكري والسياسي الذي يحكمني ومجتمعي.

إذن ، علىٰ القارىء المحترم معرفة ان التغييرات التي اُجريت علىٰ الكتاب قليلة وسطحية وليست تغييرات اُصولية وجذرية. على أمل ان أوفق في المستقبل القريب ان أخطو خطوات أكثر فائدة لنشر تعاليم الاسلام ومعارفه الغنية والثورية وعلىٰ قدر استطاعتي. وبالله الاستعانة.

السيد عبد الكريم هاشمي نجاد

مشهد ـ ١٩ / ايار / ١٩٧٨ م

٦

بدأت الشمس بتسليط اشعتها علىٰ مدينة « بندر شاه » الصغيرة ، فيما بدأ الناس نشاطهم اليومي بهدوء ، والمسافرون الذين يريدون السفر بالقطار ، اخذوا يستعدون للحركة ، في حين ان صوتاً مزعجاً من عجلات العربات التي كانت مشغولة بحمل المسافرين في شارع المحطة كان يصل الىٰ الآذان ، وكانت ساعة حركة القطار تقترب شيئاً فشيئاً.

في تلك اللحظة نزل من احدىٰ العربات شيخ يضع علىٰ رأسه قبعة صوفية ويحمل بيده حقيبة ، له لحية بيضاء كثّة وشكل نوراني جذّاب ، كان يحفظ رقبته وجزءاً من وجهه بياقة معطفه خوفاً من النسيم البارد الذي كان يهب ، وقف في آخر الصف لأخذ بطاقة القطار ، حتىٰ جاء دوره في النهاية فاشترىٰ البطاقة ودخل الىٰ فناء المحطة ، ولأنه لم يبق لحركة القطار إلّا ربع ساعة فقد صعد القطار ، وكان مكتوباً في بطاقته : العربة ٤ المقعد رقم ٤٤.

كان الشيخ ينظر من خلف الزجاج الىٰ ارقام المقاعد عندما يمر بالغرف ، حتىٰ وجد مقعده في النهاية ، فتح باب الغرفة وبعد ابداء السلام للجالسين في الغرفة ، وضع حقيبته في محلها المخصص وجلس علىٰ مقعده.

٧

بداية الحديث :

نظر الشيخ الىٰ الاشخاص الجالسين في الغرفة فرآهم يتلصصون إليه النظر ، ويشيرون الىٰ بعضهم مستهزئين بقبعته ولحيته. فتغاضىٰ عن اشاراتهم لوقاره الخاص ووجّه نظره الىٰ الاسفل ، وانشغل بقراءة القرآن والدعاء.

لكن الجالسين معه في الغرفة ذهبوا الىٰ أبعد من مجرد الغمز لبعضهم وبدأوا بالكلام وأخذوا يستهزؤون بالشيخ بكلمات نابية ، والشيخ لا يزال ساكتاً ، وهو منشغل بالدعاء ، لكن جلساءه كانوا اكثر وقاحة من ان يتركوا الشيخ لصمته ووقاره. فأصبح الكلام ابعد من مجرد المزاح والاستهزاء الىٰ الجدِّية والضجر منه ، فتوجّه احدهم بصوت عنيف الىٰ الآخر ، وقال : دكتور ! اني اتنفر من هؤلاء الرجعيين اساساً ، وقال آخر : دكتور أنا أيضاً لا اُحبُّ هذه الأشكال.

فقال : الدكتور مجيباً إياهما : أنا أعارض الدين اساساً ، فكيف بهؤلاء القرويين الرجعيين الملتحين.

وقال الرابع : نحن لا حظَّ لنا في السفر أساساً ، اردنا بعد فترة ان نسافر الىٰ طهران ، فإذا بهذا المتعصّب معنا.

خلاصة القول ، لقد تجاوزت تلك الجماعة مجرد اهانة الشيخ والاستهزاء به ، إلى التجاسر على الدين والقضايا الدينية.

٨

الشيخ يتحدث :

وجد الشيخ ان الصمت بعد ذلك غير جائز ، فبدأ الحديث ، وقال : أيُّها السادة : علىٰ حدِّ قولكم أنا رجعي وممّن يضعون علىٰ رؤوسهم قبعة من الصوف ، لكنكم الذين يظهر من ملابسكم وهيئتكم أنكم متعلمون ومثقفون. اُقسم عليكم ، هل اسلوبكم هذا انساني ؟ وأنا رفيقكم في السفر الىٰ طهران فقط ، وقد سلّمت علىٰ الجميع عند دخولي بمنتهىٰ الأدب ، وجلست في مكاني دون ان اُؤذي احداً منكم ، لكنكم في قبال ذلك ، كلتم لي كل تلك الاهانات !! مع ذلك فأنا اغض النظر عما قلتموه بحقي ، فكيف تتجاسرون وتناولون من المقدسات الاسلاميّة.

سؤال الشيخ :

لكني اسألكم سؤالاً واحداً ، مع كل هذا التشاؤم وسوء الظن بالدين والمسائل الدينية ، هل انتم تعرفون الدين ( بالمعنىٰ الصحيح للكلمة ) ؟ أم إنّ إهانتكم للإسلام هي بدون أيّة معرفة صحيحة عنه ؟!

رفقاء السفر : ماذا تقصد بالمعرفة ، نحن لا نوافقك هذا الكلام من الاساس.

ثم أضاف أحدهم : أنا لا طاقة لي بقراءة الكتب الدينية ولست مستعداً للحديث مع واحد من المعمّمين.

٩

الشيخ : أيُّها السيد المحترم ! أنت الذي تعترف بعدم اطلاعك علىٰ اصول الدين ومبادئه ، ولم تتحدث في جميع عمرك مع أي مسلم واعٍ ، إذن كيف تجيز لنفسك اساءة الأدب بحق المقدسات الدينية إلىٰ هذا الحدّ ، وتتصور ان الدين والمتدينيين بشكل عام يقفون أمام سعادتك ؟!

أنتم الذين تعترفون بجهلكم لابسط المعلومات حول الاسلام ، كيف تسمحون لانفسكم بمثل هذه الاحكام المستعجلة والارتجاليّة البعيدة عن الواقع ، وتدينون الدين واتباعه في محكمتكم غير الصالحة الاهانة والاستهزاء والكلام الباطل ؟!

أيُّها السيد المحترم ! اتصور انّك وكما يقول المثل ذهبت للقاضي فقط(١) وحكمت بدون أية صلاحية في الحكم.

قضاء باطل

رفيق سفر آخر : أيُّها الشيخ دعك من ذلك ، هل هناك اصل أو اساس علمي للدين ، حتىٰ يحتاج الخوض فيه الىٰ صلاحية أو معرفة واسعة ؟! فكل شخص يمكنه الكلام حول الدين ، وابداء الرأي فيه ثم قبوله أو عدم قبوله.

الشيخ : كلامك هنا لا ينسجم والقواعد المنطقية والعلمية والعقلية ، لأن العقل يحكم برجوع الاشخاص الذين لا يلمون بموضوع ما الىٰ المختصين فيه ،

________________

(١) مثل ايراني معناه : أن الكلام لا يستند إلى دليل حقيقي. ( المترجم )

١٠

وليس لهم ابداء الرأي دون علم سابق والحكم فيه.

ففي جميع العصور وبين جميع الاشخاص والاقوام ، هناك اشخاص متخصّصون في كل فن ، يرجع اليهم باقي الناس في مجال تخصّصهم ، ولا نذكر ان أحداً من الناس استعان بجاهل في موضوع معين لحل معضلة ، او انهم سَعَوْا الىٰ حلِّ أمر جاهلين له.هل رأيتم مريضاً راجع حداداً ليعالجه من مرضه ؟ أو ان احداً عاد طبيباً ليسأله عن امور الزراعة ؟ حتىٰ لو ان احداً في غير المتخصصين ابدىٰ رأياً في أمر ، فإن رأيه لن يعار له أي اهتمام ، خاصة في عالمنا المعاصر ، وفي الدول المتقدمة ، لربّما يكون عرض نظريات باطلة وأحكام غير صحيحة من قبل اشخاص غير مختصين يعتبر ويستدعي ملاحقة قانونية.

قصّة حول الاحكام الباطلة

هنا نورد هذه القصة علىٰ سبيل المثال :

حكىٰ لي احد الاصدقاء : انني كنت اعبر بحر المانش بين فرنسا ( ميناء ديب ) وانجلترا ( ميناء نيوهيون ) بالباخرة. وكنت جالساً الىٰ جانب رجل انجليزي يظهر عليه الألم ، وبعد قليل من التردد سألته عما يؤلمه ، فأشتكى من الصداع ، فعرضت عليه تناول حبة « كالمين » جلبتها معي من فرنسا ، فوافق وتناولها ، وبعد فترة قصيرة ذهب عنه الصداع ، فشكرني وسأل : هل انت طبيب ؟ أجبته : لا. فسألني متعجباً : إذن كيف تجيز الدواء ؟!

علىٰ أيّة حال ، وبعد نزولنا من الباخرة سلّمني للشرطة ، بأن قال لهم اشكر هذا السيد الذي أذهب عني الصداع بأعطائي الدواء ، لكنه ارتكب مخالفة

١١

قانونية بتجويزه دواءً دون رخصة.

وهذا نموذج لرد فعل ايجابي ازاء الذين اعتادوا ابداء الرأي حول كل شيء دون علم ومعرفة به كافية ، وهو رد فعل مقابل عمل لربما تكون نتيجته الموت بالنسبة لعشرات المرضىٰ(١) .

أجل ، هذا هو الاسلوب الصحيح ، ففي كل أمر تجب مراجعة المختصين به ، وهو اصل ثابت في جميع انحاء العالم ، وبين جميع الشعوب الواعية ، لكني لا اعلم لماذا عندما يصل الأمر الىٰ موضوع الدين نشاهد اولئك الناس ـ انفسهم ـ يريدون ابداء الرأي فيه دون علم ومعرفة كافية ، ويحكمون فيه مثلما يتكلم فيه العالم الديني الواعي ؟! واذا لم يستطيعوا فهمه من زاوية نظرهم ، ينفونه بكل شدّة ويقولون اننا لن نرضخ لمثل هذا القانون !!

أليس من غير الانصاف ان يقوم المزارع الذي أفنىٰ عمره ـ وللأسف حسب رغبة المستعمر ـ مع الارض والماء والقمح فقط ، أو العطار الذي عاش حياته كلها في بيع وشراء السكر والرز والتبغ ، أو العامل الماهر المختص في انتاج القماش أو الطبيب الحاذق الذي يتعامل مع اعضاء الانسان وجوارحه بسكين الجراحة في بعض الأحيان ، ابداء الرأي في المسائل الدينية وكأنه عالم دين واعٍ وصل الىٰ من التخصّص تمكّنه من الحكم في الدين ؟!

اتصوّر أن الاُمّة التي تريد التدخل في أُمور ليست من صلاحيتها ، ولا

________________

(١) صحيفة اطلاعات : العدد ١٣٧١٥ ـ ٣ شباط ١٩٧٢.

١٢

ترتبط بها علمياً عليها أن تقرع طبول شقائِها.

اجل ، يجب ان ترد الاُمور الىٰ اصحابها ، فالبلد السعيد هو الذي يعرف اهله حدود وظائفهم ويحفظونها ، ولا يتعدّىٰ أحد فيهم حدوده العلمية.

رفاق السفر : ماالذي تقوله أيُّها الشيخ ، فدنيا اليوم هي دنيا العلم ، والجميع يستطيعون معرفة كل شيء.

الشيخ : نعم ـ يستطيع كل واحد ان يفهم « كل شيء » لكن هناك مشاكل عديدة يلزم تجاوزها لتطبيق ذلك الامكان ، بمعنىٰ لابدّ من تحمل متاعب جمّة للحصول علىٰ معلومات كافية فيما يتعلق بحقيقة معينة ، لكي يمكنه فهم القضايا المرتبطة بتلك الحقيقة مثل متخصص واعٍ ، ومن العجب ! كيف لا يستطيع الشخص الذي لم يدرس الطب فهم المسائل الطبية ولكن هذا الشخص نفسه يحق له ابداء الرأي في المسائل الدينية بدون أية معلومات عن الدين ؟!

لماذا لا يتسطيع الذي لم يدرس الطب وسائر المواضيع العلمية تعلم مسائلها دفعة واحدة ( مع ان الدنيا ، هي دنيا العلم ) ، ولكن حينما تطرح قضايا الدين يستطيع كل جاهل ان يبدي نظرياته فيها لمجرد ان دنيانا هي دنيا العلم ؟!

علىٰ انني لا اقصد بالمتخصّص في المسائل الدينية ، الذين يرتدون الزي الروحاني ( الجبّة والعمامة ) ، لان مجرد الملابس لا تأتي بالتخصّص ، بل الذي اقصده هو « التخصّص العلمي » امتلاك معرفة دينية كافية وصحيحة ، أمّا

١٣

ما تقولونه فهو يشبه الاعتراض علىٰ شخص يقول : يجب علىٰ البصير أن يأخذ بيد الأعمىٰ ويوصله الىٰ مقصده من بين الطرق الملتوية ، فماذا يعني ضوء النهار مع وجوب الآخذ بيد الأعمىٰ ، في حين ان الاعمىٰ يتساوىٰ لديه الليل والنهار وفي كلتا الحالتين يحتاج الىٰ شخص بصير يأخذ بيده.

أيُّها السادة ! صحيح ان دنيانا هي دنيا العلم ، لكنه وفي دنيا العلم هذه لا يستطيع احد ابداء نظريات في مجال اختصاصه والحكم في القضايا ، إلّا الذي يمتلك وعياً ومعرفة كافيين.

أمّا الذي تقولونه فهو « عطاء من خزانة الأمير »(١) ، وهو للأسف منطق المتفرجين من بعيد ، وهذا النوع من الناس ، إذا ما وجدوا احدىٰ المباحث الدينية لا تنسجم مع تفكيرهم القاصر ، يلوذون مباشرة بتطور الآخرين العلمي والتكنولوجي ، ويقولون فخورين !! : هو عصر العلم ، عصر الذرة ، العصر الذهبي البراق ، وفي مثل هذا العالم الذي نحيا فيه لا يمكن انت نترك موضوعاً دون فهم ! أليس من ضروري أن نقول لمثل هؤلاء الاشخاص : اعزاءنا في عصر العلم ايضاً لا يحق لأحد التنظير في قضية إلّا ان يكون عالماً ومتخصّصا فيها وهؤلاء هم الذين يلتذون بالمسائل العلمية.

اصدقائي الاعزاء !

أنا لا أقول انه لا يحق لغير المتخصّص البحث والاستقصاء في الدين والمسائل التي تتعلق به ، بل ما اقصده هوان لا يجلس الشخص

________________

(١) مثل ايراني ، يقال للشخص الذي يتبرع من مال ( أو علم ) غيره. ( المترجم )

١٤

الذي ليست له جدارة علمية في المسائل الدينية علىٰ كرسي القضاء ويصدر احكامه بهذه القطعية ، وكأنما جميع الحقائق الدينية تتلخص في دائرة فكره ، وفهمه فقط.

وعاء أحرّ من الأكل(١)

هنا تذكرت قصّة حدثت قبل سنوات ، خلاصتها :

كان أحد العلماء الغربيين قد كتب مقالاً يقول فيه : نأمل ان تحلّ في المستقبل القريب مشاكل السفر الىٰ سطح القمر وان يصل الانسان الىٰ امنيته هذه(٢) .

بعد نشر ذلك المقال ، كتب أحد الكتّاب الايرانيين مقالاً في احدىٰ الصحف حول السفر الىٰ سطح القمر علىٰ أساس مقال ذلك العالم الغربي ، لكن صاحبنا استرسل في مقالة للحد الذي قال فيه : سوف يقضي عرائسنا شهر عسلهم ـ بالقريب ـ علىٰ سطح القمر ، ولسوف يستأجر الاغنياء الفيلات المبنية علىٰ سطح القمر بأسعار باهضة لكي يفرّوا من حرارة شمس الصيف الىٰ هناك.

وقد وصل بالكاتب الحدّ لأن يقول : في المستقبل القريب ، سوف تشير الاجيال التي ستأتي بعدنا نحو الأرض وتقول ان آباءنا كانوا يسكنون تلك

________________

(١) مثل ايراني ، يقال للشخص الذي يتحمس إلى موضوع لا يرتبط به. ( المترجم )

(٢) اليوم ونحن نعد هذه الطبعة الجديدة من الكتاب ، تحقّق حلم الانسان في السفر الىٰ سطح القمر قبل سنوات.

١٥

الكرة!!

جميع تلك الخزعبلات صاغها الكاتب الايراني علىٰ اساس مقال ذلك العالم الغربي في حين ان العالم الغربي كان يتحدّث عن احتمال وامكان السفر الىٰ سطح القمر. ( وهنا ، ينفجر رفاق السفر ضاحكين ).

الشيخ : أيُّها السادة : أليس بعض مواطنينا يفكرون مثل ذلك الكاتب الايراني ، لأنهم يفتخرون بالتطور العلمي الذي أوجده الآخرون !

١٦

حقائق العالم وآراء العلماء

احد رفاق السفر : أيُّها الشيخ لقد تطرفت في كلامك ! لربّما يصحّ كلامك فيما يتعلق بغير المتعلمين ، لكنه مرفوض فيما يتعلّق بالعلماء والمتعلّمين ، لأنهم يحقُّ لهم ان يجعلوا آراءهم ملاكاً لصحّة وسقم أي موضوع ، ويمكنهم اصدار حكم قطعي في كلِّ شيء.

الشيخ : لا ، لم أتطرّف في كلامي ، كما انّ آراء العلماء أيضاً ليست معياراً كاملاً لصحّة أو خطأ موضوع ما في كل حال ، لان التاريخ يحدّثنا عن تكامل البشر علمياً.

فقد حدّث ان مجموعة من العلماء أقرت مسألة خاطئة علىٰ أنّها حقيقة علمية واستندت اليها عشرات السنين للحد الذي قدمت على اساسها عشرات النظريات والفرضيات الاُخرىٰ. ولكن ، ومع تطور العلوم ، ظهرت الحقيقة بالتدريج وبان خطأ « النظرية الاُم » ، وعلىٰ حدِّ قول عالم الاحياء الفرنسي المشهور الدكتور الكسيس كارل(١) :

« ليس من الضروري ان تكون الحقيقة بسيطة علىٰ الدوام وقابلة للفهم بالنسبة لنا»(٢) .

________________

(١) Dr. Alexis carrel

(٢) الانسان ذلك المجهول.

١٧

وفي تاريخ الحياة الانسانية نشاهد العديد من النظريات العلمية ظهرت علىٰ انّها قواعد علمية واقعية لفترة طويلة بين العلماء ، وكانت ملاكاً لصحّة وفساد المسائل الاُخرىٰ ، لكن ، وبمرور الايام ، ثبت بالتدريج مخالفتها للواقع ، ومن انها لم تكن سوىٰ نظرية.

أحد النماذج التامة فيما نتحدث عنه هو قصة الذرّة ، لقد كانت الذرّة لسنوات طويلة غير قابلة للتقسيم عند الفلاسفة والعلماء ، وكان « موقريطس »(١) أوّل من قال أنّ ظواهر العالم تتألف من أجزاء صغيرة غير قابلة للتجزئة والتقسيم ، ( وقد سمي فيما بعد ذلك الجزء غير القابل للتقسيم ذرّة ).

بقيت هذه النظرية مقبولة علىٰ مدىٰ قرون من قبل الكثير من الفلاسفة والعلماء ، وكان في عداد حقائق العالم العلمية ، ومع تطور العلم ، اصبح عصرنا ينظر الىٰ تلك النظرية كأسطورة لا اكثر ، بل تم عملياً شطر الذرة والاستفادة من طاقتها المتحررة ، للحد الذي ارعبت قدرتها التخريبية العالم.

وحقيقة ان الانسان جائز الخطأ وليس مصوناً منه يمكن تعميمها لتشمل العلماء ايضاً ، والاعترافات التي يبدونها حول امكان خطئهم طريفة جداً ، هنا ننقل بعض ذلك :

________________

(١) لابد من الاشارة الىٰ ان عالماً باسم « ليوسيبوس » طرح أصل نظرية الذرة وتكون جميع ظواهر العالم منها ، وذلك قبل دموقريطس ، لكن الاخير قام بأكمال تلك النظرية.

تاريخ التطورات الاجتماعية ، ص ١٧٦ ، تأليف : متروبوسكي.

١٨

يقول عالم الرياضيات المعروف ، البرت انشتاين :

« يندر ان نجد اليوم عالماً يعتبر المواضيع التي يصل اليها حقائق نهائية. بل العكس نجد اصحاب النظريات المهمة مثل نيوتن(١) يذعنون ان ما يرونه واضحاً اليوم لربّما يكون مبهماً وغير واضح بالنسبة للاجيال اللاحقة ، ولربّما سينظر اخلافنا الىٰ اعمالنا بنفس العين التي ننظر فيها نحن الى اسلافنا»(٢) .

ويقول احد الكتاب الفرنسيين :

« الجميع يمكن ان يخطأوا. ولربما يخطىء العالم الكبير في حكمه ، وقد رأينا خطأ جميع اعضاء مؤسسة علمية في مبحث تخصصي بالنسبة لهم لذلك يجب ان لا نعتبر فتاوىٰ العلماء والمفكرين حتىٰ تلك التي ضمن اختصاصاتهم حجة لا يمكن الزيغ عنها. ويبقىٰ الزمان هو المحك الاساس في اختبار هذه الموارد »(٣) .

مجهولات الانسان

الىٰ هنا من البحث تكلمنا عن امكان خطأ العلماء وعدم حصانتهم قباله ؛ أي أن بعض العلماء أو مجموعة منهم لربما تصوروا انهم توصلوا الىٰ حقيقة ما واستطاعوا كشفها ، لكن واقع الامر هو غير ذلك ، هنا نضيف الىٰ المسألة حقيقة

________________

(١) Newton

(٢) العالم وانشتاين : ١٣٠.

(٣) صحيفة اطلاعات ، العدد ١١٧٦٠ ، بتاريخ ٢١ / تموز / ١٩٦٥.

١٩

اخرىٰ ذات دائرة لشمولية أكبر ، وتلك الحقيقة هي المجهولات التي يواجهها العلماء ، ففي عالمنا العديد من الاسرار والحقائق لا تزال يد الفكر والكشف الانساني لم تَطَلْها.

أحد رفاق السفر : أيُّها العمّ العزيز ، لا تنظر الىٰ الاُمور التي نجهلها نحن ، لانّ كلامنا يدور حول كبار علماء العالم ، الذين لا يعرفون ابداً لفظة « لا علم » أو « أجهل ذلك » !

الشيخ : أيُّها السيد المحترم ، أنا مضطر لحمل كلامك هذا من باب التفاؤل غير المنطقي بعلماء العالم ، لان الظاهر انك تحدثت دون دراسة ودراية.

صديقي العزيز ! لو طالعت كتب العلماء ، ومؤلفاتهم لوجدتهم يعترفون بجهل الكثير من حقائق العالم ، وهذه حقيقة الىٰ جانب كل حقيقة علمية تكتشفها ، فعندما نصل الىٰ كشف معين نواجه عشرات الاسئلة ، والمجهولات الجديدة ، وبهذه الكيفية ليست هناك حقيقة موضوعية واحدة في عالم الوجود مكشوفة جميع قضاياها بشكل عام ، ومن أجل اثبات هذا الادعاء ، نورد بعض اعترافات اعظم علماء عصرنا حول مجاهيل العالم :

يقول عالم الفيزياء المعاصر البرت انشتاين(١) في احدىٰ مؤلفاته :

« وعلىٰ الرغم من المعلومات التجريبية التي حصلنا عليها فيما يتعلق بنواة الذرة ، لكننا لا نزال في ظلمة فيما يتعلق بالعديد من المسائل

________________

(١) A. Enshtien

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

و روى ما في معناه العيّاشيّ في تفسيره، عن طربال و عن ابن أبي يعقوب و عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، و لفظ الأخير قال:( قال الله ليوسف: أ لست الّذي حبّبتك إلى أبيك و فضّلتك على الناس بالحسن؟ أو لست الّذي سقت إليك السيّارة فأنقذتك و أخرجتك من الجبّ؟ أو لست الّذي صرفت عنك كيد النسوة؟ فما حملك على أن ترفع رعيّة أو تدعو مخلوقاً هو دوني؟ فالبث لما قلت بضع سنين‏) ، و قد تقدّم أنّ هذه و أمثالها روايات تخالف نصّ الكتاب.

و مثلها ما في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: قوله:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) و قوله لإخوته:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) فقال له جبرئيل: و لا حين هممت؟ فقال:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) و في الرواية نسبة الفرية و الكذب الصّريح إلى الصدّيق (عليه السلام).

و في بعض هذه الروايات أنّ عثراته الثلاث هي همّه بها، و قوله:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) ، و قوله:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . و الله سبحانه يبرّئه من هذه المفتريات بنصّ كتابه.

٢٠١

( سورة يوسف الآيات ٤٣ - ٥٧)

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنّي أَرَى‏ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤيَاي إِن كُنتُمْ لِلرّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ( ٤٤) وَقَالَ الّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادّكَرَ بَعْدَ أُمّةٍ أَنَا أُنَبّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥) يُوسُفُ أَيّهَا الصّدّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ لَعَلّهُمْ يَعْلَمُونَ( ٤٦) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتّم فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلّا قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ( ٤٧) ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدّمْتُمْ لَهُنّ إِلّا قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ( ٤٨) ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ( ٤٩) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمّا جَاءَهُ الرّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى‏ رَبّكَ فَسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ اللّاتِي قَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ إِنّ رَبّي بِكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ( ٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنّ إِذْ رَاوَدتّنّ يُوسُفَ عَن نّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للّهِ‏ِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزيِزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقّ أَنَا رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ وَإِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ( ٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ( ٥٢) وَمَا أُبَرّئُ نَفْسِي إِنّ النّفْسَ

٢٠٢

لَأَمّارَةُ بِالسّوءِ إِلّا مَا رَحِمَ رَبّي إِنّ رَبّي غَفُورٌ رّحِيمٌ( ٥٣) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلّمَهُ قَالَ إِنّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ( ٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى‏ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( ٥٥) وَكَذلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٥٦) وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتّقُونَ( ٥٧)

( بيان‏)

تتضمّن الآيات قصّة خروجه (عليه السلام) من السجن و نيله عزّة مصر و الأسباب المؤدّية إلى ذلك، و فيها تحقيق الملك ثانياً في اتّهامه و ظهور براءته التامّ.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى‏ سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ) إلى آخر الآية. رؤيا للملك يخبر بها الملأ و الدليل عليه قوله:( يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ) و قوله:( إِنِّي أَرى) حكاية حال ماضية، و من المحتمل أنّها كانت رؤيا متكرّرة كما يحتمل مثله في قوله سابقا:( إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) ( إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ ) إلخ.

و السمان جمع سمينة و العجاف جمع عجفاء بمعنى المهزولة، قال في المجمع: و لا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف و القياس في جمعه العجف بضمّ العين و سكون الجيم كالحمراء و الخضراء و البيضاء على حمر و خضر و بيض، و قال غيره: إنّ ذلك من قبيل الإتباع و الجمع القياسيّ عجف.

٢٠٣

و الإفتاء إفعال من الفتوى و الفتيا، قال في المجمع: الفتيا الجواب عن حكم المعنى و قد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا انتهى.

و قوله:( تَعْبُرُونَ ) من العبر و هو بيان تأويل الرؤيا و قد يسمّى تعبيراً، و هو على أيّ حال مأخوذ من عبور النهر و نحوه كان العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل، و هو حقيقة الأمر الّتي تمثّلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصّة مألوفة له.

قال في الكشّاف، في قوله:( سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ ) إلخ فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للمميّز و هو بقرات دون المميّز و هو سبع و إن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت: إذا أوقعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى أنّ تميّز السبع بنوع من البقرات و هي السمان منهنّ لا بجنسهنّ، و لو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثمّ رجعت فوصفت المميّز بالجنس بالسمن.

فإن قلت: هلّا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟ قلت: التمييز موضوع لبيان الجنس و العجاف وصف لا يقع البيان به وحده فإن قلت: فقد يقال: ثلاثة فرسان و خمسة أصحاب قلت: الفارس و الصاحب و الراكب و نحوها صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها و جاز فيها ما لم يجز في غيرها، أ لا تراك لا تقول: عندي ثلاثة ضخام و أربعة غلاظ. انتهى.

و قال أيضاً: فإن قلت: هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟ قلت: الكلام مبنيّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان و العجاف و السنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الاُخر السبع، و يكون قوله:( وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) بمعنى و سبعا اُخر. فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله:( وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) على( سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ ) فيكون مجرور المحلّ؟ قلت: يؤدّي إلى تدافع و هو أنّ عطفها على سنبلات خضر يقتضي أن يدخل في حكمها فيكون معها مميّزاً للسبع المذكورة، و لفظ الاُخر يقتضي أن يكون غير السبع بيانه أنّك تقول: عندي سبعة رجال قيام و قعود بالجرّ فيصحّ لأنّك ميّزت السبعة برجال موصوفين

٢٠٤

بقيام و قعود على أنّ بعضهم قيام و بعضهم قعود فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام و آخرين قعود تدافع ففسد. انتهى، و كلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج أزيد من الظنّ بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها أمّا وجوب الدلالة من الكلام فلا ألبتّة.

و معنى الآية: و قال ملك مصر لملئه إنّي أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع بقرات مهازيل و أرى سبع سنبلات خضر و سنبلات اُخر يابسات يا أيّها الملأ بيّنوا لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.

قوله تعالى: ( قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ) الأحلام جمع حلم بضمّتين و قد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه و كأنّ الأصل في معناه ما يتصوّر للإنسان من داخل نفسه من غير توصّله إليه بالحسّ، و منه تسمية العقل حلما لأنّه استقامة التفكّر، و منه أيضاً الحلم لزمان البلوغ قال تعالى.( وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ) النور: ٥٩ أي زمان البلوغ، بلوغ العقل، و منه الحلم بكسر الحاء بمعنى الأناءة ضدّ الطيش و هو ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب و عدم المعاجلة في العقوبة فإنّه إنّما يكون عن استقامة التفكّر. و ذكر الراغب: أنّ الأصل في معناه الحلم بكسر الحاء، و لا يخلو من تكلّف.

و قال الراغب: الضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان و جمعه أضغاث، قال تعالى:( وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا ) و به شبه الأحلام المختلفة الّتي لا تتبيّن حقائقها( قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) حزم أخلاط من الأحلام انتهى.

و تسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث الأحلام كأنّه بعناية دعوى كونها صورا متفرّقة مختلطة مجتمعة من رؤي مختلفة لكلّ واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت و اختلطت عسر للمعبّر الوقوف على تأويلها، و الإنسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى اُخرى و منهما إلى ثالثة و هكذا فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام و امتنع الوقوف على حقيقتها و يدلّ على ما ذكرنا من العناية التعبير بأضغاث أحلام بتنكير المضاف و المضاف إليه معا كما لا يخفى.

٢٠٥

على أنّ الآية أعني قوله:( وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى) إلخ، غير صريحة في كونه رؤيا واحدة و في التوراة أنّه رأى البقرات السمان و العجاف في رؤيا و السنبلات الخضر و اليابسات في رؤيا اُخرى.

و قوله:( وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ) إن كان الألف و اللّام للعهد فالمعنى و ما نحن بتأويل هذه المنامات الّتي هي أضغاث أحلام بعالمين. و إن كان لغير العهد و الجمع المحلّى باللّام يفيد العموم فالمعنى و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنّما نعبّر غير أضغاث الأحلام منها، و على أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه أضغاث أحلام و بين نفيهم العلم بتأويل الأحلام عن أنفسهم، و لو كان المراد بالأحلام الأحلام الصحيحة فحسب كان كلّ من شطري كلامهم يغني عن الآخر.

و معنى الآية قالوا أي قال الملأ للملك: ما رأيته أضغاث أحلام و أخلاط من منامات مختلفة و ما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنّما نعلم تأويل الرؤى الصالحة.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الّذي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) الاُمّة الجماعة الّتي تقصد لشأن و يغلب استعمالها في الإنسان، و المراد بها هاهنا الجماعة من السنين و هي المدّة الّتي نسي فيها هذا القائل و هو ساقي الملك أن يذكر يوسف عند ربّه و قد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربّه فلبث يوسف في السجن بضع سنين.

و المعنى: و قال الّذي نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه و ادّكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين أوّل رؤياه: أنا اُنبّئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتّى اُخبركم بتأويل ذلك.

و خطاب الجمع في قوله:( أُنَبِّئُكُمْ ) و قوله( فَأَرْسِلُونِ ) تشريك لمن حضر مع الملك و هم الملأ من أركان الدولة و أعضاد المملكة الّذين يلون اُمور الناس، و الدليل عليه قوله الآتي:( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ ) كما سيأتي.

قوله تعالى: ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ ) إلى آخر

٢٠٦

الآية، في الكلام حذف و تقدير إيجازاً، و التقدير: فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال: يا يوسف أيّها الصدّيق أفتنا في رؤيا الملك و ذكر الرؤيا و ذكر أنّ الناس في انتظار تأويله و هذا الاُسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم.

سمّى يوسف صدّيقا و هو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبّر به منامه و منام صاحبه في السجن و اُموراً اُخرى شاهدها من فعله و قوله في السجن، و قد أمضى الله سبحانه كونه صدّيقا بنقله ذلك من غير ردّ.

و قد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرّح أنّه رؤيا فقال:( أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) لأنّ قوله:( أَفْتِنا ) و هو سؤال الحكم الّذي يؤدّي إليه نظره، و كون المعهود فيما بينه و بين يوسف تأويل الرؤيا، و كذا ذيل الكلام يدلّ على ذلك و يكشف عنه.

و قوله:( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ) لعلّ الأوّل تعليل لقوله:( أَفْتِنا ) و لعلّ الثاني تعليل لقوله( أَرْجِعُ ) و المراد أفتنا في أمر هذه الرؤيا ففي إفتائك رجاء أن أرجع به إلى الناس و اُخبرهم بها و في رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة و الجهالة.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( أَرْجِعُ ) في معنى أرجع بذلك فمن المعلوم أنّه لو أفتى فيه فرجع المستفتي إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما ألقي إليه من التأويل فافهم ذلك.

و في قوله أوّلا:( أَفْتِنا ) و ثانياً:( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ ) دلالة على أنّه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك و الملأ و لم يكن يسأله لنفسه حتّى يعلمه ثمّ يخبرهم به بل ليحمله إليهم و لذلك لم يخصّه يوسف بالخطاب بل عمّ الخطاب له و لغيره فقال:( تَزْرَعُونَ ) إلخ.

و في قوله:( إِلَى النَّاسِ ) إشعار أو دلالة على أنّ الناس كانوا في انتظار أن يرتفع بتأويله حيرتهم، و ليس إلّا أنّ الملأ كانوا هم أولياء اُمور الناس و خيرتهم في الأمر خيرة الناس أو أنّ الناس أنفسهم كانوا على هذا الحال لتعلّقهم بالملك و اهتمامهم

٢٠٧

برؤياه لأنّ الرؤيا ناظرة غالباً إلى ما يهتمّ به الإنسان من شئون الحياة و الملوك إنّما يهتمّون بشؤون المملكة و اُمور الرعيّة.

قوله تعالى:( قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى:( وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ ) و الدأب العادة المستمرّة دائماً على حاله قال تعالى:( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) أي كعادتهم الّتي يستمرّون عليها. انتهى و عليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرّة، و قيل: هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجدّ و اجتهاد، و يمكن أن يكون حالاً أي تزرعون دائبين مستمرّين أو مجدّين مجتهدين فيه.

ذكروا أنّ( تَزْرَعُونَ ) خبر في معنى الإنشاء، و كثيراً ما يؤتى بالأمر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنّه واقع يخبر عنه كقوله تعالى:( تُؤْمِنُونَ بِالله وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله ) الصف: ١١، و الدليل عليه قوله بعد:( فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ) ، قيل: و إنّما أمر بوضعه و تركه في سنبله لأنّ السنبل لا يقع فيه سوس و لا يهلك و إن بقي مدّة من الزمان، و إذا ديس و صفي أسرع إليه الهلاك.

و المعنى: ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلّا يهلك و احفظوه كذلك إلّا قليلاً و هو ما تأكلون في هذه السنين.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) الشداد جمع شديد من الشدّة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب و المجاعة من الصعوبة و الحرج على الناس أو هو من شدّ عليه إذا كرّ، و هذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله:( يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ ) .

و عليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كأنّ هذه السنين سباع ضارية تكرّ على الناس لافتراسهم و أكلهم فيقدمون إليها ما ادّخروه عندهم من الطعام فتأكله و تنصرف عنهم.

٢٠٨

و الإحصان الإحراز و الادّخار، و المعنى ثمّ يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم يأكلن ما قدّمتم لهنّ إلّا قليلاً ممّا تحرزون و تدّخرون.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) يقال: غاثه الله و أغاثه أي نصره، و يغيثه بفتح الياء و ضمّها أي ينصره و هو من الغوث بمعنى النصرة و غاثهم الله يغيثهم من الغيث و هو المطر، فقوله:( فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ ) إن كان من الغوث كان معناه: ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة و رفع الجدب و المجاعة و إنزال النعمة و البركة، و إن كان من الغيث كان معناه: يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم.

و هذا المعنى الثاني أنسب بالنظر إلى قوله بعده:( وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) و لا يصغي إلى قول من يدّعي: أنّ المعنى الأوّل هو المتبادر من سياق الآية إلّا على قراءة( يَعْصِرُونَ ) بالبناء للمجهول و معناه يمطرون.

و ما أورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني أنّه لا ينطبق على مورد الآية فإنّ خصب مصر إنّما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالأمطار لا تؤثّر فيها أثراً.

ردّ عليه بأنّ الفيضان نفسه لا يكون إلّا بالمطر الّذي يمدّه في مجاريه من بلاد السودان.

على أنّ من الجائز أن يكون( يُغاثُ ) مأخوذاً من الغيث بمعنى النبات، قال في لسان العرب: و الغيث الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى، و هذا أنسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله:( وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) .

و قوله:( وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) من العصر و هو إخراج ما في الشي‏ء من ماء أو دهن بالضغط كإخراج ماء العنب و التمر للدبس و غيره و إخراج دهن الزيت و السمسم للائتدام و الاستصباح و غيرهما، و يمكن أن يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع أنعامهم كما فسّره بعضهم به.

و المعنى ثمّ يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت

٢٠٩

أراضيهم - أو يمطرون أو ينصرون - و فيه يتّخذون الأشربة و الأدهنة من الفواكه و البقول أو يحلبون ضروع أنعامهم. و فيه كناية عن توفّر النعمة عليهم و على أنعامهم و مواشيهم.

قال البيضاويّ في تفسيره: و هذه بشارة بشّرهم بها بعد أن أوّل البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة، و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة، و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، و لعلّه علم ذلك بالوحي أو بأنّ انتهاء الجدب بالخصب أو بأنّ السنّة الإلهيّة أن يوسّع على عباده بعد ما ضيّق عليهم. انتهى و ذكر غيره نحواً ممّا ذكره.

و قال صاحب المنار في تفسيره، في الآية: و المراد أنّ هذا العام عظيم الخصب و الإقبال يكون للناس فيه كلّ ما يبغون من النعمة و الإتراف، و الإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأوّل بعد سني الشدّة و الجدب دون ذلك فهذا التخصيص و التفصيل لم يعرفه يوسف إلّا بوحي من الله عزّوجلّ لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى.

و الّذي أرى أنّهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا و تأويلها سبيل المساهلة و المسامحة و ذلك أنّا إذا تدبّرنا في كلامه (عليه السلام) في التأويل أعني قوله:( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) وجدناه (عليه السلام) لم يبن كلامه على أساس إخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثمّ السنين السبع المجدبة، و لو أنّه أراد ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقول مثلاً: يأتي عليكم سبع مخصبات ثمّ يأتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثمّ إذا سئل عن دفع هذه المخمصة و طريق النجاة من هذه المهلكة العامّة، قال:( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ) إلى آخر ما قال.

بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل و بيّن أنّ أمره بذلك توطئة و تقدّمة للتخلّص عمّا يهدّدهم من المجاعة و المخمصة و هو ظاهر، و هذا

٢١٠

دليل على أنّ الّذي رآه الملك من الرؤيا إنّما كان مثال ما يجب عليه من اتّخاذ التدبير لإلجاء الناس من مصيبة الجدب، و إشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسئوليّته في أمر رعيّته و هو أن يسمن بقرات سبعاً لتأكلهنّ بقرات مهازيل ستشدّ عليهم و يحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوس و تصفية لذلك.

فكأنّ نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدّد الأرض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة و المجدبة أي الرزق الّذي يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثمّ حكت ما في السبع الاُول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن و ما في السبع الاُخر في صورة الهزال، و حكت نفاد ما ادّخروه في السبع الاُولى في السبع الثانية بأكل العجاف للسمان، و حكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر.

و لم يزد يوسف (عليه السلام) في تأويله على ذلك شيئاً إلّا اُموراً ثلاثة:

أحدها ما استثناه بقوله:( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) و ليس جزء من التأويل و إنّما هو إباحة و بيان لمقدار التصرّف الجائز فيما يجب أن يذروه في سنبله.

و ثانيها: قوله:( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) و هو الّذي يجب أن يدّخروه للعام الّذي فيه يغاث الناس و فيه يعصرون ليتّخذ بذراً و مدداً احتياطيّاً، و كأنّه (عليه السلام) أخذه من قوله في حكاية الرؤيا:( يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ) حيث لم يقل: أكلتهنّ بل عبّر عن اشتغالهنّ بأكلهنّ و لمّا يفنيهنّ بأكل كلّهنّ و لو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد لرأى أنّهنّ أكلتهنّ عن آخرهنّ.

و ثالثها: قوله:( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) و الظاهر أنّه (عليه السلام) استفاده من عدد السبع الّذي تكرّر في البقرات السمان و العجاف و السنبلات الخضر، و قوله:( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ ) و إن كان إخباراً صورةً عن المستقبل لكنّه كناية عن أنّ هذا العام الّذي سيستقبلهم بعد مضيّ السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في أمر الزرع و الادّخار، و لا تكليف فيه يتوجّه إليهم بالنسبة إلى أرزاق الناس.

٢١١

و لعلّه لهذه الثلاثة غير السياق فقال:( فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) و لم يقل: فيه تغاثون و فيه تعصرون بالجري على نحو الخطاب في الآيتين السابقتين ففيه إشارة إلى أنّ الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في أمر معاشهم و تصدّيكم لإدارة أرزاقهم بل يغاثون و يعصرون لنزول النعمة و البركة في سنة مخصبة.

و من هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار، في كلامه المتقدّم أنّ هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (عليه السلام) إلّا بوحي من الله لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى.

فإنّ تبدّل سني الجدب بسنة الخصب ممّا يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه، و أمّا ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزيّة بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ ألبتّة.

و ممّا ذكرنا أيضاً تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الآية بالسبع حيث قيل:( وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) حيث عرفت أنّ الرؤيا لا تجلّي نفس حادثة الخصب و الجدب، و إنّما تجلّي ما هو التكليف العمليّ قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك إشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك.

و مما تقدّم يظهر أيضاً أنّ الأنسب أن يكون المراد بقوله:( يُغاثُ ) و قوله:( يَعْصِرُونَ ) الإمطار أو إعشاب الكلاء و حلب المواشي لأنّ ذلك هو المناسب لما رآه في منامه من البقرات السبع سمانا و عجافا فإنّ هذا هو المعهود، و منه يظهر وجه تخصيص الغيث و العصر بالذكر في هذه الآية، و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) في الكلام حذف و إضمار إيجازا، و التقدير - على ما يدلّ عليه السياق و الاعتبار بطبيعة الأحوال - و جاء الرسول و هو الساقي فنبّأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا و قال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به.

٢١٢

و ظاهر أنّ الّذي أنبأهم به من جدب سبع سنين متوالية كان أمراً عظيماً، و الّذي أشار إليه من الرأي البيّن الصواب أعظم منه و أغرب عند الملك المهتمّ بأمر اُمّته المعتني بشؤون مملكته، و قد أفزعه ما سمع و أدهشه، و لذلك أمر بإحضاره ليكلّمه و يتبصّر بما يقوله مزيد تبصّر، و يشهد بهذا ما حكاه الله تعالى من تكليمه إيّاه بقوله:( فَلَمَّا جاءَهُ و كَلَّمَهُ ) إلخ.

و لم يكن أمره بإتيانه به إشخاصاً له بل إطلاقاً من السجن و إشخاصاً للتكليم و، لو كان إشخاصاً و إحضاراً لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (عليه السلام) أن يستنكف عن الحضور بل اُجبر عليه إجباراً بل كان إحضاراً عن عفو و إطلاق فوسعه أن يأتي الحضور و يسأله أن يقضي فيه بالحقّ، و كانت نتيجة هذا الإباء و السؤال أن يقول الملك ثانياً: ائتوني به أستخلصه لنفسي بعد ما قال أوّلا: ائتوني به.

و قد راعى (عليه السلام) أدبا بارعا في قوله للرسول:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه و ليس يريد إلّا أن يقضي بينه و بينها، و إنّما أشار إلى النسوة اللّاتي راودنه، و لم يذكرهنّ أيضاً بسوء إلّا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته و لا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أيّ مراودة و فحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيماً.

و لم يذكرهنّ بشي‏ء من المكروه إلّا ما في قوله:( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) و ليس إلّا نوعاً من بثّ الشكوى لربّه.

و ما ألطف قوله في صدر الآية و ذيلها حيث يقول للرسول:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ) ثمّ يقول:( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) و فيه نوع من تبليغ الحقّ، و ليكن فيه تنبّه لمن يزعم أنّ مراده من( رَبِّي ) فيما قال لامرأة العزيز:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) هو زوجها، و أنّه يسمّيه ربّا لنفسه.

و ما ألطف قوله:( ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) و البال هو الأمر الّذي يهتمّ به يقول: ما هو الأمر العظيم و الشأن الخطير الّذي أوقعهنّ فيما وقعن فيه، و ليس إلّا هواهنّ فيه و ولههنّ في حبّه حتّى أنساهنّ أنفسهنّ فقطّعن

٢١٣

الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا فليفكّر الملك في نفسه أنّ الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدّاً، و الكفّ عن معاشقتهنّ و الامتناع من إجابتهنّ بما يردنه و هنّ يفدينه بالأنفس و الأموال أعظم، و لم يكن المراودة بالمرّة و المرّتين و لا الإلحاح و الإصرار يوماً أو يومين و لن تتيسّر المقاومة و الاستقامة تجاه ذلك إلّا لمن صرف الله عنه السوء و الفحشاء ببرهان من عنده.

قوله تعالى: ( قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) الآية، قال الراغب: الخطب الأمر العظيم الّذي يكثر فيه التخاطب قال تعالى:( فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ) ( فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) . انتهى.

و قال أيضاً: حصحص الحقّ أي وضح و ذلك بانكشاف ما يظهره، و حصّ و حصحص نحو كفّ و كفكف و كبّ و كبكب، و حصّة قطع منه إمّا بالمباشرة و إمّا بالحكم - إلى أن قال - و الحصّة القطعة من الجملة، و يستعمل استعمال النصيب. انتهى.

و قوله:( قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ) ؟ جواب عن سؤال مقدّر على ما في الكلام من حذف و إضمار إيجازا - كلّ ذلك يدلّ عليه السياق - و التقدير: كأنّ سائلا يسأل فيقول: فما الّذي كان بعد ذلك؟ و ما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك و بلّغه ما قاله يوسف و سأله من القضاء فأحضر النسوة و سألهنّ عمّا يهمّ من شأنهنّ في مراودتهنّ ليوسف: ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه؟ قُلْنَ:( حاشَ لله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) فنزّهنه عن كلّ سوء، و شهدن أنّهنّ لم يظهر لهنّ منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه.

و ذكرهنّ كلمة التنزيه:( حاشَ لله ) نظير تنزيههنّ حينما رأينه لأوّل مرّة:( حاشَ لله ما هذا بَشَراً ) يدلّ على بلوغه (عليه السلام) النهاية في النزاهة و العفّة فيما علمنه كما أنّه كان بالغاً في الحسن.

و الكلام في فصل قوله:( قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ) نظير الكلام في قوله( قالَ ما خَطْبُكُنَّ ) و قوله:( قُلْنَ حاشَ لله ) فعند ذلك تكلّمت امرأة العزيز و هي الأصل

٢١٤

في هذه الفتنة و اعترفت بذنبها و صدّقت يوسف (عليه السلام) فيما كان يدّعيه من البراءة قالت: الآن حصحص و وضح الحقّ و هو أنّه: أنا راودته عن نفسه و إنّه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها و كذّبت نفسها في اتّهامه بالمراودة، و لم تقنع بذلك بل برّأته تبرئة كاملة أنّه لم يراود و لا أجابها في مراودتها بالطاعة.

و اتّضحت بذلك براءته (عليه السلام) من كلّ وجه، و في قول النسوة و قول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من:( ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) مع كلمة التنزيه:( حاشَ لله ) في قولهنّ، و اعترافها بالذنب في سياق الحصر:( أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) و شهادتها بصدقه مؤكّدة بإنّ و اللّام و الجملة الاسميّة:( وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) و غير ذلك في قولها. و هذا ينفي عنه (عليه السلام) كلّ سوء أعمّ من الفحشاء و المراودة لها و أيّ ميل و نزعة إليها و كذب و افتراء، بنزاهه من حسن اختياره.

قوله تعالى: ( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) من كلام يوسف (عليه السلام) على ما يدلّ عليه السياق، و كأنّه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كلّ سوء و اعتراف امرأة العزيز بالذنب و شهادتها بصدقه و قضاء الملك ببراءته.

و حكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله:( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) البقرة: ٢٨٥ أي قالوا لا نفرّق إلخ، و قوله:( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) الصافات: ١٦٦.

و على هذا فالإشارة بقوله:( ذلِكَ ) إلى إرجاع الرسول إلى الملك و سؤاله القضاء، و الضمير في( لِيَعْلَمَ ) و( لَمْ أَخُنْهُ ) عائد إلى العزيز و المعنى إنّما أرجعت الرسول إلى الملك و سألته أن يحقّق الأمر و يقضي بالحقّ ليعلم العزيز أنّي لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته و ليعلم أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين.

يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع و السؤال غايتين:

٢١٥

أحدهما: أن يعلم العزيز أنّه لم يخنه و تطيب نفسه منه و يزول عنها و عن أمره أيّ شبهة و ريبة.

و الثاني: أن يعلم أنّ الخائن مطلقاً لا ينال بخيانته غايته و أنّه سيفتضح لا محالة سنّة الله الّتي قد خلت في عباده و لن تجد لسنّة الله تبديلاً فإنّ الخيانة من الباطل، و الباطل لا يدوم و سيظهر الحقّ عليه ظهوراً، و لو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللّاتي قطّعن أيديهنّ و أخذن بالمراودة و لا امرأة العزيز فيما فعلت و أصرّت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين.

و كان الغرض من الغاية الثانية:( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) و تذكيره و تعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر و هو أن يعلم الملك أنّه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب و لا يخون في شي‏ء ألبتّة كان جديراً بأن يؤتمن على كلّ شي‏ء نفساً كان أو عرضاً أو مالاً.

و بهذا الامتياز البيّن يتهيّأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إيّاه و هو قوله بعد أن اُشخص عند الملك:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) .

و الآية ظاهرة في أنّ هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الّذي اُشير إليه بقوله:( وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ) و قوله:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ ) .

و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ هذه الآية و الّتي بعدها تتمّة قول امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) و سيأتي الكلام عليه.

قوله تعالى: ( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تتمّة كلام يوسف (عليه السلام) و ذلك أنّ قوله:( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول و القوّة و هو (عليه السلام) من المخلصين المتوغّلين في التوحيد الّذين لا يرون لغيره تعالى حولاً و لا قوّة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول و القوّة عن نفسه و نسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى

٢١٦

رحمة ربّه، و تسوية نفسه بسائر النفوس الّتي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمّارة بالسوء فقال:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام)( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله ) هود: ٨٨.

فقوله:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) إشارة إلى قوله:( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) و أنّه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه و تزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربّه، و علّل ذلك بقوله( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) أي إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيّئات على كثرتها و وفورها فمن الجهل أن تبرّأ من الميل إلى السوء، و إنّما تكفّ عن أمرها بالسوء و دعوتها إلى الشرّ برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء و توفّقها لصالح العمل.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) يفيد فائدتين:

إحداهما: تقييد إطلاق قوله:( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) فيفيد أنّ اقتراف الحسنات الّذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس و ليس يقع عن إلجاء و إجبار من جانبه تعالى.

و ثانيتهما: الإشارة إلى أنّ تجنّبه الخيانة كان برحمة من ربّه.

و قد علّل الحكم بقوله:( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأنّ المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع و الرحمة يظهر بها الأمر الجميل، و مغفرته تعالى كما تمحو الذنوب و آثارها كذلك تستر النقائض و تبعاتها و تتعلّق بسائر النقائص كما تتعلّق بالذنوب، قال تعالى.( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الأنعام: ١٤٥ و قد تقدّم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.

و من لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عزّ اسمه بلفظ( رَبِّي ) فقد كرّره ثلاثاً حيث قال:( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) ( إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) ( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ هذه الجمل تتضمّن نوع إنعام من ربّه بالنسبة إليه فأثنى

٢١٧

على الربّ تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه و هو التوحيد باتّخاذ الله سبحانه ربّا لنفسه معبوداً خلافاً للوثنيّين، و أمّا قوله:( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) فهو خال عن هذه النسبة و لذلك عبّر بلفظ الجلالة.

و قد ذكر جمع من المفسّرين أنّ الآيتين أعني قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) إلخ من تمام كلام امرأة العزيز، و المعنى على هذا أنّ امرأة العزيز لمّا اعترفت بذنبها و شهدت بصدقه قالت:( ذلِكَ ) أي اعترافي بأنّي راودته عن نفسه و شهادتي بأنّه من الصادقين( لِيَعْلَمَ ) إذا بلغه عنّي هذا الكلام( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) بل اعترفت بأنّ المراودة كانت من قبلي أنا و أنّه كان صادقاً( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) كما أنّه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة و بالسجن بضع سنين حتّى أظهر صدقه في قوله و طهارة ذيله و براءة نفسه و فضحني أمام الملك و الملأ و لم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهنّ( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) من السوء مطلقاً فإنّي كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

و هذا وجه ردي‏ء جدّاً أمّا أوّلاً: فلأنّ قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حقّ الكلام أن يقال: و ليعلم أنّي أخنه بالغيب - بصيغة الأمر - فإنّ قوله( ذلِكَ ) على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب و شهادتها بصدقه فقوله:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) إن كان عنوانا لاعترافها و شهادتها مشاراً به إلى ذلك خلا الكلام عن الفائدة فإنّ محصّل معناه حينئذ: إنّما اعترفت و شهدت ليعلم أنّي اعترفت و شهدت له بالغيب. مضافاً إلى أنّ ذلك يبطل معنى الاعتراف و الشهادة لدلالته على أنّها إنّما اعترفت و شهدت ليسمع يوسف ذلك و يعلم به، لا لإظهار الحقّ و بيان حقيقة الأمر.

و إن كان عنوانا لأعمالها طول غيبة إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنّما اعترفت و شهدت له ليعلم أنّي لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن و لبث في السجن بضع سنين مضافاً إلى أنّ اعترافها و شهادتها لا يدلّ على عدم خيانتها

٢١٨

له بوجه من الوجوه و هو ظاهر.

و أمّا ثانيا: فلأنّه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين، و قد ذكّرها يوسف به أوّل حين إذ راودته عن نفسه فقال:( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

و أمّا ثالثاً: فلأنّ قولها:( و ما أبرئ نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن) يناقض قولها:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) كما لا يخفى مضافاً إلى أنّ قوله:( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيديّة ليس بالحريّ أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء و هي تعبد الأصنام.

و ذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير( لِيَعْلَمَ ) و( لَمْ أَخُنْهُ ) إلى العزيز و هو زوجها فهي كأنّها تقول: ذاك الّذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أنّي لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنّا، و أنّ كلّ ما وقع أنّي راودته عن نفسه فاستعصم و امتنع فبقي عرض زوجي مصونا و شرفه محفوظا، و لئن برّأت يوسف من الإثم فما اُبرّئ منه نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء إلّا ما رحم ربّي.

و فيه: أنّ الكلام لو كان من كلامها و هي تريد أن تطيّب به نفس زوجها و تزيل أيّ ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإنّ قولها.( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) إنّما يفيد العلم بأنّها راودته عن نفسه، و أمّا شهادتها أنّه امتنع و لم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، و كان من الممكن أنّها إنّما شهدت له لتطيّب نفس زوجها و تزيل ما عنده من الشكّ و الريب فاعترافها و شهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنّها لم تخنه بالغيب.

مضافاً إلى أنّ قوله:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) إلخ يكون حينئذ تكراراً لمعنى قولها:( أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) و ظاهر السياق خلافه. على أنّ بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ

٢١٩

الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) يقال: استخلصه أي جعله خالصا، و المكين صاحب المكانة و المنزلة، و في قوله:( فَلَمَّا كَلَّمَهُ ) حذف للإيجاز و التقدير: فلمّا اُتي به إليه و كلمه قال إنّك اليوم إلخ و في تقييد الحكم باليوم إشارة إلى التعليل، و المعنى إنّك اليوم و قد ظهر من مكارم أخلاقك في التجنّب عن السوء و الفحشاء و الخيانة و الظلم، و الصبر على كلّ مكروه و صغار في سبيل طهارة نفسك، و اختصاصك بتأييد من ربّك غيبي و علم بالأحاديث و الرأي و الحزم و الحكمة و العقل لدينا ذو مكانة و أمانة، و قد أطلق قوله:( مَكِينٌ أَمِينٌ ) فأفاد بذلك عموم الحكم.

و المعنى: و قال الملك ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي و خاصّة لي فلمّا اُتي به إليه و كلّمه قال له إنّك اليوم و قد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة و أمانة مطلقة يمكّنك من كلّ ما تريد و يأتمنك على جميع شؤون الملك و في ذلك حكم صدارته.

قوله تعالى: ( قالَ اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) لمّا عهد الملك ليوسف إنّك اليوم لدينا مكين أمين و أطلق القول سأله يوسف (عليه السلام) أن ينصبه على خزائن الأرض و يفوّض إليه أمرها، و المراد بالأرض أرض مصر.

و لم يسأله ما سأل إلّا ليتقلّد بنفسه إدارة أمر الميرة و أرزاق الناس فيجمعها و يدّخرها للسنين السبع الشداد الّتي سيستقبل الناس و تنزل عليهم جدبها و مجاعتها و يقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بين الناس و إعطاء كلّ منهم ما يستحقّه من الميرة من غيره حيف.

و قد علّل سؤاله ذلك بقوله:( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) فإنّ هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدّى مقاماً هو سائله و لا غنى عنهما له، و قد اُجيب إلى ما سأل و اشتغل بما كان يريده كلّ ذلك معلوم من سياق الآيات و ما يتلوها.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) التمكين هو الإقدار و التبوّء أخذ المكان.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466