بداية الحكمة

بداية الحكمة11%

بداية الحكمة مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: مكتبة الفلسفة والعرفان
الصفحات: 180

  • البداية
  • السابق
  • 180 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19726 / تحميل: 7660
الحجم الحجم الحجم
بداية الحكمة

بداية الحكمة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله الذي يؤتي الحكمة من يشاء ، وم يؤت الحكمة أوتى خيراً كثيراً. من الصلاة والسلام على من بعثه رسولاً يعلّم الكتاب والحكمة ، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والمؤعظة الحسنة وعلى وصيّه وباب مدينة علمه وكلمته ، وعلى سائر خلفائه المعصومين الهداة المهديين ، لاسيّما الذي لبس للحكة جنتها وأخذها بجميع أدبها من الاقبال عليها ، والمعرفة بها ، والتفرغ لها ، وهى عند نفسه ضالّته التي يطلبها ، وحاجته التي يسأل عنها. فهو مغترب إذا اغترب الاسلام وضرب بعسيب ذنبه وألصق الأرض بجرانه ، بقية حججه ، خليفة من خلائف أنبيائه ، عجل الله تعالى فرجه ووفقنا لطاعته وزادنا معرفة به ، ومحبه له ، ومنّ علينا برضاه ، آمين.

أمّا بعد ، فانّ موقف المعاهد الثقافية الاسلامية ، بوصفها جهازاً مرشداً في بنية المجتمع ، لا يزال يشتدّ خطورة ، تجاه الظروف القاسية التي تتجد ، يوماً فيوماً. وخاصة بالنظر إلى ما أتحفه التقدم الصناعي للعالم الانساني وللشعوب الاسلامية بوجه خاص ، من الكوارث والماسي الصخمة التي لا تكاد تحصى وإنّ من أعظم تلك الكوارث شيوع نزعات مادية إلحادية ، واخرى دينيّة محرّفة تنبثق من الجهل ، وترتضع من ثدى الأخلاد إلى أرض الطبيعة ، وتتبلور في ما ترتضيه الأهواء. ومن جرّاء ذلك ما يستثار من الشبهات والوساوس حول

٣

المعارف الحقة ، وما يبتدع من الاراء والمقاييس في حقل المسائل الشرعية ، وما إليها ممّا يوقع ضعفاء الايمان في مهابط الغي والعمى ، ومهاوي الضلال والهلاك.

وبالرغم من اشتداد خطورة الموقف ، فان انتهاج المناهج الراقية الرصينة ، واتخاذ السبل القيمة المرضية يترائى في غاية الصعوبة ، كأنّ المسالك لاتزال تتضاعف وعورة! والسالك استيئاسه ، لولا ومضات تشعّ حيناً بعد حنين ، ونفحات من روح ربّ العالمين.

والذي لا يرتاب فيه أنّ ذلك التقدم المادي بحاجة شديدة إلى تقدم معنوي بازائه ، يعالج إصلاح ما يفسده ، وترويج ما يكسده ، وتعمير ما يخرجه ، وإتمام ما ينقصه ، ولايكاد يوجد للإبطاء والتساهل والتأخر والتكاسل ، فى السعي وراءه ، والكفاح أمامه ، إلّا ما ربما يعتذر به من إعواز الوسائل وفقد الأسباب وعدم مساعدة الظروف!

ولعمري إنّ من يعد بتيسر جميع الأسباب ومساعدة كافّة الظروف لمغرور منخدع ، إن لم يكن غاراً خادعاً!

فعلى كلّ عالم واع ، ومتعلم ساع ، ومسلم بصير في دينه عارف بواجبه ، أن يسعى بكلّ طاقاته وراء الحركة الثقافية الاسلامية لتسريعها وإنجاحها ، حتّى يؤدى بعض بعض ما لعيه من حق الدين ، ومن الله التوفيق.

ثمّ إنّ من أهمّ ما يهمنا ـ ونحن في الخطواة الأولى من حركتنا الحديثة ـ وضع برامج قومية ، وكتب دارسية مهذّبه ، لا مخلة ولا مملة.

وبهذا الصدد ، فقد مددنا يد الحاجة إلى سماحة العلامة الأوحدى ، السيد محمد حسين الطباطبائي ـ أدام الله ظلاله ـ ليتمعنا بكتبابين في الحكمة الإلهيّة ، للدارسة في صفوف المنتظرية ، فمن علينا ـ بحمدالله تعالى ـ باسعاف حاجتنا وإجابة مسؤولنا. فجاء الكتاب الأوّل ـ كما كان المرجوّ

٤

منه ـ بديعاً رائعاً ، قويم المنهج ، سهل المخرج وافر الفوائد على إيجازه ، واضح المطالب على إتقانه ، فلسماحة الشكر الواصب والثناء العاطر.

ونسأل الله تعالى تأييده لانجاز ما وعدنا من إتمام إحسانه ، وتعزيز إنعامه بثاني الكتابين ، ونسأل له مزيد التوفيق لسائر ما يقدمه إلى المجتمع الثقافي من خدمات هامّة ، وما يبذله من جهود جبّارة ، ابتغاء وجه ربه الأعلى. والله تعالى هو المسؤول لتوفيقه أجره وإيصاله إلى مبتغاه ، وهو المسؤول لأنّ يمتّعنا ببقائه ، ويعززنا بأمثاله ، والله ذوالفضل العظيم.

وله الحمد أوّلاً وآخراً ، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين

المدرسة المنتظرية ـ بـ (قم)

٥

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

في تعريف هذا الفن وموضوعه وغايته

الحمد لله وله الثناء بحقيقته ، والصلاة والسلام على رسوله محمد ، خير خليقته وآله الطاهرين من أهل بيته وعترته.

الحكمة الإلهية علم يبحث فيه ، عن أحوال الموجود بما هو موجود ، وموضوعها الذي يبحث فيه عن أعراضه الذاتية ، هو الموجود بما هو موجود ، وغايتها معرفة الموجودات على وجه كلي ، وتمييزها مما ليس بموجود حقيقي.

توضيح ذلك ، أن الإنسان يجد من نفسه ، أن لنفسه حقيقة وواقعية ، وأن هناك حقيقة وواقعية وراء نفسه ، وأن له أن يصيبها ، فلا يطلب شيئا من الأشياء ، ولا يقصده إلا من جهة ، أنه هو ذلك الشيء في الواقع ، ولا يهرب من شيء ولا يندفع عنه ، إلا لكونه هو ذلك الشيء في الحقيقة.

فالطفل الذي يطلب الضرع مثلا ، إنما يطلب ما هو بحسب الواقع لبن ، لا ما هو بحسب التوهم والحسبان كذلك.

والإنسان الذي يهرب من سبع ، إنما يهرب مما هو بحسب الحقيقة ، سبع لا بحسب التوهم والخرافة.

لكنه ربما أخطأ في نظره ، فرأى ما ليس بحق حقا واقعا في الخارج ،

٦

كالبخت والغول ، أو اعتقد ما هو حق واقع في الخارج ، باطلا خرافيا كالنفس المجردة والعقل المجرد ، فمست الحاجة ، بادئ بدء إلى معرفة أحوال الموجود ، بما هو موجود الخاصة به ، ليميز بها ما هو موجود في الواقع ، مما ليس كذلك ، والعلم الباحث عنها هو الحكمة الإلهية.

فالحكمة الإلهية هي ، العلم الباحث عن أحوال الموجود ، بما هو موجود ، ويسمى أيضا الفلسفة الأولى ، والعلم الأعلى ، وموضوعه الموجود بما هو موجود ، وغايته تمييز الموجودات الحقيقية من غيرها ، ومعرفة العلل العالية للوجود ، وبالأخص العلة الأولى ، التي إليها تنتهي سلسلة الموجودات ، وأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وهو الله عز إسمه.

٧
٨

المرحلة الأولى

في كليات مباحث الوجود

وفيها اثنا عشر فصلا ً

٩

الفصل الأول

في بداهة مفهوم الوجود

مفهوم الوجود بديهي معقول بنفس ذاته ، لا يحتاج فيه إلى توسيط شيء آخر ، فلا معرف له من حد أو رسم ، لوجوب كون المعرف أجلى وأظهر من المعرف ، فما أورد في تعريفه ، من أن الوجود أو الموجود بما هو موجود ، هو الثابت العين أو الذي يمكن أن يخبر عنه ، من قبيل شرح الاسم دون المعرف الحقيقي ، على أنه سيجيء(١) أن الوجود ، لا جنس له ولا فصل له ولا خاصة له ، بمعنى إحدى الكليات الخمس ، والمعرف يتركب منها فلا معرف للوجود

الفصل الثاني

في أن مفهوم الوجود مشترك معنوي

يحمل الوجود على موضوعاته ، بمعنى واحد اشتراكا معنويا.

ومن الدليل عليه ، أنا نقسم الوجود إلى أقسامه المختلفة ، كتقسيمه إلى وجود الواجب ووجود الممكن ، وتقسيم وجود الممكن إلى وجود الجوهر ووجود العرض ، ثم وجود الجوهر إلى أقسامه ، ووجود العرض إلى أقسامه ، ومن المعلوم أن التقسيم يتوقف في صحته ، على وحدة المقسم ووجوده في الأقسام.

__________________

(١) في الفصل السابع.

١٠

ومن الدليل عليه ، أنا ربما أثبتنا وجود شيء ثم ترددنا في خصوصية ذاته ، كما لو أثبتنا للعالم صانعا ، ثم ترددنا في كونه واجبا أو ممكنا ، وفي كونه ذا ماهية أو غير ذي ماهية ، وكما لو أثبتنا للإنسان نفسا ، ثم شككنا في كونها مجردة أو مادية وجوهرا أو عرضا ، مع بقاء العلم بوجوده على ما كان ، فلو لم يكن للوجود معنى واحد ، بل كان مشتركا لفظيا متعددا معناه بتعدد موضوعاته ، لتغير معناه بتغير موضوعاته ، بحسب الاعتقاد بالضرورة.

ومن الدليل عليه ، أن العدم يناقض الوجود وله معنى واحد ، إذ لا تمايز في العدم ، فللوجود الذي هو نقيضه معنى واحد ، وإلا ارتفع النقيضان وهو محال.

والقائلون باشتراكه اللفظي بين الأشياء ، أو بين الواجب والممكن ، إنما ذهبوا إليه حذرا من لزوم السنخية ، بين العلة والمعلول مطلقا(١) ، أو بين الواجب والممكن(٢) ، ورد بأنه يستلزم تعطيل العقول عن المعرفة ، فإنا إذا قلنا الواجب موجود ، فإن كان المفهوم منه المعنى ، الذي يفهم من وجود الممكن ، لزم الاشتراك المعنوي ، وإن كان المفهوم منه ما يقابله وهو مصداق نقيضه ، كان نفيا لوجوده تعالى عن ذلك ، وإن لم يفهم منه شيء كان تعطيلا للعقل عن المعرفة ، وهو خلاف ما نجده من أنفسنا بالضرورة.

الفصل الثالث

في أن الوجود زائد على الماهية عارض لها

بمعنى أن المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر ، فللعقل أن يجرد الماهية ، وهي ما يقال في جواب ما هو عن الوجود ، فيعتبرها وحدها فيعقلها ، ثم

__________________

(١) هذا على القول باشتراكه اللفظي بين الاشياء ـ منه دام ظله.

(٢) هذا على القول باشتراكه اللفظي بين الواجب والممكنه ـ منه دام ظله.

١١

يصفها بالوجود وهو معنى العروض ، فليس الوجود عينا للماهية ولا جزءا لها.

والدليل عليه أن الوجود يصح سلبه عن الماهية ، ولو كان عينا أو جزءا لها لم يصح ذلك ، لاستحالة سلب عين الشيء وجزئه عنه.

وأيضا حمل الوجود على الماهية يحتاج إلى دليل ، فليس عينا ولا جزءا لها لأن ذات الشيء ، وذاتياته بينة الثبوت له لا تحتاج فيه إلى دليل.

وأيضا الماهية متساوية النسبة في نفسها ، إلى الوجود والعدم ، ولو كان الوجود عينا أو جزءا لها ، استحالت نسبتها إلى العدم الذي هو نقيضه

الفصل الرابع

في أصالة الوجود واعتبارية الماهية

إنا لا نرتاب في أن هناك أمورا واقعية ، ذات آثار واقعية ليست بوهم الواهم ، ثم ننتزع من كل من هذه الأمور المشهودة لنا ، في عين أنه واحد في الخارج مفهومين اثنين ، كل منهما غير الآخر مفهوما وإن اتحدا مصداقا ، وهما الوجود والماهية ، كالإنسان الذي في الخارج ، المنتزع عنه أنه إنسان وأنه موجود.

وقد اختلف الحكماء في الأصيل منهما ، فذهب المشاءون ، إلى أصالة الوجود ، ونسب إلى الإشراقيين ، القول بأصالة الماهية ، وأما القول بأصالتهما معا فلم يذهب إليه أحد منهم ، لاستلزام ذلك كون كل شيء شيئين اثنين ، وهو خلاف الضرورة.

والحق ما ذهب إليه المشاءون ، من أصالة الوجود.

والبرهان عليه أن الماهية من حيث هي ليست إلا هي ، متساوية

١٢

النسبة إلى الوجود والعدم ، فلو لم يكن خروجها من حد الاستواء إلى مستوى الوجود ، بحيث تترتب عليها الآثار بواسطة الوجود ، كان ذلك منها انقلابا وهو محال بالضرورة ، فالوجود هو المخرج لها عن حد الاستواء فهو الأصيل.

وما قيل إن الماهية بنسبة مكتسبة من الجاعل ، تخرج من حد الاستواء ، إلى مرحلة الأصالة فتترتب عليها الآثار ، مندفع بأنها إن تفاوتت حالها بعد الانتساب ، فما به التفاوت هو الوجود الأصيل ، وإن سمي نسبة إلى الجاعل ، وإن لم تتفاوت ومع ذلك حمل عليها أنها موجودة ، وترتبت عليها الآثار كان من الانقلاب كما تقدم.

برهان آخر الماهيات مثار الكثرة والاختلاف بالذات ، فلو لم يكن الوجود أصيلا ، لم تتحقق وحدة حقيقية ولا اتحاد بين ماهيتين ، فلم يتحقق الحمل الذي هو الاتحاد في الوجود ، والضرورة تقضي بخلافه ، فالوجود هو الأصيل الموجود بالذات ، والماهية موجودة به.

برهان آخر الماهية توجد بوجود خارجي ، فتترتب عليها آثارها وتوجد بعينها بوجود ذهني ، كما سيأتي ، فلا يترتب عليها شيء من تلك الآثار ، فلو لم يكن الوجود هو الأصيل ، وكانت الأصالة للماهية وهي محفوظة في الوجودين ، لم يكن فرق بينهما والتالي باطل فالمقدم مثله.

برهان آخر الماهية من حيث هي ، تستوي نسبتها إلى التقدم والتأخر ، والشدة والضعف والقوة والفعل ، لكن الأمور الموجودة في الخارج ، مختلفة في هذه الأوصاف ، فبعضها متقدم أو قوي كالعلة ، وبعضها بخلاف ذلك كالمعلول ، وبعضها بالقوة وبعضها بالفعل ، فلو لم يكن الوجود هو الأصيل ، كان اختلاف هذه الصفات مستندة إليها ، وهي متساوية النسبة إلى الجميع هذا خلف ، وهناك حجج أخرى مذكورة في المطولات.

وللقائلين بأصالة الماهية ، واعتبارية الوجود حجج مدخولة ، كقولهم لو كان الوجود أصيلا كان موجودا في الخارج ، فله وجود ولوجوده وجود

١٣

فيتسلسل وهو محال.

وأجيب عنه بأن الوجود موجود ، لكن بنفس ذاته لا بوجود آخر ، فلا يذهب الأمر إلى غير النهاية.

ويظهر مما تقدم ، ضعف قول آخر في المسألة منسوب إلى المحقق الدواني ، وهو أصالة الوجود في الواجب تعالى ، وأصالة الماهية في الممكنات ، وعليه فإطلاق الموجود على الواجب ، بمعنى أنه نفس الوجود ، وعلى الماهيات بمعنى أنها منتسبة إلى الوجود ، كاللابن والتامر بمعنى المنتسب إلى اللبن والتمر ، هذا وأما على المذهب المختار فالوجود موجود بذاته ، والماهية موجودة بالعرض.

الفصل الخامس

في أن الوجود حقيقة واحدة مشككة

اختلف القائلون بأصالة الوجود ، فذهب بعضهم إلى أن الوجود حقيقة واحدة مشككة ، وهو المنسوب إلى الفهلويين ، من حكماء الفرس ، فالوجود عندهم ، لكونه ظاهرا بذاته مظهرا لغيره من الماهيات ، كالنور الحسي الذي هو ظاهر بذاته مظهر لغيره ، من الأجسام الكثيفة للأبصار.

فكما أن النور الحسي نوع واحد ، حقيقته أنه ظاهر بذاته مظهر لغيره ، وهذا المعنى متحقق في جميع مراتب الأشعة والأظلة ، على كثرتها واختلافها ، فالنور الشديد شديد في نوريته ، التي يشارك فيها النور الضعيف ، والنور الضعيف ضعيف في نوريته ، التي يشارك فيها النور الشديد ، فليست شدة الشديد منه جزءا مقوما للنورية ، حتى يخرج الضعيف منه ، ولا عرضا خارجا عن الحقيقة ، وليس ضعف الضعيف قادحا في نوريته ، ولا أنه مركب من النور والظلمة لكونها أمرا عدميا ، بل شدة الشديد في أصل النورية وكذا ضعف الضعيف ،

١٤

فللنور عرض عريض ، باعتبار مراتبه المختلفة بالشدة والضعف ، ولكل مرتبة عرض عريض ، باعتبار القوابل المختلفة من الأجسام الكثيفة.

كذلك الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مختلفة ، متمايزة بالشدة والضعف والتقدم والتأخر وغير ذلك ، فيرجع ما به الامتياز فيها إلى ما به الاشتراك ، وما به الاختلاف إلى ما به الاتحاد ، فليست خصوصية شيء من المراتب جزءا مقوما للوجود ، لبساطته كما سيجيء(١) ولا أمرا خارجا عنه ، لأن أصالة الوجود تبطل ما هو غيره الخارج عنه ، بل الخصوصية في كل مرتبة مقومة لنفس المرتبة ، بمعنى ما ليس بخارج منها.

ولها كثرة طولية باعتبار المراتب المختلفة ، الآخذة من أضعف المراتب ، وهي التي لا فعلية لها إلا عدم الفعلية ، وهي المادة الأولى الواقعة في أفق العدم ، ثم تتصاعد(٢) المراتب ، إلى أن تنتهي إلى المرتبة الواجبة لذاتها ، وهي التي لا حد لها إلا عدم الحد ، ولها كثرة عرضية ، باعتبار تخصصها بالماهيات المختلفة ، التي هي مثار الكثرة.

وذهب قوم من المشاءين ، إلى كون الوجود حقائق متباينة بتمام ذواتها ، أما

__________________

(١) في الفصل السابع

(٢) توضيحه : أنا إذا اعتبرنا مراتب هذه الحقيقة آخذة من أضعف المراتب ، كانت المرتبة الثانية التي فوقها أشد منها وأقوى ، وكانت الثالثة التي فوق الثانية أشد مما تحتها وأقوى ، وهكذا حتى تنتهي إلى المرتبة العليا التي فوق الجميع.

ثم إذا أخذنا بعض المراتب المتوسطة وقسناها إلى ما فوقها ، كانت التي فوقها مشتملة على ما فيها من الكمال وزيادة ، بخلاف التي تحتها ، فإذن التي تحتها محدودة بالنسبة إلى ما فوقها فاقدة لتمام كمالها ، ثم إذا قسنا التي فوق إلى التي فوقها كانت أيضا محدودة بالنسبة إلى ما فوقها.

وعلى هذا القياس ، حتى تنتهي إلى المرتبة التي هي فوق الجميع ، فما دونها محدودة بالنسبة إليها ، وهي مطلقة غير محدودة بحد عدمي ، وإن شئت فقل : «حدها أنه لا حد لها».

وأما المرتبة التي تحت الجميع ، ففيها كل حد عدمي ، وليس لها من الكمال إلا أنها تقبل الكمال ، وهي الهيولى الأولى ـ منه رحمه الله.

١٥

كونه حقائق متباينة فلاختلاف آثارها ، وأما كونها متباينة بتمام الذوات فلبساطتها ، وعلى هذا يكون مفهوم الوجود المحمول عليها ، عرضيا خارجا عنها(١) لازما لها.

والحق أنه حقيقة واحدة مشككة ، أما كونها حقيقة واحدة فلأنه لو لم تكن كذلك ، لكانت حقائق مختلفة متباينة بتمام الذوات ، ولازمه كون مفهوم الوجود وهو مفهوم واحد كما تقدم(٢) ، منتزعا من مصاديق متباينة بما هي متباينة وهو محال ، بيان الاستحالة أن المفهوم والمصداق واحد ذاتا ، وإنما الفارق كون الوجود ذهنيا أو خارجيا ، فلو انتزع الواحد بما هو واحد من الكثير بما هو كثير ، كان الواحد بما هو واحد كثيرا بما هو كثير وهو محال.

وأيضا لو انتزع المفهوم الواحد بما هو واحد ، من المصاديق الكثيرة بما هي كثيرة ، فإما أن تعتبر في صدقه خصوصية هذا المصداق ، لم يصدق على ذلك المصداق ، وإن اعتبر فيه خصوصية ذاك لم يصدق على هذا ، وإن اعتبر فيه الخصوصيتان معا لم يصدق على شيء منهما ، وإن لم يعتبر شيء من الخصوصيتين ، بل انتزع من القدر المشترك بينهما ، لم يكن منتزعا من الكثير بما هو كثير بل بما هو واحد ، كالكلي المنتزع من الجهة المشتركة بين الأفراد ، الصادق على الجميع هذا خلف.

وأما أن حقيقته مشككة ، فلما يظهر من الكمالات الحقيقية المختلفة ، التي هي صفات متفاضلة ، غير خارجة(٣) عن الحقيقة الواحدة كالشدة والضعف ، والتقدم والتأخر والقوة والفعل وغير ذلك ، فهي حقيقة واحدة متكثرة في

__________________

(١) اذ لو كان داخلا ، كان جزءاً ؛ وينافي ذلك البساطة ـ منه دام ظله.

(٢) في الفصل الثاني

(٣) اذ لو كانت خارجة من حقيقة الوجود ، كانت بالطلة ، لانحصار الأصالة في الوجود ـ منه دام ظله.

١٦

ذاتها ، يرجع فيها كل ما به الامتياز إلى ما به الاشتراك ، وبالعكس وهذا هو التشكيك.

الفصل السادس

في ما يتخصص به الوجود

تخصص الوجود بوجوه ثلاثة ، أحدها تخصص حقيقته الواحدة الأصلية ، بنفس ذاتها القائمة بذاتها ، وثانيها تخصصها بخصوصيات مراتبها ، غير الخارجة عن المراتب ، وثالثها تخصص الوجود ، بإضافته إلى الماهيات المختلفة الذوات ، وعروضه لها فيختلف باختلافها بالعرض.

وعروض الوجود للماهية وثبوته لها ، ليس من قبيل العروض المقولي ، الذي يتوقف فيه ثبوت العارض على ثبوت المعروض قبله ، فإن حقيقة ثبوت الوجود للماهية هي ثبوت الماهية به ، لأن ذلك هو مقتضى أصالته واعتباريتها ، وإنما العقل لمكان أنسه بالماهيات ، يفترض الماهية موضوعه ، ويحمل الوجود عليها وهو في الحقيقة من عكس الحمل.

وبذلك يندفع الإشكال ، المعروف في حمل الوجود على الماهية ، من أن قاعدة الفرعية أعني أن ، ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، توجب ثبوتا للمثبت له قبل ثبوت الثابت ، فثبوت الوجود للماهية يتوقف على ثبوت الماهية قبله ، فإن كان ثبوتها عين ثبوته لها ، لزم تقدم الشيء على نفسه ، وإن كان غيره توقف ثبوته لها على ثبوت آخر لها ، وهلم جرا فيتسلسل.

وقد اضطر هذا الإشكال بعضهم إلى القول ، بأن القاعدة مخصصة بثبوت الوجود للماهية ، وبعضهم إلى تبديل الفرعية بالاستلزام ، فقال الحق أن

١٧

ثبوت شيء لشيء ، مستلزم لثبوت المثبت له ولو بهذا الثابت ، وثبوت الوجود للماهية مستلزم لثبوت الماهية ، بنفس هذا الوجود فلا إشكال.

وبعضهم إلى القول بأن الوجود ، لا تحقق له ولا ثبوت في ذهن ولا في خارج ، وللموجود معنى بسيط يعبر عنه بالفارسية ب‍ هست ، والاشتقاق صوري فلا ثبوت له ، حتى يتوقف على ثبوت الماهية.

وبعضهم إلى القول بأن الوجود ، ليس له إلا المعنى المطلق وهو معنى الوجود العام ، والحصص وهو المعنى العام مضافا إلى ماهية ماهية ، بحيث يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، وأما الفرد وهو مجموع المقيد والتقييد والقيد ، فليس له ثبوت.

وشيء من هذه الأجوبة(١) على فسادها لا يغني طائلا ، والحق في الجواب ما تقدم ، من أن القاعدة إنما تجري في ثبوت شيء لشيء ، لا في ثبوت الشيء ، وبعبارة أخرى مجرى القاعدة هو الهلية المركبة ، دون الهلية البسيطة كما في ما نحن فيه

الفصل السابع

في أحكام الوجود السلبية

منها أن الوجود لا غير له ، وذلك لأن انحصار الأصالة في حقيقته ، يستلزم بطلان كل ما يفرض غيرا له أجنبيا عنه ، بطلانا ذاتيا.

ومنها أنه لا ثاني له لأن أصالة حقيقته الواحدة ، وبطلان كل ما يفرض غيرا له ، ينفى عنه كل خليط داخل فيه أو منضم إليه ، فهو صرف في

__________________

(١) والأبحاث السابقة تكفى مؤونة إبطال هذه الأجوبة ـ منه دام ظله.

١٨

نفسه وصرف الشيء لا يتثنى ولا يتكرر ، فكل ما فرض له ثانيا عاد أولا ، وإلا امتاز عنه بشيء غيره داخل فيه أو خارج عنه ، والمفروض انتفاؤه هذا خلف.

ومنها أنه ليس جوهرا ولا عرضا ، أما أنه ليس جوهرا فلأن الجوهر ماهية ، إذا وجدت في الخارج وجدت لا في الموضوع ، والوجود ليس من سنخ الماهية ، وأما أنه ليس بعرض ، فلأن العرض متقوم الوجود بالموضوع ، والوجود متقوم بنفس ذاته وكل شيء متقوم به.

ومنها أنه ليس جزءا لشيء ، لأن الجزء الآخر المفروض غيره والوجود لا غير له.

وما قيل إن كل ممكن زوج تركيبي من ماهية ووجود ، فاعتبار عقلي ، ناظر إلى الملازمة بين الوجود الإمكاني والماهية ، لا أنه تركيب من جزءين أصيلين.

ومنها أنه لا جزء له ، لأن الجزء إما جزء عقلي كالجنس والفصل ، وإما جزء خارجي كالمادة والصورة ، وإما جزء مقداري ، كأجزاء الخط والسطح والجسم التعليمي ، وليس للوجود شيء من هذه الأجزاء.

أما الجزء العقلي ، فلأنه لو كان للوجود جنس وفصل ، فجنسه إما الوجود فيكون فصله المقسم مقوما ، لأن الفصل بالنسبة إلى الجنس ، يفيد تحصل ذاته لا أصل ذاته ، وتحصل الوجود هو ذاته هذا خلف ، وإما غير الوجود ولا غير للوجود.

وأما الجزء الخارجي وهو المادة والصورة ، فلأن المادة والصورة هما الجنس والفصل ، مأخوذين بشرط لا ، فانتفاء الجنس والفصل يوجب انتفاءهما.

وأما الجزء المقداري فلأن المقدار من عوارض الجسم ، والجسم مركب من المادة والصورة ، وإذ لا مادة ولا صورة للوجود فلا جسم له ، وإذ لا

١٩

جسم له فلا مقدار له.

ومما تقدم يظهر أنه ليس نوعا ، لأن تحصل النوع بالتشخص الفردي ، والوجود متحصل بنفس ذاته.

الفصل الثامن

في معنى نفس الأمر

قد ظهر مما تقدم(١) ، أن لحقيقة الوجود ثبوتا وتحققا بنفسه ، بل الوجود عين الثبوت والتحقق ، وأن للماهيات وهي التي تقال في جواب ما هو ، وتوجد تارة بوجود خارجي فتظهر آثارها ، وتارة بوجود ذهني فلا تترتب عليها الآثار ، ثبوتا وتحققا بالوجود لا بنفس ذاتها ، وإن كانا متحدين في الخارج ، وأن المفاهيم الاعتبارية العقلية ، وهي التي لم تنتزع من الخارج ، وإنما اعتبرها العقل بنوع من التعمل ، لضرورة تضطره إلى ذلك ، كمفاهيم الوجود والوحدة والعلية ونحو ذلك ، أيضا لها نحو ثبوت بثبوت مصاديقها المحكية بها ، وإن لم تكن هذه المفاهيم مأخوذة في مصاديقها ، أخذ الماهية في أفرادها وفي حدود مصاديقها.

وهذا الثبوت العام الشامل لثبوت الوجود والماهية ، والمفاهيم الاعتبارية العقلية ، هو المسمى بنفس الأمر ، التي يعتبر صدق القضايا بمطابقتها فيقال ، إن كذا كذا في نفس الأمر.

توضيح ذلك أن من القضايا ، ما موضوعها خارجي بحكم خارجي ، كقولنا الواجب تعالى موجود ، وقولنا خرج من في البلد ، وقولنا

__________________

(١) الفصل الرابع

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180