نهاية الحكمة

نهاية الحكمة0%

نهاية الحكمة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الفلسفة والعرفان
الصفحات: 437

نهاية الحكمة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف:

الصفحات: 437
المشاهدات: 168203
تحميل: 6719

توضيحات:

نهاية الحكمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168203 / تحميل: 6719
الحجم الحجم الحجم
نهاية الحكمة

نهاية الحكمة

مؤلف:
العربية

الأخصّ الذي هو الفصل بحسب التحليل العقليّ.

قال في الأسفار في كيفيّة تقوّم الجنس بالفصل : «هذا التقويم ليس بحسب الخارج ، لاتّحادهما في الوجود ، والمتّحدان في ظرف لا يمكن تقوّم أحدهما بالآخر وجوداً ، بل بحسب تحليلِ العقل الماهيّةَ النوعيّةَ إلى جزئَيْن عقليَّيْن وحكمِهِ بعلّيّة أحدهما للآخر ، ضرورةَ احتياج أجزاء ماهيّة واحدة بعضها إلى بعض ، والمحتاج إليه والعلّة لا يكون إلاّ الجزء الفصليّ لإستحالة أن يكون الجزء الجنسيّ علّةً لوجود الجزء الفصليّ ، وإلاّ لكانت الفصول المتقابلة لازمةً له ، فيكون الشيءُ الواحد مختلفاً متقابلا ، هذا ممتنع.

فبقى أن يكون الجزء الفصليّ علّةً لوجود الجزء الجنسيّ ، ويكون مقسِّماً للطبيعة الجنسيّة المطلقة وعلّةً للقدر الذي هو حصّة النوع وجزءاً للمجموع الحاصل منه وممّا يتميّز به عن غيره»(1) ، إنتهى.

فإن قيل (2) : إنّ الفصل إن كان علّةً لمطلق الجنس لم يكن مقسِّماً له ، وإن كان علّةً للحصّة التي في نوعه وهو المختصّ به فلابدّ أن يفرض التخصّص أوّلا حتّى يكون الفصلُ علّةً له ، لكنّه إذا تخصّص دَخَلَ في الوجود واستغنى بذلك عن العلّة.

قيل (3) : إنّ الخصوصيّة التي بها يصير الجنسُ المبهم حصّةً خاصّةً بالنوع من شؤون تحصّله الوجوديّ الجائي اليه من ناحية علّته التي هي الفصل ، والعلّة متقدّمة بالوجود على معلولها ، فالتخصّص حاصلٌ بالفصل ، وبه يقسّم الجنس الفاقد له في نفسه.

ولا ضيْرَ في علّيّة فصول متعدّدة لماهيّة واحدة جنسيّة لضَعْف وحدتها(4) .

فإن قيل : التحصّل الذي يدخل به الجنس في الوجود هو تحصُّلُه بالوجود

__________________

(1) راجع الأسفار ج 2 ص 29 ـ 30.

(2) هذا الاعتراض تعرّض له في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 68 ، والأسفار ج 2 ص 30.

(3) هكذا أجاب عنه الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 68. وتعرّض له أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج 2 ص 30. وأجاب عنه أيضاً ملاّ اسماعيل في حاشية شوارق الإلهام بما ذكر.

(4) هكذا في الأسفار ج 2 ص 31. وقال الرازيّ في المباحث المشرقية ج 1 ص 71 : «ليس يمتنع أن يكون للشيء الواحد فصول مرتّبة ، لصحّة أن تكون للشيء علَلٌ مرتبّة».

١٠١

الفرديّ ، فما لم يتلبّس بالوجود الخارجيّ لم يتمّ ولم يكن له شيء من الشؤون الوجوديّة ، فما معنى عدُّ الفصل علّةً له؟

قيل (1) : المراد بتحصّله بالفصل ثبوتُه التعقّليّ وكينونته ماهيّةً تامّةً نوعيّةً ، والذي يكتسبه بالوجود الفرديّ هو تحقُّقُ الماهيّة التامّة تحقّقاً تترتّب عليه الآثار الخارجيّة.

فالذي يفيده الفصل هو تحصّل الماهيّة المبهمة الجنسيّة وصيرورتها ماهيّةً نوعيّةً تامّةً ، والذي يفيده الوجود الفرديّ هو تحصّل الماهيّة التامّة وصيرورتها حقيقةً خارجيّةً تترتب عليها الآثار.

فتبيّن بما مرّ :

أولا : أنّ الجنس هو النوع مبهماً ، والفصل هو النوع محصّلا ، والنوع هو الماهيّة التامّة من غير نظر إلى إبهام أو تحصّل.

وثانياً : أنّ كلا من الجنس والفصل محمولٌ على النوع حملا أوّليّاً؛ وأمّا النسبة بين الجنس والفصل أنفسهما فالجنس عرضٌ عامٌّ للفصل والفصل خاصّةٌ للجنس ، والحمل بينهما حملٌ شائعٌ.

وثالثاً : أنّ من الممتنع تحقٌّق أكثر من جنس واحد في مرتبة واحدة في ماهيّة نوعيّة واحدة(2) ، وكذا تحقُّق أكثر من فصل واحد في مرتبة واحدة في ماهيّة نوعيّة واحدة(3) ، لاستلزمه كونَ الواحد بعينه كثيراً ، وهو محال.

ورابعاً : أنّ الجنس والمادّة متّحدان ذاتاً ومختلفان اعتباراً ، فالمادّة إذا اُخذت لا بشرط كانت «جنساً» ، والجنس إذا اُخذ بشرط لا كان «مادّة». وكذلك الفصل والصورة متّحدان ذاتاً ومختلفان اعتباراً ، فالفصل بشرطِ لا صورةُ ، كما أنّ الصورة

__________________

(1) كما يستفاد ممّا ذكره قطب الدين الراونديّ في شرح المطالع ص 92 ، حيث قال : «ثمّ ليس مراده أنّ الفصل علّة لوجود الجنس ...».

(2) راجع كشف المراد ص 94 ـ 95.

(3) راجع المباحث المشرقيّة ج 1 ص 71. وقال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 100 :

وليس فصلان ولا جنسان في

مرتبة لواحدِها تعرف

١٠٢

لا بشرط فصلٌ(1) .

وهذا في الجواهر المادّيّةً المركّبة ظاهرٌ ، فإنّ المادّة والصورة موجودتان فيها خارجاً ، فيؤخذ منهما معنى المادّة والصورة ، ثمّ يؤخذان لا بشرط ، فيكونان جنساً وفصلا.

وأمّا الأعراض فهي بسائط خارجيّة غيرُ مركّبة من مادّة وصورة ، فما به الإشتراك فيها عين ما به الامتياز.

لكنّ العقل يجد فيها مشتركات ومختصّات فيعتبرها أجناساً وفصولا لها ثمّ يعتبرها بشرط لا ، فتعود موادَّ وصوراً عقليّة لها.

والأمر في الجواهر المجرّدة أيضاً على هذه الوتيرة.

الفصل السادس

في بعض ما يرجع إلى الفصل

يستعمل لفظ الفصل في كلماتهم في معنيين(2) :

أحدهما : أخصُّ اللوازم التي تعرض النوع وأَعْرفُها ، وهو إنمّا يعدّ فصلا ويوضع في الحدود موضعَ الفصول الحقيقيّة لصعوبة الحصول على الفصول الحقيقيّة التي تقوّم الأنواع أو لعدم وجود اسم دالٍّ عليها بالمطابقة في اللغة ، كالناطق المأخوذ فصلا للإنسان ، فإنّ المراد بالنطق إمّا التكلّم وهو بوجه من الكيفيّات المسموعة(3) ، وإمّا إدراك الكلّيّات وهو عندهم من الكيفيّات النفسانيّة ، والكيفيّة كيفما كانت من الأعراض ، والأعراض لا تقوّم الجواهر ، ويسمّى : «فصلا منطقيّاً».

والثاني : ما يقوّم النوع ويحصّل الجنسَ حقيقةً ، وهو مبدأ الفصل المنطقيّ ،

__________________

(1) راجع الأسفار ج 2 ص 16 ـ 18 ، وج 5 ص 287.

(2) راجع شرح المنظومة ص 100. وللشيخ الرئيس كلامٌ في المقام ، راجع الفصل الثالث عشر من المقالة الاُولى من الفنّ الأوّل من منطق الشفاء ، والفصل الرابع من المقالة الخامسة من إلهيّات الشفاء.

(3) كما في التعليقات للفارابيّ ص 20 ، والتعليقات للشيخ الرئيس ص 137.

١٠٣

ككون الإنسان ذا نفس ناطقة فصلا للنوع الإنسانيّ ، ويسمّى : «فصلا إشتقاقيّاً».

ثمّ إنّ الفصل الأخير(1) تمامُ حقيقةِ النوع(2) ، لأنّه محصِّل الجنس الذي يحصِّله ويتمِّمه نوعاً.

فما اُخذ في أجناسه وفصوله الاُخر على وجه الإبهام مأخوذٌ فيه على وجه التحصيل.

ويتفرّع عليه أنّ نوعيّةَ النوع محفوظةٌ بالفصل ، ولو تبدّلَتْ بعض أجناسه ، ولذا لو تجرّدَتْ صورَتُه ـ التي هي الفصل بشرط لا ـ عن المادّة ـ التي هي الجنس بشرط لا ـ في المركّبات المادّية ، كالإنسان تتجرّد نفسُهُ فتفارَقَ البدن ، كانت حقيقةُ النوع محفوظةً بالصورة.

ثمّ إنّ الفصل غيرُ مندرج تحت جنسه الذي يحصّله(3) ـ بمعنى أنّ الجنس غيرُ مأخوذ في حدّه أخْذَ الجنس في النوع ـ ، ففصول الجواهر ليست بجواهر.

وذلك لأنّه لو اندرج تحت جنسِهِ إفتقر إلى فصل يقوّمه ، وننقل الكلام إلى فصله ، ويتسلسل بترتّب فصول غيرِ متناهية ، وتحقَّقَ أنواعٌ غيرُ متناهية في كلِّ فصل ، ويتكرّر الجنس بعدد الفصول ، وصريح العقل يدفعه(4) .

على أنّ النسبة بين الجنس والفصل تنقلب إلى العينيّة ، ويكون الحمل بينهما حملا أوّليّاً ، ويبطل كون الجنس عرضاً عامّاً للفصل ، والفصلُ خاصّةً للجنس.

ولا ينافي ذلك وقوع الحمل بين الجنس وفصله المقسِّم ، كقولنا : «كلّ ناطق حيوان» و «بعض الحيوان ناطق» ، لأنّه حملٌ شائعٌ بين الخاصّة والعرض العام ـ كما تقدّمت الإشارة إليه(5) ـ ، والذي نفيناه هو الحمل الأوّليّ.

فالجوهر مثلا

__________________

(1) وهو الفصل القريب ، كالناطق للإنسان.

(2) راجع شرح المنظومة ص 101 ، والأسفار ج 2 ص 35 ـ 36.

(3) كما في الأسفار ج 2 ص 39 ـ 40 ، وج 4 ص 253 ـ 263.

(4) وقد ناقش فيه الشيخ الإشراقيّ والفخر الرازيّ بوجوه عديدة ، فراجع حكمة الإشراق ص 86 ـ 87 ، والمطارحات ص 228 و 233 و 290 ، والمباحث المشرقيّة ج 1 ص 66. وأجاب عنها صدر المتألّهين في الأسفار ج 4 ص 253 ـ 263.

(5) في الفصل السابق.

١٠٤

صادق على فصوله المقسِّمة له من غير أن تندرج تحته ، فيكون جزءاً من ماهيّتها.

فإن قلت : ما تقدّم من عدم دخولِ فصلِ النوع تحتَ جنسِهِ ينافي قولَهم ـ في تقسيم الجوهر على العقل والنفس والهيولى والصورة الجسميّة والجسم ـ بكون الصورة الجسميّة والنفس نوعَيْن من الجوهر ، ولازمُ كون الشيء نوعاً من مقولة اندراجُهُ ودخولُهُ تحتها.

ومن المعلوم أنّ الصورة الجسميّة هي فصل الجسم مأخوذاً بشرط لا ، ففي كونه نوعاً من الجوهر دخولُ الفصل الجوهريّ تحت جنس الجوهر وأخْذُ الجوهر في حدّه.

ونظير البيان جار في عدِّهم النفسَ نوعاً من الجوهر ، على أنّهم بيّنوا بالبرهان أنّ النفس الإنسانيّة جوهرٌ مجرّدٌ باق بعد مفارقة البدنُ ، والنفس الناطقة صورةُ الإنسان ، وهي بعينها مأخوذة لا بشرط فصلٌ للماهيّة الإنسانيّة(1) .

قلتُ : يختلف حكم المفاهيم باختلاف الاعتبار العقليّ الذي يطرؤها ، وقد تقدّم في بحث الوجود لنفسه ولغيره(2) أنّ الوجود في نفسه هو الذي يُنتزع عنه ماهيّةُ الشيء.

وأمّا اعتبار وجوده لشيء فلا يُنتزع عنه ماهيّةٌ ، وإن كان وجودُه لغيره عين وجوده في نفسه.

والفصل مفهوم مضافٌ إلى الجنس ، حيثيّتُهُ أنّه مميِّزٌ ذاتيٌّ للنوع وجوده للجنس ، فلا ماهيّةَ له من حيث إنّه فصل.

وهذا معنى قولهم(3) : «إنّ لازِمَ كون الجنس عرضاً عامّاً للفصل والفصل خاصّةً له أنّ ليست فصول الجواهر جواهرَ بمعنى كونها مندرجةً تحت معنى الجواهر اندراجَ الأنواع تحتَ جنسها ، بل كاندراج الملزومات تحت لازِمِها الذي لا يدخل في ماهيّتها»(4) .

وأمّا الصورة من حيث إنّها صورةٌ مقوّمةٌ للمادّة فحيث كانت بشرط لا بالنسبة إلى المادّة لم يكن بينهما حملٌ أوّليّ فلا اندراج لها تحت الجنس ، وإلاّ كانت نوعاً بينه وبين الجنس عينيّةٌ وحملٌ أوّليٌّ ، هذا خلف. وإن كان بينها وبين المادّة حملٌ

__________________

(1) راجع الأسفار ج 2 ص 41.

(2) راجع الفصل الثالث من المرحلة الثانية.

(3) أي قول الحكماء.

(4) راجع الأسفار ج 2 ص 39 ـ 40.

١٠٥

شائعٌ بناءً على التركيب الإتّحاديّ بين المادّة والصورة(1) .

نعم ، لمّا كانت الصورة تمام ماهيّة النوع كما عرّفوها بأنّها ما به الشيء هو هو بالفعل ، كانت فصول الجواهر جواهر ، لأنّها عينُ حقيقةِ النوع وفعليّتِهِ ، لكن لا يستوجب ذلك دخولَها تحتَ جنسِ الجوهر بحيث يكون الجوهر مأخوذاً في حدّها بينه وبينها حملٌ أوّليٌّ.

فتبيّن بما تقدّم ، أنّ الفصول بما أنّها فصولٌ بسائطُ غيرُ مركّبة من الجنس والفصل ، ممحّضةٌ في أنّها مميِّيزات ذاتيّة ، وكذلك الصور المادّيّة التي هي في ذاتها مادّيةٌ موجودةٌ للمادّة بسائطُ في الخارج غيرُ مركّبة من المادّة والصورة ، وبسائطُ في العقل غيرُ مركّبة من الجنس والفصل؛ وإلاّ كانت الواحدة منها أنواعاً متسلسلةً كما تقدّمت الإشارة إليها(2) .

وأمّا النفس المجرّدة فهي باعتبار أنّها فصلٌ للنوع حيثيّتُها حيثيّةَ الوجود الناعتيّ وقد عرفت(3) أنّ لا ماهيّة للوجود الناعتي ، وأمّا من حيث تجرُّدها في ذاتها فإنّ تجرّدَها مصحّحٌ وجودَها لنفسها ، كما أنّها موجودةٌ في نفسها ، وهي تمام حقيقة النوع ، فيصدق عليه الجوهر ، فتكون هي النوع الجوهريّ الذي كانت جزءاً صوريّاً له ، وليست بصورة ، ولا ينافيه كون وجودها للمادّة أيضاً ، فإنّ هذا التعلّق إنّما هو في مقام الفعل دون الذات ، فهي ماديّة في فعلها لا في ذاتها.

هذا على القول بكون النفس المجرّدة روحانيّةَ الحدوث والبقاء كماعليه المشّاؤون(4) . وأمّا على القول بكونها جسمانيّةَ الحدوث روحانيّةَ

__________________

(1) والقول بكون التركيب إتحاديّاً قولُ السيّد السند (صدر الدين الشيرازيّ) وصدر المتألّهين. قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 105 : «إنّ بقول السيّد السناد ، أي القويّ ، وهو صدر الدين الشيرازيّ المشهور بالسيّد السند ، وقد تبعه في ذلك صدر المتألّهين ، تركيبُ أجزاء عينيّة اتّحاديّ». ثمّ قال : «لكنّ قول الحكماء العظام من قبله التركيب الإنضماميّ». وراجع الأسفار ج 5 ص 282.

(2) في السطور السابقة.

(3) في الفصل الأوّل من المرحلة الثانية.

(4) نُسب إليهم في حواشي شرح المنظومة للسبزواريّ ، فراجع شرح المنظومة ص 302.

١٠٦

البقاء(1) فهي تتجرّد في ذاتها أوّلا ، وهي بعدُ متعلّقة بالمادّة فعلا ثمّ تتجرّد عنها في فعلها أيضاً بمفارقة البدن.

الفصل السابع

في بعض أحكام النوع

النوع هو الماهيّة التامّة التي لها في الوجود آثار خاصّة.

وينقسم إلى ما لا يتوقّف في ترتّب آثاره عليه إلاّ على الوجود الخارجيّ الذي يشخّصه فرداً كالإنسان ـ مثلا ـ ويسمّى : «النوع الحقيقي» ، وإلى ما يتوقّف في ترتُّب آثاره عليه على لحوق فصل أو فصول به ، فيكون جنساً بالنسبة إلى أنواع دونه ، وإن كان نوعاً بالنظر إلى تمام ماهيّته ، كالأنواع العالية والمتوسطة ، كالجسم الذي هو نوع من الجوهر عال ثمّ هو جنس للأنواع النباتيّة والجماديّة ، والحيوانِ الذي هو نوعٌ متوسّطٌ من الجوهر وجنسٌ للإنسان وسائر الأنواع الحيوانيّة ، ويسمّى : «النوع الإضافيّ».

ثمّ إنّ الماهيّة النوعيّة توجد أجزاؤها في الخارج بوجود واحد هو وجود النوع ، لأنّ الحمل بين كلٍّ منها وبين النوع حملٌ أوّليٌّ ، والنوع موجودٌ بوجود واحد؛ وأمّا في الذهن فبينها تغايرٌ بالإبهام والتحصّل ، ولذلك كان كلّ من الجنس والفصل عرضيّاً للآخر كما تقدّم(2) .

ومن هنا ما ذكروا(3) أنّه لابدّ في المركّبات الحقيقيّة ـ وهي الأنواع المادّيّة ـ أن يكون بين أجزائها فقرٌ وحاجةٌ من بعضها إلى بعض حتّى ترتبط وتتّحد حقيقة

__________________

(1) هذا مذهب صدر المتألّهين ، فراجع الأسفار ج 8 ص 347 وحاشية شرح حكمة الإشراق ص 245. وتبعه الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 303.

(2) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(3) كما قال المحقّق الطوسيّ : «ولابدّ من حاجة مّا لبعض الأجزاء إلى البعض». راجعَ كشف المراد ص 91.

١٠٧

واحدة(1) . وقد عدّوا المسألة ضروريّة(2) .

ويمتاز المركّب الحقيقيّ من غيره بالوحدة الحقيقيّة. وذلك بأن يحصل من تألُّف الأجزاء أمرٌ آخر وراءَها له أثرٌ جديدٌ خاصٌّ وراءَ آثار الأجزاء ، لا مثل المركّبات الإعتباريّة التي لا أثر لها وراءَ آثار الأجزاء ، كالعسكر المركّب من أفراد ، والبيت المركّب من اللبن والجصّ وغيرها.

ومن هنا يترجّح القول بأنّ التركيب بين المادّة والصورة تركيبٌ إتحاديٌ لا إنضماميٌ ـ كما سيأتي إن شاء الله(3) ـ.

ثمّ إنّ الماهيّات النوعيّة منها ما هو كثيرُ الأفراد كالأنواع التي لها تعلُّقٌ مّا بالمادّة ، كالعنصر ، وكالإنسان.

ومنها ما هو منحصرٌ في فرد ، كالنوع المجرّد عن المادّة ذاتاً وفعلا وهو العقل.

وذلك أنّ الكثرة إمّا أن تكون تمامَ ذات الماهيّة النوعيّة أو بعضَها أو خارجةً منها لازمةً أو مفارقةً؛ وعلى التقادير الثلاثة الاُوَل يمتنع أن يتحقّق لها فرد ، إذ كلّ ما فرض فرداً لها وجب كونه كثيراً ، وكلّ كثير مؤلَّفٌ من آحاد ، وكلُ واحد مفروض يجب أن يكون كثيراً ، وكلّ كثير فإنّه مؤلَّف من آحاد وهكذا ، فيذهب الأمر إلى غير النهاية ، ولا ينتهي إلى واحد ، فلا يتحقّق الواحد ، فلا يتحقّق لها فرد ، وقد فرض كثيرُ الأفراد ، وهذا خلفٌ؛ وعلى التقدير الرابع ، كانت الكثرة بعَرَض مفارق يعرض النوع تتحقّق بانضمامه إليه وعدم انضمامه الكثرةُ ، وكلٌّ عرض مفارق يتوقّف عرْضُهُ على سبق إمكان حامله المادّة ، فيكون النوع مادّياً بالضرورة ، فكلّ نوع كثيرُ الافراد فهو مادّيٌّ ، وينعكس بعكسِ النقيض إلى أنّ كلّ نوع مجرّد فهو منحصرٌ في فرد ، وهو المطلوب.

__________________

(1) وحدةً حقيقيّة كالإنسان ، لا وحدة اعتباريّة كالعشرة.

(2) راجع شرح المقاصد ج 1 ص 104 ، وشرح المواقف ص 119 ، وشرح المنظومة ص 104 ، والمباحث المشرقيّة ج 1 ص 56.

(3) راجع الفصل الرابع عشر من المرحلة الثامنة.

١٠٨

المرحلة السادسة

في المقولات العشر

وهي الأجناس العالية التي إليها تنتهي الماهيّات بالتحليل

وفيها واحد وعشرون فصلا

١٠٩
١١٠

الفصل الأوّل

في المقولات وعددها

لا ريب أنّ للموجود الممكن ماهيّة هي ذاته التي تستوي نسبتها إلى الوجود والعدم ، وهي ما يقال في جواب (ما هو؟) ؛ وأنّ في هذه الماهيّات مشتركاتٌ ومختصّاتٌ ـ أعني الأجناس والفصول ـ ، وأنّ في الأجناس ما هو أعمّ وما هو أخصّ ، أي إنّها قد تترتّب متصاعدةً من أخصّ إلى أعمّ ، فلا محالة تنتهي السلسلة إلى جنس لا جنسَ فوقَها لاستحالة ذهابها إلى غير النهاية المستلزم لتركّب ذات الممكن من أجزاء غير متناهية ، فلا يمكن تعقُّل شيء من هذه الماهيّات بتمام ذاتيّاتها ، على أنّ هذه الأجناس باعتبار أخذها بشرط لا موادُّ خارجيّةٌّ أو عقليّةٌّ ، والمادّة من علل القوام ، وهي متناهية ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى(1) ـ.

فتحصّل أنّ هناك أجناساً عاليةً ليس فوقها جنس ، وهي المسمّاة بـ «المقولات».

ومن هنا يظهر :

أوّلا : أنّ المقولات بسائط غيرُ مركّبة من جنس وفصل ، وإلاّ كان هناك جنسٌ

__________________

(1) في الفصل الخامس عشر من المرحلة الثامنة.

١١١

أعلى منها ، هذا خلفٌ.

وثانياً : أنّها متباينةٌ بتمام ذواتها البسيطة ، وإلاّ كان بينها مشتركٌ ذاتيٌّ وهو الجنس ، فكان فوقها جنس ، هذا خلفٌ.

وثالثاً : أنّ الماهية الواحدة لا تندرج تحتَ أكثر من مقولة واحدة ، فلا يكون شيءٌ واحدٌ جوهراً وكمّاً معاً ، ولا كمّاً وكيفاً معاً ، وهكذا. ويتفرّع عليه أنّ كلّ معنى يوجد في أكثر من مقولة واحدة فهو غيرُ داخل تحتَ المقولة ، إذ لو دخل تحت ما يصدق عليه لكان مجنَّساً بجنسَيْن متباينَيْن أو أجناس متباينة ، وهو محالٌ. ومثله ما يصدق من المفاهيم على الواجب والممكن جميعاً ، وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك(1) .

ورابعاً : أنّ الماهيّات البسيطة كالفصول الجوهريّة ـ مثلا ـ وكالنوع المفرد ـ إن كان ـ خارجةٌ عن المقولات ، وقد تقدّم في مرحلة الماهيّة(2) .

وخامساً : أنّ الواجب والممتنع خارجان عن المقولات ، إذ لا ماهيّةَ لهما ، والمقولات ماهيّات جنسيّة.

ثمّ إنّ جمهور المشّائين(3) على أنّ المقولات عشر ، وهي الجوهر والكم والكيف والوضع والأين والمتى والجدة والإضافة وأن يفعل وأن ينفعل.

والمعوَّل فيما ذكروه على الإستقراء(4) ، ولم يقم برهانٌ على أنّ ليس فوقها

__________________

(1) في المرحلة الرابعة.

(2) في الفصل السادس من المرحلة الخامسة.

(3) كالمعلّم الأوّل في كتابه الموسوم بـ «قاطيغورياس» أي المقولات ، فراجع الجزء الأوّل من منطق أرسطو ص 35 ، وكذا في كتابه الموسوم بـ «طوبيقا» أي الجدل ، فراجع الجزء الثاني من منطق أرسطو ص 502. ونُسب إليه أيضاً في المعتبر ج 3 ص 14. وذهب إليه الشيخ الرئيس في قاطيغورياس من منطق الشفاء ، وصدر المتألّهين في الأسفار ج 4 ص 3 ، والشواهد الربوبيّة ص 21 ، وفخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 164 ، وشرح عيون الحكمة ج 1 ص 97 ـ 98 ، والحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 136 ـ 137.

(4) هكذا في شرح المواقف ص 193. وقال المحقّق اللاهيجيّ في مقدمة الفصل الخامس من المقصد الثاني من شوارق الإلهام «وبالجملة فالذي استقرّ عليه رأي المتأخّرين أنّ هذا الحصر استقرائيٌّ. ولا يخفى أنّ هذا الإستقراء أيضاً ضعيف جدّاً».

١١٢

مقولةٌ هي أعمّ من الجميع أو أعمّ من البعض(1) .

وأمّا مفهوم الماهيّة والشيء والموجود وأمثالها الصادقة على العشر جميعاً ، ومفهوم العرض والهيئة والحال الصادقة على التسع غيرُ الجوهر ، والهيئة النسبيّة الصادقة على السبع الأخيرة المسمّاة بالأعراض النسبيّة ، فهي مفاهيم عامّةٌ منتزعةٌ من نحو وجودها خارجةٌ من سنخ الماهيّة.

فماهيّة الشيء هو ذاته المقول عليه في جواب ما هو ، ولا هويّة إلاّ للشيء الموجود ، وشيئيّة الشيء موجودٌ ، فلا شيئيّةَ لما ليس بموجود ، وعرضيّةُ الشيء كونُ وجودِهِ قائماً بالغير ، وقريبٌ منه كونه هيئةً وحالا؛ ونسبيّة الشيء كونُ وجوده في غيره غيرُ خارج من وجود الغير.

فهذه مفاهيم منتزعةٌ من نحو الوجود محمولةٌ على أكثر من مقولة واحدة ، فليست من المقولات كما تقدّم(2) .

وعن بعضهم(3) : «أنّ المقولات أربع ، بإرجاع المقولات النسبيّة إلى مقولة واحدة ، فهي الجوهر والكم والكيف والنسبة».

ويدفعه ما تقدّم(4) [من] أنّ النسبة مفهومٌ غيرُ ماهويٍّ منتزعٌ من نحو الوجود ، ولو كفى مجرّد عموم المفهوم في جَعْلِهِ مقولةً فليُرَدُّ المقولات إلى مقولتين : «الجوهر والعرض»(5) ، لصِدْق مفهوم العرض على غير الجوهر من المقولات ، بل إلى مقولة واحدة هي الماهيّة أو الشيء

__________________

(1) راجع مقدمة الفصل الخامس من المقصد الثاني من شوارق الإلهام ، والفصل الأوّل والثالث والرابع والخامس من المقالة الثانية من الفن الثاني من منطق الشفاء.

(2) في السطور السابقة.

(3) قيل : «هو عمر بن سهلان الساوجيّ (الساويّ) صاحب البصائر النصيرية» ، فراجع شرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين 264 ، وشرح المنظومة ص 137. وقال الإيجيّ في المواقف : «وقد احتجّ ابن سينا على الحصر بما خلاصته أنّه ينقسم إلى كم وكيف ونسبة كما مرّ ، وغيرها الجوهر» إنتهى كلامه على ما في شرح المواقف ص 195.

(4) في السطور السابقة.

(5) قال الشيخ الإشراقيّ في المطارحات ص 284 : «ويكفي تقسيم الماهيّات إلى جوهر وهيئة». وقال السيّد الداماد في القبسات ص 40 : «فإذن المقولات الجائزات جنسان أقصيان ...».

١١٣

وعن شيخ الإشراق : «أنّ المقولات خمس ، الجوهر والكم والكيف والنسبة والحركة»(1) .

ويردُ عليه ما يردُ على سابقه مضافاً إلى أنّ الحركة أيضاً مفهومٌ منتزعٌ من نحو الوجود ، وهو الوجود ، وهو الوجود السيّال غير القارّ الثابت ، فلا مساغ لدخولها في المقولات.

الفصل الثاني

في تعريف الجوهر(2) وأنّه جنس لما تحته من الماهيّات

تنقسم الماهيّة انقساماً أوّلياً إلى الماهيّة التي إذا وجدَتْ في الخارج وجدَتْ لا في موضوع مستغن عنها وهي ماهيّة الجوهر ، وإلى الماهيّة التي إذا وجدَتْ في الخارج وجدَتْ في موضوع مستغن عنها وهي المقولات التسع العرضيّة.

فالجوهر ماهيّة إذا وجدَتْ في الخارج وجدَتْ لا في موضوع مستغن عنها ، وهذا تعريفٌ بوصف لازم للوجود من غير أن يكون حدّاً مؤلَّفاً من الجنس والفصل(3) ، إذ لا معنى لذلك في جنس عال ، كما أنّ تعريف العرض بالماهيّة التي

__________________

(1) راجع التلويحات ص 11.

(2) قدّم البحث عن الجوهر على البحث عن العرض تبعاً للمحقّق الطوسيّ. والوجه في ذلك ـ كما قال القوشجيّ في شرحه للتجريد ص 137 ـ أنّ وجود العرض متوقّف على وجود الجوهر فالجوهر مقدّمٌ بالطبع على العرض ، فتقدّمه بالذكر مناسبٌ لتقدّمه بالطبع.

ومنهم مَنْ قدّم البحث عن العرض على البحث عن الجوهر ، كفخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 136. وتبعه صدر المتألّهين في الأسفار حيث قال : «إنّ الترتيب الطبيعيّ وإن استدعى تقديم مباحث الجواهر وأقسامها على مباحث الأعراض ، لكن اخّرنا البحث عن الجواهر لوجهين : (أحدهما) أنّ أكثر أحوالها لا يبرهن إلاّ باُصول مقرّرة في أحكام الأعراض. و (ثانيهما) انّ معرفتها شديدة المناسبة لأن يقع في العلم الإلهيّ وعلم المفارقات الباحث عن ذوات الأشياء وأعيانها دون أن يقع في الفلسفة الباحثة عن الكلّيات والمفهومات العامّة وأقسامها الأوّليّة» راجع الأسفار ج 4 ص 2.

(3) ولذا قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 136 : «الفريدة الاُولى في رسم

١١٤

إذا وجدَتْ في الخارج وجدَتْ في موضوع مستغن عنها ، تعريفٌ بوصف لازم لوجود المقولات التسع العرضيّة وليس من الحدّ في شيء.

والتعريف تعريفٌ جامعٌ مانعٌ ، وإن لم يكن حدّاً ، فقولنا : «ماهيّة» يشمل عامّة الماهيّات ويخرج به الواجب بالذات حيث كان وجوداً صرفاً لا ماهيّة له؛ وتقييد الماهيّة بقولنا : «إذا وجدَتْ في الخارج» ، للدلالة على أنّ التعريف لماهيّة الجوهر الذي هو جوهر بالحمل الشائع ، إذ لو لم يتحقّق المفهوم بالوجود الخارجيّ لم يكن ماهيّةً حقيقيّةً لها آثارها الحقيقيّة ، ويخرج بذلك الجواهر الذهنيّة التي هي جواهر بالحمل الأوّليّ عن التعريف ، فإنّ صدْقَ المفهوم على نفسه حملٌ أوّليٌّ لا يوجب اندراج المفهوم تحت نفسه؛ وتقييد الموضوع بـ «كونه مستغنياً عنها» ، للإشارة إلى تعريف الموضوع بصفته اللازمة له ، وهو أن يكون قائماً بنفسه ـ أي موجوداً لنفسه ـ ، فالجوهر موجود لا في موضوع ـ أي ليس وجوده لغيره كالأعراض ، بل لنفسه ـ.

وأمّا ما قيل (1) : إنّ التقييد بالاستغناء لادخال الصور الجوهريّة الحالّة في المادّة في التعريف ، فإنّها وإن وجدَتْ في الموضوع ، لكنّ موضوعها غير مستغن عنها ، بل مفتقرةٌ اليها.

ففيه : أنّ الحقّ أنّ الصور الجوهريّة ماهيّات بسيطة غير مندرجة تحت مقولة الجوهر ، ولا مجنّسة بجنس ـ كما تقدّمت الإشارة إليه في مرحلة الماهيّة(2) ـ.

__________________

الجوهر». وقال الآمليّ في درر الفوائد ص 388 : «إنّما عبّر بالرسم دون الحدّ ، لأنّ الجوهر الجنسيّ الذي هو من الأجناس العالية لاحدّ له ، لأنّ الحدّ مشتملٌ على جنس الشيء وفصله ، والأجناس العالية لا جنس لها ، وإلاّ لم يكن أجناساً عاليةً ، وما لا جنس له لا فصل له».

(1) والقائل هو محمّد تقيّ الآملي في درر الفوائد ص 389 ، حيث قال : «الجوهر هو الماهيّة التي حقّ وجودها العيني أن لا يكون في موضوع ـ أي في محلٍّ ـ مستغن عن الحالّ فيه ، وإن كان في المحلّ أي في محلٍّ مفتقر ذاك المحلّ إلى هذا الحالّ كالصورة الحالّة في الهيولى حيثُ إنّها مع حلولها في الهيولى جوهرٌ ، إذ ليست حالةّ في محلٍّ مستغني عنها».

(2) في الفصل السادس من المرحلة الخامسة.

١١٥

ووجود القسمين ـ أعني الجوهر والعرض ـ في الخارج ضروريٌّ في الجملة ، فمن أنكر وجود الجوهر فقد قال بجوهريّة الأعراض من حيث لا يشعر.

ومن الأعراض ما لا ريب في عرضيّته كالأعراض النسبيّة.

والجوهر جنسٌ لما يصدق عليه من الماهيّات النوعيّة ، مقوّمٌ لها ، مأخوذٌ في حدودها(1) ، لأنّ كون الماهيّات العرضيّة مفتقرةً في وجودها الخارجيّ إلى موضوع مستغن عنها يستلزم وجود ماهيّة هي في ذاتها موضوعةٌ لها مستغنيةٌ عنها ، وإلاّ ذهبت سلسلة الافتقار إلى غير النهاية ، فلم تتقرّر ماهيّة ، وهو ظاهر.

وأمّا ما استُدِلّ(2) به على جنسيّة الجوهر لما تحته بأنّ كون وجود الجوهر لا في موضوع وصفٌ واحدٌ مشتركٌ بين الماهيّات الجوهريّة ، حاصلٌ لها على وجه اللزوم مع قطع النظر عن الاُمور الخارجة ، فلو لم يكن الجوهر جنساً لها ، بل كان لازمَ وجودها وهي ماهيّات متباينة بتمام الذات ، لزم انتزاعُ مفهوم واحد من مصاديق كثيرة متباينة بما هي كذلك ، وهو محال.

فبين هذه الماهيّات الكثيرة المتباينة جامعٌ ماهويٌّ واحدٌ لازِمُهُ الوجوديّ كونُ وجودها لا في الموضوع.

ففيه : أنّ الوصف المذكور ، معنى منتزعٌ من سنْخِ وجود هذه الماهيّات الجوهريّة لا من الماهيّات ، كما أنّ كون الوجود في الموضوع ـ وهو وصفٌ واحدٌ لازمٌ للمقولات التسع العرضيّة ـ ، معنى واحدٌ منتزعٌ من سنخ وجود الأعراض جميعاً ، فلو استلزم كون الوصف المنتزع من الجواهر معنى واحداً جامعاً ماهويّاً واحداً في الماهيّات الجوهريّة لاستلزم كونُ الوصفُ المنتزعُ من المقولات العرضيّه معنى واحداً جامعاً ماهويّاً واحداً في المقولات العرضيّة هو جنس لها ، وانتهت الماهيّات إلى مقولتَيْن هما الجوهر والعرض.

فالمعوَّل في إثبات جنسيّة الجوهر لما تحته من الماهيّات على ما تقدّم من أنّ

__________________

(1) هذا مذهب أكثر الحكماء. والأقلّون على خلافه ، ومنهم فخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 142 ـ 146.

(2) هكذا استدلّ عليه صدر المتألّهين في الأسفار ج 4 ص 260.

١١٦

افتقار العرض إلى موضوع(1) يقوم به يستلزم ماهيّة قائمة بنفسها.

ويتفرّع على ما تقدّم أنّ الشيء الواحد لا يكون جوهراً وعرضاً معاً ، وناهيك في ذلك أنّ الجوهر وجوده لا في موضوع ، والعرض وجوده في موضوع ، والوصفان لا يجتمعان في شيء واحد بالبداهة

الفصل الثالث

في أقسام الجوهر الأوّليّة(2)

قالوا(3) : إنّ الجوهر إمّا أن يكون في محلٍّ ، أو لا يكون فيه؛ والكائن في المحلّ هو «الصورة المادّيّة» ، وغير الكائن فيه إمّا أنّ يكون محلاّ لشيء يقوم به أو لا يكون ، والأوّل هو «الهيولى» ، والثاني لا يخلو إمّا أن يكون مركّباً من الهيولى والصورة أو لا يكون ، والأوّل هو «الجسم» ، والثاني إمّا أن يكون ذا علاقة إنفعاليّة بالجسم بوجه أو لا يكون ، والأوّل هو «النفس» والثاني هو «العقل».

فأقسام الجوهر الأوّليّة خمسة ، هي : الصورة المادّيّة والهيولى والجسم والنفس والعقل.

وليس التقسيم عقليّاً دائراً بين النفي والإثبات ، فإنّ الجوهر المركّب من الجوهر الحالّ والجوهر المحلّ ليس ينحصر بحسب الإحتمال العقليّ في الجسم ، فمن الجائز أن يكون في الوجود جوهرٌ مادّيٌّ مركّبٌ من المادّة وصورة غير الصورة الجسميّة ، لكنّهم قصروا النوع المادّيّ الأوّل في الجسم تعويلا على استقرائهم.

__________________

(1) كون وجود العرض لغيره (ناعتاً لغيره) معنى سلبيٌّ لا اقتضاء للماهية العرضيّة بالنسبه إليه ، ولكن وجود الجوهر وجودٌ لنفسه قائمٌ بنفسه التي هي ماهيته ، وهو معنى إيجابيٌّ تقتضيه الماهيّة اقتضاءَ الماهية للوازمها ، والمعنى الواحد لا ينتزع من ماهيّات متباينة وقد أشرنا إليه في قولنا قبلا : «وإلاّ لذهبت سلسلة الإفتقار إلى غير النهاية ...» (منه (رحمه الله)).

(2) أي الأقسام الأوّليّة للجوهر.

(3) أي المشاؤون راجع الفصل الأوّل من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء ، وتعليقة صدر المتألّهين عليه ص 47 ، وشرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين ص 261 ، والأسفار ج 4 ص 234 ، وقواعد المرام ص 43 ، وشرح حكمة العين ص 212.

١١٧

على أنّك قد عرفت(1) أنّ الصورة الجوهريّة ليست مندرجةً تحت مقولة الجوهر ، وإن صدَقَ عليها الجوهر صدْقَ الخارج اللازم.

قال في الأسفار بعد الإشارة إلى التقسيم المذكور : «والأجود في هذا التقسيم أن يقال : الجوهر إن كان قابلا للأبعاد الثلاثة فهو الجسم ، وإلاّ فإن كان جزءاً منه هو به بالفعل سواءٌ كان في جنسه أو في نوعه فصورةٌ إمّا إمتداديّة أو طبيعيّة ، أو جزء هو به بالقوّة فمادّة ، وإن لم يكن جزءاً منه فإن كان متصرّفاً فيه بالمباشرة فنفسٌ ، وإلاّ فعقلٌ».

ثمّ قال مشيراً إلى وجه جودة هذا التقسيم : «وذلك لما سيظهر من تضاعيفما حقّقناه من كون الجوهرُ النفسانيّ الإنسانيّ مادّةً للصورة الإدراكيّة التي يتحصّل بها جوهراً آخر كماليّاً بالفعل من الأنواع المحصّلة التي يكون لها نحو آخر من الوجود غير الوجود الطبيعيّ الذي لهذه الأنواع المحصّلة الطبيعيّة»(2) ـ إنتهى.

وما يَرِدُ على التقسيم السابق يَرِدُ على هذا التقسيم أيضاً؛ على أنّ عطف الصور الطبيعيّة ـ وهي متأخّرة عن نوعيّة الجسم ـ على الصورة الإمتداديّة ، لا يلائم كون الإنقسام أوّليّاً.

وكيف كان فالذي يهمّنا هاهنا أن نبحث عن حقيقة الجسم وجزئَيْه ـ المادّة والصورة الجسميّة ـ ، وأمّا النفس فاستيفاء البحث عنها في علم النفس ، وستنكشف حقيقتها بعض الانكشاف في مرحلتَي القوّة والفعل(3) ، والعاقل والمعقول(4) ، وأمّا العقل فيقع الكلام في حقيقته في الإلهيّات بالمعنى الأخصّ ، وستنكشف بعض الانكشاف في مرحلتَيِ القوّة والفعل(5) ، والعاقل والمعقول إن شاء الله تعالى(6) .

__________________

(1) في الفصل السابق.

(2) راجع الأسفار ج 4 ص 234.

(3 و 5) أي المرحلة التاسعة.

(4 و 6) أي المرحلة الحادية عشرة.

١١٨

الفصل الرابع

في ماهيّة الجسم

لا ريب في وجود الجسم بمعنى الجوهر الذي يمكن أن يفرض فيه ثلاثة خطوط متقاطعة على زوايا قوائم ، وإن لم تكن موجودةً فيه بالفعل كما في الكرة والاُسطوانة.

فحواسّنا التي تنتهي إليها علومنا وإن لم يكن فيها ما ينال الموجود الجوهريّ وإنّما تدرِك أحوالَ الأجسام وأوصافَها العرضيّة ، لكنّ أنواع التجربات تهدينا هدايةً قاطعةً إلى أنّ ما بين السطوح والنهايات من الأجسام مملوءَةٌ في الجملة غيرُ خالية عن جوهر ذي امتداد في جهاته الثلاث.

والذي يجده الحسّ من هذا الجوهر الممتدّ في جهاته الثلاث يجده متّصلا واحداً يقبل القسمة إلى أجزاء بالفعل ، لا مجموعاً من أجزاء بالفعل ذوات فواصل.

هذا بحسب الحسّ ، وأمّا بحسب الحقيقة فاختلفوا فيه على أقوال(1) .

أحدها : أنّه مركّبٌ من أجزاء ذوات أوضاع لا تتجزّى ولا تنقسم أصلا لا خارجاً ولا وهماً ولا عقلا ، وهي متناهية ، وهو مذهب جمهور المتكلّمين(2) .

الثاني : أنّه مركّبٌ كما في القول الأوّل ، غيرُ أنّ الأجزاء غيرُ متناهية ، ونُسِبَ إلى النظّام(3) .

__________________

(1) وذكر الحكيم السبزواريّ وجهاً تضبط به الأقوال في ماهيّة الجسم ، فراجع شرح المنظومة ص 208 ـ 209.

(2) ومنهم أبو الهذيل العلاّف والجبّائيّ ومعمّر بن عباد وهشام الفوطيّ على ما في مقالات الإسلاميّين ج 2 ص 13 ـ 14 ، ومذاهب الإسلاميين ج 1 ص 182. ونُسب إلى جمهور المتكلّمين في شرح حكمة العين ص 215 ، وايضاح المقاصد ص 24 ، والمباحث المشرقيّة ج 2 ص 8 ، والأسفار ج 5 ص 16 ، والأربعين ج 2 ص 3 ، وشرح المنظومة ص 209. وذهب إليه أيضاً ابن ميثم البحرانيّ في قواعد المرام ص 51 ـ 56.

(3) نُسِب إليه في مقالات الإسلاميّين ج 2 ص 16 ، والتبصير في الدين ص 71 ، ومذاهب

١١٩

الثالث : أنّه مركّبٌ من أجزاء بالفعل متناهية صِغار صِلَبة لا تقبل القسمة الخارجيّة لصُغْرها وصلابتها ، ولكن تقبل القسمةَ الوهميّة والعقليّة ، ونُسِبَ إلىذيمقراطيس (1) .

الرابع : أنّه متّصلٌ واحدٌ كما في الحسّ ويقبل القسمةَ إلى أجزاء متناهية ، ونُسِبَ إلىالشهرستانيّ (2) .

الخامس : أنّه جوهرٌ بسيطٌ هو الإتّصال والإمتداد الجوهريّ الذي يقبل القسمةَ خارجاً ووهماً وعقلا ، ونُسِبَ إلىأفلاطون الإلهيّ (3) .

السادس : أنّه مركّبٌ من جوهر وعرض ، وهما الجوهر والجسميّة التعليميّة التي هي إمتدادٌ كمّيٌّ في الجهات الثلاث ، ونُسِبَ إلىشيخ الإشراق (4) .

__________________

الإسلاميّين ج 1 ص 223 ، والإنتصار ص 33 ، وشرح المنظومة ص 209. ونُسِبَ إليه وإلى القدماء من متكلّمي المعتزلة في شرح حكمة العين ص 215. وقال العلاّمة في إيضاح المقاصد ص 249 : «هو مذهب المتكلّمين ومذهب جماعة من الأوائل». وقال الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج 2 ص 9 : «فهو مذهب النظام ومن الأوائل انكسافراطيس».

(1) نُسِب إليه في الأسفار ج 5 ص 17 ، والمباحث المشرقيّة ج 2 ص 10 ، وشرح المقاصد ج 1 ص 292 ، وشرح المنظومة ص 209. ونُسِب إليه وإلى أصحابه في شرح حكمة العين ص 215 ، وايضاح المقاصد ص 246.

(2) نُسِب إليه في ايضاح المقاصد ص 249 ، والأسفار ج 5 ص 17 ، وشرح المنظومة ص 209 ، وشرح التجريد للقوشجيّ ص 143. ونُسِبَ إليه وإلى فخر الدين الرازيّ في شرح حكمة العين ص 215.

(3) قال صدر المتألّهين في الأسفار ج 5 ص 17 : «وهو رأي أفلاطون الإلهيّ ومذهب شيعته المشهورين بالرواقيّين ومن يحذو حذوهم وسلك منهاجهم كالشيخ الشهيد والحكيم السعيد شهاب الدين يحيى السهرورديّ في كتاب حكمة الإشراق». ذهب إليه الشيخ الإشراقيّ في حكمة الإشراق ص 80 و 88. ونَسَبه أيضاً إلى أفلاطون والشيخ الإشراقيّ الحكيمُ المؤسّس آقا علي المدرّس فيما علّقه على شرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين ص 24. وذهب إليه أيضاً المحقّق الطوسيّ على ما في كشف المراد ص 150 ، وأبو البركات البغداديّ في المعتبر ج 3 ص 195.

(4) قال في الأسفار ج 5 ص 17 : «وهو ما ذهب إليه الشيخ الإلهي في كتاب التلويحات

١٢٠