نهاية الحكمة

نهاية الحكمة0%

نهاية الحكمة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الفلسفة والعرفان
الصفحات: 437

نهاية الحكمة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف:

الصفحات: 437
المشاهدات: 168150
تحميل: 6719

توضيحات:

نهاية الحكمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168150 / تحميل: 6719
الحجم الحجم الحجم
نهاية الحكمة

نهاية الحكمة

مؤلف:
العربية

يولد في الأغلب ذا أصابع خمس ويتخلّف في بعض الأحيان فيولد وله إصبع زائدة لوجودِ معارض يعارض القوّةَ المصوّرةَ فيما تقتضيه من الفعل ، فالقوّة المصوّرة بشرط عدم المعارض تأتي بخمس أصابع دائماً.

ونظير الكلام يجري في الأقليّ الوقوع ، فإنّه مع اشتراط المعارض الخاصّ الذي يعارض السببَ الأكثريّ دائميُّ الوقوع بالضرورة ، كما في مثال الإصبع الزائدة ، فالقوّة المصوّرة كلّما صادفت في المحل مادّةً زائدةً تصلح لصورة أصبع على شرائطها الخاصّة ، فإنّها تصوّر إصبعاً دائماً.

ونظير الكلام الجاري في الأكثريّ الوقوع والأقليّ الوقوع يجري في المتساوي الوقوع واللاوقوع كقيام زيد وقعوده.

فالأسباب الحقيقيّة دائمة التأثير من غير تخلّف في فعلها ولا في غايتها.

والقول بالإتّفاق من الجهل بالأسباب الحقيقيّة ونسبةِ الغاية إلى غير ذي الغاية.

فعثور الحافر للبئر على الكَنْز إذا نُسِب إلى سببها الذاتيّ ـ وهو حَفْر البئر بشرط محاذاته للكنز الدفين تحته ـ غايةٌ ذاتيّةٌ دائميّةٌ ، وليس من الاتّفاق في شيء.

وإذا نُسِبَ إلى مطلق حَفْر البئر من غير شرط آخر كان إتّفاقاً وغايةً عرضيّةً منسوبةً إلى غير سببه الذاتيّ الدائميّ.

وكذا موت من انهدم عليه البيت وقد دخله للاستظلال إذا نُسِبَ إلى سببه الذاتيّ ـ وهو الدخول في بيت مشرف على الانهدام والمكث فيه حتّى ينهدم ـ غايةٌ ذاتيّةٌ دائميّةٌ ، وإذا نُسِبَ إلى مطلق دخول البيت للإستظلال كان إتّفاقاً وغايةً عرضيّةً منسوبةً إلى غير سببه الذاتيّ.

والكلام في سائر الأمثلة الجزئيّة للإتّفاق على قياس هذين المثالين.

وقد تمسّك القائلون بالإتّفاق(1) بأمثال هذه الأمثلة الجزئيّة التي عرفت حالها.

وقد نُسِبَ إلىذيمقراطيس (2) أنّ كينونة العالم بالإتّفاق. وذلك أنّ الأجسام

__________________

(1) وهم ذيمقراطيس وأتباعه ، وأنباذقلس وشيعته من قدَماء الحكماء.

(2) قد نَسب إليه الشيخ الرئيس في الفصل الرابع عشر من المقالة الاُولى من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

٢٤١

مؤلَّفة من أجرام صِغار صِلَبَه منبثّة في خلاء غير متناه ، وهي متشاكلة الطبائع مختلفة الأشكال دائمة الحركة ، فاتّفق أن تصادفت منها جملة اجتمعت على هيأة خاصّة ، فكان هذا العالم ، ولكنّه زعم أنّ كينونة الحيوان والنبات ليس باتّفاق.

ونُسِبَ إلى أنباذقلس(1) أنّ تكوُّنَ الأجرام الاسطقسيّة بالاتّفاق ، فما اتّفق منها أن اجتمعت على نحو صالح للبقاء والنسل بقى ، وما اتّفق أن لم يكن كذلك لم يبقَ وتلاشى.

وقد احتجّ على ذلك بعدّة حُجَج(2) .

الحجّة الاُولى : أنّ الطبيعة لا رويّةَ لها ، فكيف تفعل فِعْلَها لأجل غاية؟

واُجيب عنها (3) : بأنّ الرويّة لا تجعل الفعلَ ذا غاية ، وإنّما تميّز الفعلَ من غيره وتعيَّنه ، ثمّ الغاية تترتّب على الفعل لذاتها لا بجعل جاعل ، فاختلاف الدواعي والصوارف هو المحوج لإعمال الرويّة المعيّنة ، ولولا ذلك لم يحتج إليها ، كما أنّ الأفعال الصادرة عن الملكات كذلك ، فالمتكلّم بكلام يأتي بالحرف بعد الحرف على هيئاتها المختلفة من غير رويّة يتروّى بها ، ولو تروّى لتبلَّد وانقطع عن الكلام.

وكذا أرباب الصناعات في صناعاتهم لو تروّى في ضمن العمل واحد منهم لتبلَّدَ وانقطع.

الحجّة الثانية : أنّ في نظام الطبيعة أنواعاً من الفساد والموت ، وأقساماً من الشرّ والمساءة في نظام لا يتغيّر عن أسباب لا تتخلّف ، وهي غير مقصودة للطبيعة ، بل لضرورة المادّة ، فلنحكم أنّ أنواع الخير والمنافع المترتّبة على فعل الطبيعة أيضاً على هذا النمط من غير قصد من الطبيعة ولا داع يدعوها إلى ذلك.

واُجيب عنها (4) : بأنّ ما كان من هذه الشرور من قبيل عدم بلوغ الفواعل

__________________

(1) قد نَسب إليه الشيخ الرئيس في الفصل الرابع عشر من المقالة الاُولى من الفن الاُوّل من طبيعيات الشفاء.

(2) وتعرّض لها الشيخ الرئيس في الفصل الرابع عشر من المقالة الاُولى من طبيعيات الشفاء.

(3) والمجيب صدر المتألّهين في الأسفار ج 2 ص 257 ، وشرح الهداية الأثيريّة ص 242.

(4) والمجيب أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج 2 ص 257 ـ 258 ، وشرح الهداية الأثيريّة ص 243.

٢٤٢

الطبيعيّة غاياتَها لانقطاع حركاتها ، فليس من شرط كون الطبيعة متوجّهةً إلى غاية أن تبلغها ، وقد تقدّم الكلام في الباطل. وما كان منها من قبيل الغايات التي هي شرور ـ وهي على نظام دائميّ ، فهي اُمورٌ خيُرها غالِبٌ على شرِّها ـ فهي غايات بالقصد الثاني ، والغايات بالقصد الأوّل هي الخيرات الغالبة اللازمة لهذه الشرور ، وتفصيل الكلام في هذا المعنى في بحث القضاء. فمَثَلُ الطبيعة في أفعالها التي تنتهي إلى هذه الشّرور مَثَلَ النجّار يريد أن يصنعَ باباً من خشبة فيأخذ بالنحت والنشر ، فيركب ويصنع ، ولازمُهُ الضروريّ إضاعة مقدار من الخشبة بالنشر والنحت ، وهي مرادة له بالقصد الثاني بتبع إرادته لصنع الباب.

الحجّة الثالثة : أنّ الطبيعة الواحدة تفْعِل أفعالا مختلفةً مثل الحرارة ، فإنّها تحِلُّ الشمعَ وتعقِدُ الملحَ وتسوِّد وجه القصّار وتبيِّض وجه الثوب.

واُجيب عنها (1) : بأنّ الطبيعة الواحدة لا تفعل إلاّ فعلا واحداً له غاية واحدة ، وأمّا ترتّب آثار مختلفة على فعلها فمن التوابع الضروريّة لمقارنة عوامل وموانع متنوعة ومتباينة.

فقد تحصّل من جميع ما تقدّم أنّ الغايات المترتّبة على أفعال الفواعل غاياتٌ ذاتيّةٌ دائميّةٌ لعِللَها وأسبابها الحقيقيّة.

وأنّ الآثار النادرة التي تسمّى إتفاقيّات ، غاياتٌ بالعرض منسوبةٌ إلى غير أسبابها الحقيقيّة وهي بعينها دائميّة بنسبتها إلى أسبابها الحقيقيّة.

فلا مناص عن إثبات الرابطة الوجوديّة بينها وبين السبب الفاعليّ الحقيقيّ.

ولو جاز لنا أن نشكّ في إرتباط هذه الغايات بفواعلها مع ما ذكر من دوام الترتّب لجاز لنا أن نشك في إرتباط الفعل بالفاعل ، ولهذا أنكر كثير من القائلين بالاتّفاق العلّةَ الفاعليّةَ كالغائيّة وحصروا العلّة في العلّة الماديّة ، وقد تقدّم الكلام في العلّة الفاعليّة(2) .

__________________

(1) والمجيب أيضاً صدر المتألّهين في الأسفار ج 2 ص 258 ـ 259 ، وشرح الهداية الأثيريّة ص 244.

(2) في الفصل السادس من هذه المرحلة.

٢٤٣

الفصل الرابع عشر

في العلّة الماديّة والصوريّة

قد عرفت(1) أنّ الأنواع التي لها كمالٌ بالقوّة لا تخلو في جوهر ذاتها من جوهر يقبل فعليّةَ كمالاتها الاُولى والثانية من الصور والأعراض. فإن كانت حيثيّتُهُ حيثيّةَ القوّة من جهة وحيثيّةَ الفعليّة من جهة ، كالجسم الذي هو بالفعل من جهة جسميّتِهِ وبالقوّة من جهة الصور والأعراض اللاحقة لجسميّته ، سُميّ : «مادّة ثانية». وإن كانت حيثيّته حيثيةَ القوّة محضاً ، وهو الذي تنتهي إليه المادّة الثانية بالتحليل ، وهو الذي بالقوّة من كلّ جهة إلاّ جهة كونه بالقوّة من كلّ جهة ، سُمّي : «هيولى» و «مادّة أولى».

وللمادّة علّيّة بالنسبة إلى النوع المادّيّ المركّب منها ومن الصورة ، لتوقٌّفِ وجوده عليها توقّفاً ضروريّاً. فهي بما أنّها جزءٌ للمركّب علّةٌ له ، وبالنسبة إلى الجزء الآخر الذي يقبله ـ أعني الصورة ـ مادّةٌ لها ومعلولةٌ لها ، لما تقدّم أنّ الصورة شريكة العلّة للمادّة(2) .

وقد حصر جمعٌ من الطبيعييّن(3) العلّيّة في المادّة فقط ، منكرينَ للعلل الثلاث الاُخر.

ويدفعهأوّلا : أنّ المادّة حيثيّة ذاتها القوّة والقبول ، ولازِمُها الفقدان ، ومن الضروريّ أنّه لا يكفي لإعطاء الفعليّة وإيجادها الملازم للوجدان ، فلا يبقي للفعليّة إلاّ أن توجد من غير علّة ، وهو محال.

وثانياً : أنّه قد تقدّم أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد(4) ، وإذ كانت المادّة شأنها الإمكان والقبول فهي لا تصلح لأن يستند إليها هذا الوجوب المنتزع من وجود

__________________

(1) في الفصل الخامس والسادس والسابع من المرحلة السادسة.

(2) في الفصل السادس وخاتمة الفصل السابع من المرحلة السادسة.

(3) وهم الماديّون المنكرون لما وراء الطبيعة.

(4) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

٢٤٤

المعلول ، وحقيقتَهُ الضرورة واللزوم وعدم الانفكاك ، فوراءَ المادّة أمرٌ لا محالة يستند إليه وجوبُ المعلول ووجودُهُ ، وهو العلّة الفاعليّة المفيضة لوجود المعلول.

وثالثاً : أنّ المادّة ذاتُ طبيعة واحدة لا تؤثّر إن أثّرت إلاّ أثراً واحداً متشابهاً ، وقد سلّموا ذلك ، ولازُمُه رجوع ما للأشياء من الإختلاف إلى ما للمادّة من صفة الوحدة ذاتاً وصفةً ، وهو كون كلِّ شيء عينُ كلِّ شيء ، وضرورة العقل تبطله.

وأمّاالعلّة الصوريّة ، فهي : الصورة ـ بمعنى ما به الشيء هو ما هو بالفعل ـ بالنسبة إلى الشيء المركّب منها ومن المادّة ، لضرورة أنّ للمركّب توقّفاً عليها.

وأمّا الصورة بالنسبة إلى المادّة فليست علّةً صوريّةً لها ، لعدم كون المادّة مركّبةً منها ومن غيرها مفتقرةً إليها في ذاتها ، بل هي محتاجة إليها في تحصّلها الخارج من ذاتها ، ولذا كانت الصورة شريكة العلّة بالنسبة إليها ومحصِّلة لها كما تقدّم بيانه(1) .

واعلم أنّ الصورة المحصّلة للمادّة ربّما كانت جزءاً من المادّة بالنسبة إلى صورة لاحقة ، ولذا ينتسب ما كان لها من الأفعال والآثار ـ نظراً إلى كونها صورةً محصّلةً للمادّة ـ إلى الصورة التي صارت جزءاً من المادّة بالنسبة إليها ، كالنبات مثلا ، فإنّ الصورة النباتيّة صورةٌ محصّلة للمادّة الثانية التي هي الجسم ، لها آثار فعليّة هي آثار الجسميّة والنباتيّة.

ثم إذا لحقَتْ به صورة الحيوان كانت الصورة النباتيّة جزءاً من مادّتها وملكَتْ الصورة الحيوانيّة ما كان لها من الأفعال والآثار الخاصّة. وهكذا كلّما لحقَتْ بالمركّب صورةٌ جديدةٌ عادَتْ الصور السابقة عليها أجزاءً من المادّة الثانية وملكَتْ الصورة الجديدة ما كان للصور السابقة من الأفعال والآثار ، وقد تقدّم أنّ الصورة الأخيرة تمام حقيقة النوع(2) .

واعلم أيضاً أنّ التركيب بين المادّة والصورة ليس بإنضماميٍّ كما يُنسب إلى الجمهور(3) ، بل تركيب إتحاديّ كما يقضي به اجتماع المبهم والمحصَّل ، والقوّة

__________________

(1) في الفصل السادس وخاتمة الفصل السابع من المرحلة السادسة.

(2) راجع الفصل السادس من المرحلة الخامسة.

(3) نُسِب إليهم في الأسفار ج 5 ص 282 ، وشرح المنظومة ص 105.

٢٤٥

والفعل ، ولولا ذلك لم يكن التركيب حقيقيّاً ولا يحصل نوعٌ جديدٌ له آثار خاصّة.

الفصل الخامس عشر

في العلّة الجسمانيّة

العِلَل الجسمانيّة متناهية أثراً عدّةً ومدّةً وشدّةً ، لأنّ الأنواع الجسمانيّة متحرّكة بجواهرها وأعراضها.

فما لها من الطبائع والقوى الفعالّة منحلّةٌ منقسمةٌ إلى أبعاض كلٍّ منها محفوفٌ بالعدمَيْن السابق واللاحق محدودٌ ذاتاً وأثراً.

وأيضاً العِلَل الجسمانيّة لا تفعل إلاّ مع وضع خاصّ بينها وبين المادّه المنفعلة.

قالوا : «لأنّها لمّا احتاجت إلى المادّة في وجودها احتاجت إليها في إيجادها الذي هو فرع وجودها ، وحاجتها إلى المادّة في إيجادها هو أن يحصل لها بسبب المادّة وضع خاصّ مع معلولها.

ولذا كان للقُرب والبُعد والأوضاع الخاصّة دَخْلٌ في كيفيّة تأثير العِلَل الجسمانيّة».

٢٤٦

المرحلة التاسعة

في القوّة والفعل

وفيها أربعة عشر فصلا

٢٤٧
٢٤٨

[مقدّمة](1)

وجود الشيء في الأعيان بحيث تترتّب عليه آثاره المطلوبة منه يسمّى «فعلا» ، ويقال : «إنّ وجوده بالفعل» ، وإمكانه الذي قبلَ تحقّقه يسمّى «قوّةً» ، ويقال : «إنّ وجوده بالقوّة». مثال ذلك النطفة ، فإنّها ما دامت نطفة هي إنسان مثلا بالقوّة ، فإذا تبدّلَتْ إنساناً صارت إنساناً بالفعل ، له آثار الإنسانيّة المطلوبة من الإنسان.

والأشبه أن تكون القوّة في أصل الوضع بمعنى مبدأ الأفعال الشاقّة الشديدة ـ أعني كون الشيء بحيث تصدر عنه أفعال شديدة ـ ؛ ثمّ تُوُسِّع في معناها فاطلِقَتْ على مبدأ الانفعالات الصعبة ـ أعني كون الشيء بحيث يصعب إنفعاله بتوهّم أنّ الإنفعال أثرٌ موجودٌ في مبدئه ، كما أنّ الفعل والتأثير أثرٌ موجود في الفاعل ـ ؛ ثمّ توسّعوا فأطلقوا القوّة على مبدأ الانفعال ، ولو لم يكن صعباً ، لما زعموا أنّ صعوبة الانفعال وسهولته سنخٌ واحدٌ تشكيكيٌّ ، فقالوا : «إنّ في قوّة الشيء الفلانيّ أن يصير كذا» و «أنّ الأمر الفلانيّ فيه بالقوّة». هذا ما عند العامّة.

__________________

(1) وهي في معاني القوّة والفعل ، وكيفية انتقالها من بعض إلى بعض. ولمزيد التوضيح راجع الفصل الثاني منالمقالة الرابعة من إلهيات الشفاء ، والتحصيل ص 471 ـ 474 ، والأسفار ج 3 ص 2 ـ 5.

٢٤٩

ولمّا رأى الحكماء أنّ للحوادث الزمانيّة من الصور والأعراض إمكاناً قبلَ وجودِها منطبقاً على حيثيّة القبول التي تسمّيه العامّة قوّةً ، سمّوا الوجود الذي للشيء في الإمكان «قوّةً» ، كما سمّوا مبدأ الفعل «قوّةً» ، فأطلقوا القوّة على العِلَل الفاعليّة وقالوا : «القوى الطبيعيّة والقوى النفسانيّة».

وسمّوا الوجود الذي يقابله ـ وهو الوجود المترتّب عليه الآثار المطلوبة منه ـ «وجوداً بالفعل». فقسموا الموجود المطلق إلى ما وجوده بالفعل وما وجوده بالقوّة.

والقسمان هما المبحوث عنهما في هذه المرحلة ، وفيها أربعة عشر فصلا.

الفصل الأوّل

كلّ حادث زمانيّ فإنّه مسبوقٌ بقوّة الوجود

وذلك لأنّه قبلَ تحقُّقِ وجوده يجب أن يكون ممكنَ الوجود جائزاً أن يتّصف بالوجود وأن لا يتّصف ، إذ لو لم يكن ممكناً قبلَ حدوثه لكان إمّا ممتنعاً فاستحال تحقُّقُه وقد فُرِضَ حادثاً زمانيّاً ، وهذا خلفٌ ، وإمّا واجباً فكان موجوداً واستحال عدمه لكنّه ربّما تخلّف ولم يوجد.

وهذا الإمكان أمرٌ موجودٌ في الخارج وليس اعتباراً عقليّاً لاحقاً بماهيّة الشيء الممكن ، لأنّه يتّصف بالشدّة والضعف والقُرب والبُعد. فالنطفة التي فيها إمكان أن يصير إنساناً ـ مثلا ـ أقربُ إلى الإنسان الممكن من الغذاء الذي يمكن أن يتبدّل نطفةً ثمّ يصير إنساناً ، والإمكان في النطفة أيضاً أشدّ منه في الغذاء مثلا.

ثمّ إنّ هذا الإمكان الموجود في الخارج ليس جوهراً قائماً بذاته ، وهو ظاهرٌ ، بل هو عرضٌ قائمٌ بموضوع يحمله؛ فلنُسمّه : «قوّةً» ، ولنُسمّ الموضوعَ الذي يحمله : «مادّةً» ؛ فإذن لكلِّ حادث زمانيٍّ مادّةٌ سابقةٌ عليه تحمل قوّةَ وجودِهِ.

ويجب أن تكون المادّةُ غيرَ ممتنعة عن الاتّحاد بالفعليّة التي تحمل إمكانها ، وإلاّ لم تحمل إمكانها ، فهي في ذاتها قوّة الفعليّة التي تحمل إمكانها ، إذ لو كانت ذات فعليّة في

٢٥٠

نفسها لامتنعت عن قبول فعليّة اُخرى ، بل هي جوهرٌ فعليّةٌ وجودُه أنّه قوّة الأشياء ، لكنّها لكونها جوهراً بالقوّة قائمةً بفعليّة اُخرى إذا حدث الممكن ـ وهو الفعليّة التي حملَت المادّةُ إمكانَها ـ بطلَتْ الفعليّة السابقة وقامَت الفعليّة اللاحقة مقامَها ، كمادّة الماء ـ مثلا ـ تحمِل قوّةَ الهواء وهي قائمةٌ بعدُ بالصورة المائيّة حتّى إذا تبدّل هواءً بطلَت الصورة المائيّة وقامَت الصورة الهوائيّة مقامَها وتقوّمَتْ المادّةُ بها.

ومادّه الفعليّة الجديدة الحادثة والفعليّة السابقة الزائلة واحدةٌ ، وإلاّ كانت المادّةُ حادثةً بحدوث الفعليّة الحادثة ، فاستلزمت إمكاناً آخر ومادّةً اُخرى وننقل الكلام إليهما ، فكانت لحادث واحد إمكاناتٌ وموادُّ غير متناهية ، وهو محال.

ونظير الإشكال لازِمٌ لو فُرِضَ للمادّة حدوث زمانيّ.

وقد تبيّن بما تقدّم :

أوّلا : أنّ النسبة بين المادّة والقوّة التي تحمِلها نسبةَ الجسم الطبيعيّ والجسم التعليميّ ، فقوّة الشيء الخاصّ تَعَيَّن قوّة المادّة المبهمة.

وثانياً : أنّ حدوث الحوادث الزمانيّة لا ينفكّ عن تغيّر في الصور إن كانت جواهر ، وفي الأحوال إن كانت أعراضاً.

وثالثاً : أنّ القوّة تقوم دائماً بفعليّة والمادّة تقوم دائماً بصورة تحفظها.

فإذا حدثَتْ صورةً بعد صورة قامَت الصورة الحديثة مقامَ القديمة وقُوِّمَت المادّة.

الفصل الثاني

في استيناف القول في معنى وجود الشيء بالقوّة

ووجوده بالفعل وانقسام الوجود إليهما

إنّ ما بين أيدينا من الأنواع الجوهريّة يقبل أن يتغيّر فيصير غير ما كان أوّلا ، كالجوهر غير النامي يمكن أن يتبدّل إلى الجوهر النامي ، والجوهر النامي يمكن أن يتبدّل فيصير حيواناً ، وذلك مع تعيُّنِ القابل والمقبول. ولازِمُ ذلك أن تكون بينهما

٢٥١

نسبةٌ موجودةٌ ثابتةٌ.

على أنّا نجد هذه النسبة مختلفةً بالقُرب والبُعد ، والشدّة والضعف ، فالنطفة أقرب إلى الحيوان من الغذاء ، وإن كانا مشتركين في إمكان أن يصيرا حيواناً.

والقُرب والبُعد والشدّة والضعف أوصافٌ وجوديّةٌ لا يتّصف بها إلاّ موجود ، فالنسبة المذكورة موجودةٌ لا محالة.

وكلّ نسبة موجودة فإنّها تستدعي وجودَ طرفَيْها في ظرف وجودها ، لضرورة قيامها بهما وعدم خروج وجودها من وجودهما وكون أحد طرفَيِ النسبة للآخر.

وقد تقدّم بيان ذلك كلّه في مرحلة انقسام الوجود إلى ما في نفسه وما في غيره(1) .

وإذ كان المقبول بوجوده الخارجيّ ـ الذي هو منشأٌ لترتُّبِ آثاره عليه ـ غيرَ موجود عند القابل ، فهو موجودٌ عنده بوجود ضعيف لا يترتّب عليه جميع آثاره.

وإذ كان كلٌّ من وجودَيْه الضعيف والشديد هو هو بعينه فهما واحد.

فللمقبول وجودٌ واحدٌ ذو مرتبتَيْن : مرتبةٌ ضعيفةٌ لا يترتّب عليه جميع آثاره ، ومرتبةٌ شديدةٌ بخلافها.

ولنُسمّ المرتبةَ الضعيفةَ : «وجوداً بالقوّة» ، والمرتبةَ القويّةَ : «وجوداً بالفعل».

ثمّ إنّ المقبول بوجوده بالقوّة معه بوجوده بالفعل موجودٌ متّصلٌ واحدٌ ، وإلاّ بطلت النسبة ، وقد فرضت ثابتة موجودة ، وهذا خلفٌ.

وكذا المقبول بوجوده بالقوّة مع القابل موجودان بوجود واحد ، وإلاّ لم يكن أحد الطرفين موجوداً للآخر فبطلت النسبة ، وهذا خلفٌ. فوجود القابل ووجود المقبول بالقوّة ووجوده بالفعل جميعاً وجودٌ واحدٌ ذو مراتب مختلفة يرجع فيه ما به الاختلاف إلى ما به الاتّفاق ، وذاك من التشكيك.

هذا فيما إذا فرضنا قابلا واحداً مع مقبول واحد. وأمّا لو فرضنا سلسلة من القوابل والمقبولات ذاهبةً من الطرفين متناهية أو غير متناهية في كلّ حلقة من حلقاتها إمكان الفعليّة التالية لها وفعليّة الإمكان السابق عليها على ما عليه سلسلة الحوادث في الخارج ، كان لجميع الحدود وجودٌ واحدٌ مستمرٌّ باستمرار السلسلة

__________________

(1) راجع الفصل الثالث من المرحلة الثانية.

٢٥٢

ذو مراتب مختلفة. وكان إذا قسم هذا الوجود الواحد على قسمين كان في القسم السابق قوّةُ القسم اللاحق ، وفي القسم اللاحق فعليّةُ القسم السابق.

ثمّ إذا قسم القسم السابق مثلا على قسمين كان في سابقهما قوّة اللاحق وفي لاحقهما فعليّةُ السابق.

وكلّما أمعن في التقسيم وجزّىء ذلك الوجود الواحد المستمرّ ، كان الأمر على هذه الوتيرة ، فالقوّة والفعل فيه ممزوجان مختلطان.

فكلٌّ حدٍّ من حدود هذا الوجود الواحد المستمرّ كمالٌ بالنسبة إلى الحدّ السابق ، ونقصٌ وقوّةٌ بالنسبة إلى الحدّ اللاحق ، حتّى ينتهي إلى كمال لا نقصَ معه ، أي فعليَّةٌ لا قوّةَ معها ، كما ابتدىء من قوّة لا فعليّةَ معها.

فينطبق عليه حدّ الحركة ، وهو : أنّها كمالٌ أوّلُ لما بالقوّة من حيث إنّه بالقوّة.

فهذا الوجود الواحد المستمّر وجود تدريجيّ سيّال يجري على المادّة الحاملة للقوّة والمختلفات هي حدود الحركة وصور المادّة.

هذا كلّه في الجواهر النوعيّة.

والكلام في الأعراض نظيرُ ما تقدّم في الجواهر ، وسيجيء تفصيل الكلام فيها(1) .

فقد تبيّن ممّا تقدّم أنّ قوّة الشيء هي ثبوتٌ مّا له لا يترتّب عليه بحسبه جميع آثار وجوده الفعليّ؛ وأنّ الوجود ينقسم إلى ما بالفعل وما بالقوّة؛ وأنّه ينقسم إلى ثابت وسيّال.

وتبيّن أنّ ما لوجوده قوّةٌ فوجوده سيّالٌ تدريجيٌّ وهناك حركة ، وأنّ ما ليس وجوده سيّالا تدريجيّاً ـ أي كان ثابتاً ـ فليس لوجوده قوّةٌ ـ أي لا مادّة له ـ ؛ وأنّ ما له حركة فله مادّة؛ وأنّ ما لا مادّةَ له فلا حركة له؛ وأنّ للأعراض بما أنّ وجوداتها لموضوعاتها حركةٌ بتبع حركة موضوعاتها على ما سيأتي من التفصيل(2) .

__________________

(1) راجع الفصل السادس والفصل السابع والفصل الثامن من هذه المرحلة.

(2) راجع الأمر الثاني من الاُمور المذكورة في الفصل الثامن من هذه المرحلة.

٢٥٣

الفصل الثالث

في زيادة توضيح لحدّ الحركة وما تتوقّف عليه

قد تقدّم(1) أنّ الحركة نحوُ وجود يخرج به الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجاً ، أي بحيث لا تجتمع الأجزاء المفروضة لوجوده.

وبعبارة اُخرى يكون كلُّ حدٍّ من حدود وجوده فعليّةً للجزء السابق المفروض وقوّةً للجزء اللاحق المفروض ، فالحركة خروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجاً(2) .

وحَدَّهاالمعلّم الأوّل بـ «أنّها كمالٌ أوّلُ لما بالقوّة من حيث إنّه بالقوّة»(3) . وتوضيحه : أنّ الجسم المتمكّن في مكان ـ مثلا ـ إذا قَصَدَ التمكّن في مكان آخر تُرَكَ المكان الأوّل بالشروع في السلوك إلى المكان الثاني حتّى يتمكّن فيه؛ فللجسم ـ وهو في المكان الأوّل ـ ، كمالان هو(4) بالنسبة إليهما بالقوّة؛ وهما السلوك الذي هو كمالٌ أوّلُ والتمكّن في المكان الثاني الذي هو كمالٌ ثان؛ فالحركة ـ وهي السلوك ـ كمالٌ أوّلُ للجسم الذي هو بالقوّة بالنسبة إلى الكمالين ، لكن لا مطلقاً ، بل من حيث إنّه بالقوّة بالنسبة إلى الكمال الثاني ، لأنّ السلوك متعلّقُ الوجود به.

وقد تبيّن بذلك أنّ الحركة متعلّقةُ الوجود بأُمور ستّة : (الأوّل) المبدأ ، وهو الذي منه الحركة. و (الثاني) المنتهى ، وهو الذي إليه الحركة ، فالحركة تنتهي من

__________________

(1) في الفصل السابق.

(2) والتدريج معنى بديهيٌّ بإعانة الحس عليه. والتعريف ليس بحدٍّ حقيقيِّ ، لأنّ الحد للماهيّة ، والحركة نحو وجود ، والوجود لا ماهية له ـ منه (رحمه الله) ـ.

(3) نَسَبه إليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ، وصدر المتألّهين في الأسفار. ونسَبه العلاّمة إلى الحكماء ، ثمّ نسب القول بـ «أنّ الحركة هي حصول الجسم في مكان بعد آخر» إلى المتكلّمين ، فراجع كشف المراد ص 261 ـ 262. وفي المقام أقوال اُخر مذكورة في المطوّلات ، فراجع الأسفار ج 3 ص 24 ـ 31 ، والمباحث المشرقيّة ج 1 ص 549 ، والفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، وشرح المنظومة ص 238 ـ 239.

(4) أي الجسم.

٢٥٤

جانب إلى قوّة لا فعلَ معها تحقيقاً أو إعتباراً ، ومن جانب إلى فعل لا قوّةَ معها تحقيقاً أو إعتباراً على ما سيتبيّن إن شاء الله(1) . و (الثالث) المسافة التي فيها الحركة ، وهي المقولة. و (الرابع) الموضوع الذي له الحركة ، وهو المتحرك. و (الخامس) الفاعل الذي به الحركة ، وهو المحرك. و (السادس) المقدار الذي تتقدر به الحركة ، وهو الزمان.

الفصل الرابع

في إنقسام التغيّر

قد عرفت(2) أنّ خروجَ الشيء من القوّة إلى الفعل لا يخلو من تغيّر ، إمّا في ذاته ، أو في أحوال ذاته.

وإن شئت فقل : إمّا في ذاتيِّهِ كما في تحوّل نوع جوهريّ إلى نوع آخر جوهريّ ، أو في عرضيِّهِ كتغيّر الشيء في أحواله العرضيّة.

ثمّ التغيّر إمّا تدريجيٌّ وإمّا دفعيٌّ بخلافه.

والتغيّر التدريجيّ ـ ولازمه إمكان الإنقسام إلى أجزاء لا قرارَ لها ولا اجتماعَ في الوجود ـ هي الحركة.

والتغيّر الدفعيّ ـ بما أنّه يحتاج إلى موضوع يقبل التغيّر وقوّة سابقة على حدوث التغيّر ـ لا يتحقّق إلاّ بحركة ، لما عرفت(3) أنّ الخروج من القوّة إلى الفعل كيفما فرض لا يتمّ إلاّ بحركة؛ غير أنّه لمّا كان تغيّراً دفعيّاً كان من المعاني المنطبقة على أجزاء الحركة الآنيّة كالوصول والترك والاتّصال والانفصال. فالتغيّر كيفما فرض لا يتمّ إلاّ بحركة.

ثمّ الحركة تعتبر تارةً بمعنى كون الشيء المتحرّك بين المبدأ والمنتهى بحيث كلُّ حدٍّ من حدود المسافة فُرِضَ ، فهو ليس قبله وبعده فيه ، وهي حالة بسيطة ثابتة غير منقسمة ، وتسمّى : «الحركة التوسّطية». وتعتبر تارةً بمعنى كون الشيء بين المبدأ والمنتهى بحيث له نسبةٌ إلى حدود المسافة المفروضة التي كلُّ واحد منها

__________________

(1) راجع الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(2) في الفصل الثاني من هذه المرحلة.

(3) في الفصل السابق.

٢٥٥

فعليّةٌ للقوّه السابقة وقوّةٌ للفعليّة اللاحقة ، من حدّ يتركه ومن حدّ يستقبله ، ولازِمُ ذلك الإنقسام إلى الأجزاء والانصرام والتقضّي تدريجاً وعدم اجتماع الأجزاء في الوجود ، وتسمّى : «الحركة القطعيّة».

والإعتباران جميعاً موجودان في الخارج لانطباقهما عليه ، بمعنى أنّ للحركة نسبةً إلى المبدأ والمنتهى ، لا يقتضى ذلك انقساماً ولا سيلاناً ونسبةً إلى المبدأ والمنتهى ، وحدود المسافة تقتضي سيلان الوجود والانقسام.

وأمّا ما يأخذه الخيالُ من صورة الحركة بأخْذِ الحدّ بعدَ الحدّ منها وجمعها صورةً متّصلةً مجتمعةَ الأجزاء ، فهو أمرٌ ذهنيٌّ غير موجود في الخارج ، لعدم جواز اجتماع أجزاء الحركة لو فرضت لها أجزاء ، وإلاّ كانت ثابتةً لا سيّالة ، هذا خلْفٌ.

الفصل الخامس

في مبدأ الحركة ومنتهاها

قد تقدّم(1) أنّ للحركة انقساماً بذاتها ، فليعلم أنّ انقسامها انقسامٌ بالقوّة لا بالفعل ، كما في الكمّ المتّصل القارّ من الخط والسطح والجسم التعليميّ ، إذ لو كانت منقسمةً بالفعل فانفصلَت الأجزاء بعضها من بعض ، انتهَت القسمة إلى أجزاء دفعيّة الوقوع ، وبطلَت الحركة.

وأيضاً لا يقف ما فيها من الانقسام على حدٍّ لا يتجاوزه ، ولو وقف على حدٍّ لا تتعدّاه القسمةُ كانت مؤلَّفةً من أجزاء لا تتجزّى ، وقد تقدّم بطلانها(2) .

ومن هنا يظهر أنّ لا مبدأ ولا منتهى للحركة بمعنى الجزء الأوّل الذي لا ينقسم من جهة الحركة والجزء الآخر الذي لا ينقسم كذلك ، لما تبيّن أنّ الجزء بهذا المعنى دفعيُّ الوقوع ، فلا ينطبق عليه حدّ الحركة التي هي سَيَلان الوجود وتدرُّجُه.

وأمّا ما تقدّم ـ من أنّ الحركة تنتهي من الجانبين إلى مبدأ ومنتهى(3) ـ فهو

__________________

(1) في الفصل السابق.

(2) في الفصل الرابع من المرحلة السادسة.

(3) راجع الفصل الثالث من هذه المرحلة.

٢٥٦

تحديدٌ لها بالخارج من نفسها.

فتنتهي حركة الجوهر من جانب البدء إلى قوّة لا فعلَ معها إلاّ فعليّةَ أنّها قوّةٌ لا فعلَ معها ، وهو «المادّة الاُولى» ، ومن جانب الختم إلى فعل لا قوّةَ معها ، وهو «التجرّد» ، وسنزيد هذا توضيحاً إن شاء الله(1) .

وتنتهي الحركات العرضيّة من جانب البدء إلى مادّة الموضوع ، وهي التي تقبل الحركة؛ ومن جانب الختم في الحركة الطبيعيّة إلى ما تقتضيه الطبيعة من السكون. وفي الحركة القسريّة إلى هيأة ينفد عندها أثر القسر. وفي الحركة الإراديّة إلى ما يراه المتحرّك كمالا لنفسه يجب أن يستقرّ فيه.

الفصل السادس

في المسافة

وهي المقولة التي تقع فيها الحركة ، كحركة الجسم في كمّه بالنموّ ، وفي كيفه بالاستحالة.

من الضروريّ أنّ الذاتيّ لا يتغيّر ، والمقولات التي هي أجناس عالية لما دونها من الماهيّات ذاتيّاتٌ لها ، والحركة تُغَيِّر المتحرّكَ في المعنى الذي يتحرّك فيه. فلو كانت الحركة الواقعة في الكيف ـ مثلا ـ تغيّراً من المتحرّك في ماهيّة الكيف كان ذلك تغيُّراً في الذاتيّ ، وهو محالٌ.

فلا حركة في مقولة بمعنى التغيُّر في وجودها الذي في نفسها الذي يطرد العدم عنها ، لأنّ وجود الماهيّة في نفسها هي نفسها.

فإن كانت في مقولة من المقولات حركةٌ وتغيَّر فهو في وجودها الناعت من حيث إنّه ناعت ، فإنّ الشيء له ماهيّة باعتبار وجوده في نفسه. وأمّا باعتبار وجوده الناعت لغيره كما في الأعراض أو لنفسه كما في الجوهر ، فلا ماهيّة له ، فلا محذور في وقوع الحركة في مقولة.

__________________

(1) في الفصل التاسع من هذه المرحلة.

٢٥٧

فالجسم الذي يتحرّك في كمّه أو كيفه ـ مثلا ـ لا تغيُّرَ في ماهيّته ولا تغيُّرَ في ماهيّة الكم أو الكيف اللذين يتحرّك فيهما. وإنّما التغير في المتكمّم أو المتكيّف اللذَيْن يجريان عليه.

وهذا معنى قولهم : «التشكيك في العرضيّات دون الأعراض»(1) .

ثمّ إنّ الوجود الناعت وإن كان لا ماهيّة له ، لكنّه لاتّحاده مع الوجود في نفسه يُنسب إليه ما للوجود في نفسه من الماهيّة ، ولازِمُ ذلك أن يكون معنى الحركة في مقولة أن يرد على المتحرّك في كلِّ آن من آنات حركته نوعٌ من أنواع تلك المقولة من دون أن يلبث نوع من أنواعها عليه أكثر من آن واحد ، وإلاّ كان تغيُّراً في الماهيّة ، وهو محالٌ.

الفصل السابع

في المقولات التي تقع فيها الحركة

المشهور بين قدماء الحكماء(2) أنّ المقولات التي تقع فيها الحركة أربع : الكيف والكم والأين والوضع.

أمّا الكيف ، فوقوع الحركة فيه في الجملة ، وخاصّة في الكيفيّات المختصّة

__________________

(1) هذا القول منسوبٌ إلى المشائين ، راجع الأسفار ج 1 ص 427 ـ 432 ، وتعليفات المصنّف (قدس سره) والحكيم السبزواري عليه. وحاصله أنّه ليس التفاوت في نفس ذات طبيعة مبهمة بذاتها ، جوهراً كانت أو عرضاً ، بل التفاوت في العرضيّ المحمول عليها ، فالتفاوت في العرضيّ كالأسود لا في نفس ذات العرض كالسواد.

وقال المصنّف (قدس سره) في تعليفته على الأسفار ج 1 ص 427 : «والحقّ أنّ الفرق بين العرض والعرضيّ في ذلك مع اشتمالهما جميعاً على مفهوم غير مختلف في حدّ مفهوميّته مستصعب جدّاً».

(2) راجع الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، والنجاة ص 107 ، والمباحث المشرقيّة ج 1 ص 569 ـ 582 ، وشرح المقاصد ج 1 ص 261 ـ 264 ، وكشف المراد ص 265 ، وشرح المواقف ص 328.

٢٥٨

بالكميّات نظير الاستقامة والاستواء والاعوجاج ، ظاهرٌ ، فإنّ الجسم المتحرّك في كمّه يتحرّك في الكيفيّات القائمة بكمّه ألبتّةَ.

وأمّا الكم ، فالحركة فيه تغيُّرُ الجسم في كمّه تغيّراً متّصلا منتظماً متدرّجاً ، كالنموّ الذي هو زيادة الجسم في حجمه زيادةً متّصلةً بنسبة منتظمةً تدريجاً.

وقد اعتُرِض عليه (1) : أنّ النموّ إنمّا يتحقّق بانضمام أجزاء من خارج إلى أجزاء الجسم. فالحجم الكبير اللاحق كمٌّ عارضٌ لمجموع الأجزاء الأصليّة والمنضمّة ، والحجم الصغير السابق هو الكمّ العارض لنفس الأجزاء الأصليّة ، والكمّان متباينان غير متّصلَيْن لتبايُنِ موضوعَيْهما. فالنموّ زوالٌ لكمٍّ وحدوثٌ لكمٍّ آخر ، لا حركةٌ.

واُجيب عنه (2) : بأنّ انضمام الضمائم لا شكّ فيه ، لكنّ الطبيعة تبدِّل الأجزاءَ المنضمّة إلى صورة الأجزاء الأصليّة ، وتزيد به كميّة الأجزاء الأصليّة زيادةً متّصلةً منتظمةً متدرّجةً ، وهي الحركة كما هو ظاهرٌ.

وأمّا الأين ، فوقوع الحركة فيه ظاهرٌ ، كما في انتقالات الأجسام من مكان إلى مكان ، لكنّ كون الأين مقولةً مستقلّةً في نفسها لا يخلو من شكّ.

وأمّا الوضع ، فوقوع الحركة فيه أيضاً ظاهرٌ ، كحركة الكرة على محورها ، فإنّ وضْعَها يتبدّل بتبدُّل نِسَبِ النقاط المفروضة على سطحها إلى الخارج عنها تبدّلا متّصلا تدريجيّاً.

قالوا(3) : «ولا تقع في سائر المقولات ـ وهي الفعل والانفعال والمتى

__________________

(1) والمعترض الشيخ الإشراقيّ ومتابعوه ، كما في الأسفار ج 3 ص 89. وتعرّض له وللإجابة عليه أيضاً المحقّق الآملي في درر الفوائد ص 211 ـ 212.

(2) راجع الأسفار ج 3 ص 88 ـ 93 ، ودرر الفوائد ص 212.

(3) والقائل أكثر من تقدَّمَ على صدر المتألّهين؛ فراجع الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعات الشفاء ، والمباحث المشرقيّة ج 1 ص 593 ـ 594 ، وشرح المقاصد ج 1 ص 265 ـ 266 ، والنجاة ص 106 ـ 107 ، وكشف المراد ص 265 ـ 266.

٢٥٩

والإضافة والجدة والجوهر ـ حركةٌ.

أمّاالفعل والانفعال ، فقد اُخِذ في مفهومَيْهما التدريج ، فلا فرد آنيُّ الوجود لهما ، ووقوع الحركة فيهما يستدعي الانقسام إلى أجزاء آنيّةِ الوجود ، وليس لهما ذلك.

على أنّه يستلزم الحركة في الحركة.

وكذا الكلام في المتى ، فإنّه لمّا كان هيأةً حاصلةً من نسبة الشيء إلى الزمان وهي تدريجيّة بتدّرج الزمان فلا فردٌ آنيُّ الوجود له حتّى تقع فيه الحركة المنقسمة إلى الآنيّات.

وأمّا الإضافة ، فإنّها إنتزاعيّةٌ تابعةٌ لطرفَيْها ، لا تستقلّ بشيء كالحركة.

وكذا الجدة ، فإنّ التغيّر فيها تابعٌ لتغيُّرِ موضوعها ، كتغيُّر النعل أو القدم في التنعّل ـ مثلا ـ عمّا كانتا عليه.

وأمّا الجوهر ، فوقوع الحركة فيه يستلزم تحقُّقَ الحركة من غير موضوع ثابت باق ما دامت الحركة ، ولازِمُ ذلك تحقُّقُ حركة من غير متحرِّك».

ويمكنالمناقشة فيما أوردوه من الوجوه.

أمّا فيما ذكروه في الفعل والانفعال والمتى ، فبجواز وقوع الحركة في الحركه على ما سنبيّنه إن شاء الله(1) .

وأمّا الإضافة والجدة ، فإنّهما مقولتان نسبيّتان كالوضع ، وكونهما تابَعيْن لأطرافهما في الحركة لا ينافي وقوعَها فيهما حقيقةً ، والاتّصاف بالتبع غير الاتّصاف بالعرض.

وأمّا ما ذكروه في الجوهر ، فانتفاء الموضوع في الحركة الجوهريّة ممنوعٌ ، بل الموضوع هو المادّة ، على ما تقدّم بيانه(2) ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله(3) .

__________________

(1) في الفصل الآتي.

(2) راجع الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(3) في الفصل الآتي.

٢٦٠