نهاية الحكمة

نهاية الحكمة0%

نهاية الحكمة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الفلسفة والعرفان
الصفحات: 437

نهاية الحكمة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف:

الصفحات: 437
المشاهدات: 168598
تحميل: 6730

توضيحات:

نهاية الحكمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168598 / تحميل: 6730
الحجم الحجم الحجم
نهاية الحكمة

نهاية الحكمة

مؤلف:
العربية

الفصل الثامن

في تنقيح القول بوقوع الحركة في مقولة والإشارة

الى ما يتفرّع عليه من اُصول المسائل

القول بانحصار الحركة في المقولات الأربع العرضيّة وإن كان هو المعروف المنقول عن القدماء ، لكنّ المحكيّ من كلماتهم لا يخلو عن الإشارة إلى وقوع الحركة في مقولة الجوهر ، غير أنّهم لم ينصّوا عليه(1) .

وأوّل من ذهب إليه وأشبع الكلام في إثباته صدر المتألّهين (رحمه الله)(2) ، وهو الحقّ ، كما أقمنا عليه البرهان في الفصل الثاني(3) . وقد احتجّ (رحمه الله) ، على ما اختاره بوجوه مختلفة(4) . من أوْضَحِها(5) أنّ الحركات العرضيّة بوجودها سيّالةٌ متغيّرةٌ ، وهي معلولة للطبائع والصور النوعيّة التي لموضوعاتها ، وعلّة المتغيّر يجب أن تكون متغيّرة ، وإلاّ لزم تخلّف المعلول بتغيّره عن علّته ، وهو محالٌ.

فالطبائع والصور الجوهريّة التي هي الأسباب القريبة للأعراض اللاحقة التي فيها الحركة متغيّرةٌ في وجودها متجدّدةٌ في جوهرها ، وإن كانت ثابتةً بماهيّتها قارّةً في ذاتها ، لأنّ الذاتيّ لا يتغيّر.

وأمّا ما وجّهوا به (6) ما يعتري هذه الأعراض من التغيّر والتجدّد مع ثبات

__________________

(1) منها ما حكى الشيخ الرئيس عن بعض الحكماء ـ من أنّ الجوهر أيضاً منه قارٌّ ومنه سيّال ـ ، راجع الفصل الثاني من المقالة الثانية من الفنّ الأوّل من طبيعيات الشفاء. ومنها كلمات الشيخ الرئيس في التعليقات على ما حكى عنه صدر المتألّهين في الأسفار ج 3 ص 118 ـ 120.

(2) وتبعه الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 246.

(3) راجع الفصل الثاني من هذه المرحلة.

(4) راجع الأسفار ج 3 ص 61 ـ 67 وص 101 ـ 105.

(5) هذا أوّل البراهين التي أقامها علىوجود الحركة في الجوهر ، راجع الأسفار ج 3 ص 61 ـ 63.

(6) كذا وجّهوا به الحكماء ، كالشيخ الرئيس وغيره على ما في الأسفار ج 3 ص 65.

٢٦١

العلّة التي هي الطبيعة أو غيرها بأنّ تغيُّرها وتجدُدها لسوانح تنضمّ إليها من خارج كحصول مراتب البُعد والقُرب من الغاية في الحركات الطبيعيّة ومصادفة موانع ومعدّات قويّة وضعيفة في الحركات القسريّة وتجدّد إرادات جزئيّة سانحة عند كلّ حدّ من حدود المسافة في الحركات الإراديّة.

ففيه (1) : أنّا ننقل الكلام إلى تجدّد هذه الاُمور الموجبة لتغيّر الحركة من أين حصل؟ فلابدّ أن ينتهي إلى ما هو متجدّدٌ بالذات.

فإن قيل (2) : إنّا نوجّه صدور الحركة المتجدّدة عن العلّة الثابتة بعين ما وجّهتم به ذلك ، من غير حاجة إلى جَعْلِ الطبيعة متجدّدةً بالذات ، فالحركة متجدّدةٌ بالذات ، ولا ضَيْرَ في صدور المتجدّد عن الثابت إذا كان التجدّد ذاتيّاً له.

فإيجاد ذاته عين إيجاد تجدّده كما اعترفتم به.

قيل (3) : التجدّد الذي في الحركة العرضيّة ليس تجدُّد نفسِ الحركه ، فإنّ المقولة العرضيّة ليس وجودها في نفسها لنفسها حتّى يكون منعوتاً بنفسها ، فتكون متجدّدةً كما كانت تجدّداً.

وإنّما وجودها لغيرها الذي هو الموضوع الجوهريّ.

فحركة الجسم ـ مثلا ـ في لونه تغيُّرهُ وتجدُّدُه في لونه الذي هو له ، لا تجدُّدُ لونِهِ.

وهذا بخلاف الجوهر ، فإنّ وجوده في نفسه هو لنفسه ، فهو تجدُّدٌ ومتجدّدٌ بذاته ، فإيجاد هذا الجوهر إيجاد بعينه للمتجدّد وإيجاد المتجدّد إيجادٌ لهذا الجوهر ، لا إيجادُ جوهر ، ليصير متجدّداً ، فافهم.

حجّةٌ اُخرى (4) : الأعراض من مراتب وجود الجواهر ، لما تقدّم(5) أنّ وجودها

__________________

(1) كما في الأسفار ج 3 ص 65 ، والشواهد الربوبيّة ص 85 ، وشرح المنظومة ص 250.

(2) هذا الإيراد تعرّض له الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 250 ، وتعليقاته على الأسفار ج 3 ص 67.

(3) والقائل الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 250 ، وتعليقاته على الأسفار ج 3 ص 67.

(4) هذه الحجّة ذكرها صدر المتألّهين في الأسفار ، وسمّاها بالبرهان المشرقيّ ، فراجع الأسفار ج 3 ص 103 ـ 104.

(5) راجع الفصل الثالث من المرحلة الخامسة ، والفصل السابع من المرحلة السادسة.

٢٦٢

في نفسها عين وجودها لموضوعاتها ، فتغيُّرها وتجدُّدها لا يتمّ إلاّ مع تغيُّر موضوعاتها الجوهريّة وتجدُّدها ، فالحركات العرضيّة دليلُ حركةِ الجوهر.

ويتبيّن بما تقدّم عدّة اُمور :

الأول : أنّ الصور الجوهريّة المتبدّلة المتواردة على المادّة واحدةً بعدَ واحدة في الحقيقة صورةٌ جوهريّةٌ واحدةٌ سيّالةٌ تجري على المادّة ، وموضوعها المادّة المحفوظة بصورة مّا ـ كما تقدّم في مرحلة الجواهر والأعراض(1) ـ ، ننتزع من كلِّ حدٍّ من حدودها مفهوماً مغايراً لما يُنتزع من حدٍّ آخر ، نسميّها «ماهيّةً نوعيّةً» تُغايِر سائر الماهيّات في آثارها.

والحركة على الإطلاق وإن كانت لا تخلو من شائبة التشكيك ، لِما أنّها خروجٌ من القوّة إلى الفعل وسلوكٌ من النقص إلى الكمال ، لكن في الجوهر مع ذلك حركةٌ إشتداديّةٌ اُخرى هي حركة المادّة الاُولى إلى الطبيعة ثمّ النبات ثمّ الحيوان ثمّ الإنسان ، ولكلٍّ من هذه الحركات آثار خاصّة تترتّب عليها حتّى تنتهي الحركة إلى فعليّة لا قوّةَ معها.

الثاني : أنّ للأعراض اللاحقة بالجواهر ـ أيّاً مّا كانت ـ حركةٌ بتَبَع الجواهر المعروضة لها ، إذ لا معنى لثبات الصفات مع تغيُّرِ الموضوعات وتجدُّدِها. على أنّ الأعراض اللازمة للوجود كلوازم الماهيّة مجعولةٌ بجعل موضوعاتها جَعْلا بسيطاً من غير أن يتخلّل جَعْلٌ بينها وبين موضوعاتها. هذا في الأعراض اللازمة التي نحسبها ثابتةً غيرَ متغيّرة؛ وأمّا الأعراض المفارقة التي تعرض موضوعاتها بالحركة ـ كما في الحركات الواقعة في المقولات الأربع : الأين والكم والكيف والوضع ـ فالوجه أن تعدّ حركتها من الحركة في الحركة ، وأن تسمّى : «حركات ثانية» ويسمّى القسم الأوّل «حركات أُولى».

والإشكال (2) في إمكان تحقُّقِ الحركة في الحركة بأنّ من الواجب في الحركة

__________________

(1) راجع الفصل السادس من المرحلة السادسة.

(2) والمستشكل بهمنيار في التحصيل ص 429. وتبعه صدر المتألّهين فى ـ الأسفار ج 3

٢٦٣

أن تنقسم بالقوّة إلى أجزاء آنيّة الوجود ، والمفروض في الحركة في الحركة أن تتألَّف من أجزاء تدريجيّة منقسمة ، فيمتنع أن تتألّف منها حركة.

على أنّ لازِمَ الحركة أن يكون ورود المتحرّك في كلِّ حدٍّ من حدودها إمعاناً فيه ، لا تركاً له ، فلا تتمّ حركة.

يدفعه : أنّ الذي نسلّمه أن تنقسم الحركة إلى أجزاء ينقطع به اتّصالها وامتدادها وأن ينتهي ذلك إلى أجزاء آنيّة ، وأمّا الانتهاء إليها بلا واسطة فلا.

فمن الجائز أن تنقسم الحركة إلى أجزاء آنيّة غير تدريجيّة من سنخها ، ثمّ تنقسم الأجزاء إلى أجزاء آنيّة أخيرة.

فانقسام الحركة وانتهاء انقسامها إلى أجزاء آنيّة ، كقيام العرض بالجوهر ، فربّما كان قيامه بلا واسطة ، وربّما كان مع الواسطة ومنتهياً إلى الجوهر بواسطة أو أكثر ، كقيام الخط بالسطح والسطح بالجسم التعليميّ والجسم التعليميّ بالجسم الطبيعيّ.

وأمّا حديث الإمعان في الحدود فإنّما يستدعي حدوثَ البطؤ في الحركة ، ومن الجائز أن يكون سبب البطؤ هو تركّب الحركة ، وسنشير إلى ذلك فيما سيأتي إن شاء الله(1) .

الثالث : أنّ المادّة الاُولى ـ بما أنّها قوّةٌ محضةٌ ـ لا فعليّةَ لها أصلا إلاّ فعليّة أنّها قوّةٌ محضةٌ ، فهي في أيّ فعليّة تعتريها تابعةٌ للصورة التي تقيمها ، فهي متميّزةٌ بتميّز الصورة التي تتّحد بها متشخّصةٌ بتشخّصها تابعةٌ لها في وحدتها وكثرتها. نعم لها وحدة مبهمة شبيهة بوحدة الماهيّة الجنسيّة.

فإذ كانت هي موضوع الحركة العامّة الجوهريّة ، فعالَم المادّة برمّتها حقيقة واحدة سيّالة متوجهة من مرحلة القوّة المحضة إلى فعليّة لا قوّةَ معها.

__________________

ص 76 ـ 79 ، وشرح الهداية الأثيريّة ص 110 ، وكذا الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة ص 246 ـ 247.

(1) راجع الفصل الثاني عشر من هذه المرحلة.

٢٦٤

الفصل التاسع

في موضوع الحركة

قد تبيّن أنّ الموضوع لهذه الحركات هو المادّة. هذا إجمالا.

أمّا تفصيله فهو : أنّك قد عرفت(1) أنّ في مورد الحركة مادّةً وصورةً وقوّةً وفعلا.

وقد عرفت في مباحث الماهيّة(2) أنّ الجنس والفصل هما المادّة والصورة لا بشرط ، وأنّ الماهيّات النوعيّه قد تترتّب متنازلةً إلى السافل من نوع عال ومتوسط وأخير ، وقد تندرج تحتَ جنس واحد قريب انواعٌ كثيرة إندراجاً عَرْضيّاً لا طوليّاً ، ولازِمُ ذلك أن يكون في القسم الأوّل من الأنواع الجوهريّة مادّةٌ اُولى متحصّلة بصورة اُولى ، ثمّ هما معاً مادّة ثانية لصورة ثانية ، ثمّ هما معاً مادّة ـ وتسمّى أيضاً ثانية ـ لصورة لاحقة ، وفي القسم الثاني مادّة لها صور متعدّدة متعاقبة عليها كلّما حلّت بها واحدة منها امتنعت من قبول صورة اُخرى.

فإذا رجعت هذه التنوّعات الجوهريّة الطوليّة والعرضيّة إلى الحركة ، ففي القسم الثاني كانت المادّة التي هي موضوع الحركة في بدئها هي الموضوع بعينه ما تعاقبت الصور إلى آخر الحركة ، سواء كانت هي المادّة الاُولى أو المادّة الثانية ، وكذلك الحكم في الحركات العرضيّة ـ بفتح الراء ـ.

وفي القسم الأوّل ـ وهو الحركة الطوليّة ـ المادّة الاُولى موضوعٌ للصورة الاُولى ، ثمّ هما معاً موضوعٌ للصورة الثانية ، لا بطريق الخَلْع واللُبْس كما في القسم الأوّل ، بل بطريق اللُبْس بعد اللُبْس.

ولازِمُ ذلك أن تكون الحركة إشتداديّة لا متشابهة ، وكون مادّة الصورة الاُولى معزولةً عن موضوعيّة الصورة الثانية ، بل الموضوع لها هو المادّة الاُولى والصورة الاُولى معاً ، والمادّة الاُولى من المقارنات.

والصورة الثانية في هذه المرتبة هي فعليّة النوع ولها الآثار المترتّبة ، إذ لا حكم إلاّ للفعليّة ، ولا فعليّة إلاّ واحدة ، وهي فعليّة الصورة الثانية.

__________________

(1) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(2) راجع الفصل الخامس من المرحلة الخامسة.

٢٦٥

وهذا معنى قولهم(1) : «إنّ الفصل الأخير جامعٌ لجميع كمالات الفصول السابقة ، ومنشأ لإنتزاعها ، وأنّه لو تجرّد عن المادّة وتقرّر وحده لم تبطل بذلك حقيقة النوع ، والأمر على هذا القياس في كلّ صورة لا حقة بعد صورة».

ومن هنا يظهر :

أوّلا : أنّ الحركة في القسم الثاني بسيطة.

وأمّا في القسم الأوّل فإنّها مركّبة ، لتغيُّر الموضوع في كلّ حدّ من الحدود ، غير أنّ تغيُّره ليس ببطلان الموضوع السابق وحدوث موضوع لاحق ، بل بطريق الاستكمال ، ففي كلِّ حدٍّ من الحدود تصير فعليّةُ الحدّو قوّةُ الحدّ اللاحق معاً قوّةً لفعليّة الحدّ اللاحق.

وثانياً : أنّ لا معنى للحركة النزوليّة بسلوك الموضوع من الشدّة إلى الضعف ومن الكمال إلى النقص ، لاستلزامها كون فعلية مّا قوّةً لقوّته كأن يتحرّك الإنسان من الإنسانيّة إلى الحيوانيّة ومن الحيوانيّة إلى النباتيّة ، وهكذا.

فما يتراءى منه الحركة التضعّفية حركةٌ بالعرض تَتْبِعُ حركةً اُخرى إشتداديّةً تزاحم الحركة النزوليّة المفروضة كالذُبول.

وثالثاً : أنّ الحركة ـ أيّاً مّا كانت ـ محدودةٌ بالبداية والنهاية ، فكلّ حدٍّ من حدودها ينتهي من الجانبين إلى قوّة لا فعليّةَ معها وإلى فعل لا قوّةَ معه ، وحكم المجموع أيضاً حكم الأبعاض. وهذا لا ينافي ما تقدّم(2) أنّ الحركة لا أوّل لها ولا آخر ، فإنّ المراد به أن تبتدىء بجزء لا ينقسم بالفعل وأن تختم بذلك.

فالجزء بهذا المعنى لا يخرج من القوّة إلى الفعل أبداً ، ولا الماهيّة النوعيّة المنتزعة من هذا الحدّ تخرج من القوّة إلى الفعل أبداً.

الفصل العاشر

في فاعل الحركة وهو المحرّك

ليعلم أنّ الحركة كيفما فرضت فالمحرّك فيها غير المتحرّك.

__________________

(1) راجع الأسفار ج 2 ص 35 ، والفصل السادس من المرحلة الخامسة من المتن.

(2) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

٢٦٦

فإن كانت الحركة جوهريّةً والحركة في ذات الشيء وهو المتحرّك بالحقيقة ـ كما تقدّم(1) ـ كان فَرْضُ كون المتحرّك هو المحرّك فَرْضَ كون الشيء فاعلا موجِداً لنفسه ، واستحالته ضروريّة. فالفاعل الموجِد للحركة هو الفاعل الموجِد للمتحرّك ، وهو جوهرٌ مفارقٌ للمادّة ، يوِجد الصورةَ الجوهريّة ، ويقيم بها المادّة ، والصورة شريكة الفاعل على ما تقدّم(2) .

وإن كانت الحركة عرضيّةً وكان العرض لازماً للوجود ، فالفاعل الموجِد للحركة فاعلُ الموضوع المتحرّك بعين جَعْلِ الموضوع ، من غير تخلُّلِ جَعْل آخر بين الموضوع وبين الحركة ، إذ لو تخلّل الجعل وكان المتحرّك ـ وهو ماديٌّ ـ فاعلا في نفسه للحركة ، كان فاعلا من غير توسُّطِ المادّة. وقد تقدّم في مباحث العلّة والمعلول(3) أنّ العلل المادّيّة لا تفعِل إلاّ بتوسّط المادّة وتخلُّلِ الوضع بينها وبين معلولاتها ، فهي إنّما تفعِل في الخارج من نفسها.

ففاعلُ لازِم الوجود فاعلُ ملزومه ، وهو جوهرٌ مفارق للمادّة جَعَلَ الصورةَ ولازِمَ وجودها جعلا واحداً وأقام بها المادّة.

وإن كانت الحركة عرضيّةً والعرض مفارقاً ، كان الفاعل القريب للحركة هو الطبيعة ، بناءً على انتساب الأفعال الحادثة عند كلِّ نوع جوهرىٍّ إلى طبيعة ذلك النوع.

وتفصيل القول أنّ الموضوع إمّا أن يفعل أفعالَه على وَتَيرَة واحدة أو لا على وَتْيرَة واحدة. والأوّل هو الطبيعة المعرَّفة بأنّها مبدأ حركة ما هي فيه وسكونه. والثاني هو النفس المسخّرة لعدّة طبائع وقوى تستعملها في تحصيل ما تريده من الفعل. وكلٌّ منهما إمّا أن يكون فعلها ملائماً لنفسها بحيث لو خُلِّيتْ ونفسها لفعلَتْه وهو «الحركة الطبيعيّة» ، أو لا يكون كذلك كما يقتضيه قيام مانع مزاحم وهو «الحركة القسريّة».

__________________

(1) في الفصل الثامن من هذه المرحلة.

(2) راجع الفصل السادس من المرحلة السادسة.

(3) راجع الفصل الخامس عشر من المرحلة الثامنة.

٢٦٧

وعلى جميع هذه التقادير فاعلُ الحركة هي الطبيعة(1) . أمّا في الحركة الطبيعيّة ، فلأنّ الطبيعة إنّما تنشىء الحركةَ عند زوال صورة ملائمة أو عروض هيأة منافرة تفقد بذلك كمالا تقتضيه ، فتطلب الكمال ، فتسلك إليه بالحركة ، ففاعلُها الصورة وقابلُها المادّة.

وأمّا في الحركة القسريّة ، فلأنّ القاسر ربّما يزول والحركة القسريّة على حالها ، وقد بطلَت فاعليّة الطبيعة بالفعل ، فليس الفاعل إلاّ الطبيعة المقسورة(2) .

وأمّا في الحركة النفسانيّة ، فلأنّ كون النفس مسخّرة للطبائع والقوى المختلفة لتستكمل بأفعالها ، نعم الدليل على أنّ الفاعل القريب في الحركات النفسانيّة هي الطبائع والقوى المغروزة في الأعضاء.

الفصل الحادي عشر

في الزمان

إنّا نجد فيما عندنا حوادثٌ متحقّقةٌ بَعْدَ حوادث اُخرى هي قبلها ، لما أنّ للتي بعدُ نحوَ توقّف على التي قبلُ ، توقّفاً لا يجامع معه القبل والبعد ، على خلاف سائر أنحاء التقدّم والتأخّر كتقدّم العلّة أو جزئها على المعلول ، وهذه مقدَّمةٌ ضروريّة لا نرتاب فيها.

ثمّ إنّ ما فرضناه قبلُ ، ينقسم بعينه إلى قبلُ وبعدُ بهذا المعنى ـ أي بحيث لا يجتمعان ـ ؛ وكذا كلّ ما حصل من التقسيم وله صفةُ قبلُ ، ينقسم إلى قبلُ وبعدُ من غير وقوف للقسمة.

فهاهنا كمٌ متّصلٌ غير قارٍّ ، إذ لو لم يكن كمٌّ ، لم يكن انقسام ، ولو لم يكن

__________________

(1) راجع الشواهد الربوبيّة ص 90.

(2) ولمّا كان المحرّك في الحركات القسريّة هي الطبيعة المقسورة فلا وجه لِما ذكره اللاهيجيّ في شوارق الإلهام ص 235 من الفرق بين الحركة الطبيعيّة والحركة القسرية بأنّ الجسم إن كان محلاّ للقوّة الجسمانيّة فتحريكها له بالطبع وإلاّ كان بالقسر. بل الحقّ أن يقال : إنّ الحركة الحاصلة إمّا ملائمة للقوّة الجسمانيّة أو لا ، فالأوّل تحريك بالطبع والثاني تحريك بالقسر.

٢٦٨

اتّصال لم يتحقّق البَعدُ فيما هو قبلُ وبالعكس ، بل انفصلا. وبالجملة لم يكن بين الجزئين من هذا الكم حدٌّ مشتركٌ ، ولو لم يكن غيرَ قارٍّ لاجتمع ما هو قبلُ وما هو بعدُ بالفعل.

وإذ كان الكم عرضاً فله موضوع هو معروضه ، لكنّا كلّما رفعنا الحركة من المورد ارتفع هذا المقدار وإذا وضعناها ثبت ، وهذا هو الذي نسمّيه «زماناً» ، فالزمان موجود ، وماهيّته أنّه مقدار متّصل غير قارٍّ عارضٌ للحركة(1) .

وقد تبيّن بما مرّ اُمور :

الأوّل : أنّه لمّا كان كلّما وضعنا حركة أو بدّلنا حركة من حركة ثبت هذا الكم المسمّى بالزمان ، ثبت أنّ لكلِّ حركة ـ أيّ حركة كانت ـ زماناً خاصّاً بها ، متشخّصاً بتشخّصها ، مقدّراً لها ، وإن كنّا نأخذ زمانَ بعض الحركات مقياساً نقدّر به حركات اُخرى ، كما نأخذ زمانَ الحركة اليوميّة مقياساً نقدّر به الحركات الاُخرى التي تتضمّنها الحوادث الكونيّة الكلّيّة والجزئيّة بتطبيقها على ما نأخذ لهذا الزمان من الأجزاء ، كالقرون والسنين والشهور والأسابيع والأيّام والساعات والدقائق والثواني وغير ذلك.

الثاني : أنّ نسبةَ الزمان إلى الحركة نسبةَ الجسم التعليميّ إلى الجسم الطبيعيّ ، وهي نسبة المعيَّن إلى المبهم.

الثالث : أنّه كما تنقسم الحركة إلى أقسام لها حدودٌ مشتركةٌ وبينها فواصل غير موجودة إلاّ بالقوّة وهي الآنيّات ، كذلك الزمان ينقسم إلى أقسام لها حدود

__________________

(1) اعلم أنّ الناس قد اختلفوا في الزمان ، فمنهم مَن قال : «إنّه لا وجود له إلاّ بحسب الوهم» ، ومنهم مَن قال : «إنّه جوهر مجرّد» ، ومنهم مَن قال : «إنّه واجب الوجود» ، ومنهم مَن قال : «إنّه جوهر جسمانيٌّ هو الفلك الأعلى» ، ومنهم مَن قال : «انّه عرضٌ غير قارٍّ». وتفصيل هذه المذاهب وأدلّتهم مذكور في المطوّلات ، فراجع الفصل العاشر والفصل الحادي عشر من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، والمباحث المشرقيّة ج 1 ص 642 ـ 658 ، والأسفار ج 3 ص 141 ـ 148 ، وشرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين ص 102 ـ 110 ، وشرح عيون الحكمة ج 2 ص 119 ـ 123.

٢٦٩

مشتركة وبينها فواصل غير موجودة إلاّ بالقوّة وهي الآنات. فالآن طرف الزمان ، كالنقطة التي هي طرف الخط ، وهو أمر عدميٌ حظُّهُ من الوجود إنتسابه إلى ما هو طرفُ له.

ومن هنا يظهر أنّ تتالي الآنات ممتنعٌ ، فإنّ الآن ليس إلاّ فاصلة عدميّةٌ بين قطعَتْين من الزمان ، وما هذا حاله لا يتحقّق منه إثنان إلاّ وبينهما قطعةٌ من الزمان.

الرابع : أنّ الأشياء في انطباقها على الزمان مختلفةٌ ، فالحركة القطعيّة منطبقةٌ على الزمان بلا واسطة ، واتّصاف أجزاء هذه الحركة بالتقدّم والتأخّر ونحوهما بتَبَعِ اتّصاف أجزاء الزمان بذلك.

وكلُ آنيُّ الوجود من الحوادث كالوصول والترك والاتّصال والانفصال منطبقٌ على الآن ، والحركة التوسّطيّة منطبقةٌ عليه بواسطة القطعيّة.

وتبيّن أيضاً أنّ تصوير التوسّطيّ من الزمان ـ وهو المسمّى بالآن السيّال الذي يرسم الإمتداد الزمانيّ ـ تصويرٌ وهميٌّ مجازيٌّ ، كيف؟ والزمان كمٌّ منقسمٌ بالذات.

وقياسه إلى الوحدةِ السارية التي ترسم بتكرّرها العدد والنقطةِ السارية التي ترسم الخطّ ، في غير محلّه ، لأنّ الوحدة ليست بالعدد ، وإنّما ترسمه بتكرّرها لا بذاتها ، والنقطة نهاية عدميّة ، وتألُّفُ الخطّ منها وهميٌّ.

الخامس : أنّ الزمان ليس له طَرَفٌ موجودٌ بالفعل ـ بمعنى جزءٌ هو بدايته ، أو نهايته لا ينقسم في إمتداد الزمان ـ ، وإلاّ تألَّفَ المقدار من أجزاء لا قدر لها وهو الجزء الذي لا يتجزّى ، وهو محال.

وإنّما ينفد الزمان بنفاد الحركة المعروضة من الجانبَيْن.

السادس : أنّ الزمان لا يتقدّم عليه شيءٌ إلاّ بتقدّم غير زمانيٍّ ، كتقدّم علّة الوجود وعلّة الحركة وموضوعها عليه.

السابع : أنّ القبليّة والبعديّة الزمانيّتَيْن لا تتحقّقان بين شيء وشيء إلاّ وبينهما زمانٌ مشتركٌ ينطبقان عليه.

ويظهر بذلك أنّه إذا تحقّق قبلُ زمانيٌّ بالنسبة إلى حركة أو متحرّك استدعى

٢٧٠

ذلك تحقُّقَ زمان مشترك بينهما ، ولازِمُ ذلك تحقُّقُ حركة مشتركة ، ولازِمُهُ تحقُّقُ مادّة مشتركة بينهما.

تنبيهٌ :

إعتبار الزمان مع الحركات ـ والزمان مقدارٌ متغيّرٌ ـ يفيد تقدُّرَها وما يترتّب عليه من التقدّم والتأخّر ، وقد تعتبر الموجودات الثابتة مع المتغيّرات فيفيد معيّة الثابت مع المتغيّر وتسمّى : «الدهر» ، وقد يعتبر الموجود الثابت مع الاُمور الثابتة ويفيد معيّة الثابت مع الاُمور الثابتة ويفيد معيّة الثابت الكلّيّ مع ما دونه من الثوابت وتسمّى : «السرمد».

وليس في الدهر والسرمد تقدُّمٌ ، ولا تأخُّرٌ ، لعدم التغيّر والانقسام فيهما.

قال فيالأسفار : «وأمّا الموجودات التي ليست بحركة ولا في حركة فهي لا تكون في الزمان بل اعتبر ثباته مع المتغيّرات ، فتلك المعيّة تسمّى بـ «الدهر».

وكذا معيّة المتغيّرات مع المتغيّرات لا من حيث تغيّرها ، بل من حيث ثباتها ، إذ ما من شيء إلاّ وله نحوٌ من الثبات.

وإن كان ثباته ثبات التغيّر ، فتلك المعيّة أيضاً دهريّة.

وإن اعتبرت الاُمور الثابتة مع الاُمور الثابتة ، فتلك المعيّة هي السرمد.

وليس بإزاء هذه المعيّة ولا التي قبلها تقدُّمٌ وتأخّرٌ ، ولا استحالة في ذلك ، فإنّ شيئاً منهما ليس مضايفاً للمعيّة حتّى تستلزمها»(1) ـ انتهى.

الفصل الثاني عشر

في معنى السرعة والبطؤ

السرعة والبطؤ نعرفهما بمقايسة بعض الحركات إلى بعض ، فإذا فرضنا حركتَيْن سريعةً وبطيئةً في مسافة ، فإن فرضنا إتّحادَ المسافة إختلفتا في الزمان ، وكان زمان السريعة أقلّ وزمان البطيئة أكثر ، وإن فرضنا إتّحاد الزمان كانت

__________________

(1) راجع الأسفار ج 3 ص 182.

٢٧١

المسافة المقطوعة للسريعة أكثر ومسافة البطيئة أقلّ.

وهما من المعاني الإضافيّة التي تتحقّق بالإضافة ، فإنّ البطيئة تعود سريعةً إذا قيسَتْ إلى ما هو أبطَأُ منها ، والسريعة تصير بطيئةً إذا قيسَتْ إلى ما هو أسرَعُ منها.

فإذا فرضنا سلسلةً من الحركات المتوالية المتزائدة في السرعة كان كلُّ واحد من الأوساط ـ سوى الطرفَيْن متّصفاً بالسرعة والبطؤ معاً ـ سريعاً بالقياس إلى أحد الجانبَيْن ، بطيئاً بالقياس إلى الآخر ، فهما وصفان إضافيّان غير متقابلين ، كالطول والقصر ، والكبر والصغر.

وأمّا ما قيل (1) : «إنّ البطؤ في الحركة بتخلُّلِ السكون» ، فيدفعه ما تبيّن فيما تقدّم(2) أنّ الحركة متّصلةٌ لا تقبل الانقسام إلاّ بالقوّة.

وربّماقيل (3) : «إنّهما متضادّان».

قال فيالأسفار : «إنّ التقابل بين السرعة والبطؤ ليس بالتضايف ، لأنّ المضافَيْن متلازمان في الوجودَيْن وهما غير متلازَميْن في واحد من الوجودَيْن.

وليس تقابلهما أيضاً بالثبوت والعدم ، لأنّهما إن تساويا في الزمان كانت السريعة قاطعةً من المسافة ما لم تقطعها البطيئة ، وإن تساويا في المسافة كان زمان البطيئة أكثر ، فلأحدهما نقصان المسافة وللآخر نقصان الزمان ، فليس جعل أحدهما عدميّاً أولى من جعل الآخر عدميّاً ، فلم يبق من التقابل بينهما إلاّ التضادّ لا غير»(4) ـ إنتهى.

__________________

(1) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(2) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(3) والقائل هو المتكلّمون ، كما ذهب إليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 605 وتبعهم صدر المتألّهين في الأسفار ج 3 ص 198. بخلاف المشهور من الحكماء حيث ذهبوا إلى أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

(4) راجع الأسفار ج 3 ص 198.

٢٧٢

وفيه (1) : أنّهم شرطوا في التضادِّ أن يكون بين طرفَيْه غاية الخلاف ، وليس ذلك بمحقَّقِ بين السرعة والبطؤ ، إذ ما من سريع إلاّ ويمكن أن يفرض ما هو أسرَعُ منه ، وما من بطيء إلاّ ويمكن أن يفرض ما هو أبطأُ منه.

هذا في السرعة والبطؤ الإضافييّن. وأمّا السرعة بمعنى الجريان والسيلان فهي خاصّة لمطلق الحركة لا يقابلها بَطؤٌ.

الفصل الثالث عشر

في السكون

الحركة والسكون لا يجتمعان في جسم من جهة واحدة في زمان واحد ، فبينهما تقابُلٌ ، والحركة وجوديّة ، لما تقدّم(2) أنّها نحو الوجود السيّال ، لكنّ السكون ليس بأمر وجوديٍّ ، ولو كان وجوديّاً لكان هو الوجود الثابت وهو الذي بالفعل من كلِّ جهة ، وليس الوجودات الثابتة وهي المجرّدة بسكون ، ولا ذوات سكون. فالحركة وجوديّةٌ والسكون عدميٌّ. فليس تقابُلُها تقابُلَ التضايف والتضادّ. وليسا بمتناقضين ، وإلاّ صَدَقَ السكون على كلِّ ما ليس بحركة ، كالعقول المفارقة التي هي بالفعل من كلِّ جهة وأفعالها. فالسكون عدم الحركة ممّا من شأنه الحركة ، فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة(3) .

لكن ليعلم أنّ ليس للسكون مصداقٌ في شيء من الجواهر المادّيّة ، لما تقدّم(4) أنّها سيّالةُ الوجود ، ولا في شيء من أعراضها التابعة لموضوعاتها

__________________

(1) كذا أجاب عنه المصنّف (قدس سره) في تعليقته على الأسفار ج 3 ص 198 ـ 199.

(2) في الفصل الثاني من هذه المرحلة.

(3) هذا رأي الحكماء ، كالشيخ الرئيس في الفصل السابع من المقالة الرابعة والفصل الرابع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، والنجاة ص 114 ـ 115 ، وصدر المتألّهين في شرح الهداية الأثيريّة ص 89. خلافاً للمتكلّمين القائلين بأنّ بينهما تقابل التضادّ ، وتبعهم المحقّق الطوسيّ كما في كشف المراد ص 271.

(4) في الفصل الثامن من هذه المرحلة.

٢٧٣

الجوهريّة في الحركة ، لقيامها بها.

نعم هناك سكونٌ نسبيٌ للموضوعات المادّية ربّما تلبّست به بالقياس إلى الحركات الثانية التي في المقولات الأربع العرضية : الكم والكيف والأين والوضع.

الفصل الرابع عشر

في إنقسامات الحركة

تنقسم الحركة بانقسام الاُمور الستّة التي تتعلّق بها ذاتُها.

فانقسامها بانقسام المبدأ والمنتهى ، كالحركة من أين كذا إلى أين كذا ، والحركة من القعود إلى القيام ، والحركة من لون كذا إلى لون كذا ، وحركة الجسم من قدر كذا إلى قدر كذا.

وانقسامها بانقسام المقولة ، كالحركة في الكيف ، وفي الكم ، وفي الأين ، وفي الوضع.

وانقسامها بانقسام الموضوع ، كحركة النبات ، وحركة الحيوان ، وحركة الإنسان.

وانقسامها بانقسام الزمان ، كالحركة الليليّة ، والحركة النهاريّة ، والحركة الصيفيّة ، والحركة الشتويّة.

وانقسامها بانقسام الفاعل ، كالحركة الطبيعيّة ، والحركة القسريّة ، والحركة النفسانيّة.

قالوا : «إنّ الفاعل القريب في جميع هذه الصور هو الطبيعة ، والتحريك النفساني على نحو التسخير للقوى الطبيعيّة»(1) ، كما تقدّمت الإشارة إليه(2) .

وقالوا : «إنّ المتوسط بين الطبيعة وبين الحركة هو مبدأ الميل الذي توجده الطبيعة في المتحرّك»(3) ، وتفصيل القول في الطبيعيّات(4) .

__________________

(1) راجع الأسفار ج 3 ص 64 ـ 65 وص 231 ـ 232.

(2) في الفصل العاشر من هذه المرحلة.

(3) راجع ماعلّق الحكيم السبزواريّ على الأسفار ج 3 ص 65.

(4) راجع شرح الإشارات ج 2 ص 208 ـ 226.

٢٧٤

خاتمةٌ :

كما تطلق القوّة على مبدأ القبول كذلك تطلق على مبدأ الفعل ، وخاصّة إذا كانت قويّةً شديدةً ، كما تطلق القوى الطبيعيّة على مبادئ الآثار الطبيعيّة وتطلق القوى النفسانيّة على مبادئ الآثار النفسانيّة من إبصار وسمْع وتخيُّل وغير ذلك. وهذه القوّة الفاعلة إذا قارنَت العلم والمشيّة سُمّيت : «قدرة الحيوان». وهي علّة فاعلة يتوقّف تمام علّيّتها بحيث يجب معها الفعل إلى اُمور خارجة ، كحضور المادّة القابلة ، واستقرار وضع مناسب للفعل ، وصلاحيّة أدوات الفعل ، وغير ذلك ، فإذا اجتمعت تمّت العلّيّة ووجب الفعل.

فبذلك يظهر فساد تحديد بعضهم(1) مطلقَ القدرة بـ «أنّها ما يصحّ معه الفعل والترك» ، فإنّ نسبة الفعل والترك إلى الفاعل إنّما تكون بالصحّة والإمكان إذا كان جزءاً من العلّة التامّة. فإذا اُخِذَ وحده وبما هو علّة ناقصة ونُسِبَ إليه الفعل لم يجب به. وأمّا الفاعل التامّ الفاعليّة الذي هو وحده علّة تامّة كالواجب (تعالى) ، فلا معنى لكون نسبة الفعل والترك إليه بالإمكان ، ـ أعني كون النسبتين متساويتَيْن ـ.

وأمّا الإعتراض عليه : بأنّ لازِمَ كون فعله واجباً كونه (تعالى) موُجَباً ـ بالفتح ـ مُجبَراً على الفعل ، وهو ينافي القدرة.

فمندفع : بأنّ هذا الوجوب ملحق بالفعل من قِبَله (تعالى) ، وهو أثره.

ولا معنى لكون أثر الشيء التابع له في وجوده مؤثّراً في ذات الشيء الفاعل ، وليس هناك فاعلٌ آخر يؤثّر فيه (تعالى) بجعله مضطرّاً إلى الفعل.

وكذلك فساد قول بعضهم(2) : «إنّ صحّة الفعل تتوقّف على كونه مسبوقاً بالعدم الزمانيّ ، فالفعل غير المسبوق بعدم زمانيٍّ ممتنعٌ».

__________________

(1) وهو المتكلّمون.

(2) أي بعض المتكلّمين كما نُقل عنهم في رسالة الحدوث لصدر المتألّهين ص 15. وفي الأسفار عبّر عنهم بطائفة من الجدليّين ، راجع الأسفار ج 2 ص 384.

٢٧٥

وجه الفساد أنّه مبنيٌّ على القول بأنّ علّة الحاجة إلى العلّة هي الحدوث دون الإمكان ، وقد تقدّم إبطاله في مباحث العلّة والمعلول(1) . على أنّه منقوضٌ بنفس الزمان ، فكون إيجاد الزمان مسبوقاً بعدمه الزمانيّ إثباتٌ للزمان قبلَ نفسه ، واستحالته ضروريّة.

وكذلك فساد قول من قال(2) بـ : «أنّ القدرة إنمّا تحدث مع الفعل ولا قدرة على فعل قبله».

وجه الفساد أنّهم يرون أنّ القدرة هي صحّة الفعل والترك ، فلو ترك الفعل زماناً ثمّ فَعَلَ ، صَدَقَ عليه قبلَ الفعل أنّه يصحّ منه الفعل والترك ، وهي القدرة. على أنّه يناقض ما تسلّموه أنّ الفعل متوقّف على القدرة ، فإنّ معيّة القدرة والفعل تنافي توقّف أحدهما على الآخر.

__________________

(1) راجع الفصل الثالث من المرحلة الثامنة ، والفصل السادس من المرحلة الرابعة.

(2) والقائل هم الأشاعرة وغيرهم من أهل السّنة ، بخلاف المعتزلة حيث ذهبوا إلى أنّ القدرة قبل الفعل ، راجع شرح المقاصد ج 1 ص 240.

٢٧٦

المرحلة العاشرة

في السبق واللحوق والقدم والحدوث

وفيها ثمانية فصول

٢٧٧
٢٧٨

الفصل الأوّل

في السبق واللحوق وهما التقدّم والتأخّر

يشبه أن يكون أوّلُ ما عُرف من معنى التقدّم والتأخّر ما كان منهما بحسب الحسّ ، كأن يُفرض مبدأٌ يشترك في النسبة إليه أمران ، ما كان لأحدهما من النسبة إليه فللآخر ، وليس كلُّ ما كان للأوّل فهو للثاني ، فيسمّى ما للأوّل من الوصف «تقدّماً» ، وما للثاني «تأخّراً» ، كمحراب المسجد يفرض مبدأ فيشترك في النسبة إليه الإمام والمأموم ، فما للمأموم من نسبة القُرب إلى المحراب فهو للإمام ، ولا عكس ، فالإمام متقدَّمٌ والمأموم متأخَّرٌ. ومعلوم أنّ وصفَي التقدّم والتأخّر يختلفان باختلاف المبدأ المفروض ، كما أنّ الإمام متقدَّمٌ والمأموم متأخَّرٌ في المثال المذكور على تقدير فَرْضِ المحراب مبدأً ، ولو فُرض المبدأُ هو الباب كان الأمر بالعكس وكان المأموم متقدّماً والإمام متأخّراً. ولا يتفاوت الأمر في ذلك أيضاً بين أن يكون الترتيب وضعيّاً اعتباريّاً كما في المثال السابق ، أو طبعيّاً كما إذا فرضنا مثلا الجسم ثمّ النبات ثمّ الحيوان ثمّ الإنسان ، فإن فرضنا المبدأ هو الجسم كان النبات متقدّماً والحيوان متأخّراً ، وإن فرضنا المبدأ هو الإنسان كان الحيوان متقدّماً والنبات متأخّراً ، ويسمّى هذا التقدّم والتأخّر : «تقدّماً وتأخّراً بحسب الرتبة».

٢٧٩

ثمّ عمّموا ذلك فاعتبروه في مورد الشرف والفضل والخسّة وما يشبه ذلك ممّا يكون فيه زيادة من المعنويّات ، كتقدّم العالِم على الجاهل ، والشجاع على الجبان ، فباعتبار النوع بآثار كماله مبدأً مثلا يختلف في النسبة إليه العالِم والجاهل ، والشجاع والجبان ، ويسمّيان «تقدّماً وتأخّراً بالشرف».

وانتقلوا أيضاً إلى التقدّم والتأخّر الزمانيَّيْن بما أنّ الجزئَيْن من الزمان كاليوم والأمس يشتركان في حملِ قوّةِ الأجزاء اللاحقة ، لكن ما لأحدهما ـ وهو اليوم ـ من القوّة المحمولة محمولةٌ للآخر ـ وهو الأمس ـ ، ولا عكس ، لأنّ الأمس يحمل قوّةَ اليوم بخلاف اليوم ، فإنّه يحمل فعليّةَ نفسه ، والفعليّةُ لا تجامع القوّةَ.

ولذا كان الجزآن من الزمان لا يجتمعان في فعليّة الوجود.

فبين أجزاءِ الزمان تقدُّمٌ وتأخُّرٌ لا يجامع المتقدَّمُ منها المتأخَّر ، بخلاف سائر أقسام التقدّم والتأخّر.

وكذا بين الحوادث التي هي حركات منطبقة على الزمان تقدُّمٌ وتأخُّرٌ زمانيٌّ بتوسّط الزمان الذي هو تعيُّنها ، كما أنّ للجسم الطبيعيّ الامتدادات الثلاثة بتوسّط الجسم التعليميّ الذي هو تعيُّنه.

وقد تنبّهوا بذلك إلى أنّ في الوجود أقساماً اُخر من التقدّم والتأخّر الحقيقييّن ، فاستقرؤها(1) ، فأنهوها ـ أعمّ من الاعتباريّة والحقيقيّة ـ إلى تسعة أقسام(2) :

__________________

(1) قال العلاّمة في كشف المراد ص 58 : «وهذا الحصر إستقرائيٌّ لا برهانيّ ، إذ لم يقم برهان على انحصار التقدّم في هذه الأنواع».

(2) اعلم أنّ الشيخ الرئيس ذكر للتقدّم والتأخّر خمسة أقسام ، وتبعه غيره من الحكماء. راجع الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من إلهيّات الشفاء ، والنجاة ص 222 ، والتحصيل ص 35 ـ 36 وص 467 ـ 468. وتبعه الشيخ الإشراقيّ في المطارحات ص 302 ـ 303. ثمّ المتكلّمون زادوا قسماً آخر ، وسمّوه «التقدّم والتأخّر الذاتي». راجع كشف المراد ص 57 ـ 58. ثمّ السيّد الداماد زاد قسماً آخر ، وسمّاه «التقدّموالتأخّربالدهر». راجع القبساتص 3 ـ 18. ثمّ صدر المتألّهين زاد قسمين آخرين : (أحدهما) : التقدّم والتأخّر بالحقيقة والمجاز. و (ثانيهما) : التقدّم والتأخّر بالحق. راجع الأسفار ج 3 ص 257 ، والشواهد الربوبيّة ص 61.

٢٨٠